مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد أمين الأميني
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 460
المشاهدات: 208187
تحميل: 6654

توضيحات:

الجزء 6
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208187 / تحميل: 6654
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء 6

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يُشير النصّ العبري إلى الإمام الحسينعليه‌السلام من خلال ما جاء على لسان (يوحنّا) بأنّه المذبوح الذي ضحّى بنفسه وأهل بيته من أجل الله، وأنّه سينال المجد والعِزّة على مرّ العصور والأجيال، وهذا ما يتّضح من خلال التحليل اللغوي للنصّ العبري، حيث نجد الإشارة إلى أنّه (ذُبِحَ، قُتِل) من خلال صيغة اسم الفاعل (نشحطتا) وهي مُشتقّة من الفعل (شاحط): (ذَبَح، قَتَل)(١) .

ثمّ نجد في النص العبري تأكيداً آخر على أنّ المذبوح يشري دمه الطاهر قربةً إلى الله، وابتغاء مرضاته من خلال عبارة: (بَدِمْخا قانيتا)، فالفعل (قانيتا) هو بالأصل: (قانا): (اشترى، باع) و(التاء) في (قانيتا) هي (تاء المخاطب)(٢) .

ثمّ الإشارة إلى نكتة مُهمّة، وهي أنّ هذه التضحية وهذا القربان الذي قدّمه الحسينعليه‌السلام لكلّ الشعوب والأُمم على اختلاف لغاتهم وقوميّاتهم بقوله: (من كل مشبحا ولاشون وعم وگوي )(٣) .

ثمّ يؤكّد النصّ على أنّ الله سيجعل - لسيّد الشهداء - المجد والكرامة والعِزّة بقوله: (في اشمع قول ملاخيم ربيم قورئيم عوشر في حاخما في گبورا في هدار كافود )(٤) . وهذا ما ينطبق على سيّد الشهداء المذبوح بكربلاء، الذي انفرد بهذه الخصوصية التي ميّزته عن بقيّة الشهداء على مرّ التأريخ.

____________________

(١) المعجم الحديث، ص٤٧١.

(٢) نفس المصدر، ص١٠٤، ٤٢٥.

(٣) المعجم الحديث، ص٢٤٠، ٣٦٩، ٤٨.

(٤) المصدر السابق، ص٨١، ١١٤، ٢١٢.

١٨١

(أرميا) يُخبر عن مذبحة كربلاء:

فقد جاء في صحيفة (أرميا)

في هيوم هَهو كاشلوا

في نافلوا تسافونا عل يد نهر فرات

في آكلا حيرب

في سابعا

في راوتا من دمام

كي زيبح لأدوناي يهفا

تسفاؤوت با إيرتس

تسافون إل نهر فرات(١) .

ويعني هذا النص:

في ذلك اليوم يسقط القتلى في المعركة

قرب نهر الفرات

وتشبع الحرب والسيوف وترتوي

من الدماء التي تسيل في ساحة المعركة

بسبب مذبحة ربّ الجنود في أرض

تقع شمال نهر الفرات

فالنصّ الذي أخبر عنه (أرميا) يكشف بكلّ وضوح عن ملحمة الطف في كربلاء الحسين، ومن خلال التحليل اللغوي للنصّ العبري، نجد تعظيماً لفداحة ما

____________________

(١) العهد القديم، صحيفة أرميا: ٤٦: ٦، ١٠ ص٧٨٢ (الأصل العبري).

١٨٢

يحدث في ذلك اليوم حيث، يسقط القتلى في المعركة: (كاشلوا في نافلوا) في شمال نهر الفرات: (تسافونا عل يد نهر فرات)(١) .

ثمّ التأكيد على أنّ: الحراب والسيوف ستشبع وترتوي من الدماء التي ستسيل في ساحة المعركة: (في آكلا حيرب في سابعا في راوتا من دمّام)، والإشارة ثانية إلى أنّ هذه المذبحة ستقع شمال نهر الفرات:

(تسافون إل نهر فرات). فإخبار (أرميا) بسقوط الشهداء، وارتواء السيوف من دمائهم على أرض تقع على (نهر الفرات) يدلّ دلالةً واضحةً، على أنَّ هذه الأرض هي (كربلاء)؛ لأنّ (عبيد الله بن زياد) عندما بعث (بعمر بن سعد) على رأس جيش فلقي الحسينعليه‌السلام بموضع على الفرات يُقال له: (كربلاء)(٢) ، فمنعوه الماء، وحالوا بينه وبين ماء الفرات.

ويتّضح من خلال هذين النصّين، وما تضمّناه من تنبُّؤاتٍ بما سيحدث على أرض (كربلاء)، وما سيُلاقيه (سيّد الشهداء) يتطابق مع ما ورد عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام ، بشأن مظلومية الحسين، وأشارت إلى مكان استشهاده والحسين كان طفلاً صغيراً(٣) .

رأس اليهود في مجلس يزيد:

قال الفقيه المحدّث قطب الدِّين الراوندي: (ودخل عليه (يزيد) رأس اليهود. فقال: ما هذا الرأس؟

فقال: رأس خارجيّ!

قال: ومَنْ هو؟

____________________

(١) العهد الجديد ص٢٢٦، ٣١١، ٤٠٦.

(٢) أهل البيتعليهم‌السلام في الكتاب المقدّس: ١١٣ - ١١٨.

(٣) المصدر نفسه.

١٨٣

قال: الحسين؟

قال: ابن مَن؟

قال: ابن عليّ.

قال: ومَن أُمّه؟

قال: فاطمة.

قال: ومَن فاطمة؟

قال: بنت محمّد.

قال: نبيّكم؟!

قال: نعم.

قال: لا جزاكم الله خيراً، بالأمس كان نبيّكم واليوم قتلتم ابن بنته؟! ويحَك! إنّ بيني وبين داود النبيّ نيِّفاً وسبعين أباً، فإذا رأتني اليهود كفّرت لي(١) ، ثمّ مال إلى الطشت وقبّل الرأس، وقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ جدّك محمّداً رسول الله، وخرج، فأمر يزيد بقتله )(٢) .

وذكر ابن أعثم - بعد ذكره ما جرى بين الإمام زين العابدينعليه‌السلام ويزيد من الكلام - قال: (فالتفت حبر من أحبار اليهود وكان حاضراً، فقال: مَن هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟!

فقال: صاحب الرأس هو أبوه.

قال: ومَن هو صاحب الرأس يا أمير المؤمنين؟

قال: الحسين بن علي بن أبي طالب.

____________________

(١) قيل: يقال: كفّر - لسيده. إذا انحنى ووضع يده على صدره وطأطأ رأسه كالركوع تعظيماً له.

(٢) الخرائج والجرائح ٢/ ٥٨١، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٨٧.

١٨٤

قال: فمَن أُمّه؟

قال: فاطمة بنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقال الحبر: يا سبحان الله! هذا ابن نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة، بِئْسَ ما خلّفتموه في ذُرّيته، والله، لو خلّف فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لكنّا نعبده من دون الله(١) ، وأنتم إنّما فارقكم نبيّكم بالأمس، فوثبتم على ابن نبيّكم فقتلتموه، سوأةً لكم من أُمّة.

قال: فأمر يزيد بكرة في حلقه(٢) ، فقام الحبر وهو يقول: إن شئتم فاضربوني أو فاقتلوني أو فذروني، فإنّي أجد في التوراة أنّه مَن قتل ذُرّية نبيّ لا يزال مغلوباً(٣) أبداً ما بقي، فإذا مات يصليه الله نار جهنّم )(٤) .

وروى ابن عبد ربّه، عن أبي الأسود محمّد بن عبد الرحمان أنّه قال: ( لقيت رأس الجالوت(٥) ، فقال:

إنّ بيني وبين داود سبعين أباً، وإنّ اليهود إذا رأوني عظّموني وعرفوا حقّي وأوجبوا حفظي، وأنّه ليس بينكم وبين نبيّكم إلاّ أب واحد، وقتلتم ابنه )(٦) .

قال الخوارزمي: ( قال بعض العلماء: إنّ اليهود حرَّموا الشجرة التي كان منها

____________________

(١) لظننّا أنّا كنّا نعبده من دون الله / تسلية المجالس، وقريب منه في الخوارزمي.

(٢) فأمر يزيد به فوجئ بحلقه ثلاثاً/ الخوارزمي.

(٣) ملعوناً/ الخوارزمي - تسلية المجالس - البحار.

(٤) الفتوح ٢/ ١٨٥. وأورد نحوه: مقتل الخوارزمي ٢/ ٧١؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٦؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٩ بتفاوت يسير جدّاً.

(٥) بن يهوذا/ مُثير الأحزان.

(٦) العقد الفريد ٥/ ١٣٢. ونحوه في الطبقات الكبرى (ترجمة الإمام الحسين من القسم غير المطبوع): ٨٧، ح٣٠٦)؛ تذكرة الخواص: ٢٦٣؛ مُثير الأحزان: ١٠٣ الملهوف: ٢٢٠ وغيرهم بتفاوت يسير.

١٨٥

عصا موسى أن يخبطوا بها وأن يوقدوا منها النار؛ تعظيماً لعصا موسى، وأنّ النصارى يسجدون للصليب؛ لاعتقادهم فيه أنّه من جنس العود الذي صُلِب عليه عيسى، وأنّ المجوس يُعظّمون النار؛ لاعتقادهم فيها أنّها صارت برداً وسلاماً على إبراهيم نفسها، وهذه الأُمّة قد قتلت أبناء نبيّها، وقد أوصى الله تعالى بمودّتهم وموالاتهم، فقال عزّ مِن قائل:( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى... ) (١) )(٢) .

رسول ملك الروم في مجلس يزيد:

روى سبط ابن الجوزي، عن عبيد بن عمير، قال: ( كان رسول قيصر حاضراً عند يزيد، فقال ليزيد: هذا رأس مَن؟ فقال: رأس الحسين. قال: ومَن الحسين؟ قال: ابن فاطمة. قال: ومَن فاطمة؟ قال: بنت محمّد. قال: نبيّكم؟ قال: نعم. قال: ومَن أبوه؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قال: ومَن عليّ بن أبي طالب؟ قال: ابن عمّ نبيّنا.

فقال: تبّاً لكم ولدينكم!! ما أنتم - وحقِّ المسيح - على شيء، إنّ عندنا في بعض الجزائر دَيْر فيه حافر حمار ركبه عيسى السيّد المسيح، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار، وننذر له النذور، ونُعظّمه كما تُعظّمون كعبتكم، فأشهد أنّكم على باطل، ثمّ قام ولم يعد إليه )(٣) .

وروى ذلك الخوارزمي بتفصيل أكثر، وهو ما أورده بإسناده عن زيد بن علي، ومحمّد بن الحنفية، عن عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال:( لما أُتي برأس الحسين عليه‌السلام إلى يزيد كان يتُخذ مجالس الشرب، ويأتي برأس الحسين، فيضعه بين يديه ويشرب عليه، فحضر ذات يوم أحد مجالسه

____________________

(١) الشورى: ٢٣.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ١٠١.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٦٣.

١٨٦

رسول ملك الروم - وكان من أشراف الروم وعظمائها - فقال: يا ملك العرب، رأس مَنْ هذا ؟

فقال له يزيد: مالكَ ولهذا الرأس؟!

قال: إنّي إذا رجعت إلى مَلِكِنا يسألني عن كلّ شيء رأيته، فأحببت أن أُخبره بقصّة هذا الرأس وصاحبه ليُشاركك في الفرح والسرور.

فقال يزيد: هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب.

فقال: ومَن أُمّه؟

قال: فاطمة الزهراء.

قال: بنت مَن؟

قال: بنت رسول الله.

فقال الرسول: أُفٍّ لك ولدينك!! وما دين (إلاّ) أحسن من دينك! اعلم أنّي من أحفاد داود، وبيني وبينه آباء كثيرة، والنصارى يُعظّمونني ويأخذون التراب من تحت قدمي تبرُّكاً؛ لأنّي من أحفاد داود، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول الله، وما بينه وبين رسول الله إلاّ أُمّ واحدة، فأيّ دين هذا؟!

ثمّ قال له الرسول: يا يزيد، هل سمعت بحديث كنيسة الحافر؟!

فقال يزيد: قل حتّى أسمع.

فقال: إنّ بين عمّان والصين بحراً مسيرته سنة، ليس فيه عمران إلاّ بلدة واحدة في وسط الماء، طولها ثمانون فرسخاً وعرضها كذلك، وما على وجه الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يُحمل الكافور والياقوت والعنبر، وأشجارهم العود، وهي في أيدي النصارى، لا مُلْكَ لأحد فيها من الملوك، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة، أعظمها كنيسة الحافر، في محرابها حقّة من ذهب مُعلّقة، فيها حافر يقولون: إنّه حافر حمار كان يركبه عيسى، وقد زُيِّنت حوالي الحقّة بالذهب والجواهر والديباج والإبريسم، وفي كلّ عام يقصدها عالم من النصارى، فيطوفون حول

١٨٧

الحقّة، ويزورونها ويقبّلونها، ويرفعون حوائجهم إلى الله ببركتها، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنّه حافر حمار كان يركبه عيسى نبيّهم، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم! لا بارك الله فيكم ولا في دينكم .

فقال يزيد لأصحابه: اقتلوا هذا النصراني؛ فإنّه يفضحنا إن رجع إلى بلده ويُشنّع علينا.

فلما أحسّ النصراني بالقتل قال: يا يزيد، أتُريد قتلي؟!

قال: نعم.

قال: فاعلم أنّي رأيت البارحة نبيّكم في منامي وهو يقول لي: يا نصراني، أنت من أهل الجنّة! فعجبت من كلامه حتّى نالني هذا، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ثمّ أخذ الرأس وضمّه إليه، وجعل يبكي حتّى قُتل ) (١) .

ثمّ قال الخوارزمي: (وروى مجد الأئمّة السرخسكي، عن أبي عبد الله الحدّاد أنّ النصراني اخترط سيفاً وحمل على يزيد ليضربه، فحال الخدم بينهما وقتلوه، وهو يقول: الشهادة الشهادة! )(٢) .

ولنِعْمَ ما أورده ابن شهر آشوب عن بعض شعراء أهل البيتعليهم‌السلام :

وا خـجلةَ الإسـلام من أضداده

ظـفروا لـه بـمعائب ومـعاثر

آل الـعُزير يُـعظّمون حـماره

ويـرون فـوزاً لـثْمَهم بالحافر

وسـيوفكم بـدم ابـن بنت نبيّكم

مخضوبة لرضى يزيد الفاجر(٣)

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٢. ونحوه في: مُثير الأحزان: ١٠٣؛ الملهوف: ٢٢١؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٧؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٨٩؛ عوالم العلوم ١٧/ ٤١٨. بتفاوت يسير.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٢.

(٣) المناقب ٤/ ١٢٣.

١٨٨

دور الإمام زين العابدينعليه‌السلام في الشام:

هناك مسؤولية كبيرة يتحمّل أثقالها ويحمل أعباءها حجّة الله على أرضه، الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ؛ إذ يرى نفسه أمام حُكّام فجرة وأُناسٍ جهلة، وعليه أن يؤدّي رسالة دم شهداء كربلاء، وعلى رأسهم أبيه سيّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام .

زينب الكبرى تُعرِّف قائد المسيرة:

ذكرنا أنّ زينب الكبرى (سلام الله عليها) حينما واجهها يزيد وسألها بقوله: ( تُكلّميني؟ ) أشارت إلى ابن أخيها الإمام السجّادعليه‌السلام وقالت: ( هو المتكلِّم(١) )، أرادت بذلك أن تُعرِّف قائد المسيرة المظفّرة.

السجّادعليه‌السلام يعرّف أهل البيت من خلال القرآن!

لقد مضت فترة طويلة من الزمان، وكتابة أحاديث فضل أهل البيت ونشرها ممنوعة - فكيف بفهمها واستيعابها؟! - فقد مُنع من تدوين الأحاديث بعد رحيل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بذريعة عدم التهاء الناس به عن القرآن!

وأعجب من ذلك أنّه منعت الحكومات عن فهم القرآن! وأصرّت على قراءة ظاهر آياته، دون السؤال عن تأويلها! كما منع معاويةُ ابنَ عبّاس عن ذلك(٢) .

وهكذا كان على الإمامعليه‌السلام أن ينتهز كلّ فرصة لبثّ الروح في أجساد هذه الأُمّة الميّتة، ويُرشدهم إلى حقائق القرآن الكريم، ويهديهم إلى معرفة المقصود منه.

____________________

(١) المناقب ٤/ ١٧٣.

(٢) أُنظر الاحتجاج ٢/ ٨٢.

١٨٩

ومن هذا المنطلق، نرى الإمامعليه‌السلام يستدلّ بآيات شريفة نزلت في شأن أهل البيتعليهم‌السلام ؛ حتّى يُعرِّف الناس واقع الأمر، مثل ما ذكرناه حول مُحادثة الإمامعليه‌السلام مع الرجل الشامي، واستدلالهعليه‌السلام بهذه الآيات الشريفة:

( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى... ) .

( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ... ) .

( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى... ) .

( ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) .

خُطبة الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

لم يكتفِ الإمامعليه‌السلام بذكر آيات شريفة منطبقة على أهل البيتعليهم‌السلام ، بل وقف موقفاً حازماً أمام الطاغية، وواجهه بكلّ صلابة، وكلّمه بكلّ شجاعة، ولم يكتفِ بذلك أيضاً، بل أخذ بزمام الكلام، وخاطب الجمهور، وكشف القناع عمّا سُتر فترةً طويلةً، وذلك بعدما قام الخطيب الشامي وتكلّم بما اشترى به رضى المخلوق بسخط الخالق.

قال الخوارزمي:

( وروي أنّ يزيد أمر بمنبر وخطيب ليذكر للناس مساوئ للحسين وأبيه عليّعليهما‌السلام (٢) ، فصعد الخطيب المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأكثر الوقيعة في عليّ

____________________

(١) انظر ص٨٨ - ٨٩ من هذا الكتاب.

(٢) في الفتوح (٢/ ١٨٥): ثمّ دعا يزيد بالخاطب وأمر بالمنبر فأُحضر، ثمّ أمر بالخاطب فقال: اصعد المنبر فخبِّر الناس بمساوئ الحسين وعليّ وما فعلا.

١٩٠

والحسين، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد، فصاح به عليّ بن الحسين:

( ويلك أيُّها الخاطب! اشتريت رضى (١) المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ (٢) مقعدك من النار ) .

ثمّ قال:( يا يزيد، ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد، فأتكلّم بكلمات (٣) فيهنّ لله رضى ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب ) .

فأبى يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، ائذن له ليصعد، فلعلّنا نسمع منه شيئاً. فقال لهم: إن صعد(٤) المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان(٥) .

____________________

وفي المناقب (٤/ ١٦٨) وكتاب الأحمر: قال الأوزاعي: لما أُتي بعليّ بن الحسين ورأس أبيه إلى يزيد بالشام قال لخطيب بليغ: خُذْ بيد هذا الغلام فائت به إلى المنبر، وأخبِر الناس بسوء رأي أبيه وجدّه، وفراقهم الحقّ وبغيهم علينا!

قال: فلم يدعْ شيئاً من المساوئ إلاّ ذكره فيهم، فلما نزل قام عليّ بن الحسين فحمد الله...

(١) في الفتوح: مرضاة.

(٢) في الفتوح: فانظر.

(٣) في الفتوح: بكلام فيه رضىً الله ورضى هؤلاء الجلساء وأجر وثواب.

(٤) في الفتوح: إنّه إن صعد.

(٥) ذكر الطبرسي ما يُشابه ذلك في حقّ سيّد الشهداءعليه‌السلام زمن حكومة معاوية، فإنّه روى عن موسى بن عقبة أنّه قال: لقد قيل لمعاوية: إنّ الناس قد رموا بأبصارهم إلى الحسينعليه‌السلام ، فلو قد أمرته يصعد المنبر فيخُطب، فإنّ فيه حصراً وفي لسانه كلالة.

فقال لهم معاوية: قد ظننّا ذلك بالحسن، فلم يزل حتّى عظم في أعين الناس وفضحنا.

فلم يزالوا به حتّى قال للحسين: يا أبا عبد الله، لو صعدت المنبر فخطبت، فصعد الحسينعليه‌السلام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمع رجلاً يقول: مَن هذا الذي يخطب؟ فقال الحسينعليه‌السلام :( نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأقربون، وأهل بيته الطيّبون، وأحد

١٩١

فقالوا: وما قَدر ما يُحسن هذا؟

فقال: إنّه من أهل بيت قد زُقّوا العلم زقّاً(١) .

ولم يزالوا به حتّى أذِن له بالصعود، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه(٢) ، ثمّ خطب خُطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، فقال فيها:

( أيّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع، أُعطينا العلم، والحِلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين. وفضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنّا الصدِّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد الرسول، ومنّا سيّدة نساء العالمين

الثقلين اللذين جعلنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثاني كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كلّ شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوَّل علينا في تفسيره، لا يبطئنا تأويله، بل نتّبع حقايقه، فأطيعونا، فإنّ طاعتنا مفروضة؛ إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عزّ وجلّ:( ... أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ... ) (النساء: ٥٩)، وقال: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (النساء: ٨٣)، وأُحذِّركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم، فإنّه لكم عدوّ مُبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: ( ... لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ... ) (الأنفال: ٤٨) فتُلقَون للسيوف ضرباً، وللرماح ورداً، وللعمد حطماً، وللسهام غرضاً، ثمّ لا يُقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ).

قال معاوية: حسبُك يا أبا عبد الله، فقد أبلغت! (الاحتجاج ٢/ ٩٤)

____________________

(١) في الفتوح: إنّه من نسل قوم قد رزقوا العلم رزقاً حسناً.

(٢) في المناقب: فلما نزل قام عليّ بن الحسين، فحمد الله بمحامد شريفة وصلّى على النبيّ صلاة بليغة موجزة.

١٩٢

فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الأُمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة (١) .

فمَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني (٢) أنبأته بحسبي ونسبي (٣) .

أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم (٤) والصفا (٥) ،أنا ابن مَن حمل الزكاة (٦) بأطراف الرداء، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى، أنا ابن خير مَن طاف وسعى (٧) ، (أنا) ابن خير مَن حجّ ولبّى، أنا ابن مَن حُمل على البراق (٨) في الهواء، أنا ابن مَن أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان مَن أسرى! أنا ابن مَن بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا

____________________

(١) ههنا في الفتوح والاحتجاج والبحار: أيُّها الناس.. وفي المناقب: يا معشر الناس.

(٢) بعده في الاحتجاج والمناقب: فأنا أُعرّفه بنفسي.

(٣) في الفتوح، بعده: أيُّها الناس.

(٤) في المناقب: مروة؛ في الاحتجاج: المروة.

(٥) ههنا في الاحتجاج توجد عبارة:أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن مَن علا فاستعلى، فجاوز سدرة المنتهى، وكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى.

وفي المناقب:أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن مَن لا يخفى، أنا ابن مَن علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى وكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن مَن صلّى بملائكة السماء مثنى مثنى، أنا ابن مَن أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن عليّ المرتضى...

(٦) في البحار: الركن.

(٧) في الفتوح: أنا ابن خير مَن حجّ وطاف وسعى ولبّى.

(٨) في الفتوح: أنا ابن خير مَن حمل البراق.

١٩٣

ابن مَن دنا فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن مَن صلّى بملائكة السماء، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمّد المصطفى .

أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن مَن ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا: لا إله إلاّ الله، أنا ابن مَن ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وصلّى القبلتين، وقاتل ببدرٍ وحُنين، ولم يكفر بالله طرفة عين. أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين [و] (١) رسول ربّ العالمين، أنا ابن المؤيّد بجبرائيل، والمنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر مَن مشى من قريش أجمعين، وأوّل مَن أجاب واستجاب لله (٢) من المؤمنين، وأقدم السابقين (٣) ، وقاصم المعتدين، ومُبير (٤) المشركين، وسهم من مرامي

____________________

(١) ليس في البحار، وهو الأنسب، وعلى فرض وجوده فـ (رسول) معطوف على كلمة ياسين.

(٢) في البحار: ولرسوله.

(٣) في البحار: وأوّل السابقين.

(٤) في البحار: مُبيد.

١٩٤

الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، ناصر (١) دين الله، ووليّ أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علم الله (٢) ، سمح سخيّ (٣) ، بهلول زكيّ أبطحيّ، رضيّ مرضيّ، مقدام هُمام، صابر صوّام، مُهذّب قوّام، شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، ومفرّق الأحزاب، أربطهم جناناً، وأطبقهم عناناً، وأجرأهم لساناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدّهم شكيمة، أسد باسل، وغيث هاطل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة، طحن الرحى (٤) ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وصاحب الإعجاز، وكبش العراق، الإمام بالنصّ والاستحقاق، مكّيّ مدنيّ، أبطحيّ تُهاميّ، خيفيّ عقبيّ، بدريّ أُحُديّ، شجريّ مُهاجريّ، من العرب سيّدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، مُظهِر العجائب، ومُفرّق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد الله الغالب، مطلوب كلّ طالب، غالب كلّ غالب، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب (٥) .

أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء، أنا ابن الطهر

____________________

(١) في البحار: وناصر.

(٢) في البحار: علمه.

(٣) ههنا في البحار، عبارة (بهيّ) أيضاً.

(٤) في البحار: طحن مرحا.

(٥) في البحار: ثمّ قال.

١٩٥

البتول، أنا ابن بضعة الرسول... ) (١) .

قال: ولم يزل يقول: (أنا، أنا) حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة(٢) ، فأمر المؤذّن أن يؤذِّن، فقطع عليه الكلام وسكت(٣) .

فلما قال المؤذِّن(٤) : (الله أكبر)(٥) قال عليّ بن الحسين:( كبّرت كبيراً لا يُقاس ولا يُدرك بالحواس، لا شيء أكبر من الله ) .

فلما قال: (أشهد أن لا إله إلاّ الله) قال عليّ:

____________________

(١) هذا الفقرة في المناقب هكذا:( أنا ابن عليّ المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتّى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن مَن بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن مَن ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن مَن رأسه على السنان يُهدى، أنا ابن مَن حرمه من العراق إلى الشام تُسبى، أيّها الناس، إنّ الله - تعالى وله الحمد - ابتلانا أهل البيت ببلاءٍ حَسن؛ حيث جعل راية الهُدى والعدل والتُّقى فينا، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا، فُضِّلنا أهل البيت بستّ خصال، فضّلنا بالعلم، والحِلم، والشجاعة، والسماحة، والمحبّة والمحلّة في قلوب المؤمنين، وآتانا ما لم يؤتَ أحداً من العالمين من قبلنا، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب ) .

(٢) في الاحتجاج: فضجّ أهل الشام بالبكاء، حتّى خشي يزيد أن يؤخذ من مقعده، فقال للمؤذّن: أذِّن.

(٣) الفقرة في الفتوح هكذا: فلم يزل يُعيد ذلك حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة فأمر المؤذِّن فقال: اقطع عنّا هذا الكلام.

(٤) في المناقب: (.. فلم يفرغ حتّى قال المؤذِّن: (الله أكبر)، فقال عليعليه‌السلام :( الله أكبر كبيراً ) ، فقال المؤذِّن: أشهد أن لا إله إلاّ الله، فقال علي بن الحسين:( شَهِد بها شعري... ) ، فلما قال المؤذِّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، قال علي:( يا يزيد، هذا جدّي أو جدّك؟! فإن قلت: جدّك، فقد كذبت. وإن قلت: جدّي، فلِمَ قتلت أبي وسبيت حرمه وسبيتني؟! ) .

ثمّ قال:( معاشر الناس، هل فيكم مَن أبوه وجدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ) . فعَلَتْ الأصوات بالبكاء، فقام إليه رجل يُقال له: المنهال بن عمرو الطائي، وفي رواية مكحول...

(٥) في الاحتجاج: فلما قال المؤذِّن: (الله أكبر) جلس عليّ بن الحسين على المنبر.

١٩٦

شهد بها (١) شعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي ) .

فلما قال: ( أشهد أنّ محمّداً رسول الله ) التفت عليّ(٢) من أعلى المنبر إلى يزيد وقال:( يا يزيد، محمّد هذا جدّي أم جدّك؟! فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت (٣) ،وإن قلت (٤) : إنّه جدّي. فلِمَ قتلت عترته؟! ) .

قال: وفرغ المؤذِّن من الأذان والإقامة، فتقدّم يزيد(٥) وصلّى صلاة الظهر(٦) .

روى الخُطبة أرباب السير والتاريخ، فمنهم مَن ذكرها تفصيلاً كابن أعثم(٧) ، والخوارزمي(٨) ، ومحمّد بن أبي طالب(٩) ، ومنهم مَن ذكر معظمها كابن شهر آشوب(١٠) ، والمجلسي(١١) ، ومنهم مَن ذكر بعضها مثل أبي الفرج الأصفهاني(١٢) ، ومنهم مَن أشار إليها واكتفى بذكر مقدّماتها، مثل ابن نما والسيّد ابن طاووس(١٣) .

____________________

(١) في الفتوح: يشهد بها.

(٢) في الفتوح والبحار: التفت علي بن الحسين من فوق المنبر إلى يزيد.

(٣) في البحار هنا عبارة (وكفرت) أيضاً.

(٤) في البحار: وإن زعمت.

(٥) في الفتوح: تقدّم يزيد يُصلّي بالناس صلاة الظهر، فلما فرغ من صلاته أمر بعليّ بن الحسين وأخواته وعمّاته رضوان الله عليهم، ففرّغ لهم داراً فنزلوها، وأقاموا أيّاماً يبكون وينوحون على الحسين (رضي الله عنه).

(٦) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٩/ ٧١.

(٧) الفتوح ٢/ ١٨٥.

(٨) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٩.

(٩) تسلية المجالس ٢/ ٣٩١. عن صاحب المناقب (بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٧)، وغيرهم.

(١٠) المناقب ٤/ ١٦٨. (الاحتجاج ٢/ ١٣٢ - عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦١ ح٦).

(١١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٦١ ح٦.

(١٢) مقاتل الطالبيين: ١٢١.

(١٣) مُثير الأحزان: ١٠٢؛ الملهوف: ١٩.

١٩٧

نظرة خاطفة في الخُطبة وصداها:

لقد اقتصر الإمام السجّادعليه‌السلام في هذه الخُطبة على التعريف بأُسرته ونفسه، ولم يتعرّض لشيء آخر - فيما وصل إلينا من خُطبته الشريفة - ولعلّ السرّ في ذلك؛ أنّه لما كان يعلم أنّ المجتمع الشامي لا يعرف عن أهل البيت ومنزلتهم الرفيعة شيئاً؛ لكونه تربّى في أحضان سلطة الطغاة من بني أُميّة التي أخفت عنهم الحقائق وغذّتهم بالولاء لأبناء الشجرة الملعونة - بني أُميّة - والحقد على آل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، اكتفىعليه‌السلام بذلك.

ومن هذا المنطلق؛ نرى أنّ الإمامعليه‌السلام يُعالج المسألة عاطفيّاً؛ لأنّ تأثيره - في هذه المرحلة - أكثر من أيّ أداة، ومضمون الخطبة يُرشدنا إلى أنّ المخاطَبين كانوا من جمهور الناس، لا الأشراف والأعيان منهم فحسب، فجوّ المجلس يختلف عن جوّ مجلس يزيد العامّ، الذي كان محشوّاً بالأعيان والأشراف، وكبار رجال أهل الكتاب، وبعض مُمثّلي الدول الكبار آنذاك(١) .

فلذلك نرى أنّ الإمام يُعدّد مزايا آل البيتعليهم‌السلام ، ويخصّ بالذكر رجالاً منهم ليس لهم بديل ولا نظير، فيقول: بأنّ مناّ النبيّ المختار، ومنّا الصدِّيق - يعني عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام -، ومنّا الطيّار - يقصد جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام -، ومنّا أسد الله وأسد الرسول - يريد حمزة سيّد الشهداءعليه‌السلام -، ومنّا سيّدة نساء العالمين - أي فاطمة البتولعليها‌السلام -، ومنّا سبطا هذه الأمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة - الحسنينعليهما‌السلام -، دون أن يُصرّح في البداية بالمقصود ممّن يذكرهم بهذه الأوصاف مثل الصدِّيق، وسيّدي شباب أهل الجنّة و...، حتّى يذكر أوصافاً مُتعدّدة لهم، تكشف عن بعض زوايا حياتهم وفضائلهم؛ ليكون أوقع بالنفوس، كما كان ذلك بالفعل.

____________________

(١) وهذا يؤيّد أنّها أُلقيت في المسجد لا المجلس، انظر: بحار الأنوار ٤٥/ ١٦١.

١٩٨

وبعد ذلك يذكر الإمام أصله وجذره نسباً وموطناً؛ حتّى يعلم الجميع أنّه فرع الشجرة النبويّة، والثمرة العلويّة، والجوهرة الفاطمية، واللؤلؤة الحسينيّة، ومن قلب مكّة والمدينة، فكيف شوّهت السلطة الباغية والحكومة الطاغية الواقع على الناس، وأذاعت الكذب، وعرّفتهم للأمّة بأنّهم الخوارج على أمير المؤمنين يزيد!

إنّ الإمامعليه‌السلام بعد تبيينه مُختصّات جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الوحي والمعراج و... يقوم ببيان خصائص جدّه المظلوم، أسد الله الغالب الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، والمجتمع الشامي يسمع أوصافاً له يسمعها أوّل مرّة؛ فهو الذي ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وصلّى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين... وارث النبيّين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين... وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين... المؤيَّد بجبرائيل، والمنصور بميكائيل... قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين...

ثمّ يذكر بعض خصائص جدّته الصدِّيقة الكبرى، الإنسيّة الحوراء فاطمة الزهراءعليها‌السلام حتى يصل إلى قمّة كلامه بقوله:( أنا ابن المقتول ظلماً... ) يقول ذلك والظالم - يزيد - جالس بين يديه في المجلس. ويُشير إلى بعض مأساة كربلاء فيقول:( أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتّى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ) .

وبذلك عرَّف الناس أنّ والده الحسين قد قُتِل مظلوماً، عطشاناً، واحتُزّ رأسه الشريف من القفا، وطُرِح جسمه الطاهر بكربلاء، وسُلب عمامته ورداؤه.

فانقلب المجلس - وذلك تبعاً لانقلاب العالم - لقتل الحسينعليه‌السلام ! كيف لا، وقد قال الإمامعليه‌السلام :( أنا ابن مَن بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن مَن ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء... ) .

١٩٩

هذا ما جرى في كربلاء، وهذا ما وقع في الكون بقتل الحسينعليه‌السلام ، وأمّا الشيء الموجود حالياً بالشام، الذي لابدّ أن يلتفت إليه هذا الجمهور الغافل الضائع، فهو أنّ جسم الحسينعليه‌السلام الطاهر، وإن كان في كربلاء، ولكنّ رأسه الشريف وحرمه موجودان بالشام وبين أيديهم، ونبّههم الإمام على ذلك بقوله:( أنا ابن مَن رأسه على السنان يُهدى، أنا ابن مَن حرمه من العراق إلى الشام تُسبى... ) .

ولم يجد الطاغي ابن الباغي يزيد بن معاوية مفرّاً، إلاّ أن يلتجئ إلى المؤذِّن بذريعة الأذان، وقد كان يعلم في البداية أنّ الإمامعليه‌السلام لو صعد المنبر يقلب الوضع عليه، وقد صرّح بأنّه لو صعد المنبر لم ينزل إلاّ بفضيحته وفضيحة آل أبي سفيان، وأنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّاً، ولكنّ إصرار الناس غلبه على أمره، وأظنُّ أنّه ما كان يعلم أنّه ينقلب الأمر عليه إلى هذه الدرجة، وإلاّ لما كان يرضى بذلك، وإن بلغ ما بلغ، وإنّما رضي بذلك خوفاً من الناس وفراراً من حفيرة، ولكنّه وقع في بئر حفره سوء عمله وخبث ضميره، وأوجبه كلام حقٍّ، صدر من قلبٍ طاهر على لسانٍ صادق.

نعم، إنّ يزيد لم يتمكّن أن يقطع كلام الإمام إلاّ بالأذان، كما أنّ أباه - معاوية - لم يتمكّن أن يهرب من سيف جدّه - عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام - إلاّ برفعه المصاحف! ولكنّ الإمام واجه هذه الخدعة ببيان حقيقة الربوبيّة وواقع التوحيد ولُبّ الرسالة، وواجه الطاغية يزيد بكلامه:( يا يزيد، محمّد هذا جدّي أم جدّك؟! فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت، وإن قلت: إنّه جدّي. فلِمَ قتلت عترته؟! ) .

فطرح أمامه سؤالاً لم يَحِرْ يزيد جواباً له، وهو أنّ هذا محمّداً رسول الله الذي تشهد برسالته - فيما تزعم - وتترأس رئاسة أُمّته، وتدّعي خلافته - ظلماً وزوراً - فهل هو جدّك أم جدّي؟! إذا كنت تدّعي أنّه جدّك فهذا كذب واضح، فالجميع

٢٠٠