مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة12%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260794 / تحميل: 8934
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه ، إذ بحثه يستلزم النظر فى الأدلة الكونية ، والبراهين العقلية ، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.

(3) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد ، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها ، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة ، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله ، والوقوف عند فهم المحكم ، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده ، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة ، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله :إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ».

( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة ، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هى الأصول ، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها ، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب : إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغى للعقلاء أن يعتبروه.

ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال :

( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية ، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر ، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ، فيخافون أن يقعوا فى الخطأ ، والخطأ قرين الخطر.

وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلّب القلوب ثبت قلبى على دينك» قلت : يا رسول الله

١٠١

ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال : «ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه».

( رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به ، لأنك أخبرت به وقولك الحق ، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه ، وأنت لا تخلف وعدك.

وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه ، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم ، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي منه.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) )

تفسير المفردات

تغنى : أي تنفع ، وقود (بفتح الواو) أي حطب ونحوه ، والدأب : العادة ؛ من دأب على العمل إذا جدّ فيه وتعب ، ثم غلب في العادة ، والمهاد : الفراش ، يقال مهدّ الرجل المهاد إذا بسطه ، والآية : العلامة على صدق ما يقول الرسول.

١٠٢

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد ، وذكر الكتب الناطقة به ، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به ـ شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود ، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه ، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد ، وأرشد إلى أنها لا تغنى عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا ، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة ، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم ، فيتوهمون الاستغناء عن الحق ، ويتبعون الهوى.

وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق ، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل ؛ فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون ، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم ، فالله لا يحابى ولا يظلم وهو شديد العقاب.

الإيضاح

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من بنى إسرائيل أم من كفار العرب ـ لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار ، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهامّ أمورهم ويعوّلون عليهم فى الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا ، وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، فردّ الله عليهم بقوله : «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً » وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.

١٠٣

ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حلّ بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا وأكثر عددا لعلهم يتعظون فقال :

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بشريعته ، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ، ودأب من قبلهم من الأمم ، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم ، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا ، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات.

ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة فقال :

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ ) المراد بالكافرين هنا اليهود لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمى الذي بشرنا به موسى ، وفي التوراة نعته وهمّوا باتباعه ، فقال بعضهم : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى ، فلما كان يوم أحد شكّوا ، وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوه ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش ، فقالوا له : لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس فنزلت.

أي قل لأولئك اليهود إنكم ستغلبون في الدنيا وسينفذ فيكم وعيدي ، وتساقون فى الآخرة إلى جهنم سوقا ، وبئس المهاد ما مهدتموه لأنفسكم.

وقد صدق الله وعده فقتل المسلمون بنى قريظة الخائنين ، وأجلوا بنى النّضير المنافقين ، وفتحوا خيبر وضربوا الجزية على من عداهم.

١٠٤

ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال :

( قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم : لا تغرنكم كثرة العدد ، ولا المال والولد ، فليس هذا سبيل النصر والغلب ، فالحوادث التي تجرى في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون.

انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر ، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوى البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها ، لا لمثل من نعتهم الله بقوله : «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ».

ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى ، وقوله( تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ترشد إلى السر في هذا الفوز ، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله ، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة ، وما أمكنها من تدبير واستعداد ، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده ، يرشد إلى هذا قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشدّ العزائم والنهوض بالهمم ، وبالطاعة لرسوله ، وكان هو القائد في تلك الواقعة ـ واقعة بدر ـ وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال.

وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم ، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة ، فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله ، فنصرهم وفاء بوعده «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ».

١٠٥

وغزوات الرسول وأصحابه تفسر ما ورد في هذه الآيات ، ولما خالفوا ما أمروا به غزوة أحد نزل بهم ما نزل ، وفي هذا أكبر عبرة لمن تذكر واعتبر.

وقد روى أرباب السير أن جيش المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة وعشرين رجلا ، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين على بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو ، والآخر لمرثد بن أبي مرثد ، وكان معهم ست دروع وثمانية سيوف ، وجميع من قتل منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

وأن جيش المشركين كان تسعمائة وخمسين مقاتلا ، رأسهم عقبة بن ربيعة ، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، وكان في معسكرهم من الخيل مائة فرس وسبعمائة بعير ، ومن الأسلحة ما لا يحصى عدّا.

ومعنى قوله( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أن المشركين رأوا المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ـ وكانوا نحو ثلاثمائة ـ أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم ، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم الله بالملائكة ، بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم كما جاء في خطاب أهل بدر «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ».

ومعنى قوله (رأى العين) أنها رؤية مكشوفة لا لبس معها ولا خفاء كسائر المرئيات والمشاهدات.

( وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ) أي والله يقوّى بمعونته من يشاء كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو.

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) أي إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.

١٠٦

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) )

تفسير المفردات

الشهوات : واحدة شهوة وهى رغبة النفس في الحصول ، والمراد بها المشتهيات كما يقال هذا الطعام شهوة فلان أي ما يشتهيه ، والأنعام واحدها نعم وهى الإبل والبقر والغنم ولا تطلق النعم إلا على الإبل خاصة ، والمسوّمة : هى التي ترعى في الأودية والقيعان ، والحرث : الزرع والنبات.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه قبل هذا اشتغال الكافرين بالأموال والأولاد وإعراضهم عن الحق وانهماكهم في اللذات ، ذكر هنا وجه غرورهم بذلك تحذيرا لهم من جعلها مطية لشهواتهم ، وتذكيرا لهم بأنه لا ينبغى أن تجعل هى غاية الحياة ، فتشغلهم عن أعمال الآخرة التي جعلت الدنيا مزرعتها ، والوسيلة لكسب السعادة فيها.

الإيضاح

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ) معنى تزيين حب الشهوات للناس ، أن حبها مستحسن لديهم لا يرون فيه قبحا ولا غضاضة ، ومن ثم لا يكادون يرجعون عنه ، وهذا أقصى مراتب الحب ، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحا أو ضارّا ، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به ، وقد يحب الإنسان شيئا وهو يراه شيئا لا زينا ، وضارّا لا نافعا ، ويود لذلك لو لم يحبه كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيهم منه ، ومن أحب شيئا ولم يزيّن له يوشك أن يرجع عنه يوما ما ، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.

١٠٧

المعنى ـ إن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات المبينة بعد كما قال : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » وقال : «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ».

وقد يسند التزيين إلى الشيطان بالوسوسة في قبيح الأعمال كما قال تعالى : «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ».

ثم فصل هذه المشتهيات الستة التي ملأت قلوب الناس حبا فقال :

( مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ) .

(فأولها) النساء وهن موضع الرغبة ومطمح الأنظار ، وإليهن تسكن النفوس كما قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدّهم وجدّهم ، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن ، فإسرافهم في حبهنّ له الأثر العظيم فى شئون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها.

وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلوّ والإسراف كحب المرأة ، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده ، فكثير ممن تزوجوا بما فوق الواحدة وأفرطوا في حب واحدة وملّوا أخرى أهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق وقد وسعوه على أولاد المحبوبة ، وكم من غنىّ عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر ، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم ، فهو يفعل ذلك للتقرب وابتغاء الزلفى إليها.

(وثانيها) البنون والمراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى : «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ » وفي الحديث «الولد مجبنة مبخلة».

والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهى تسلسل النسل وبقاء النوع ، وهى حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.

١٠٨

وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة منها :

(1) أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل ، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس.

(2) أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليه لضعف أو كبر.

(3) أنه يرجى بهم من الشرف ما لا يرجى من الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة.

(4) الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها وتتصل بعشيرة أخرى.

(وثالثها) القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد ، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة كما قالوا ألوف مؤلفة وظل ظليل ، وقيل المقنطرة المضروبة من دنانير ودراهم ، وقيل هى المنضدة في وضعها.

وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان ، والتي تشغل القلب للتمتع بها ، وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة.

ومن ثم كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين بهم المستكبرين عن تلبية دعوتهم ، وإن أجابوها وآمنوا فهم أقل الناس عملا وأكثرهم بعدا عن هدى الدين ، انظر إلى قوله تعالى : «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ».

وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم ، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب ، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات ، ورغبات الإنسان غير محدودة ، ولذاته لا عدّ لها ولا حصر ، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها ، وما وصل إلى غاية فى جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها ، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن

١٠٩

المال وسيلة لا مقصد فيفتنّ في الوصول إليه الفنون المختلفة ، والطرق التي تعنّ له ، ولا يبالى أمن حلال كسب أم من حرام؟

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب».

ولقد أعمت فتنة المال كثيرا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن ، بل عن حقوق من يعاملهم ، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم ، بل عن أنفسهم ، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزرى بمروءته ، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه ، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال. ومن ثم قالوا : المال ميّال.

(ورابعها) الخيل المسوّمة التي ترعى في الأودية ، يقال سام الدابة : رعاها ، وأسامها : أخرجها إلى المرعى ، كما قال تعالى : «وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ».

وقال ابن جرير : المسوّمة : المعلّمة من السّومة وهى العلامة. قال النابغة :

بسمر كالقداح مسوّمات

عليها معشر أشباه جنّ

وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة ، والمعلمة المطهّمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء ـ من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون ، حتى لقد يتغالى بعضهم فى ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون.

(وخامسها) الأنعام وهى مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم ، وبها تفاخرهم وتكاثرهم ، وقد امتنّ الله بها على عباده بقوله : «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».

١١٠

(وسادسها) الحرث وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر ، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة ، والانتفاع به أتمّ منها لكنه أخر عنها ، لأنه لما عمّ الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل ، وقلما يكون الانتفاع به صادّا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعا من نصرة الحق.

وهناك ما هو أعم نفعا وأعظم فائدة في الحياة وهو الضوء والهواء ، فلا يستغنى عنهما حىّ من الأحياء ، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطته بهما.

( ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) المتاع ما يتمتع به ، والمآب المرجع من آب يئوب إذا رجع ، أي هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلا في هذه الحياة الفانية ، ويجعلونه وسيلة في معايشهم ، وسببا لقضاء شهواتهم وقد زيّن لهم حبها في عاجل دنياهم ، والله عنده حسن المآب في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم فلا ينبغى لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل.

فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه ، والشغل الشاغل له عن آخرته ، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال : «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ».

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا

١١١

وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17))

تفسير المفردات

النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات ، والتقوى : هى الإخبات إلى الله والإعراض عما سواه ، والمطهرة : الخالية من الشوائب الجسمية والنفسية والرضوان (بضم الراء وكسرها) الرضا ، والصبر : حبس النفس عند كل مكروه يشقّ عليها احتماله ، والصدق يكون في القول والعمل والوصف ؛ يقال فلان صادق في قوله ، وصادق في عمله ، وصادق في حبه ، والقانتين : أي المداومين على الطاعة والعبادة ، والمستغفرين بالأسحار : أي المصلّين وقت السحر.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها ، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا ـ أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.

الإيضاح

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ) أي قل لقومك وغيرهم : أأخبركم بخير من جميع ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره ، وجىء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه.

وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها ، ولا شك في ذلك إذ هى من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس ، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها ، فما مثل المسرف في حب النساء حتى

١١٢

يعطى امرأته حق غيرها ، أو يهمل لأجلها تربية ولده إلا مثل من يستعمل عقله فى استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم ، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هى في ذاتها شر ولا كون حبها شرا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة.

ثم أجاب عن هذا الاستفهام على طريق قولك هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة ، ويرخص السعر ويفى بالوعد؟ هو فلان فقال :

( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) أي للذين أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه نوعان من الجزاء.

أحدهما جسمانى وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات ، والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خلقا وخلقا.

وثانيهما روحاني عقلى وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط ولا يعقبه غضب ، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين.

وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات كما نرى ذلك في الدنيا.

فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى ولا يكون ذلك باعثا له على فعل الخير وترك الشر ، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جرّ بها في الدنيا ، ففى مثلها يرغب.

ومنهم من ارتقى إدراكه ، وعظم قربه من ربه ، فيتمنى رضاه ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة.

وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى : «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » وقوله : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ (الزراع)نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ».

١١٣

( وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) أي إنه تعالى هو البصير بعباده ، الخبير بقرارة نفوسهم ودخائل أحوالهم ، العليم بسرهم ونجواهم ، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم ، وهو المجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى ، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيا ، وإنما المتقى من يعلم منه ربه التقوى.

ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم ، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال :

( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) أي إن الذين اتقوا معاصى الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين : ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينيا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول ، ثم تقفو التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك : «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » وقولك «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها ، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرّحيم.

وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة ، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب.

والخلاصة ـ إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به ـ هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات ، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف ، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.

١١٤

ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم ، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال :

( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ) أي إن المتقين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهى :

(1) الصبر وأكمل أنواعه : الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات ، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر ، فهو الذي يثبّت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة ، وهو الحافظ لشرف الإنسان فى الدنيا عند المكاره ، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدى المطامع.

وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.

(2) الصدق وهو منتهى الكمال ، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى : «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ».

(3) القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبّ العبادة وروحها ، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة.

(4) الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين ، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة ، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه.

(5) الاستغفار بالأسحار : أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشقّ القيام ، وتكون النفس فيه أصفى ، والقلب أفرغ من الشواغل.

والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح ، والعمل وفق حدود الدين ، ولا يكفى الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر ، فإن المستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بربه ، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه ، أو غرّ في معاملته لربه ، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله : إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

١١٥

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) )

تفسير المفردات

يقال شهد الشيء وشاهذه إذا حضره كما قال : «ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ » وقال «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » والشهادة بالشيء الإخبار به عن علم إما بالمشاهدة الحسية ، وإما بالمشاهدة المعنوية وهى الحجة والبرهان ، وأولو العلم هم أهل البرهان القادرون على الإقناع ، وهم يوجدون في هذه الأمة وفي جميع الأمم السالفة ، بالقسط : أي بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة. والدين له في اللغة عدة معان : منها الجزاء ، والطاعة والخضوع ، ومجموعة التكاليف التي بها يدين العباد لله ـ وما يكلف به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس ، ودينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع ، وملة باعتبار أنها أملّت وكتبت ـ والإسلام يأتي بمعنى الخضوع والاستسلام ، وبمعنى الأداء تقول أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه ، وبمعنى الدخول في السلم أي الصلح والسلامة ، وتسمية الدين الحق إسلاما يناسب كل هذه المعاني وأولها أوفقها بالتسمية ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ

١١٦

أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » وحاجوك : جادلوك ، وأسلمت : أي أخلصت ، والأميون مشركو العرب واحدهم أمي نسبوا إلى الأم لجهلهم كأنهم على الفطرة ، البلاغ : أي التبليغ للناس.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين ، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء ـ ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.

الإيضاح

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) أي بيّن سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس ، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك ، والملائكة أخبروا الرسل بهذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضرورى وهو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات ، وأولو العلم أخبروا بذلك وبيّنوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدلائل والحجج ، لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه.

وقوله بالقسط أي بالعدل في الاعتقاد ، فالتوحيد هو الوسط بين إنكار الإله والشرك به ، والعدل في العبادات والآداب والأعمال ، فعدل بين القوى الروحية والبدنية ، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترقية الروح وتزكية النفس ، وأباح كثيرا من الطيبات لحفظ البدن وتربيته ، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا وبالعدل في الأحكام في نحو قوله : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وقوله «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ».

كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل ، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون وأوضحه.

١١٧

فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى ، فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه.

ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله :

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإن العزة إشارة إلى كمال القدرة ، والحكمة إيماء إلى كمال العلم ، والقدرة لا تتم إلا بالتفرد والاستقلال ، والعدالة لا تكمل إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال ، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط ، ولا يخرج من الخليقة شىء عن حكمته البالغة.

ثم ذكر الدستور العام الذي عليه المعوّل في كل دين فقال :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) أي إن جميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء روحها الإسلام والانقياد والخضوع ، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال ، وبه كان الأنبياء يوصون. فالمسلم الحقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك ، مخلصا فى أعماله مع الإيمان من أىّ ملة كان ، وفي أي زمان وجد ، وهذا هو المراد بقوله عز اسمه «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ».

ذاك أن الله شرع الدين لأمرين :

(1) تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات بها تستطيع التصرف في الكائنات لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها.

(2) إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله وللناس.

وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية.

أخرج ابن جرير عن قتادة قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره ، ولا يجزى إلا به.

١١٨

وخطب على كرم الله وجهه قال : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ، ولم يأخذه عن رأيه ، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، والكافر يعرف كفره بإنكاره ، أيها الناس دينكم دينكم ، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، إن السيئة فيه تغفر ، وإن الحسنة في غيره لا تقبل.

( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) أي وما خرج أهل الكتاب من الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على نحو ما فصلناه آنفا ، وصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين ـ والدين واحد لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء ، ولو لا بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأى والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه لما حدث هذا الاختلاف.

والتاريخ شهيد بأن الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب ينقض بعضها بعضا ، وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم ببعض. فآريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد بعد فشوّ الشرك ، قد حكم عليهم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة 325 م بالإلحاد وإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها ، ولما انتشرت تعاليمه فيما بعد حكم تيودوسيوس الثاني بإبادة الآريوسية بقانون رومانى صدر سنة 628 م ، وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن ويغالب بعضها بعضا.

والعبرة من هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا ، ولكن وا أسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون ، وتفرقنا طرائق قددا ، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئنّ منه ، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته ، ويمدنا بروح من عنده ؛ فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق ، والعودة إلى الوحدة والاتفاق ، حتى يعود

١١٩

المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، ومن تبعهم بإحسان.

( وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه ، ويترك الإذعان لها ـ فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات ، والله سريع الحساب.

والمراد بآيات الله هنا هى آياته التكوينية في الأنفس والآفاق ، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله.

( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم ـ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه فى دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له ـ بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات ، وجئتهم بالحق ـ فقل لهم : أقبلت بعبادتي على ربى مخلصا له ، معرضا عما سواه ، أنا ومن اتبعنى من المؤمنين.

والخلاصة ـ إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة ، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد ، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.

( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ ) أي وقل لليهود والنصارى ومشركى العرب ـ وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة ، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة ـ أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة ، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه ، أم تصرّون على كفركم وعدم ترككم للعناد؟

ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل ، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه ، ثم يقول له : أفهمتها؟

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

وفي اللهوف أنهّعليه‌السلام قال لهم:

(يا شيعة آل أبي سفيان، إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرباً كما تزعمون) (١) .

وعن ابن صبّاغ المالكي أنّه: (حملَ عليهم حملةً منكرة قتلَ فيها كثيراً من الرجال والأبطال، ورجعَ سالماً إلى موقفه عند الحريم، ثمّ حملَ حملة أخرى وأراد الكرَّ راجعاً إلى موقفه، فحال الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله بينه وبين الحريم والمرجع إليهم في جماعة من أبطالهم وشجعانهم، وأحدَقوا به، ثمّ إنّ جماعة منهم تبادروا إلى الحريم والأطفال يريدون سلبهم فصاح الحسين:

(وَيحَكم يا شيعة الشيطان، كفّوا سفهاءكم عن التعرّض للنساء والأطفال فإنّهم لم يقاتلوا) .

فقال الشمر لعنه الله: كفّوا عنهم واقصدوا الرجل بنفسه)(٢) .

وعن المدائني: وحملَ شمر - لعنه الله - على عسكر الحسين، فجاء إلى فسطاطه لينهبهُ، فقال له الحسينعليه‌السلام :(ويلكم إنْ لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في الدنيا، فرحْلي لكم عن ساعة مباح) ، قال: فاستحى ورجع)(٣) .

العطش يشتدّ بالإمامعليه‌السلام في حمْلته الأخيرة

قال الخوارزمي: (فقصدهُ القوم بالحرب من كلّ جانب، فجعلَ يحمل عليهم

____________________

(١) فسّره ابن منظور في لسان العرب ٢: ٩٤، بمعنى أراذل الناس.

(٢) الفصول المهمة: ١٩، وتسلية المجالس ٢: ٣١٨، ونور الأبصار: ١٤٤.

(٣) مقاتل الطالبيين: ١١٨.

٤٢١

ويحملون عليه، وهو في ذلك يطلب الماء ليشرب منه شربة!(١) فكلّما حملَ بفرسه على الفرات حملوا عليه حتّى أجْلَوه عنه، ثمّ رماه رجل يُقال له أبو الحتوف الجعفي بسهم فوقعَ السهم في جبهته، فنزعَ الحسين السهم ورمى به، فسالَ الدم

____________________

(١) تُطبِق كتب التاريخ والتراجم على أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يشرب الماء يوم عاشوراء، حتّى قضى شهيداً ظامئاً قد فطرَ قلبه العطش الشديد، ولقد كانت الأوامر الصارمة قد صدرت إلى الجيش الأموي من قِبل قياداته بحرمان الإمامعليه‌السلام وأنصاره (رض) - بل وجميع مَن في رَكبه - من الماء حتى يموتوا عَطشاً!

وظلّ هذا القرار حاكماً حتّى بعد أن صار الإمامعليه‌السلام وحيداً قد تفطّر قلبه عطشاً، يقول أبو الفرج الأصبهاني: (وجعل الحسين يطلب الماء، وشمر - لعنه الله - يقول له: والله، لا ترِدهُ أو ترِد النار! فقال له رجل: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنّه بطون الحيّات، والله لا تذوقه أو تموت عَطشاً! فقال الحسين:(اللّهم أمِتْه عطشاً) .

قال: والله، لقد كان هذا الرجل يقول: اسقوني ماء، فيؤتى بماءٍ فيشرب حتى يخرج من فيه! وهو يقول: اسقوني، قَتَلني العطش! فلم يزل كذلك حتى مات). (مقاتل الطالبيين: ١١٨).

إلاّ أنّ هناك نصوصاً شاذّة تفيد أنّ الإمامعليه‌السلام بعد أن صار وحيداً واشتدّ به العطش دعا بقدح من الماء، فأُعطي، فلمّا وضعه في فمه الشريف رماه الحصين بن نمير (أو تميم) بسهم، فأصابهُ في فمه، وحالَ بينه وبين شرب الماء، فألقى القدح من يده (راجع: بغية الطلب: ٦: ٢٦ - ٢٩)، أو أنّه لمّا اشتدّ به العطش دَنا من الماء ليشرب، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقعَ في فمه، فجعلَ يتلقّى الدم من فمه ويرمي به، ثمّ يقول:(اللّهم أحصهم عدداً) . (راجع: أنساب الأشراف: ٣: ٤٠٧).

أو أنّه (عطشَ حسين فجاء رجل بماء فتناوله، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقعَ في فيه، فجعل يتلقّى الدم بيده ويحمد الله)، (راجع: سير أعلام النبلاء: ٣: ٣٠٢)، ويُلاحظ أنّ هذا النصّ الأخير - على إبهامه - لا يفيد بالضرورة أنّه تناولَ الماء أي شربه، بل الأظهر أنّه تناول وعاء (قدح) الماء، فحالَ سهم حصين بن تميم بينه وبين شرب الماء فلم يشربه، هذا على فرض صحّة الخبر ودقّة النصّ، وهو كما ترى!

٤٢٢

على وجهه ولحيته(١) ، فقال:

(اللّهمّ قد ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العُصاة العتاة، اللّهمّ فأحصِهم عَدداً، واقتلهم بَدداً، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً).

ثمّ حملَ عليهم كالليث المغضب، فجعلَ لا يلحق أحداً إلاّ بَعجه بسيفه وألحقه بالحضيض، والسهام تأخذه من كلّ ناحية، وهو يتلقّاها بنحره وصدره، ويقول:

(يا أُمّة السوء! بئسما خَلفتم محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله في عترته! أمَا إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله الصالحين فتهابوا قتله، بل يهون عليكم عند قتلكم إيّاي، وأيمُ الله، إنّي لأرجو أن يُكرمني ربّي بهوانكم، ثمّ ينتقِم منكم من حيث لا تشعرون !

فصاحَ به الحُصين بن مالك السكوني: يا بن فاطمة، بماذا ينتقم لك منّا؟

فقال:

يُلقي بأسكم بينكم، ويسفك دماءكم، ثمّ يصبّ عليك العذاب الأليم) .

____________________

(١) يروي ابن عساكر بسند عن مسلم بن رباح - مولى لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام - أنّه قال: (كنتُ مع الحسين بن علي يوم قُتل، فرُمي في وجهه بنشّابة فقال لي:(يا مسلم، أدنِ يديك من الدم، فأدنيتهما، فلمّا امتلأتا قال:أسكِبه في يدي، فسكبتهُ في يده، فنفحَ بهما إلى السماء وقال:اللّهمّ اطلب بدم ابن بنت نبيّك)!

قال مسلم: فما وقعَ منه إلى الأرض قطرة). (راجع: تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام - تحقيق المحمودي ٢٣٤٥، رقم ٢٨١).

٤٢٣

ثمّ جعل يُقاتل حتّى أصابته اثنتان وسبعون جراحة(١) )(٢) .

أمّاالطبري ، فيروي هذه اللحظات المأساوية عن لسان حميد بن مسلم قال: (كانت عليه جُبّة من خزّ، وكان مُعتمّاً وكان مخضوباً بالوسمة، وسمعتهُ يقول قبل أن يُقتل، وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع، يتّقي الرمية، ويفترص العورة، ويشدّ على الخيل، وهو يقول:

(أعلى قتلي تحاثّون؟! أمَا والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد اللهِ اللهُ أسخط عليكم لقتله منّي، وأيمُ الله إنّي لأرجو أنْ يُكرمني الله بهوانكم، ثمّ ينتقم لي

____________________

(١) هذا العدد من الجراحات حتّى تلكم اللحظة من القتال، وإلاّ فإنّ الروايات قد تفاوتت في مجموع عدد الإصابات التي تعرّض لها الإمامعليه‌السلام حتّى لحظة استشهاده، فقد روى الشيخ الصدوق في أماليه عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال:(أُصيب الحسين بن علي عليه‌السلام ووجِد به ثلاثمئة وبضعة وعشرين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم فروي أنّها كانت كلّها في مقدّمه؛ لأنّه عليه‌السلام كان لا يولّي!) ، (أمالي الصدوق: ١٣٩ المجلس ٣١، حديث رقم ١).

وقال الخوارزمي: (ورويَ أنّه وجِد في قميصه مئة وبضع عشرة ما بين رمية وطعنة وضربة، وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسينعليه‌السلام :(وُجد فيه ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة) ، (مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٤٢).

وروى الشيخ الطوسي بسنده عن معاذ بن مسلم قال: سمعتُ أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول:(وُجد بالحسين بن عليّ نيّف وسبعون ضربة بالسيف) . (أمالي الطوسي: ٦٧٧، وراجع: أنساب الأشراف ٣: ٤٠٩).

وقال ابن شهرآشوب: (ورويَ ثلاثمئة وستّون جراحة، وقيل: ثلاث وثلاثون ضربة سوى السهام، وقيل: ألف وتسعمائة جراحة، وكانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ، وروي أنّها كانت كلّها في مقدّمه). (مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام ٤: ١١١)، وانظر أيضاً: الحدائق الوردية: ١٢٣، وتاج المواليد: ١٠٧، وتذكرة الخواص: ٢٢٨، ومروج الذهب ٣: ٧١، وتاريخ الطبري: ٣: ٣٣٤، ومرآة الزمان: ١: ١٣٣، وروضة الواعظين: ١٨٩، وغير هذه المصادر.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٣٨ - ٣٩.

٤٢٤

منكم من حيث لا تشعرون، أمَا والله، أنْ لو قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم، وسفكَ دماءكم، ثمّ لا يرضى لكم حتّى يضاعف لكم العذاب الأليم).

قال: ولقد مكثَ طويلاً من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنّهم كان يتّقي بعضهم ببعض، ويحبّ هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء.

قال: فنادى شمر في الناس: وَيحَكم! ماذا تنتظرون بالرجل؟! اقتلوه ثكلتكم أمّهاتكم!

قال: فحُملَ عليه من كلّ جانب فضُربت كفّه اليسرى ضربة، ضَربها زرعة بن شريك التميمي، وضُرب على عاتقه، ثمّ انصرفوا وهو ينوء ويكبو!)(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٤، أمّا الشيخ المفيد (ره) فقد روى هذا الموقف عن حميد بن مسلم هكذا: (فو الله ما رأيتُ مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جاشاً، ولا أمضى جناناً منهعليه‌السلام ، إن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المِعزى إذا شدَّ فيها الذئب، فلمّا رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة، وأمرَ الرُماة أن يرموه، فرشقوهُ بالسهام حتى صار كالقنفذ! فأحجمَ عنهم، فوقفوا بإزائه، وخرجت أخته زينب إلى باب الفساط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقّاص: ويحكَ يا عمر! أَيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يُجبها عمر بشيء، فنادت: وَيحَكم أمَا فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحدٌ بشيء، ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال: وَيحَكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أمّهاتكم.

فحُمل عليه من كلّ جانب، فضربهُ زرعة بن شريك على كفّه (كتفه) اليسرى فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنهُ سنان بن أنس بالرمح فصرعه..). (الإرشاد: ٢: ١١١ - ١١٢)، وفي اللهوف: ١٧٥: (وخَرجت زينب من باب الفسطاط وهي تنادي: وا أخاه! وا سيّداه! وأهل بيتاه! ليتَ السماء انطبقت على الأرض، وليتَ الجبال تَدكدكت على السهل).

٤٢٥

السهم المحدّد المسموم القاتل

أمّا الخوارزمي، فيواصل تفاصيل المقتل - بعد أن ذكرَ كيف أنّ الإمامعليه‌السلام حملَ على القوم حملة الليث المغضب، فجعل لا يلحق أحداً إلاّ بَعجه بسيفه وألحقهُ بالحضيض، والسهام تأخذه من كلّ ناحية، وهو يتلقّاها بنحره وصدره، حتّى أصابته اثنتان وسبعون جراحة - فيقول: (فوقفَ يستريح وقد ضعُف عن القتال، فبينا هو واقف إذ أتاه حجَر فوقعَ على جبهته، فسالت الدماء من جبهته، فأخذَ الثوب ليمسح عن جبهته فأتاه سهم محدّد مسموم، له ثلاث شُعب، فوقعَ في قلبه، فقال الحسينعليه‌السلام :(بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله - ورفعَ رأسه إلى السماء - وقال:إلهي، إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبيّ غيره!

ثمّ أخذَ السهم وأخرجهُ من وراء ظهره فانبعثَ الدم كالميزاب! فوضعَ يده على الجرح، فلمّا امتلأت دَماً رمى بها إلى السماء، فما رجعَ من ذلك قطرة، وما عُرفت الحمرة في السماء حتّى رمى الحسين بدمه إلى السماء! ثمّ وضع يده على الجرح ثانياً، فلمّا امتلأت لطّخ بها رأسه ولحيته وقال:

هكذا واللهِ أكون حتّى ألقى جدّي محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا مخضوب بدمي، وأقول: يا رسول الله، قَتَلني فلان وفلان) .

ثمّ ضعُف عن القتال، فوقفَ مكانه، فكلّما أتاه رجل من الناس وانتهى إليه انصرف عنه، وكرهَ أن يلقى الله بدمه! حتّى جاءه رجلٌ من كندة يقال له مالك بن نسر، فضربهُ بالسيف على رأسه، وكان عليه برنس، فقطعَ البرنس وامتلأ دَماً، فقال له الحسين:(لا أكلتَ بيمينك ولا شربتَ بها، وحشركَ الله مع الظالمين) (١) .

____________________

(١) وهنا في هذا الموقع يخرج عبد الله بن الحسنعليهما‌السلام من عند النساء، وهو غلام لم يراهق فيشدّ حتى يصل إلى عمّه الحسينعليه‌السلام ، فيقتلهُ بحر بن كعب لعنه الله، راجع تفصيل مقتله في ترجمته =

٤٢٦

ثمّ ألقى البُرنس ولبسَ قلنسوة واعتمّ عليها، وقد أعيى وتبلَّد، وجاء الكندي فأخذَ البرنس(١) - وكان من خزّ - فلمّا قُدم به بعد ذلك على امرأته أم عبد الله ليغسله من الدم، قالت له امرأتُه: أتسلُب ابن بنت رسول الله برنسه وتدخل بيتي؟! اُخرجْ عنّي حشا اللهُ قبرك ناراً، وذكر أصحابه أنّه يبست يداه، ولم يزل فقيراً بأسوأ حال إلى أن مات.

ثمّ نادى شمر: ما تنتظرون بالرجل؟ فقد أثخنتهُ السهام، فأخذت به الرماح والسيوف، فضربه رجل يُقال له: زرعة بن شريك التميمي ضربة منكرة، ورماه سنان بن أنس بسهم في نحره، وطعنه صالح بن وهب المرّي على خاصرته طعنة منكرة، فسقطَ الحسين عن فرسه(٢) إلى الأرض على خدّه الأيمن، ثمّ استوى جالساً

____________________

= من هذا المقتل في أبناء الحسنعليه‌السلام .

(١) وانظر أيضاً: عيون الأخبار: ١٠٥ وفيه: (مالك بن بشير)، والبداية والنهاية: ٨: ١٨٦ - ١٨٨ وفيه: (ومكثَ الحسين نهاراً طويلاً وحده لا يأتي أحدٌ إليه إلاّ رجعَ عنه لا يحبّ أن يلي قتله)، ومثير الأحزان: ٧٣، والخطط والمقريزية: ٢٢٨، وغرر الخصائص الواضحة: ٣٣٧ وفيه: (فكانَ بعضهم يُحيل على بعض)، واللهوف: ١٧٢، وشرح الأخبار: ٣: ١٦٣، والأخبار الطوال: ٢٥٨، وأخبار الدول: ١٠٨، وسير أعلام النبلاء: ٣: ٣٠٢، والمنتظم: ٥: ٣٤٠، وأنساب الأشراف: ٣: ٤٠٨: (وأخذَ الكنديّ البرنس، فيقال إنّه لم يزل فقيراً وشُلّت يداه)، وتاريخ الطبري: ٣: ٣٣١.

(٢) قال الخوارزمي: (وأقبلَ فرس الحسين، وقد عدا من بين أيديهم أن لا يؤخذ فوضعَ ناصيته بدم الحسين، وذهب يركض إلى خيمة النساء، وهو يصهل ويضرب برأسه الأرض عند الخيمة، فلمّا نظرت أخوات الحسين وبناته وأهله إلى الفرس ليس عليه أحد، رفعنَ أصواتهنّ بالصراخ والعويل، ووضعت أمّ كلثوم يدها على أُمّ رأسها ونادت: وا محمّداه! وا جدّاه! وا نبيّاه! وا أبا القاسماه! وا عليّاه! وا جعفراه! وا حمزتاه! وا حسناه! هذا حسين بالعراء! صريع بكربلاء! محزوز الرأس من القفا! مسلوب العمامة والرداء! ثمّ غُشي عليها..). (مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٤٢ - ٤٣). =

٤٢٧

ونزعَ السهم من نحره(١) ، ثمّ دنا عمر بن سعد من الحسين ليراه!

قال حميد بن مسلم: وخَرجَت زينب بنت عليّ وقرطاها يجولان في أُذنيها(٢)

____________________

= وقال المقرّم (ره): (وأقبلَ الفرس يدور حوله ويلطّخ ناصيته بدمه! فصاح ابن سعد: دونكم الفرس فإنّه من جياد خيل رسول الله، فأحاطت به الخيل، فجعلَ يرمح برجليه حتى قتلَ أربعين رجلاً وعشرة أفراس! فقال ابن سعد: دعوه لننظر ما يصنع؟ فلمّا أمِنَ الطلب أقبلَ نحو الحسين يُمرّغ ناصيته بدمه ويشمّه ويصهل صهيلاً عالياً! قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام :(كان يقول: الظليمة الظليمة من أُمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها!)، وتوجّه نحو المخيّم بذلك الصهيل). (مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٨٣).

(١) ولمّا اشتدّ به الحال رفعَ طرفه إلى السماء يدعو الله ويناجيه قائلاً:(اللّهم متعالِ المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دُعيت، محيط بما خَلقت، قابل التوبة لمَن تاب إليك، قادر على ما أردتَ، تدرك ما طلبتَ، شكور إذا شكرت، ذَكور إذا ذكرت، أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك كافياً، اللهمّ احكُم بيننا وبين قومنا فإنّهم غرّونا وخَذلونا وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيك، ووِلد حبيبك محمد عليه‌السلام الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنتهُ على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين.

صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، ما لي ربّ سواك، ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك، يا غياث مَن لا غياث له، يا دائماً لا نفاذ له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كلّ نفس بما كسبت، اُحكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين). (راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٨٢ عن مصباح المتهجّد، والإقبال، وأسرار الشهادة، ورياض المصائب).

وفي هذا الموقع: لمّا صُرع الحسينعليه‌السلام خرجَ محمّد بن أبي سعيد بن عقيلعليهم‌السلام وهو غلام، مذعوراً يلتفت يميناً وشمالاً فشدّ عليه لقيط بن إياس الجهني فقتلهُ، وقيل: قتلهُ هاني بن ثبيت الحضرمي، راجع تفاصيل مقتله في ترجمته من هذا المقتل في مقاتل آل عقيلعليهم‌السلام .

(٢) وعلى فرض صحّة خبر خروج زينبعليها‌السلام ، فإنّنا نسأل هذا الراوي اللعين حميد بن مسلم: كيف رأى قرطَي زينبعليها‌السلام وهي امرأة لها من العمر أكثر من خمسين عاماً، وهي ابنة عليّ المصونة =

٤٢٨

وهي تقول:ليت السماء أُطبقت على الأرض! يا بن سعد، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فجعلت دموعه تسيل على خدّيه ولحيته، فصرفَ وجهه عنها، والحسين جالسٌ وعليه جُبّة خز، وقد تحاماه الناس، فصاح شمر: وَيحَكم ما تنتظرون؟! اقتلوه ثكلتكم أمّهاتكم، فضربهُ زرعة بن شريك فأبان كفّه اليسرى، ثمّ ضربه على عاتقه فجعلعليه‌السلام يكبو مرّة ويقوم أخرى، فحملَ عليه سنان ابن أنس في تلك الحالة فطعنه بالرمح فصرعه(١) ، وقال لخولّي بن يزيد: احتزّ رأسه، فضعُف وارتعدت يداه، فقال له سنان: فتّ الله عضُدك وأبان يدك(٢) ، فنزلَ إليه نصر بن خرشة الضبابي، وقيل: بل شمر بن ذي الجوشن(٣) ، وكان أبرَص فضربهُ برِجله، وألقاه على قفاه، ثمّ أخذَ بلحيته! فقال له الحسينعليه‌السلام :(أنت الكلبُ الأبقع الذي رأيته في منامي) !

____________________

= العقيلة المحجّبة، وقبل أن تُسلب النساء ما عليها من الحجاب؟!

(١) وفي اللهوف: ١٧٦: (فضربهُ زرعة بن شريك على كتفه اليسرى، وضرب الحسينعليه‌السلام زرعة فصرعه، وضربَ آخر على عاتقه المقدّس بالسيف ضربة كباعليه‌السلام بها لوجهه، وكان قد أعيا وجعل ينوء ويكبو، فطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته، ثمّ انتزعَ الرمح فطعنه في بواني صدره، ثمّ رماهُ سنان أيضاً بسهم فوقعَ السهم في نحره..).

(٢) انظر أيضاً: تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٤.

(٣) تفاوتت المصادر التاريخية فيمَن هو قاتل الإمامعليه‌السلام الذي احتزّ رأسه الشريف، وجُلّ المصادر الأساسية كان الترديد بينها في اثنين من أعداء الله هما: شمر بن ذي الجوشن لعنه الله - وفيه القول الأشهر -، وسنان بن أنس النخعي لعنه الله، وهناك أقوال ضعيفة تقول: إنّ قاتلهُ خولّي بن يزيد الأصبحي، أو حصين بن نمير (أو تميم)، أو مهاجر بن أوس التميمي، أو كثير بن عبد الله الشعبي، أو أبو الجنوب زياد بن عبد الرحمان الجعفي، أو شبل بن يزيد (أخو خولّي بن يزيد: كما في الأخبار الطوال: ٢٥٨).

أمّا المصادر التي تذكر أنّ قاتله عمر بن سعد أو عبيد الله بن زياد فعلى معنى أنّهما - لعنهما الله - الآمران بقتلهعليه‌السلام .

٤٢٩

فقال شمر: أتشبّهني بالكلاب يا بن فاطمة؟ ثمّ جعلَ يضرب بسيفه مذبح الحسينعليه‌السلام ويقول:

أقـتُلك اليوم ونفسي تعلمُ

عِلماً يقيناً ليس فيه مزعم

ولا مـجالٌ لا ولا تكتّم

أنّ أبـاك خير مَن يُكلَّم

وروي أنّه جاء إليه شمر بن ذي الجوشن، وسنان بن أنس، والحسينعليه‌السلام بآخر رمق يلوك لسانه من العطش! فرفسهُ شمر برِجله وقال: يا بن أبي تراب، ألستَ تزعم أنّ أباك على حوض النبيّ يسقي مَن أحبّه؟! فاصبر حتّى تأخذ الماء من يده، ثمّ قال لسنان بن أنس: احتزّ رأسه من قفاه! فقال: لا والله، لا أفعل ذلك فيكون جدُّه محمّد خصمي! فغضبَ شمر منه، وجلسَ على صدر الحسينعليه‌السلام ، وقبضَ على لحيته وهمَّ بقتله، فضحكَ الحسين وقال له:(أتقتلني؟! أو لا تعلم مَن أنا؟!)

قال: أعرفك حقَّ المعرفة، أمُّك فاطمة الزهراء، وأبوك عليٌّ المرتضى، وجدّك محمّد المصطفى، وخصيمك الله العليّ الأعلى، وأقتلك ولا أُبالي! وضربهُ بسيفه اثنتي عشرة ضربة، ثمّ حزَّ رأسه)(١) .

(وروى هلال بن نافع قال: إنّي لواقفٌ مع أصحاب عمر بن سعد، إذ صرخَ صارخ: أبشِر أيها الأمير، فهذا شمر قتلَ الحسين! قال: فخرجت بين الصفَّين،

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٣٩ - ٤٢، وانظر أيضاً: الإرشاد: ٢: ١١١ - ١١٢، وأنساب الأشراف: ٣: ٤٠٩، وبغية الطلب: ٦: ٢٦٢، وإعلام الورى: ١: ٤٦٩، والدرّ النظيم: ٥٥٨، والإتحاف بحبّ الأشراف للشبراوي: ١٦ وفيه: (فضربهُ صرعة بن شريك التميمي بكفّه اليسرى، فصار يقوم ويكبو بقوّة جأش، وثبات جنان، وفضل شجاعة، وعدم مبالاة بما فيه من الجراح، وتمسّك بشهامة قرشيّة وعزّة هاشمية، غير مُكترث ذلك الأسد الوثّاب بنهش تلك الكلاب، غير أنّ الأقدار الأزليّة والحكمة الإلهية اقتضت إظهار هذا الخَطب الجسيم والصدع العظيم؛ تنبيهاً على حقارة هذه الدار وأنّها إنّما خُلقت مطبوعة على الأكدار).

٤٣٠

فوقفتُ عليه، فإنّه ليجود بنفسه، فو الله ما رأيتُ قتيلاً مضمّخاً بدمه أحسنَ منه ولا أنور وجهاً! ولقد شَغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكر في قتله! فاستسقى في تلك الحال ماءً، فسمعتُ رجلاً يقول له: والله، لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها! فقال له الحسينعليه‌السلام :

(بل أرِد على جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر، وأشرب من ماءٍ غير آسن، وأشكو إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي) .

قال: فغضبوا بأجمعهم حتّى كأنّ الله لم يجعل في قلب أحدٍ منهم من الرحمة شيئاً، فاحتزّوا رأسه وإنّه ليكلّمهم، فعجبتُ من قلّة رحْمتهم، وقلت: واللهِ، لا أُجامعكم على أمرٍ أبداً)(١) .

وروى الشيخ الصدوق (ره) والشيخ الكليني (ره) أيضاً، عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه:(لمّا ضُرب الحسين بن عليّ عليهما‌السلام بالسيف، ثمّ ابتُدر ليُقطع رأسه، نادى منادٍ من قِبل ربّ العزّة تبارك وتعالى من بِطنان العرش فقال: ألا أيّتها الأمّة المتحيّرة الظالمة بعد نبيّها، لا وفّقكم الله لأضحى ولا فِطْر) .

قال: ثمّ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(لا جرمَ والله، ما وفِّقوا ولا يوفّقون أبداً حتّى يقوم ثائر الحسين عليه‌السلام ) (٢) .

وقال الخوارزمي: (وارتفعت في السماء في ذلك الوقت غبرة شديدة مظلمة، فيها ريحٌ حمراء، لا يُرى فيها عين ولا أثر، حتّى ظنّ القوم أنّ العذاب قد جاءهم،

____________________

(١) اللهوف: ١٧٧.

(٢) أمالي الصدوق: ١٤٢، المجلس ٣١، حدث رقم ٥، والكافي: ٤: ١٧٠، حديث رقم ٣.

٤٣١

فلبثوا بذلك ساعة، ثمّ انجلت عنهم)(١) .

وروى ابن المغازلي بسندٍ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:

(إنّ قاتل الحسين عليه‌السلام في تابوت من نارٍ، عليه نصف عذاب أهل النّار، وقد شُدَّ يداه ورجْلاه بسلاسل من نار، مُنَكَّسٌ في النار حتى يقع في قعر جهنّم، وله ريح يتعوَّذ أهل النار إلى ربّهم عزّ وجل من شدَّة ريح نَتِنِه، وهو فيها خالدٌ ذائق العذاب العظيم، كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها، حتّى يذوقوا العذاب الأليم، لا يُفتَّر عنهم ساعة، وسُقوا من حميم جهنّم، الويل لهم من عذاب الله عزّ وجلّ) (٢) .

سلبُ الإمامعليه‌السلام بعد قتله!

قال السيّد ابن طاووس (ره): (ثمّ أقبلوا على سلب الحسين، فأخذَ قميصهُ إسحاق بن حوية الحضرمي، فلبسه فصار أبرص وامتعط شعره!.. وأخذَ سراويله بحر بن كعب التيمي لعنه الله تعالى، فرويَ أنّه صار زمناً مُقعداً من رجليه! وأخذَ عمامته أخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي، وقيل: جابر بن يزيد الأودي لعنهما الله، فاعتمّ بها فصار معتوهاً! وأخذَ نعليه الأسود بن خالد لعنه الله، وأخذَ خاتمه

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٤٢.

(٢) راجع: مناقب عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لابن المغازلي: ٦٦ - ٦٧ رقم ٩٥ و٤٠٣ رقم ٩٥ مكرر.

وقال في حاشية ص٦٧: أخرجه الخطيب الخوارزمي في مقتل الحسين ٢: ٨٣، والقندوزي في ينابيع المودّة: ٢٦١، والحضري في رشفة الصادي: ٦٠ نقلاً عن روض الأخبار، والشبلنجي في نور الأبصار: ١٢٧، والعلاّمة السخّاوي في المقاصد الحسنة: ٣٠٢، وابن الصبّان في إسعاف الراغبين: ١٨٦.

٤٣٢

بجدل بن سليم الكلبي وقطع إصبعهعليه‌السلام مع الخاتم، وهذا أخذهُ المختار فقطعَ يديه ورجليه وتركه يتشحّط في دمه حتّى هلك، وأخذَ قطيفة لهعليه‌السلام كانت من خزّ قيس بن الأشعث(١) ، وأخذَ درعه البتراء عمر بن سعد.

فلمّا قُتل عمر وهبها المختار لأبي عمرة قاتله، وأخذَ سيفه جُميع بن الخلق الأودي، وقيل: رجل من بني تميم يُقال له أسود بن حنظلة، وفي رواية ابن أبي سعد أنّه أخذَ سيفه الفلافس النهشلي، وزادَ محمد بن زكريا: أنّه وقعَ بعد ذلك إلى بنت حبيب بن بُديل، وهذا السيف المنهوب المشهور ليس بذي الفقار، فإنّ ذلك كان مذخوراً ومصوناً مع أمثاله من ذخائر النبوّة والإمامة، وقد نقل الرواة تصديق ما قلناه وصورة ما حكيناه)(٢) .

____________________

(١) في مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٤٣: (وأخذَ قيس بن الأشعث قطيفة للحسين كان يجلس عليها، فسمّي لذلك: قيس قطيفة!)، وفي المناقب لابن شهرآشوب: ٤: ١٢٠: (وسُلب الحسين ما كان عليه، فأخذَ عمامته جابر بن يزيد الأزدي، وقميصه إسحاق بن حوَي، وثوبه جعونة بن حوية الحضرمي، وقطيفته من خزّ قيس بن الأشعث الكندي، وسراويله بحير بن عمير الجرمي، ويقال أخذ سراويله أبجر بن كعب التميمي، والقوس والحلل الرحيل بن خثيمة الجعفي، وهاني بن ثبيت الحضرمي، وجرير بن مسعود الحضرمي، ونعليه الأسود الأوسي، وسيفه رجل من بني نهشل من بني دارم، ويقال الأسود بن حنظلة، فأحرَقهم المختار بالنار).

وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٨٤، وتذكرة الخواص: ٢٢٨، والإرشاد: ٢: ١١٢، والكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٥، وتاريخ الطبري: ٣: ٣٣٤، وترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد: ٧٨.

(٢) اللهوف: ١١٤ - ١١٥، وانظر: نَفَس المهموم: ٣٧٢ - ٣٧٣، وفي البحار: ٤٣: ٢٤٧ رقم ٢٣ عن أمالي الصدوق، بسنده عن محمّد بن مسلم قال: (سألتُ الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام عن خاتَم الحسين بن عليّعليهما‌السلام إلى مَن صار؟ وذكرتُ له أنّي سمعت أنّه أُخذ من أصبعه فيما أُخذ.

قالعليه‌السلام :(ليس كما قالوا، إنّ الحسين عليه‌السلام أوصى إلى ابنه عليّ بن الحسين عليه‌السلام وجعلَ خاتمهُ في أصبعه، وفوَّض إليه أمره كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفعلهُ أمير المؤمنين =

٤٣٣

رضّ جسد الإمامعليه‌السلام بحوافر الخيل

قال السيد ابن طاووس (ره): (قال الراوي: ثمّ نادى عمر بن سعد في أصحابه: مَن ينتدب للحسين فيواطئ الخيل ظهره وصدره! فانتدبَ منهم عشرة، وهم: إسحاق بن حويّة الذي سلبَ الحسينعليه‌السلام قميصه، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن طفيل السنبسي، وعمر بن صبيح الصيداوي، ورجاء بن منقذ العبدي، وسالم بن خثيمة العفي، وواحظ بن ناعم، وصالح بن وهب الجعفي، وهاني بن ثبيت الحضرمي، وأُسيد بن مالك، لعنهم الله تعالى فداسوا الحسينعليه‌السلام بحوافر خيلهم حتّى رضّوا صدره وظَهره)(١) .

____________________

=بالحسن، وفعلهُ الحسن بالحسين عليهما‌السلام ، ثمّ صار ذلك الخاتم إلى أبي عليه‌السلام بعد أبيه، ومنه صار إليَّ فهو عندي، وإنّي لألبسه كلّ جمعة وأُصلّي فيه .

قال محمد بن مسلم: فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلّي، فلمّا فرغَ من الصلاة مدَّ إليَّ يده فرأيت في أصبعه خاتماً نقشه (لا إله إلاّ الله عدّة للقاء الله) فقال:هذا خاتم جدّي أبي عبد الله الحسين بن عليّ عليه‌السلام ) .

(١) اللهوف: ١١٥ وقال أيضاً: (قال الراوي: وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد، فقال أسيد بن مالك أحد العشرة عليهم لعائن الله:

نحن رَضَضنا الصدر بعد الظَهر

بـكلّ يـعبوب شـديد الأسـر

فقال ابن زياد: مَن أنتم؟ قالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتّى طَحنّا جناجن صدره! قال: فأمرَ لهم بجائزة يسيرة.

قال أبو عمر الزاهد: فنظرنا إلى هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعاً أولاد زنا، وهؤلاء أخذَهم المختار فشدّ أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد وأوطأ الخيل ظهورهم حتى هلكوا).

أمّا ابن شهرآشوب في المناقب: ٤: ١١٢ فقد ذكر هؤلاء العشرة على النحو التالي: (إسحاق بن يحيى الحضرمي، وهاني بن ثبيت الحضرمي، وأدلم بن ناعم، وأسد بن مالك، والحكيم بن طفيل الطائي، والأخنس بن مرثد، وعمرو بن صبيح المذحجي، ورجاء بن منقذ العبدي، وصالح =

٤٣٤

وكان ابن زياد قد أمر ابن سعد بذلك

كان آخر ما كتبه عبيد الله بن زياد - وأرسله بيد شمر - إلى عمر بن سعد: (إنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعتذر له، ولا لتكون له عندي شافعاً، اُنظر فإنْ نزلَ الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليَّ سِلماً، وإنْ أبَوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثِّل بهم! فإنّهم لذلك مستحقّون! وإن قُتل الحسين فأوطِئ الخيل صدره وظهره! فإنّه عاتٍ ظلوم! وليس أرى أنّ هذا يضرُّ بعد الموت شيئاً، ولكنْ عليَّ قولٌ قد قلته: لو قتلتهُ لفعلتُ هذا به.

فإن أنتَ مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإنْ أبيتَ فاعتزِل عَملنا وجُندنا، وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام)(١) .

وأكثر المصادر التاريخية تؤكّد على أنّ عمر بن سعد كان قد امتثل أمر ابن زياد في تنفيذ هذه الجريمة بعد قتل الإمامعليه‌السلام (٢) ، لكنّ العلاّمة المجلسي (ره) بعدما

____________________

= بن وهب اليزني، وسالم بن خيثمة الجعفي)، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٥، والكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٥، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٤٤.

وانظر: أُسد الغابة في معرفة الصحابة: ٢: ٢١، وأنساب الأشراف: ٣: ٤٠٩، ومقاتل الطالبيين: ١١٨، وتاريخ أبي الفداء: ١: ٢٦٦، والمنتظم: ٥: ٣٤١، وتاريخ الخميس ٢: ٢٩٨، والبداية والنهاية: ٨: ١٩١، وروضة الواعظين: ١٨٩، ومروج الذهب ٣: ٧٢، والخطط المقريزية ٢: ٢٨٨، ومصادر أخرى غيرها.

(١) الإرشاد: ٢: ٨٨ - ٨٩، وانظر: تاريخ ابن الوردي: ١: ١٦٤.

(٢) إنّ عمر بن سعد الذي امتثلَ أمرَ عبيد الله بن زياد في قتل الإمامعليه‌السلام ، لا يُستبعد منه أن يمتثل أمره بسهولة أيضاً في رضّ جسده المقدّس بالخيول.

٤٣٥

ذكرَ في كتابه بحار الأنوار كلام السيّد ابن طاووس (ره) في هذه القضية، قال: المعتمَد عندي ما سيأتي في رواية الكافي أنّه لم يتيسّر لهم ذلك(١) .

وأمّا رواية الكليني (ره) التي اعتمد عليها العلاّمة المجلسي (ره) فهي:

(الحسين بن أحمد قال: حدّثني أبو كريب، وأبو سعيد الأشجّ قال: حدّثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه إدريس بن عبد الله الأودي قال: لمّا قُتل الحسينعليه‌السلام أراد القوم أن يوطئوه الخيل فقالت فضّة لزينب: يا سيدتي، إنَّ سفينة(٢) كُسر به في البحر، فخرجَ إلى جزيرة فإذا هو بأسد، فقال: يا أبا الحارث، أنا مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! فهمهمَ بين يديه حتى وقفه على الطريق، والأسد رابض في ناحية، فدَعيني أمضي إليه فأعلِمه ما هم صانعون غداً! فمضت إليه فقالت: يا أبا الحارث، فرفع رأسه، ثمّ قالت: أتدري ما يريدون أن يعملوا غداً بأبي عبد اللهعليه‌السلام ؟ يريدون أن يوطّئوا الخيل ظهره! قال: فمشى حتّى وضعَ يديه على جسد الحسينعليه‌السلام ! فأقبلت الخيل فلمّا نظروا إليه قال لهم عمر بن سعد - لعنه الله -: فتنة لا تثيروها، فانصرفوا)(٣) .

ومن الغريب جدّاً اعتماد العلاّمة المجلسي (ره) في قوله: (لم يتيسّر لهم ذلك) على هذه الرواية فقط التي حكمَ هو بجهالتها في مرآة العقول، حيث قال: الحديث مجهول(٤) .

____________________

(١) راجع: البحار: ٤٥: ٦٠.

(٢) سفينة: لقب قيس مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويُكنّى أبا ريحانة.

(٣) الكافي: ١: ٤٦٥، رقم ٨، والبحار: ٤٥: ١٦٩ رقم ١٧.

(٤) مرآة العقول ٥: ٣٦٨، وقال المرحوم المازندراني في منتهى المقال: ٣: ٣٥٥: وفي الكافي بسند ضعيف... ثمّ ذكر الرواية.

٤٣٦

التحقيق في رجال السند:

أمّا الحسين بن محمّد، فغايتهُ ما قيل في حقّه: إنّ طريق الشيخ الطوسي في المشيخة صحيح إليه(١) ، وأمّا أبو كريب وأبو سعيد الأشجّ فلم يرد في حقّهما مدح ولا ذم(٢) ، وأمّا إدريس بن عبد الله الأزدي أو الأودي، فعدّه المرحوم المامقاني في عداد المجاهيل(٣) ، وأمّا إدريس بن عبد الله فلم يرد أيضاً فيه مدح ولا ذم(٤) .

فتكون الرواية ضعيفة السند بلا إشكال، ومع غضّ النظر عن مسألة السند، فإنّ هذه الرواية لا تنتهي إلى كلام المعصوم الذي يُعدّ حجّة لنا بل تنتهي إلى إدريس بن عبد الله الأودي وهو ضعيف.

كلام البرغاني:

قال الفاضل البرغاني: (وكأنّهم - لعنهم الله - أرادوا أن يوطئوا الخيل بحيث لا يبقى من جسده الشريف أثر، فمنعهم الأسد من ذلك، وإلاّ فالعشرة المتقدّمة لعنهم الله قد رضّوا صدره وظهره على حسب ما أمرَ عبيد الله بن زياد أوّلاً، وجاءهم أمرٌ آخر بأن لا يُبقوا من جسده الشريف أثراً! فحالَ بينهم وبينه الأسد، وحُكي عن السيّد المرتضى ذلك)(٥) .

____________________

(١) راجع معجم رجال الحديث: ١٠: ١١٠.

(٢) راجع معجم رجال الحديث ٢١: ١٦٧ و ٢٢: ٢٧.

(٣) تنقيح المقال ١: ١٠٥.

(٤) المصدر السابق.

(٥) راجع: معالي السبطين: ٢: ٣٢، وأسرار الشهادة: ٤٣٩.

٤٣٧

٤٣٨

الفهارس العامّة

٤٤١

فهرس الآيات القرآنية

٤٤٤

فهرس الأحاديث

٤٥٨

فهرس الرسائل والمكاتيب

٤٥٨

فهرس الخطب

٤٥٩

فهرس أسماء المعصومينعليهم‌السلام

٤٦٢

فهرس الأعلام المترجمين

٤٦٨

فهرس الأعلام

٤٩٤

فهرس الفِرق والجماعات

٥٠٢

فهرس الأماكن والبلدان

٥٠٧

فهرس الأيام والوقائع

٥٠٩

فهرس الأشعار

٥١٥

فهرس المصادر

٥٣٦

فهرس الموضوعات

٤٣٩

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477