مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة8%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264556 / تحميل: 9119
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

والقوافل السيّارة المارّة بها بالمنتوجات من حبوب وتمور وأثمار، وقد ازدهرت حتّى في العصر الكلداني، وكان يسكنها قومٌ من النصارى والدهاقين، وكانت تُسمّى آنذاك بـ (كور بابل)، وقد أُقيم على أرضها معبد تقام فيه الصلاة، وحولها معابد أخرى، وقد عُثر في قرى مجاورة لها على جثث أموات في أوانٍ خَزفية يعود تاريخها إلى ما قبل ميلاد المسيحعليه‌السلام .

وقد اشتهرت في عهد اللخميين الذين كانت الحِيرة عاصمتهم، وقد كانت (عين التمر) يومئذٍ من البلاد التي تُستورد منها أنواع التمور، وتُنيخ فيها القوافل السيارة مُناخ ركابها للاستراحة فيها، وقد اكتسبت كربلاء أهميتها التجارية يومذاك من موقعها المشرف آنذاك على الطُرق المؤدّية إلى الحِيرة والأنبار والشام والحجاز، كلّ ذلك كان قبل الفتح الإسلامي لتلك المنطقة ولأرض السواد من العراق.

ويرى الشيخ محمّد باقر المدرّس في كتابه(مدينة الحسين عليه‌السلام ) : أنّ الفرس في عصر المَلِك سابور ذي الأكتاف الذي بويع سنة ٣١٠م في إيران - وهو من الملوك الفرس الساسانيين - كانوا قد قسّموا أرض العراق بعد فتحها إلى عشرة ألوية، وكلّ لواء إلى طسوج، وكلّ طسج إلى رساتيق، وكانت الأرض الواقعة بين عين التمر والفرات تُعَدُّ اللواء العاشر، وكانت كربلاء أحد طسوج هذا اللواء(١) .

ولقد فُتحت كربلاء في جملة أراضي العراق التي فُتحت عُنوة على يد المسلمين في زمن أبي بكر (سنة ١٢ هـ. ق)، وكان الذي أخذها عُنوَة خالد بن عرفطة - وكان قد بعثه سعد بن أبي وقّاص مقدّمة له - ولقد اتخذها مقرّاً ومعسكراً لجُنده فترة من الزمن، وبعد أن استنفد منها غاياته الحربية تركها وانتقل إلى الكوفة،

____________________

(١) راجع: شهر حسينعليه‌السلام : ١٠.

٢١

لوَخامة المناخ والرطوبة في كربلاء.

ثمّ لم تزل كربلاء - بعد ازدهار الكوفة وتعاظم أهميتها - قرية من قراها الكثيرة المبثوثة حولها، لا يأتي على ذكرها ذاكرٌ إلاّ في مناسبة من نوادر المناسبات، كما في مرور أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام عليها في جيشه الزاحف نحو الشام، أو جرت على لسان متحدّث يروي خبراً من أخبار الملاحم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أمير المؤمنينعليه‌السلام بصدد مقتل سيد الشهداء أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وأرض مصرعه.

(وتقع كربلاء غرب نهر الفرات على حافة البادية، وسط المنطقة الرسوبية المعروفة بأرض السواد، وعلى شمالها الغربي مدينة الأنبار، وعلى شرقها مدينة بابل الأثرية، وفي الغرب منها الصحراء الغربية، وفي الجنوب الغربي منها مدينة الحيرة عاصمة المناذرة... وتقع كربلاء على حدود البادية، يقصدها البدو من بلاد الحجاز والشام للميرة والتموين، وإلى عهد قريب كان هذا شأنها، وهي على مسافة قريبة من العَين، وهي واحة وارفة الأشجار وفيرة المياه، وقد كانت مدينة العين من المدن المهمة في منطقة البادية...)(١) .

(وكان للحائر وهْدة فسيحة محدودة بسلسلة تلال ممدودة، وربوات متصلة في الجهات الشمالية والغربية والجنوبية منه، تُشكّل للناظرين نصف دائرة مدخلها الجهة الشرقية، حيث يتوجه منها الزائر إلى مثوى سيدنا العبّاس بن عليعليهما‌السلام )(٢) .

ويقول السيّد هبة الدين الشهرستاني: إنّ المُنقّبين وجدوا في أعماق البيوت

____________________

(١) راجع: تاريخ مرقد الحسين والعبّاسعليهما‌السلام : ١٨.

(٢) راجع: تاريخ مرقد الحسين والعبّاسعليهما‌السلام : ٢٨ عن نهضة الحسينعليه‌السلام : ٨٠.

٢٢

المحدِقة بقبر الحسينعليه‌السلام آثاراً تدلّ على ارتفاعها القديم في أراضي جهات الشمال والغرب، ولا يجدون في الجهة الشرقيّة سوى تربة رخوة واطئة، الأمر الذي يُرشدنا إلى وضعيّة هذه البقعة، وأنّها كانت في عصرها الأوّل واطئة من جهة الشرق، ورابية من جهتي الشمال والغرب على شكل هلالي، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ابن الزهراء البتول الطاهرة(١) .

* الأسماء الأُخرى لكربلاء

هنالك أسماء أخرى تُطلق على أرض مصرع الإمام الحسينعليه‌السلام ، هي إمّا أسماء عامّة للمنطقة التي منها كربلاء، أو هي أسماء لقُرىً مجاورة لكربلاء، فأُطلقت أسماؤها على كربلاء أيضاً؛ ربّما من باب المجاز أو لعلاقة القرب والجوار، كإطلاق نينوى أو الغاضرية على كربلاء، أو هي أسماء كانت تُطلق على أرض كربلاء في غابر الزمان، فوردت أيضاً في لسان الروايات، كما في إطلاق عمورا على كربلاء، وأهمّ هذه الأسماء:

١) - الطفّ أو الطفوف:

من المواضع التي عرفها العرب قديماً قرب كربلاء (الطفّ)، قالياقوت الحموي : (وهو في اللغة ما أشرفَ من أرض العرب على رِيف العراق، قالالأصمعي : وإنّما سُمّي طفّاً؛ لأنّه دانٍ من الريف.. وقالأبو سعيد: سُمّي الطفّ؛ لأنّه

____________________

(١) راجع: نهضة الحسينعليه‌السلام : ٩٠ / وقال السيّد الشهرستاني (ره): (ويؤيّد هذا ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، وشيخه الكليني في الكافي، والمجلسي في مزار البحار عن الصادقعليه‌السلام :(إنّ زائر الحسين عليه‌السلام يغتسل على نهر الفرات، ويدخل من الجانب الشرقي إلى القبر الشريف) .

٢٣

مشرف على العراق، مِنْ أطفَّ على الشيء بمعنى أطلّ، والطفّ: طفّ الفرات أي الشاطئ، والطفّ: أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرّيّة فيها كان مقتل الحسين بن عليرضي‌الله‌عنه ، وهي أرض بادية قريبة من الريف فيها عدّة عيون ماء جارية، منها: الصيد، والقطقطانة، والرُّهَيمة، وعين جمل، وذواتها، وهي عيون كانت للموكّلين بالمسالح التي كانت وراء خندق سابور الذي حفره بينه وبين العرب وغيرهم.. فلمّا كان يوم ذي قار ونصرَ الله العرب بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، غَلبت العرب على طائفة من تلك العيون وبقي بعضها في أيدي الأعاجم، ثمّ لمّا قدمَ المسلمون الحيرة وهربت الأعاجم بعدما طمّت عامّة ما كان في أيديها منها، وبقي ما في أيدي العرب.. ولمّا انقضى أمر القادسيّة والمدائن وقع ما جلا عنه الأعاجم من أرض تلك العيون إلى المسلمين...

قال أبو دهبل الجُمحي(١) يرثي الحسين بن عليّرضي‌الله‌عنه ، ومَن قُتل معه بالطفّ:

مـررتُ عـلى أبيات آل محمّدٍ

فـلم أرَهـا أمـثالها يـوم حُلَّتِ

فـلا يُـبعد اللهُ الـديارَ وأهـلها

وإنْ أصبحتْ منهم برغمي تخلَّتِ

ألا إنّ قتلى الطفّ من آل هاشمٍ

أذلّـتْ رقاب المسلمين فذلّتِ...

وقال أيضاً:

تـبيتُ سـكارى مـن أُميّة نُوَّماً

وبـالطفّ قـتلى مـا ينام حميمُها

ومـا أفـسدَ الإسـلام إلاّ عصابة

تـأمّـر نَـوْكاها فـدام نـعيمها

فـصارت قناة الدين في كفّ ظالمٍ

إذا اعوجّ منها جانبٌ لا يُقيمها(٢)

____________________

(١) وتُنسب هذه الأبيات وغيرها إلى سليمان بن قتّة (راجع: البحار: ٤٥: ٢٤٤).

(٢) راجع: معجم البلدان: ٤: ٣٥ - ٣٦.

٢٤

٢) - نينوى:

قال ياقوت الحموي: (.. وبسواد الكوفة ناحية يُقال لها نينوى، منها كربلاء التي قُتل بها الحسينرضي‌الله‌عنه ...)(١) .

وقال الأُستاذ الدكتورمصطفى جواد : (وزعم الأُستاذ فيردهوفر Ferd Hofer أنّ أسترابون Strabon الجغرافي اليوناني - المولود في أواسط القرن الأوّل قبل الميلاد - ذكر في كتابه(ما بين النهرين: آشورية وبابل وكلدية) ، ذكرَ نينوى ثانية غير نينوى الشمالية، فإن صحّ زعمه كانت نينوى الجنوبية هي المقصود ذِكرها.. وكانت على نهر العلقمي)(٢) .

وقالالطبري يصف رحلة الركب الحسيني من منزل قصر بني مقاتل إلى نينوى - ويعني بها كربلاء - : (فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة، ثمّ عجّل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يُريد أن يفرّقهم، فيأتيه الحُرّ بن يزيد فيردّهم فيردّه! فجعل إذا ردّهم إلى الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه فارتفعوا، فلم يزالوا يتسايرون حتّى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين)(٣) .

٣) - النواويس:

الناووس والقبر واحد(٤) ، والناووس: مقابر النصارى(٥) ، والنواويس كانت مقابر للنصارى الذين سكنوا (كربلاء) قبل الإسلام، وتقع هذه المقابر شمال غرب

____________________

(١) معجم البلدان: ٥: ٣٣٩.

(٢) موسوعة العتبات المقدّسة: ٨: ٣٢.

(٣) تاريخ الطبري: ٤: ٣٠٨.

(٤) معجم البلدان: ٥: ٢٥٤.

(٥) لسان العرب: ٦: ٢٤٥.

٢٥

(كربلاء) في الأيام الحاضرة(١) .

وقد ذكرها الإمام الحسينعليه‌السلام في خطبته بمكّة، حيث قال:(.. كأنّي بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلَوات بين النواويس وكربلاء..) (٢) .

٤) - الغاضرية:

قال ياقوت الحموي : (الغاضريّة.. منسوبة إلى غاضرة من بني أسد، وهي قرية من نواحي الكوفة قريبة من كربلاء)(٣) ؛ وهذا الوصف يدلّ على أنّ الغاضرية أُنشئت بعد انتقال قبيلة بني أسد إلى العراق في صدر الإسلام، فليست الغاضرية قديمة التاريخ جاهلية(٤) ، وهي في شمال كربلاء إلى شمالها الشرقي، وتبعد عنها أقلّ من نصف كيلومتر(٥) .

وكان الإمام الحسينعليه‌السلام بعد نزوله كربلاء في أوائل العشرة الأولى من المحرّم سنة ٦١ هـ، قد اشترى من أهل الغاضريّة ونينوى مساحة كبيرة من الأراضي الواقعة أطراف مرقده المقدّس، كانت تبلغ مساحتها من حيث المجموع أربعة أميال في أربعة أميال، بستّين ألف درهم، ثمّ تصدّق عليهم بتلك الأراضي الواسعة بشرط أن يقوم أهلها بإرشاد الزائرين إلى قبره الشريف، وأن يقوموا بضيافتهم ثلاثة أيّام، غير أنّهم لم يفوا بهذا الشرط، فسقط حقّهم فيها، وبقيت تلك الأراضي المُشتراة منهم ملكاً للإمامعليه‌السلام ولوِلده من بعده، كما كان الحال قبل التصدّق عليهم

____________________

(١) راجع: تاريخ مرقد الحسين والعباسعليهما‌السلام : ٢٣ - ٢٤.

(٢) اللهوف: ٢٦.

(٣) معجم البلدان: ٤: ١٨٣.

(٤) موسوعة العتبات المقدّسة: ٨: ٣٤.

(٥) مدينة الحسينعليه‌السلام / محمد حسين الكليدار: ١٤.

٢٦

بذلك الشرط(١) .

وقد ورد ذكر الغاضرية في أدب الطفّ كثيراً، من ذلك هذه الأبيات:

يا كوكب العرش الذي من نوره

الكرسيّ والسبعُ العُلى تتشعشعُ

كيف اتخذت الغاضريّة مضجعاً

والعرش ودَّ بأنّه لك مضجعُ

٥) - عمورا:

روى قطب الدين الراونديرحمه‌الله بسند عن جابر، عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال:(قال الحسين بن عليّ عليهما‌السلام لأصحابه قبل أن يُقتل:

(إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا بُنيَّ، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين، وهي أرض تُدعى (عمورا)، وإنّك تُستشهد بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك، لا يجدون أَلَم مسَّ الحديد، وتلا: ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ، تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً، فأبشروا...) إلى آخر تفاصيل الرواية الشريفة(٢) .

٦) - أرض بابل:

روى ابن عساكر أنّ عمرة بنت عبد الرحمان كتبت إلى الإمامعليه‌السلام ، تُعظّم عليه ما يريد أن يصنع من إجابة أهل الكوفة، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة! وتخبره أنّه إنّما يُساق إلى مصرعه، وتقول: أشهد لَحَدّثتني عائشة أنّها سَمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:(يُقتل حسينٌ بأرض بابل...) (٣) .

____________________

(١) راجع: تاريخ مرقد الحسين والعبّاسعليهما‌السلام : ٢٦ عن جغرافية كربلاء القديمة وبقاعها للدكتور عبد الجواد الكليدار (مخطوط): ١٢.

(٢) الخرايج والجرايح: ٢:٨٤٨، رقم ٦٣.

(٣) تاريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / المحمودي: ٢٩٥، رقم ٢٥٦.

٢٧

٨) - شطّ الفرات:

أخرجَ ابن أبي شيبة بسند، عن عبد الله بن يحيى الحضرمي، عن أبيه، أنّه سافر مع عليّعليه‌السلام - وكان صاحب مطهرته - حتّى حاذى (نينوى) وهو منطلِق إلى (صِفّين)، فنادى:(صبراً أبا عبد الله! صبراً أبا عبد الله!

فقلت: ماذا أبا عبد الله؟!

فقال:دخلتُ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعيناه تفيضان، قلت: يا رسول الله ما لعينيك تفيضان، أغضَبكَ أحدٌ؟!

قال: قام من عندي جبرئيل فأخبرني أنّ الحسين عليه‌السلام يُقتل بـ (شط الفرات)، فلم أملك عَينيَّ أن فاضتا) (١) .

٩) - أرض العراق:

أخرج أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوّة بسنده، عن سحيم، عن أنس بن الحارث (رض) قال: سمعت رسول الله يقول:(إنّ ابني هذا يُقتل بأرض العراق، فمَن أدركهُ فلينصره) (٢) .

١٠) - ظَهر الكوفة

أخرج ابن قولويه (ره) بإسناده، عن سعيد بن عمر الجلاّب، عن الحارث الأعور (ره) قال: قال عليٌّعليه‌السلام :(بأبي وأمّي الحسين المقتول بظَهر الكوفة، والله كأنّي

____________________

(١) المصنّف لابن أبي شيبة: ١٥: ٩٨، رقم ١٩٢١٤. وانظر: مسند أحمد: ١: ٥٨، ومقتل الحسينعليه‌السلام ، للخوارزمي ١: ١٧ عن ابن مبارك مسنداً عنهعليه‌السلام ، وفيه:(إنّ الحسين يُقتل بالفرات..) .

(٢) دلائل النبوّة لأبي نعيم الأصبهاني: ٢: ٥٥٤، حديث رقم ٤٩٣. وكذلك انظر تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، المحمودي: ٣٤٧، حديث رقم ٢٨٣.

٢٨

أنظر إلى الوحوش مادّة أعناقها على قبره من أنواع الوحوش يبكونه ويرْثونه ليلاً حتّى الصباح! فإذا كان ذلك فإيّاكم والجفاء!) (١) .

١١) - الحائر والحَيْر

قال ياقوت الحموي: (الحاير: بعد الألف ياء مكسورة وراء، وهو في الأصل حوض يصبّ إليه مسيل الماء من الأمطار، سُمّي بذلك؛ لأنّ الماء يتحيّر فيه يرجع من أقصاه إلى أدناه.. وأكثر الناس يُسمّون الحائر: الحَيْر، والحائر، قبر الحسين بن عليّرضي‌الله‌عنه .. قال أبو القاسم: هو الحائر إلاّ أنّه لا جمع له؛ لأنّه اسم لموضع قبر الحسين بن عليّرضي‌الله‌عنه ، فأمّا الحِيران فجمع حائر، وهو مستنقع ماءٍ يتحير فيه فيجيء ويذهب.. يقولون الحَيْر بلا إضافة إذا عنَوا كربلاء..)(٢) .

وقال ابن منظور: (.. وحار الماء فهو حائر، وتحيّر: تردّد، وتحيّر الماء، اجتمع ودار، والحائر: مجتمع الماء... والحائر: كربلاء، سُمّيت بأحد هذه الأشياء..)(٣) .

وقد حار الماء عن قبر الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا أجراه (الديزج)، الذي بعثه المتوكل؛ ليطمس آثار معالم القبر المقدّس ويعفي أثره سنة ٢٣٦ هـ(٤) .

وقال الدكتور مصطفى جواد: (وقد ذكرنا أنّ الحائر اسم عربيّ، وأنّ العرب سكنوا هذه البلاد منذ عصور الجاهلية، فلابدّ من أن يكون معروفاً قبل استشهاد الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّ هذه التسمية هي والحَيْر والحيرة من أصل واحد..)(٥) .

____________________

(١) كامل الزيارات: ٨٢، باب ٢٦، حديث رقم ٢ و ٣٠٥، باب ٩٧، حديث رقم ٣.

(٢) معجم البلدان: ٢: ٢٠٨.

(٣) لسان العرب: ٤: ٢٢٣.

(٤) راجع: تاريخ كربلاء، د. عبد الجواد الكليدار: ٦٠، الطبعة الثانية، وعنه تاريخ مرقد الحسين والعبّاسعليهما‌السلام : ٢٧.

(٥) موسوعة العتبات المقدّسة: ٨: ٢٣.

٢٩

لكنّ الدكتور عبد الجواد الكليدار زعم أنّه: (لم يرد في التاريخ أو الحديث ذكر لكربلاء باسم الحائر أو الحَيْر قبل وقعة الطفّ، أو أثناء هذه الوقعة، أو بعدها بزمن يسير؛ إذ إنّ الأحاديث النبوية المنبِئة بقتل الحسينعليه‌السلام بأرض العراق، تضمّنت كُلَّ الأسماء عدا اسم الحائر...)(١) .

غير أنّ الطبري في تاريخه عن القاسم بن يحيى قال: (بعث الرشيد إلى ابن أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بن عليّ في الحَيْر، قال: فأُتي بهم، فنظر إليه الحسن بن راشد وقال: مالكَ؟! قال: بعث إليَّ هذا الرجل (يعني الرشيد) فأحضَرَني ولست آمنُه على نفسي، قال له: فإذا دخلتَ عليه فسألك فقل له الحسن بن راشد وضَعني في ذلك الموضع، فلمّا دخل عليه قال هذا القول، قال: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن، أحضِروه، قال: فلمّا حضر قال: ما حملك على أن صيّرتَ هذا الرجل في الحَيْر؟! قال: رحم الله مَن صيّره في الحَير! أمَرَتني أمّ موسى أن أصيّره فيه، وأن أُجري عليه في كلّ شهر ثلاثين درهماً، فقال: ردّوه إلى الحَيْر، وأجرَوا عليه ما أجْرته أمّ موسى، وأمّ موسى هي أمّ المهدي..)(٢) .

____________________

(١) تاريخ كربلاء، عبد الجواد الكليدار: ٦٥.

(٢) تاريخ الطبري: ٦: ٥٣٦ - ٥٣٧، (ونجد أنّ الرشيد وإن كان قد تغاضى عنهم وأقرَّ بالظاهر ما كانت قد أقرّته أمّ المهديّ من قبل، ولكنّه كان قد عزم في تلك اللحظة على أمرٍ أهول وأخطر من ذلك، كما أثبتته الحوادث فيما بعد، فدعاه فرْطُ بُغضه لآل الرسول إلى هدم كربلاء من الأساس، فأمر توّاً في نفس السنة ١٩٣هـ وهي السنة الأخيرة من حياته بهدم الحائر والقبّة المطهّرة، والدور المجاورة، واقتلاع السدرة، وحرث الأرض؛ ليمحي بذلك كلّ أثر للقبر الشريف، كما روى ذلك غير واحد من الرواة والمؤرّخين.

ورواه الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي في (أماليه) بسنده عن يحيى بن المغيرة الرازي: كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق، فسأله جرير عن خبر الناس، فقال: تركت الرشيد وقد كربَ قبر الحسينعليه‌السلام ، وأمرَ أن تُقطع السِدرة =

٣٠

ولعلّ أوائل ما ورد اسم (الحائر) في النصوص الدينية، ما جاء في بعض الروايات عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، التي علّم بعض الأصحاب فيها بعض طُرق زيارة سيّد الشهداءعليه‌السلام ، كما في رواية يوسف بن الكناسيّ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:(إذا أتيتَ قبر الحسين فائتِ الفرات واغتسل بحيال قبره وتوجّه إليه، وعليك السكينة والوقار حتى تدخل الحائر من جانبه الشرقيَّ، وقل حين تدخله...) (١) .

وكان في رواية عن الحسن بن عطيّة، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:(إذا دخلتَ الحائر فقل...) (٢) ، وغيرها أيضاً ممّا روي عن الصادقعليه‌السلام (٣) .

وكان المراد بالحائر في تلك الأيام: ما حواه سُور المشهد الحسيني على مشرِّفه السلام(٤) ، وهذا القول تؤيّده اللغة والقرائن والروايات معاً؛ لأنّ الحائر لغةً هو فناء الدار، أو ما يحيط بها من كل جانب)، (وقالوا: لهذه الدار حائر واسع..)(٥) .

ثمّ توسّع الاستعمال حتّى صار المراد بالحائر كربلاء نفسها.

ويمكن أن يُقال: إنّ كربلاء كانت من مساكن العرب منذ الجاهلية، وكانت تُسمّى (الحَيْر) بلا إضافة - كما ذكر ياقوت الحموي - لكنّ هذا الاسم ضعُف

____________________

= فقُطعت، فرفع جرير يده وقال: الله أكبر، جاءنا في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(لعن الله قاطع السِدرة، ثلاثاً) فلم نقف على معناه حتى الآن؛ لأنّ القصد بقطعها تغيير مصرع الحسين؛ حتى لا يقف الناس على قبره!). (راجع: تاريخ كربلاء: ٣٤).

(١) كامل الزيارات: ٢٢١، حديث رقم ٣.

(٢) كامل الزيارات: ٢١٣، باب ٧٩، رقم ١.

(٣) نفس المصدر: ٢١٧، باب ٧٩، رقم ٢.

(٤) راجع: مجمع البحرين: ٥: ٢٨٠.

(٥) لسان العرب: ٤: ٢٢٣.

٣١

استعماله وندر إطلاقه بعدما غلب اسم (الحائر) على كربلاء مكانه، خصوصاً بعدما أُحيط به اسم (الحائر) من حرمة وتقديس، وأُنيط به من أعمال وأحكام في الرواية والفقه(١) .

فضلُ كربلاء وقداسة تُربتها

أُعطيت أرض كربلاء - حسب النصوص الواردة - من الشرف ما لا تُعطى أيّ بقعة من بقاع الأرض حتّى مكّة المعظّمة منذ أن خلق الله الأرض.

ففي حديث - على سبيل المثال لا الحصر - عن الإمام السجادعليه‌السلام أنّه قال:(اتخذَ الله أرض كربلاء حَرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلُق أرض الكعبة ويتخذها حَرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وإنّه إذا زلزلَ الله تبارك وتعالى الأرض وسيّرها، رُفعت كما هي بتُربتها نورانيّة صافية فجُعلت في أفضل روضة من رياض الجنّة، وأفضل مسكن في الجنّة، لا يسكنها إلاّ النبيّون والمرسلون - أو قال:أولوا العزم من الرسُل - وإنّها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب لأهل الأرض، يُغشي نورها أبصار أهل الجنّة وهي تنادي: (أنا أرض الله المقدّسة، الطيبة، المباركة، التي تضمّنت سيّد الشهداء وسيّد شباب أهل الجنّة)) (٢) .

وهي التي في تربتها الشفاء كما قال الصادقعليه‌السلام :(في طين قبر الحسين عليه‌السلام الشفاء من كلّ داء، وهو الدواء الأكبر) (٣) .

____________________

(١) وللتوسّع في مزيد من المعرفة حول هذا الاسم (الحائر)، يمكن للقارئ الكريم أن يقرأ تفصيلاً أكثر ومناقشات أوسع في كتاب (تاريخ كربلاء) للدكتور عبد الجواد الكليدار.

(٢) المزار للشيخ المفيد: ٣٤، وكامل الزيارات: ١٨٠، باب ٨٨، رقم ٤.

(٣) المزار للشيخ المفيد: ١٢٥، وكامل الزيارات: ٢٨٩، باب ٩١، رقم ٤.

٣٢

والأحاديث في فضلها لم تنحصر فيما روى الشيعة عن أئمّة الهدىعليهم‌السلام ، بل هي متوفرة أيضاً في كتب بقية الفِرق الإسلامية، فقد روى السيوطي ما يناهز على عشرين حديثاً عن أكابر ثقات أبناء العامة: كالحاكم، والبيهقي، وأبي نعيم وأمثالهم(١) .

وناهيك عن أنَّ قداسة بعض البقاع أو التُرَب لم تكن منحصرة فيما رواه العلماء سَلفاً عن سلف عند الفريقين، بل إنّ السيرة العملية المستمرة بين المسلمين منذ الصدر الأوّل وحتى في زمن النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تحكي أنّهم كانوا يقدّسون بعض البقاع والتُرَب ويتبركون ويستشفون بترابها.

قال البرزنجي: (ويجب على مَن أخرج شيئاً من المدينة ردّه إلى محلّه، ولا يزول عصيانه إلاّ بذلك، نعم، استُثني من ذلك ما دعت الحاجة إليه من تراب الحرم للتداوي به منه: كتراب مصرع حمزة سيد الشهداء، وتربة صهيب؛ لإطباق السلف والخلف على ذلك)(٢) .

وهكذا استمرت هذه السيرة بعد زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً، فقد قالالعلاّمة السمهمودي في كتاب (وفاء الوفاء): (لمّا توفّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله صاروا يأخذون من تربته الشريفة، فأمَرَت عائشة بجدار فضُرب عليهم، وكانت في الجدار كوّة فكانوا يأخذون منها، فأمَرت بالكوّة فسُدَّت)(٣) .

ولم يقتصروا على الاستشفاء بالتراب، بل كانوا يقدّسون مواضع أقدام بعض أولياء الله وغير ذلك، وإذا كان كذلك فكيف لا تُقدّس تربة ابن الرسول الأعظم

____________________

(١) راجع: الأرض والتربة الحسينية: ٣٣ - ٣٤، محمد حسين كاشف الغطاء، مؤسسة أهل البيت، بيروت.

(٢) نزهة الناظرين للبرزنجي: ص١١٦.

(٣) وفاء الوفاء: ١: ٣٨٥.

٣٣

وريحانته وفلذة كبده وبضْعته، وهي أطيب تربة وأزكاها؟!.

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(إنّ فاطمة عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانت سِبحتها من خيط صوف مفتّل معقود عليه عدد التكبيرات، وكانت تديرها بيدها تكبّر وتسبّح حتى قُتل حمزة بن عبد المطلب، فاستعمَلَت تربته، وعملت التسابيح، فاستعملها الناس، فلمّا قُتل الحسين صلوات الله عليه عُدل بالأمر إليه، فاستعملوا تربته؛ لِما فيها من الفضل والمزيّة) (١) .

وقال العلاّمة كاشف الغطاء: (... حمزة دُفن في أُحُد، وكان يسمّى سيّد الشهداء ويسجدون على تراب قبره... ولمّا قُتل الحسينعليه‌السلام صار هو سيد الشهداء، وصاروا يسجدون على تربته)(٢) .

واستمرت سيرة شيعة أئمة أهل البيت خصوصاً إلى زمن الصادقعليه‌السلام ، حيث كانوا يحملون معهم (حمزة)، وهي كانت عبارة عن مقدار من التراب في صرّة أعدّوها للسجود عليها، وقد تطوّرت إلى قطعة من تراب قبر الحسينعليه‌السلام بصورة ألواح تسهيلاً للمصلين - ولمّا كان تعفير الجبين والسجود على الأرض فريضة؛ لكونه أبلغ في التواضع، فلماذا لا يكون السجود على أتقى وأزكى وأجود وأطيب وأقدس تربة في الأرض - وهي تربة الحسينعليه‌السلام ، التي نطقت الأحاديث بفضلها(٣) .

وأئمة الهدىعليهم‌السلام هم الذين أسّسوا ذلك، فنرى أوّل مَن صلّى على تربة الحسينعليه‌السلام واتخذها مسجداً:الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، إذ بعد أن دفن جثمان أبيهعليه‌السلام أخذ قبضة من التربة التي وضع عليها الجسد الشريف، وعمل منها سجّادة

____________________

(١) البحار، ١٠١: ١٣٣.

(٢) الأرض والتربة الحسينية: ص٤٩.

(٣) الأرض والتربة الحسينية: ٥٠ - ٥٣.

٣٤

وسبحة، وكانعليه‌السلام يديرها حين دخوله على يزيد لعنه الله، وبعدما رجع من الشام، وصار يتبرك بتلك التربة ويسجد عليها ويعالج بعض مرضى عائلته بها، فشاع عند العلويين وأتباعهم وأشياعهم(١) .

ومن بعد الإمام زين العابدينعليه‌السلام تبعه في ذلك ابنه الإمام الباقرعليه‌السلام ، ومن بعده الإمام الصادقعليه‌السلام وهكذا.

ولعلّ من أسرار السجود على تربة الحسينعليه‌السلام : أنَّ السجود على تربة الحسينعليه‌السلام يجعل المصلّي على ذكرٍ دائم؛ لِما جرى من المصائب والفجائع العظيمة على الإمام الحسينعليه‌السلام ، الذي حفظَ بقيامه ضدّ الحكم الأمويّ الطاغوتي وبشهادته، الإسلام المحمديّ الخالص، والصلاة المحمّدية، من عبث، وتحريفات الفئة الباغية، والشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن(أشهدُ أنّك قد أقمتَ الصلاة..) ، فلولا قيام الحسينعليه‌السلام ؛ لمَا بقيت الصلاة، ولا كانت الزكاة، ولأُفرغ من معناه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل لمَا بقي الإسلام، وصحَّ تماماً ذلك القول الرائع:(الإسلام محمّدي الوجود، حسينيّ البقاء) .

والذي ينبغي أن نشير إليه: أنَّ تقديس تربةٍ ما لا ينحصر بالاستشفاء بها، بل حتّى بالسجود لله عليها، فهي بما أنّها أرض طاهرة زاكية، ويجب السجود على الأرض، كان الأَولى والأفضل السجود على تراب أقدس وأزكى وأطهر بقعة منها.

وما افترَوه على الشيعة في قضية السجود على التربة الطاهرة الحسينية: بأنَّ السجود على تربة الحسينعليه‌السلام ضربٌ من عبادة الأصنام والأوثان التي حاربها الإسلام، فهي مردودة؛ للفرْق بين السجود للشيء والسجود على الشيء، فالشيعة تسجد لله على تربة الحسين لا لتربة الحسينعليه‌السلام .

____________________

(١) المصدر السابق.

٣٥

كربلاء في تاريخ بعض أنبياء اللهعليهم‌السلام

١) - عن سعد بن عبد الله القمّي (ره) في جملة الأسئلة التي سأل الإمام القائمعليه‌السلام عنها، قلت: فأخبِرني يا بن رسول الله عن تأويل (كهيعص)؟

قال:(هذه الحروف من أنباء الغيب أطلعَ الله عليها عبده زكريّا، ثمّ قصّها على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها، فكان زكريّا إذا ذكر محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن سُرِّيَ عنه همّه، وانجلى كرْبه، وإذا ذُكر اسم الحسين خنقتهُ العَبرة، ووقعت عليه البُهرة، فقال ذات يوم: إلهي، ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرتُ الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأهُ الله تبارك وتعالى عن قصّته وقال: (كهيعص)، (فالكاف): اسم كربلاء، و(الهاء): هلاك العترة الطاهرة، و(الياء): يزيد وهو ظالم الحسين، و(العين): عطشه، و(الصاد): صبره.. إلى آخر الخبر)(١) .

٢) -قال العلاّمة المجلسي (ره): (وروي مرسَلاًأنّ آدم لمّا هبط إلى الأرض لم يَرَ حوّاء، فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرَّ بكربلاء فاغتمَّ وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الذي قُتل فيه الحسين حتّى سال الدمّ من رجله، فرفعَ رأسه إلى السماء وقال: (إلهي هل حدث منّي ذنبٌ آخر فعاقبتني به؟ فإنّي طفتُ جميع الأرض، وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض؟

فأوحى الله إليه: يا آدم، ما حدثَ منك ذنب، ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلُماً، فسال دمُك موافقة لدمِه.

فقال آدم :يا ربّ، أيكون الحسين نبيّاً؟

قال :لا، ولكنّه سبط النبيّ محمّد.

____________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة: ٢: ٤٦١، رقم ٢١، وانظر: دلائل الإمامة: ٥١٣ رقم ٤٩٢ / ٩٦.

٣٦

فقال: ومَن القاتل له؟

قال: قاتله يزيد لعين أهل السماوات والأرض.

فقال آدم: فأيّ شيء أصنع يا جبرئيل؟

فقال: العَنه يا آدم).

فلَعنهُ أربع مرّات، ومشى خطوات إلى جبل عرفات فوجد حوّاء هناك) (١) .

٣) -وقال العلاّمة المجلسي (ره): (ورويأنّ نوحاً لمّا ركب السفينة طافت به جميع الدنيا، فلمّا مرّت بكربلا أخذته الأرض، وخاف نوح الغرق فدعا ربّه وقال: (إلهي، طفتُ جميع الدنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض؟

فنزل جبرئيل وقال: يا نوح، في هذا الموضع يُقتل الحسين سبط محمّد خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء.

فقال: ومَن القاتل له يا جبرئيل؟

قال: قاتلهُ لعين أهل سبع سموات وسبع أرضين.

فلعنه نوح أربع مرّات، فسارت السفينة حتّى بلغت الجوديّ واستقرّت عليه) (٢) .

٤) - وقال (ره) أيضاً: (ورويأنّ إبراهيم عليه‌السلام مرَّ في أرض كربلاء وهو راكب فرساً، فعثرَت به وسقط إبراهيم وشُجَّ رأسه وسال دمه، فأخذ في الاستغفار وقال: (إلهي، أيّ شيء حدث منّي؟

فنزل إليه جبرئيل وقال: يا إبراهيم، ما حدثَ منك ذنب، ولكن هنا يُقتل سبط خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء، فسال دمك موافقة لدمه.

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٢ - ٢٤٣، باب ٣٠، حديث ٣٧.

(٢) بحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٣، باب ٣٠، حديث رقم ٣٨.

٣٧

قال: يا جبرئيل، ومَن يكون قاتله؟

قال: لعين أهل السموات والأرضين، والقلم جرى على اللوح بلعْنِه بغير إذن ربّه، فأوحى الله تعالى إلى القلم: إنّك استحققتَ الثناء بهذا اللعن.

فرفع إبراهيمعليه‌السلام يديه ولعن يزيد لعناً كثيراً، وأمّن فرَسه بلسان فصيح! فقال إبراهيم لفَرَسِه: أيّ شيء عرفتَ حتى تؤمّن على دعائي؟

فقال: يا إبراهيم، أنا أفتخر بركوبك عليَّ، فلمّا عثرتُ وسقطتَ عن ظهري عظُمت خجلتي؛ وكان سبب ذلك من يزيد لعنه الله تعالى) (١) .

٥) - وقال (ره) أيضاً: (ورويأنّ إسماعيل كانت أغنامه ترعى بشطّ الفرات، فأخبره الراعي أنّها لا تشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يوماً! فسأل ربّه عن سبب ذلك، فنزل جبرئيل وقال: (يا إسماعيل، سلْ غنمك فإنّها تجيبك عن سبب ذلك؟

قال لها: لِمَ لا تشربين من هذا الماء؟!

فقالت بلسان فصيح: قد بلغنا أنّ وَلدك الحسينعليه‌السلام سبط محمّد يُقتل هنا عطشاناً؛ فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حُزناً عليه!

فسألها عن قاتله؟ فقالت: يقتله لعين السموات والأرضين والخلائق أجمعين، فقال إسماعيل: اللّهم العن قاتل الحسين عليه‌السلام ) (٢) .

٦) - وقال (ره) أيضاً:( ورويأنّ موسى كان ذات يوم سائراً ومعه يوشع بن نون، فلمّا جاء إلى أرض كربلاء انخرق نعله، وانقطع شراكه، ودخل الحسك في رجليه، وسال دمه، فقال: إلهي، أيّ شيء حدث منّي؟

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٣، باب ٣٠، حديث رقم ٣٩.

(٢) بحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٣ - ٢٤٤، باب ٣٠، حديث رقم ٤٠.

٣٨

فأُوحي إليه أنّ: هنا يُقتل الحسينعليه‌السلام ، وهنا يُسفك دمه، فسالَ دمك موافقة لدمه.

فقال: ربِّ، ومَن يكون الحسين؟

فقيل له: هو سبط محمّد المصطفى وابن عليٍّ المرتضى.

فقال: ومَن يكون قاتله؟

فقيل: هو لَعين السمك في البحار، والوحوش في القفار، والطير في الهواء .

فرفع موسى يديه ولعنَ يزيد ودعا عليه، وأمّن يوشع بن نون على دعائه، ومضى لشأنه) (١) .

٧) - وقال (ره) أيضاً: (ورويأنّ سليمان كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء، فمرَّ ذات يوم وهو سائر في أرض كربلا، فأدارت الريح بساطه ثلاث دورات حتّى خاف السقوط، فسكَنَت الريح، ونزل البساط في أرض كربلا.

فقال سليمان للريح: لِمَ سكنتِ؟

فقالت: إنّ هاهنا يُقتل الحسينعليه‌السلام .

فقال: ومَن يكون الحسين؟

فقالت: هو سبط محمّد المختار، وابن عليّ الكرّار.

فقال: ومَن قاتله؟

قالت: لعين أهل السموات والأرض يزيد.

فرفع سليمان يديه ولعنه ودعا عليه، وأمّن على دعائه الإنس والجنّ، فهبّت الريح وسار البساط) (٢) .

٨) - وقال (ره) أيضاً: (ورويأنّ عيسى كان سائحاً في البراري ومعه الحواريّون، فمرّوا بكربلا فرأوا أسداً كاسراً قد أخذَ الطريق، فتقدّم عيسى إلى

____________________

(١) و (٢) بحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٤، باب ٣٠، حديث رقم ٤١ و ٤٢.

٣٩

الأسد فقال له: (لِمَ جلست في هذا الطريق، لا تدعنا نمرّ فيه ؟

فقال الأسد بلسان فصيح: إنّي لن أدع لكم الطريق حتّى تلعنوا يزيد قاتل الحسينعليه‌السلام !

فقال عيسىعليه‌السلام : ومَن يكون الحسين؟

قال: هو سبط محمّد النبيّ الأُميّ، وابن عليّ الوليّ.

قال: ومَن قاتله؟)

قال: قاتله لعين الوحوش والذّباب والسِباع أجمع، خصوصاً أيّام عاشورا.

فرفع عيسى يديه ولعنَ يزيد ودعا عليه، وأمّن الحواريّون على دعائه، فتنحّى الأسد عن طريقهم، ومضوا لشأنهم) (١) .

٩) - وروى الشيخ الصدوق (ره) في أماليه وفي كمال الدين بإسنادين مختلفين إلى ابن عبّاس، عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في حديث طويل (جرى أثناء مرورهعليه‌السلام بكربلاء حين خروجه إلى صِفّين)، قال ابن عبّاس: (... ثمّ قال:يا بن عبّاس، اطلب لي حولها بعْر الظِباء، فو الله ما كذَبتُ ولا كُذّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران، قال ابن عبّاس: فطلبتُها فوجدتها مجتمعة، فناديته: يا أمير المؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي، فقال عليٌّعليه‌السلام :صدقَ الله ورسوله ، ثمّ قامعليه‌السلام يهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال:هي هي بعينها، أتعلم يا بن عبّاس ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمّها عيسى بن مريم عليه‌السلام ، وذلك أنَّه مرَّ بها ومعه الحواريّون، فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي، فجلس عيسى عليه‌السلام وجلس الحواريون معه، فبكى وبكى الحواريون وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى، فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يبكيك؟ قال: أتعلمون أيّ أرض هذه؟ قالوا: لا، قال: هذه أرض يُقتل فيها فرْخ الرسول أحمد، وفرْخ الحرّة الطاهرة

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٤، باب ٣٠، حديث رقم ٤٣.

٤٠

البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المِسك؛ لأنّها طينة الفرْخ المستشهَد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرْخ المبارك، وزَعمت أنّها آمنة في هذه الأرض، ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعْر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها، اللّهمّ فأبقِها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة...) (١) .

مصاب الحسينعليه‌السلام في حياة أنبياء اللهعليهم‌السلام وأُممهم

١) - ونقل العلاّمة المجلسي (ره) عن كتاب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالى:( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ... ) ، أنّه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمةعليهم‌السلام ، فلقّنه جبرئيل:(قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ عليّ، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان، فلمّا ذُكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال:يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عَبرتي؟

قال جبرئيل:ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب.

فقال:يا أخي، وما هي؟

قال:يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً، ليس له ناصرٌ ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه! واقلّة ناصراه! حتى يحُول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يُجِبه أحدٌ إلاّ بالسيوف وشرب الحتوف! فيُذبح ذبح الشاة من قَفاه! ويَنهب رَحلَه أعداؤه! وتُشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٤٧٨ - ٤٨٠ المجلس ٨٧ رقم ٥، وكمال الدين: ٢: ٥٣٢ - ٥٣٥، باب ٤٨، رقم١.

(٢) البقرة: ٣٧.

٤١

المنّان)، فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى)(١) .

٢) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يقول:(لمّا أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه‌السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبْش الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل عليه‌السلام بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ وِلده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، مَن أحبّ خلقي إليك؟

فقال: يا ربّ، ما خلقتَ خلقاً هو أحبّ إليَّ من حبيبك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟

قال: بل هو أحبُّ إليَّ من نفسي.

قال: فولدهُ أحبّ إليك أو ولدك؟

قال: بل ولده.

قال: فَذبحُ ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح وَلدكَ بيدك في طاعتي؟

قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستقتل الحسينعليه‌السلام ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيمعليه‌السلام لذلك وتوجّع قلبه، وأقبلَ يبكي!

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، قد فديتُ جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسينعليه‌السلام وقتله، وأوجبتُ لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

____________________

(١) البحار: ٤٤، باب ٣٠، حديث رقم ٤٤.

٤٢

فذلك قول الله عزّ وجلّ: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ، ولا حول ولا قوّة لاّ بالله العليّ العظيم) (١) .

٣) - ونقل الشيخ قطب الدين الراوندي عن تاريخ محمّد النجّار، شيخ المحدّثين بالمدرسة المستنصرية بإسناد مرفوع إلى أنس بن مالك، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(لمّا أراد الله أن يهلك قوم نوح أوحى إليه أن شُقَّ ألواح الساج، فلمّا شقّها لم يدرِ ما يصنع بها، فهبط جبرئيل فأراه هيئة السفينة ومعه تابوت بها مئة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار، فسمّر بالمسامير كلّها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمار فأشرق بيده وأضاء كما يُضيء الكوكب في أُفق السماء فتحيّر نوح، فأنطقَ الله المسمار بلسان طلِق ذلِق: أنا على اسم خير الأنبياء محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهبط جبرئيل، فقال له: يا جبرئيل، ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله؟

فقال: هذا باسم سيّد الأنبياء محمّد بن عبد الله، أَسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيمن.

ثمّ ضرب بيده على مسمار ثانٍ فأشرقَ وأنار!

فقال نوح: وما هذا المسمار؟

فقال: هذا مسمار أخيه وابن عمّه سيّد الأوصياء عليّ بن أبي طالب، فأسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيسر في أوّلها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرقَ وأنار!

____________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١: ٢٠٩، باب ١٧ حديث رقم ١ / وعنه البحار: ٤٤: ٢٢٥، باب ٣٠، حديث رقم ٦ (وعن أمالي الصدوق أيضاً)، وقال العلاّمة المجلسي (ره) في ذيل هذا الخبر: (وأقول: ليس في الخبر أنّه فدى إسماعيل بالحسين، بل فيه أنّه فدى جزع إبراهيم على إسماعيل بجزعه على الحسينعليه‌السلام ، وظاهرٌ أنّ الفداء على هذا ليس على معناه، بل المراد التعويض، ولما كان أسفهُ على ما فات منه من ثواب الجزع على ابنه، عوّضه الله بما هو أجلّ وأشرف وأكثر ثواباً، وهو الجزع على الحسينعليه‌السلام ).

٤٣

فقال جبرئيل: هذا مسمار فاطمة فأسمِره إلى جانب مسمار أبيها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسن فأسمِره إلى جانب مسمار أبيه، ثمّ ضرب إلى مسمار خامس فزهر وأنار وأظهر النداوة!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسين فأسمِره إلى جانب مسمار أبيه.

فقال نوح: يا جبرئيل، ما هذه النداوة؟

فقال: هذا الدم.

فذكر قصّة الحسين عليه‌السلام وما تعمل الأمّة به، فلعن الله قاتله وظالمه وخاذله) (١) .

٤) - وروى الشيخ الصدوق (ره) بإسنادٍ إلى الإمام الرضاعليه‌السلام قال:(قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ موسى بن عمران سأل ربّه عزّ وجلّ فقال: يا ربّ، إنّ أخي هارون مات فاغفر له، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، لو سألتني في الأوّلين والآخرين لأجبتك ما خلا قاتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فإنّي أنتقم له من قاتله) (٢) .

٥) - وروى الشيخ الصدوق (ره) في علل الشرائع بسندٍ إلى الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(إنّ إسماعيل الذي قال الله عزّ وجلّ في كتابه: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) ،لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه الله عزّ وجلّ إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه مَلَك فقال:

____________________

(١) البحار: ٤٤: ٢٣٠، باب ٣٠، حديث رقم ١٢ عن الخرايج والجرايح، ولم نجده في الخرايج والجرايح المطبوع.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢: ٤٧، باب ٣١، حديث رقم ١٧٩ / والظاهر أنّ المراد بقاتل الحسينعليه‌السلام أعمّ وأوسع ممّن باشر قتله بذبحه، إذ يدخل في هذا العنوان الممهدِّون لقتله والآمرون بذلك، والذين اشتركوا في مواجهته وحصره وقتاله، ومَن أعان على ذلك، الراضون بذلك إلى قيام يوم الدين، هذا ما تؤكّده نصوص كثيرة متضافرة مأثورة عن أهل البيتعليهم‌السلام .

٤٤

إنّ الله جلّ جلاله بعثني إليك فمُري بما شئت، فقال: لي أُسوة بما يُصنع بالحسين عليه‌السلام ) (١) .

ورواه الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بتفاوت وبسند آخر إلى الإمام الصادقعليه‌السلام (٢) .

وروى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن بُرير بن معاوية العجليِّ قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : يا بن رسول الله، أخبِرني عن إسماعيل الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) ، أكان إسماعيل بن إبراهيمعليهما‌السلام ؟ فإنَّ الناس يزعمون أنّه إسماعيل بن إبراهيم!

فقالعليه‌السلام :إنّ إسماعيل مات قبل إبراهيم، وإنَّ إبراهيم كان حجّة لله قائماً، صاحب شريعة، فإلى مَن أُرسل إسماعيل إذاً؟

قلت: فمَن كان جُعلتُ فداك؟

قالعليه‌السلام :ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ، بعثه الله إلى قومه فكذّبوه وقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب الله له عليهم، فوجّه إليه سطاطائيل مَلك العذاب، فقال له: يا إسماعيل، أنا سطاطائيل مَلَك العذاب، وجّهني إليك ربّ العزّ؛ لأُعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئتَ، فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك، فأوحى الله إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال: يا ربّ إنّك أخذتَ الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّد بالنبوّة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرتَ خير خلقك بما تفعل أمّته بالحسين بن علي عليهما‌السلام من بعد نبيّها، وإنّك وعدتَ الحسين عليه‌السلام أنْ تُكِرَّهُ إلى الدنيا حتّى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربّ أن تكِرَّني إلى الدنيا

____________________

(١) علل الشرائع: ٧٧، باب ٦٧، حديث رقم ٢، ورواه ابن قولويه (ره) مسنداً في كامل الزيارات: ٦٢ - ٦٣، باب ١٩، حديث رقم ١.

(٢) علل الشرائع: ٧٨، باب ٦٧، حديث رقم ٣. ورواه ابن قولويه (ره) مسنداً في كامل الزيارات: ٦٣، باب ١٩، حديث رقم ٢.

٤٥

حتى أنتقم ممّن فعل ذلك بي، كما تُكِرُّ الحسين عليه‌السلام ، فوعدَ الله إسماعيل بن حزقيل ذلك فهو يُكَرّ مع الحسين عليه‌السلام ) (١) .

٦) - وروى الشيخ الصدوق في أماليه بسندّ إلى سالم بن أبي جعدة قال: سمعت كعب الأحبار يقول: إنّ في كتابنا أنّ رجلاً من وِلْد محمّد رسول الله يُقتل، ولا يجفّ عرَق دوابّ أصحابه، حتّى يدخلوا الجنّة فيعانقوا الحور العِين.

فمرَّ بنا الحسنعليه‌السلام ، فقلنا: هو هذا؟

قال:(لا.

فمرَّ بنا الحسينعليه‌السلام فقلنا: هو هذا؟

قال:نعم) (٢) .

٧) - وروى الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بسندٍ إلى يحيى بن يمان، عن إمامٍ لبني سليم، عن أشياخ لهم قالوا: غزونا بلاد الروم فدخلنا كنيسة من كنائسهم فوجدنا فيها مكتوباً:

أيرجو معشرٌ قتلوا حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

قالوا: فسألنا: منذ كم هذا في كنيستكم؟

فقالوا: قبل أن يُبعث نبيّكم بثلاثمئة عام)(٣) .

وقال الشيخ ابن نما (ره): (وحدّث عبد الرحمان بن مسلم، عن أبيه أنّه قال: غزونا بلاد الروم فأتينا كنيسة من كنائسهم قريبة من قسطنطينية وعليها شيء

____________________

(١) كامل الزيارات: ٦٣ - ٦٤، باب ١٩، حديث رقم ٣.

(٢) أمالي الصدوق: ١٢١ المجلس ٢٩، حديث رقم ٤.

(٣) أمالي الصدوق: ١١٣، المجلس ٢٧، حديث رقم ٦.

٤٦

مكتوب، فسألنا أُناساً من أهل الشام يقرأون بالرومية، فإذا هو مكتوب هذا البيت [ الشعر ].

وذكر أبو عمرو الزاهد في كتاب الياقوت قال: قال عبد الله بن الصفّار صاحب أبي حمزة الصوفي: غزونا غزاة وسبَينا سبياً، وكان فيهم شيخ من عقلاء النصارى، فأكرمناه وأحسنّا إليه، فقال لنا: أخبَرَني أبي عن آبائه، أنّهم حضروا في بلاد الروم حضراً قبل أن يُبعث النبيّ العربي بثلاثمئة سنة، فأصابوا حجراً عليه مكتوب بالمسند هذا البيت من الشعر:

أترجو عُصبة قَتَلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

والمسند كلام أولاد شيث)(١) .

الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ومصاب الحسينعليه‌السلام

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ذكر ما يجري على الإمام الحسينعليه‌السلام من المصائب الفادحة، حزن واغتمّ وبكى وأبكى مَن حوله، منذ أن بشّرته الملائكة

____________________

(١) مثير الأحزان: ٩٦ - ٩٧ / وقال الشيخ ابن نما (ره) أيضاً: فروى النطنزي، عن جماعة، عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف أيّام الموسم إذا رجل يقول: اللّهم اغفر لي وأنا أعلم أنّك لا تغفر، فسألته عن السبب فقال: كنت أحد الأربعين الذين حملوا رأس الحسين إلى يزيد على طريق الشام، فنزلنا أوّل مرحلة رَحَلنا من كربلا على دير للنصارى، والرأس مركوز على رمح، فوضعنا الطعام ونحن نأكل إذا بكفّ على حائط الدير يكتب عليه بقلم حديد سطراً بدم:

أترجو أمّة قَتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فجزعنا جزعاً شديداً وأهوى بعضنا إلى الكفّ فغاب، فعاد أصحابي.

٤٧

بالحسينعليه‌السلام ، ثمّ منذ اليوم الأوّل من حياة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى آخر أيّامهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمأثور المرويّ في هذا الصدد كثير متنوّع، انتقينا منه نماذج على سبيل المثال تبرّكاً، هي:

١) - روى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(أتى جبرئيل رسول الله فقال له: السلام عليك يا محمّد، ألا أُبشرّك بغلام تقتله أمّتك من بعدك؟

فقال: لا حاجة لي فيه.

قال: فانتهض إلى السماء، ثمّ عاد إليه الثانية فقال له مثل ذلك.

فقال: لا حاجة لي فيه.

فانعرج إلى السماء، ثمّ انقضّ إليه الثالثة فقال له مثل ذلك.

فقال: لا حاجة لي فيه.

فقال: إنّ ربّك جاعل الوصيّة في عَقِبه.

فقال: نعم.

ثمّ قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل على فاطمة، فقال لها: إنّ جبرئيل أتاني فبشّرني بغلام تقتله أمّتي من بعدي!

فقالت: لا حاجة لي فيه.

فقال لها: إنّ ربّي جاعل الوصيّة في عقِبه.

فقالت: نعم، إذاً.

قال:فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ) لموضع إعلام جبرئيل إيّاها بقتله ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ) بأنّه مقتول، و ( وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ) ؛ لأنّه مقتول) (١) .

____________________

(١) كامل الزيارات: ٥٤، باب ١٦، حديث رقم ٣ / وانظر: حديث رقم ٤.

٤٨

٢) - وروى ابن قولويه (ره) أيضاً بسندٍ عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(لمّا حَملت فاطمة بالحسين عليه‌السلام جاء جبرئيل إلى رسول الله فقال: إنّ فاطمة ستلد ولداً تقتله أمّتك من بعدك، فلمّا حملت فاطمة الحسين كرهت حمْله، وحين وضعتهُ كرهَت وضْعه).

ثمّ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(هل رأيتم في الدنيا أُمّاً تلد غُلاماً فتكرهه؟! ولكنّها كرهته؛ لأنّها عَلمت أنّه سيُقتل).

قال:وفيه نزلت هذه الآية: ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (١) )(٢) .

٣) - قال الشيخ ابن نما (ره): (وقد روي عن زوجة العبّاس بن عبد المطّلب وهي أمُّ الفضل (لبابة بنت الحارث)، قالت: رأيت في النوم قبل مولده كأنّ قطعة من لحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قُطعت ووضعت في حِجري، فقصصت الرؤيا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال:(إن صَدَقت رؤياكِ فإنّ فاطمة ستلد غلاماً وأدفعه إليك لترضعيه (٣) .

فجرى الأمر على ذلك، فجئت به يوماً فوضعته في حِجره فبال، فقطرت منه قطرة على ثوبهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرصتهُ فبكى.

فقال كالمغضَب:مهلاً يا أمّ الفضل، فهذا ثوبي يُغسل، وقد أوجعتِ ابني! قالت: فتركتهُ ومضيت لآتيه بماء، فجئت فوجدتهصلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي، فقلت: ممّن بكاؤك يا رسول الله؟ فقال:إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ أمّتي تقتل ولدي هذا!) (٤) .

____________________

(١) سورة الأحقاف: ١٥.

(٢) كامل الزيارات: ٥٤، باب ١٦، حديث رقم ٢.

(٣) روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله:(ولم يرضع الحسين من فاطمة ولا من أُنثى، لكنّه كان يؤتى به النبيّ فيضع إبهامه في فيه فيمصُّ منها ما يكفيه اليومين والثلاثة، فنبتَ لحم الحسين عليه‌السلام من لحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودمه من دمه..) (راجع: كامل الزيارات: ٥٥، باب ١٦، حديث رقم ٤).

(٤) مثير الأحزان: ١٦ - ١٧.

٤٩

٤) - وأخرج الشيخ الطوسي (ره) بسند عن الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام قال:(حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعمية قالت: قبّلتُ جدّتك فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحسن والحسين عليهما‌السلام ، قالت: فلمّا ولدت الحسن عليه‌السلام جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا أسماء، هاتي ابني، قالت: فدَفعته إليه في خِرقة صفراء، فرمى بها وقال: ألم أعهد إليكنّ ألاّ تلفّوا المولود في خرقة صفراء؟!

ودعا بخرقة بيضاء فلفّه فيها، ثمّ أذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في أُذنه اليسرى، وقال لعليّعليه‌السلام : بمَ سمّيتَ ابنك هذا؟ قال: ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله، قال: وأنا ما كنت لأسبق ربّي عزّ وجلّ.

قال:فهبط جبرئيل فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمّد، عليٌّ منك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدك، فسمِّ ابنك باسم ابن هارون، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل، وما اسم ابن هارون؟ قال جبرئيل: شُبّر، قال: وما شُبّر؟ قال: الحسن، قالت أسماء: فسمّاه الحسن.

قالت أسماء: فلمّا ولدت فاطمة الحسينعليهما‌السلام نفّستُها به، فجاءني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: هلمّي ابني يا أسماء، فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسنعليه‌السلام ، قالت: وبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال: إنّه سيكون لك حديث! اللّهمّ العن قاتله، لا تُعلمي فاطمة بذلك.

قالت: فلمّا كان يوم سابعه جاءني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: هلمّي ابني.

فأتيتهُ به، ففعل به كما فعل بالحسن عليه‌السلام ، وعقّ عنه كما عقّ عن الحسن كبشاً أملح، وأعطى القابلة رِجلاً، وحلقَ رأسه، وتصدّق بوزن الشَعر وَرِقاً (١) ،وخلّق رأسه بالخَلُوق (٢) ،

____________________

(١) الوَرِق: الفضّة.

(٢) الخَلُوق: ضرب من الطيّب، أعظم أجزائه الزعفران.

٥٠

وقال: إنّ الدّم من فعل الجاهليّة، قالت: ثمّ وضعه في حِجره، ثمّ قال: يا أبا عبد الله، عزيزٌ عليَّ، ثمّ بكى، فقلت: بأبي أنت وأمّي، فعلتَ في هذا اليوم وفي اليوم الأوّل، فما هو؟ فقال: أبكي على ابني هذا، تقتله فئة باغية كافرة من بني أميّة، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر بالله العظيم، ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم في ذريّته، اللّهمّ أَحبّهما، وأحبَّ مَن يُحبّهما، والعن مَن يبغضهما مِلء السماء والأرض) (١) .

٥) - وروى فرات الكوفي (ره) عن جعفر بن محمّد الفزاري معنعناً، عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال:(كان الحسين مع أُمّه تحمله، فأخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك، وأهلك الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين مَن أعان عليك.

قالت فاطمة الزهراء: يا أبتِ، أيّ شيء تقول؟

قال: يا بنتاه، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي، وهو يومئذٍ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم، وإلى موضع رِحالهم وتُربتهم.

قالت: يا أبه، وأين هذا الموضع الذي تصف؟

قال: موضع يقال له كربلاء، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمّة (الأئمة) يخرج عليهم شرار أمّتي، لو أنّ أحدهم شفع له مَن في السماوات والأرضين ما شفّعوا فيه، وهم المخلّدون في النار.

قالت: يا أبه، فيُقتلُ؟!

قال: نعم يا بنتاه، وما قُتل قتْلته أحدّ كان قبله، ويبكيه السماوات والأرضون، والملائكة، والوحش، والنباتات، والبحار، والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٣٦٧ - ٣٦٨، المجلس ١٣، حديث ٧٨١ / ٣٢.

٥١

متنفّس، ويأتيه قوم من محبّينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوَم بحقّنا منهم، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجَور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً، أعرفهم إذا وردوا عليَّ بسيماهم، وكلُّ أهل دين يطلبون أئمّتهم، وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا، وهم قوّام الأرض، وبهم ينزل الغيث.

فقالت فاطمة الزهراءعليها‌السلام : يا أبة، إنّا لله، وبكت.

فقال لها: يا بنتاه، إنّ أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا؛ بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقّاً، فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قَتلة أهون من مِيتة، ومَن كُتب عليه القتل خرج إلى مضجعه، ومَن لم يُقتل فسوف يموت.

يا فاطمة بنت محمّد، أمَا تحبّين أن تأمرين غداً بأمر فتُطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حَمَلة العرش؟ أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة؟

أمَا ترضين أن يكون بعلُك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض، فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟ أما ترضين أن يكون بعلُك قسيم النار، يأمر النار فتطيعه، يُخرج منها مَن يشاء ويترك مَن يشاء.

أمَا ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليكِ وإلى ما تأمرين به، وينظرون إلى بعْلُكِ قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله، فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعْلُك إذا أفلجت حجّته على الخلائق وأُمرت النار أن تطيعه؟

أمَا ترضين أن يكون الملائكة تبكي لابنك، ويأسف عليه كلّ شيء؟ أما ترضين أن يكون مَن أتاه زائراً في ضمان الله، ويكون مَن أتاه: بمنزلة مَن حجّ إلى بيت الله واعتمر، ولم يخلُ من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً، وإنْ بقي لم تزَل الحَفَظة تدعوا له ما بقي،

٥٢

ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا ؟

قالت: يا أبه، سلّمتُ، ورضيتُ، وتوكّلت على الله.

فمسحَ على قلبها ومسح عينيها، وقال: إنّي وبعلُكِ وأنتِ وابنَيك في مكان تقرّ عيناك ويفرح قلبك) (١) .

٦) - وروى الشيخ ابن نما (ره) قائلاً: (وعن عبد الله بن يحيى قال: دخلنا مع عليّعليه‌السلام إلى صِفّين، فلمّا حاذى نينوى نادى:(صبراً أبا عبد الله ، فقال:دخلتُ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعيناه تفيضان!

فقلت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، ما لعينيك تفيضان؟ أغضَبكَ أحد؟

قال: لا، بل كان عندي جبرئيل فأخبرني أنّ الحسين يُقتل بشاطئ الفرات، فقال: هل لك أن أُشمّك من تُرتبه؟ قلت: نعم، فمدَّ يده فأخذ قبضة من تراب وأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا، واسم الأرض كربلاء.

فلمّا أتت عليه سنتان خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سفر، فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه، فسُئل عن ذلك.

فقال: هذا جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يُقال لها كربلاء يُقتل فيها وَلدي الحسين.

فقيل: ومَن يقتله؟

قال:رجل يقال له يزيد، كأنّي أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكأنّي أنظر على أقتاب المطايا وقد أُهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد لعنه الله، فو الله ما ينظر أحد إلى رأس الحسين ويفرح إلاّ خالف الله بين قلبه ولسانه، وعذّبه الله عذاباً أليماً) .

____________________

(١) تفسير فرات الكوفي: ٥٥ - ٥٦، وعنه البحار: ٤٤: ٢٦٤ - ٢٦٥، رقم ٢٢ / وانظر: كامل الزيارات: ٦٧ - ٦٨، باب ٢٢، رقم ٢.

٥٣

ثمّ رجع النبيّ من سفره مغموماً مهموماً كئيباً حزيناً، فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين، وخطبَ ووعظ الناس، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين، ورفع رأسه إلى السماء وقال:

اللّهمّ إنّ محمّداً عبدك ورسولك ونبيّك، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيتي وأُرومتي، ومَن أُخلِّفهما في أمّتي، وقد أخبرني جبرئيل أنّ ولَدي هذا مقتول بالسمّ، والآخر شهيد مضرّج بالدم، اللّهمّ فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشهداء، اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله، واصلِهِ حرَّ نارك واحشره في أسفل درك الجحيم.

قال: فضجّ الناس بالبكاء والعويل.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أتبكون ولا تنصرونه؟! اللّهمّ فكن أنت له وليّاً وناصراً.

ثمّ قال: يا قوم، إنّي مخلّف فيكم الثِقلَين: كتاب الله، وعترتي وأُرومتي ومزاج مائي، وثمرة فؤادي، ومهجتي، لن يفترقا حتّى يرِدا عليَّ الحوض، ألا وإنّي لا أسألكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربّي أن أسألكم عنه، أسألكم عن المودّة في القُربى، واحذروا أن تلقوني غداً على الحوض وقد آذيتم عترتي وقتلتُم أهل بيتي وظلمتموهم.

ألا إنّه سيرد عليَّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمّة:

الأولى: راية سوداء مظلمة قد فزعت منها الملائكة، فتقف عليَّ فأقول لهم: مَن أنتم؟ فينسون ذكري، ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب، فأقول لهم: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم، فيقولون: نحن من أمّتك، فأقول: كيف خلفتموني من بعدي في أهل بيتي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فضيّعناه، وأمّا العترة فحرصنا أن نبيدهم عن جديد الأرض، فلمّا أسمع ذلك منهم أعرض عنهم وجهي، فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية أخرى أشدّ سواداً من الأولى، فأقول لهم: كيف خلفتموني من بعدي في الثقلين: كتاب الله، وعترتي؟

٥٤

فيقولون: أمّا الأكبر فخالفناه، وأمّا الأصغر فمزّقناهم كل ممزّق! فأقول: إليكم عنّي، فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية تلمع وجوههم نوراً فأقول لهم: مَن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى من أمّة محمّد المصطفى، ونحن بقيّة أهل الحق، حملنا كتاب ربّنا، وحلّلنا حلاله، وحرّمنا حرامه، وأحببنا ذريّة نبيّنا محمّد، ونصرناهم من كلّ ما نصرنا به أنفسنا، وقاتلنا معهم مَن ناواهم، فأقول لهم: أبشروا، فأنا نبيّكم محمّد، ولقد كنتم في الدنيا كما قلتم، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويّين مستبشرين، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبد الآبدين) (١) .

٧) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن ابن عباس قال: (إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسنعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:(إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يُدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليمنى.

ثمّ أقبل الحسينعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يُدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى.

ثمَّ أقبلت فاطمةعليها‌السلام ، فلمّا رآها بكى، ثمّ قال:إليَّ إليَّ يا بُنيّة، فأجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:إليَّ يا أخي، فما زال يُدنيه حتّى أجلسه إلى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى واحداً من هؤلاء إلاّ بكيت! أَوَ ما فيهم مَن تُسَرُّ برؤيته؟!

____________________

(١) راجع: مثير الأحزان: ١٨ - ٢٠، وبحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٧ - ٢٤٩، وروى بعضه ابن أبي شيبة في مصنّفه: ١٥: ٩٨ رقم ١٩٢١٤، وأحمد في مسنده: ١: ٨٥.

٥٥

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :والذي بعثني بالنبوّة واصطفاني على جميع البريّة، إنّي وإيّاهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجلّ، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليَّ منهم، وأمّا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ... وأمّا الحسين فإنّه منّي، وهو ابني وولدي وخير الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين، ومولى المؤمنين، وخليفة ربّ العالمين، وغياث المستغيثين، وكهف المستجيرين، وحجّة الله على خلقه أجمعين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وباب نجاة الأمّة، أمْرهُ أمري، وطاعته طاعتي، مَن تبعه فإنّه منّي، ومَن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا رأيته تذكّرت ما يُصنع به بعدي، كأنّي به وقد استجار بحَرَمي وقُربي فلا يُجار! فأضمّه في منامه إلى صدري، وآمرهُ بالرحلة عن دار هجرتي، وأبشّره بالشهادة فيرتحل عنها إلى أرض مقتله وموضع مصرعه أرض كرب وبلاء، وقتْلٍ وفَناء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك من سادة شهداء أمّتي يوم القيامة، كأنّي أنظر إليه وقد رُمي بسهمٍ فخرّ عن فرَسه صريعاً، ثمّ يُذبح كما يُذبح الكبش مظلوماً.

ثمّ بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبكى مَن حوله، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثمّ قامصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول:اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي)، ثمّ دخل منزله) (١) .

٨) - (وروي عن عبد الله بن عبّاس (رض) أنّه قال: لما اشتدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه الذي مات فيه، وقد ضمَّ الحسينعليه‌السلام إلى صدره، يسيل من عرَقه عليه، وهو يجود بنفسه ويقول:(ما لي وليزيد؟! لا بارك الله فيه، اللّهمَّ العن يزيد) .

ثمّ غشي عليه طويلاً، وأفاق وجعل يُقبّل الحسين وعيناه تذرفان، ويقول:(أمَا إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله عزّ وجلّ) (٢) .

____________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق: ٩٩ - ١٠١، المجلس ٢٤، رقم ٢.

(٢) مثير الأحزان: ٢٢.

٥٦

أمير المؤمنين عليٌّعليه‌السلام ومصاب الحسينعليه‌السلام

وكما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش مأتماً متواصلاً، ويكابد حزناً شديداً وجزعاً عظيماً ويبكي بكاءً مُرّاً، ويُبكي مَن حوله؛ لمَا سوف يُصيب الإمام الحسينعليه‌السلام من عظيم البلاء، كذلك كان أمير المؤمنينعليه‌السلام . وإنَّ المأثور عنهعليه‌السلام في ذلك لَكثير، لكنّنا لا يسعنا هنا أيضاً إلاّ أن ننتقي منه نماذج على سبيل المثال تبرّكاً:

١) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن الأصبغ بن نباتة (ره) قال: (خرج علينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ذات يوم ويده في يد ابنه الحسنعليه‌السلام وهو يقول:(خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم ويدي في يده هكذا وهو يقول: خير الخلق بعدي وسيّدهم أخي هذا، وهو إمام كلّ مسلم، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي.

ألا وإنّي أقول: خير الخلق بعدي، وسيّدهم ابني هذا، وهو إمام كلّ مؤمن، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي، ألا وإنّه سيُظلَم بعدي كما ظُلمتُ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخير الخلق وسيّدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه، المقتول في أرض كربلاء، أمَا إنّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة...) (١) .

٢) - وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسند عن جبلة المكيّة قالت: سمعت ميثم التمّار يقول: (والله، لتَقتِلنّ هذه الأمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشرٍ مضَين منه، وليتّخذنّ أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة، وإنّ ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلم ذلك بعهد عَهدهُ إليَّ مولاي أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ولقد أخبرني أنّه:(يبكي عليه كلّ شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار، والطير في جوّ السماء، وتبكي عليه الشمس، والقمر، والنجوم، والسماء، والأرض،

____________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة: ١: ٢٥٩، باب ٢٤، رقم ٥، وعنه الراوندي في قصص الأنبياء: ٣٦٦ - ٣٦٧، رقم ٤٣٩، والطبرسي في إعلام الورى: ٣٧٧ - ٣٧٨.

٥٧

ومؤمنو الإنس والجنّ، وجميع ملائكة السماوات ورضوان ومالك، وحَملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً، ثمّ قال:وجَبَت لعنة الله على قَتلة الحسين عليه‌السلام كما وجبَت على المشركين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر، وكما وجبَت على اليهود والنصارى والمجوس) .

قالت جبلة: فقلت: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناس ذلك اليوم الذي يُقتل فيه الحسين بن عليّعليهما‌السلام يوم بركة؟!.

فبكى ميثم، ثمّ قال: سيزعمون بحديث يضعونه أنّه اليوم الذي تاب الله فيه على آدمعليه‌السلام ، وإنّما تاب الله على آدمعليه‌السلام في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي قبِل الله فيه توبة داود، وإنّما قبِل الله توبته في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنّما أخرجه الله من بطن الحوت في ذي القعدة، ويزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجوديّ، وإنّما استوت على الجوديّ يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل، وإنّما كان ذلك في شهر ربيع الأوّل.

ثمّ قال ميثم: يا جبلة، اعلَمي أنّ الحسين بن عليّ سيّد الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة، يا جبلة إذا نظرتِ إلى الشمس حمراء كأنّها دم عبيط فاعلَمي أنّ سيّدك الحسين قد قُتل.

قالت جبلة: فخرجتُ ذات يوم فرأيت الشمس على الحيطان كأنّها الملاحف المعصفرة! فصحتُ حينئذٍ وبكيتُ، وقلت: قد والله قُتل سيّدنا الحسين بن عليّعليه‌السلام )(١) .

٣) - وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسندٍ عن ابن عبّاس قال:

____________________

(١) أمالي الصدوق: ١١٠ - ١١١، المجلس ٢٧، رقم ١، وعلل الشرايع: ١: ٢٢٧ - ٢٢٨.

٥٨

(كنت مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في خروجه (في خرجته) إلى صِفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو شطّ الفرات قال بأعلى صوته:(يا بن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟ قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين، فقالعليه‌السلام :لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي، قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيَته وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً، وهو يقول:أوه أوه! ما لي ولآل أبي سفيان؟! ما لي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر؟! صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقيَ أبوك مثل الذي تلقى منهم!

ثمّ دعا بماءٍ فتوضّأ وضوءه للصلاة، فصلّى ما شاء الله أن يصلّي، ثمّ ذكر نحو كلامه الأوّل، إلاّ أنّه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة، ثمّ انتبه، فقال:يا بن عبّاس، فقلت: ها أنا ذا؟

فقال:ألا أُحدّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رَقدَتي؟

فقلت: نامت عيناك ورأيتَ خيراً يا أمير المؤمنين.

قال:رأيت كأنّي برجال قد نزلوا من السماء، معهم أعلام بيض، قد تقلّدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة، ثمّ رأيت كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدمٍ عبيط، وكأنّي بالحسين سُخَيلي وفرْخي ومُضغتي ومخّي قد غرق فيه يستغيث فلا يُغاث، وكأنّ الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آلَ الرسول! فإنّكم تُقتلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنّة يا أبا عبد الله إليك مشتاقة! ثمّ يعزّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشِر فقد أقرّ الله به عينك يوم القيامة يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، ثمّ انتبهتُ!

وهكذا والذي نفس عليٍّ بيده، لقد حدّثني الصادق المصدّق أبو القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء، يُدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً من وِلدي ووِلد فاطمة، وإنّها لفي السماوات معروفة تُذكر أرض كرب وبلاء، كما تُذكر بقعة الحرَمَين، وبقعة بيت المقدس.

٥٩

ثمّ قال:يا بن عبّاس، اُطلب لي حولها بعْر الظباء، فو الله ما كذبتُ ولا كُذّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران!

قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته: يا أمير المؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي.

فقال عليّعليه‌السلام :صدق الله ورسوله، ثمّ قامعليه‌السلام يهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال:هي هي بعينها! أتعلُم يا بن عبّاس ما هذا الأبعار؟

هذه قد شمّها عيسى بن مريمعليه‌السلام ، وذلك أنّه مرّ بها ومعه الحواريّون فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي، فجلس عيسىعليه‌السلام وجلس الحواريّون معه فبكى وبكى الحواريّون، وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى!

فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يبكيك؟!

قال: أتعلمون أيّ أرض هذه؟

قالوا: لا.

قال: هذه أرض يُقتل فيها فرْخ الرسول أحمد، وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المسك؛ لأنّها طينة الفرْخ المستشهد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول: إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تُربة الفرخ المبارك.

وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض، ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب؛ لمكان حشيشها، اللّهمَّ فأبقها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة.

قال:فبقيَت إلى يوم الناس هذا، وقد اصفرّت لطول زمنها، وهذه أرض كرب وبلاء، ثمّ قال بأعلى صوته:يا ربّ عيسى بن مريم، لا تُبارك في قَتَلَتِه، والمُعين عليه، والخاذل له.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477