مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٦

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 460

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد أمين الأميني
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 460
المشاهدات: 208026
تحميل: 6651

توضيحات:

الجزء 6
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 208026 / تحميل: 6651
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء 6

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

نظرة إلى دور سائر أهل البيتعليهم‌السلام وأثره:

لقد ذكرنا مواقف صلبة من أهل البيتعليهم‌السلام ، في مواضع مُختلفة، ومواطن مُتعدّدة:

منها: الموقف الذي اتّخذته أُمّ كلثوم أمام طلب الرجل الشامي من يزيد(١) .

ومنها: ما قامت به سكينة في تعريف هذه الأُسرة الطاهرة بقولها: ( نحن سبايا آل محمّد )(٢) ، فهذا الكلام يُثير سؤالاً في أذهان الناس، فحواه: أنّه لو كانوا هم من آل محمّد، فلماذا السبي؟! وهل هذه هي المودّة في القُربى التي جعلها الله أجراً لجدّهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وهي التي كشفت القناع عن باطن يزيد بقولها: ( والله، ما رأيت أقسى قلباً من يزيد، ولا رأيت كافراً، ولا مشركاً شرّاً منه، ولا أجفى منه! )(٣) .

وهي التي أذلّت يزيد بقولها: يا يزيد، بنات رسول الله سبايا؟!(٤) .

ومنها: الموقف الذي اتّخذته فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام ، بحيث حينما دخلوا بيت يزيد ما وجدوا فيهنّ سفيانيّة إلاّ وهي تبكي(٥) .

قال ابن نما: ( وقالت فاطمة بنت الحسين: يا يزيد، بنات رسول الله سبايا؟! فبكى الناس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات )(٦) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٣٧.

(٢) قُرب الإسناد ٢٦/ ٨٨، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٦٩ ح١٥.

(٣) أمالي الصدوق: ٢٣٠، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ١٥٤.

(٤) الطبقات الكبرى: ٨٣؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٣.

(٥) العقد الفريد ٥/ ١٣٢؛ مُثير الأحزان: ٩٩؛ شرح الأخبار ٣/ ٢٦٨؛ تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٥؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٦؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧.

(٦) مُثير الأحزان: ٩٩.

٢٤١

وكذا ما روي في شأن عمرو بن الحسن، حينما طالبه يزيد المصارعة مع ولَده خالد(١) .

فإنّ المتأمِّل في جميع ذلك - وهو شيء قليل ممّا وصل بأيدينا، وما أخفته الأعداء حقداً وبغضاً وحسداً أكثر، والله العالم - يجد أنّ هذه المسيرة حقّقت أهدافها، ووصلت إلى بُلغتها، ونالت مُناها من استيقاظ الناس وكشف النقاب عن سريرة أصحاب الزمرة الطاغية، وإصلاح أمر الأُمّة؛ لكي تكون معركة كربلاء أعظم وأشرف معارك الحقّ ضدّ الباطل على مدى الدهور والأعصار.

نظرة إلى مواقف بعض الصحابة:

لقد ذكرنا في مطاوي الأبحاث السابقة، أنّ بعض الصحابة كان لهم الدور الإيجابي تجاه الفاجعة العُظمى التي حصلت في أرض كربلاء، وجرى الحق على ألسنتهم، وتكلّموا بالواقع، واتّخذوا مواقف جليلة، ولا نعني بذلك تبرئتهم عن عدم نصرتهم الحسينعليه‌السلام ، بل المقصود أنّ اتّخاذ هذا الموقف نفسه قد أثّر في أوساط الناس وانقلاب المعادلة، ومن هؤلاء:

١ - سهل بن سعد، فهو الذي قال هذه الكلمة - حينما علم بورود سبايا أهل البيت الشام ومعهم رأس الحسينعليه‌السلام -: وا عجباه! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟!(٢) .

٢ - واثلة بن الأسقع، فإنّه لما سمع أنّ رجلاً من أهل الشام قام بلعن الحسين وأبيه(عليه ما السلام) - وقد جيء برأسه الشريف - قال: والله، لا أزال أُحبّ عليّاً والحسن

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ٨٤ (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع )؛ تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٧٨؛ مُثير الأحزان: ١٠٥؛ الملهوف: ٢٢٣.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٠؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٧٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٢٧.

٢٤٢

والحسين وفاطمة بعد أن سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) يقول فيهم ما قال...(١) .

٣ - أبو برزة الأسلمي، هو الذي اعترض على يزيد حينما رآه ينكت رأس الحسينعليه‌السلام بالخيزران بقوله: يا يزيد، ارفع قضيبك، فوالله، لطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقبِّل ثناياه(٢) .

ولقد بسطنا القول في تفصيل ذلك عند ذكر مجلس يزيد، فراجِع.

٤ - زيد بن أرقم، فإنّه اتّخذ موقفاً مُشابهاً لموقف أبي برزة الأسلمي بقوله: كُفّ عن ثناياه، فطالما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقبّلها.

فقال يزيد: لو لا أنّك شيخ خَرِفت لقتلتك(٣) .

وإليه أشار السيّد الحميري في أشعاره(٤) .

٥ - النعمان بن بشير، قيل: إنّه ممّن استنكر فعل يزيد في مجلسه(٥) .

وروى الخوارزمي، بإسناده عن عكرمة بن خالد قال: ( أُتي برأس الحسين إلى يزيد بن معاوية بدمشق فنُصب، فقال يزيد: عليَّ بالنعمان بن بشير، فلما جاء قال: كيف رأيت ما فعل عبيد الله بن زياد؟!

قال: الحرب دُوَل.

فقال: الحمد لله الذي قتله!

قال النعمان: قد كان أمير المؤمنين - يعني به معاوية - يكره قتله.

فقال:

____________________

(١) أُسد الغابة ٢/ ٢٠. ونحوه ما ذكره الذهبي في شأن وائلة بن الأسقع، والظاهر اتّحاده مع ما مرّ (سير أعلام النبلاء ٣/ ٣١٤).

(٢) تذكرة الخواص: ٢٦١، وانظر: تهذيب الكمال ٦/ ٤٢٨؛ تاريخ الطبري ٤/ ٢٩٣؛ المنتظم ٥/ ٣٤٢؛ الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٩؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٤ و١٩٩.

(٣) الخرائج والجرائح ٢/ ٥٨.

(٤) المناقب ٤/ ١١٤.

(٥) الجوهرة ٢/ ٢١٩ على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٣١٠.

٢٤٣

ذلك قبل أن يخرج، ولو خرج على أمير المؤمنين - والله - قتله إن قدر.

قال النعمان: ما كنت أدري ما كان يصنع!

ثمّ خرج النعمان، فقال (يزيد): هو كما ترون إلينا مُنقطع، وقد ولاّه أمير المؤمنين ورفعه، ولكنّ أبي كان يقول: لم أعرف أنصاريّاً قطّ إلاّ يُحبّ عليّاً وأهله ويُبغض قريشاً بأسرها )(١) .

هذا مع أنّ ابن أبي الحديد قد صرّح بانحرافه عن عليّعليه‌السلام بقوله: وكان النعمان بن بشير مُنحرفاً عنه، وعدوّاً له، وخاض الدماء مع معاوية خوضاً، وكان من أُمراء يزيد ابنه حتّى قُتل وهو على حاله(٢) .

ولقد أثّر اتّخاذ هذا الموقف من بعض الصحابة، بحيث لم يتحمّله يزيد وقال: لو لا صحبتك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لضربت - والله - عنقك!

فقال: ويلك! تحفظ لي صحبتي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا تحفظ لابن رسول الله بنوّته؟!

فضجّ الناس بالبكاء، وكادت أن تكون فتنة(٣) .

بعض الموالين لأهل البيت في الشام:

حينما نُريد أن نُحلّل الواقع الاجتماعي، لابدّ أن نلتفت إلى هذه النقطة، وهي أنّ المستفاد من بعض النصوص وجود بعض الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام في الشام، وفي قلب عاصمة الدولة الأمويّة، وهذا أمر لا يمكن أن نتغافل عنه في هذا المقطع.

ممّا يؤيّد هذا المطلب هو ما رواه سهل بن سعد، قال: ( خرجت إلى بيت المقدس، حتّى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مُطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علّقوا

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤/ ٧٧.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢/ ٥٨.

٢٤٤

الستور والحُجب والديباج، وهم فرحون مُستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت - في نفسي -: لعلّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن.

فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت: يا هؤلاء، ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟

قالوا: يا شيخ، نراك غريباً!

فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) وحملت حديثه.

فقالوا: يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تُخسف بأهلها؟!

قلت: ولِمَ ذاك؟!

فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُهدى من أرض العراق إلى الشام، وسيأتي الآن... )(١) .

وهذا الخبر يدلّ على وجود ضمائر حيّة عارفة بالأُمور، وتُميّز الحقّ عن الباطل، فلابدّ أن نجعل لهم سهماً في دعم النهضة الحسينيّة وإيقاظ الناس، وإن لم نعلم تفاصيله.

وممّا يؤيّد ذلك، ما روي أنّ بعض الفضلاء التابعين، لما شاهد رأس الإمام الحسينعليه‌السلام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه، فلما وجدوه بعد أن فقدوه سألوه عن سبب ذلك، فقال: أما ترون ما نزل بنا؟! ثمّ أنشأ يقول:

جـاءوا برأسك يا بن بنت محمّد

مُـتـرمّلاً بـدمـائه تـرمـيلا

فـكأنّما بـك يـا بن بنت محمّد

قـتلوا جِـهاراً عـامدين رسولا

قـتلوك عـطشاناً ولـمَّا يرقبوا

فـي قـتلك الـتأويل والتنزيلا

ويُـكبِّرون بـأن قُـتلت وإنّـما

قـتلوا بـك الـتكبير والتهليلا

يا مَن إذا حسن العزاء عن امرئ

كـان الـبكا حَـسناً عليه جميلا

فـبكتْك أرواح الـسحائب غدوة

وبكتْك أرواح الرياح أصيلا(٢)

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٦٠.

(٢) تسلية المجالس ٢/ ٣٨٢، ( ذكره السيّد محمّد بن أبي طالب ضمن أحداث الشام ).

٢٤٥

نفوذ بعض الموالين في جهاز الحكم الأُموي!

إنّ الناظر في الأحداث التأريخية، يجد شواهد قد يُستشمّ منها نفوذ بعض مُحبّي أهل البيت في جهاز السلطة، منها ما رواه الطبري عن حبس الأُسارى من آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في السجن بالكوفة، ووقوع حجر فيه ومعه كتاب مربوط، وفيه خبر خروج البريد بأمرهم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية، وهو سائر كذا وكذا يوماً، وراجع في كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إن شاء الله(١) .

فهذا ممّا يؤيّد نفوذ موالي أهل البيت في جهاز السلطة، ولو بتعدّد الوسائط.

وممّا يؤيّد ذلك، ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حول موضع دفن رأس الحسينعليه‌السلام بقوله:( ولكن لما حُمِل رأسه إلى الشام سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين عليه‌السلام ) (٢) . وسيأتي الكلام حول موضع دفن الرأس الشريف.

يزيد يواجه المشاكل في بيته!

إنّ عُمق المأساة أثّر في نفوس الكلّ، حتّى دخل بيت يزيد، الذي لم يتمكّن من السيطرة على الوضع. وبين يديك الشواهد التأريخية التي تُثبت ذلك:

١ - بكاء نساء الأُسرة الأُمويّة

قال البلاذري: وصيَّح نساء من نساء يزيد بن معاوية، وولولن حين أُدخل نساء الحسين عليهنّ(٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٤؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤.

(٢) كامل الزيارات: ٣٤ ب٩ ح٥؛ الكافي ٤/ ٥٧١ ح١؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٧٨.

(٣) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٧.

٢٤٦

قال ابن فتّال: ثمّ أُدخِل نساء الحسين على يزيد بن معاوية - لعنهما الله وأخزاهما - فصِحْنَ نساء أهل يزيد وبنات معاوية وأهله، وولولن وأقمن المأتم(١) .

وروي عن فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام أنّها قالت: ( فدخلت إليهنّ فما وجدت سفيانيّة إلاّ مُلتدمة(٢) تبكي )(٣) .

قال ابن الصبّاغ: قال (يزيد): ( أدْخِلُوهم إلى الحريم )، فلما دخلْنَ على حرمه لم تبقَ امرأة من آل يزيد إلاّ أتتهنّ وأظهرنَ التوجّع والحزن على ما أصابهنّ وعلى ما نزل بهنّ(٤) .

قال الطبري، بإسناده عن الحارث بن كعب عن فاطمة بنت عليّعليهما‌السلام : ( فخرجن حتّى دخلن دار يزيد، فلم تبقَ من آل معاوية امرأة إلاّ استقبلتهنّ تبكي تنوح على الحسين )(٥) .

روى البلاذري: ( لما قُدِم برأس الحسين على يزيد بن معاوية، فأُدخل أهله الخضراء بدمشق، تصايحت بنات معاوية ونساؤه فجعل يزيد يقول:

يا صيحةً تُحمد من صوائح

ما أهوت الموت على النوائح

إذا قضى الله أمراً كان مفعولاً، قد كنّا نرضى من طاعة هؤلاء بدون هذا! )(٦) .

____________________

(١) روضة الواعظين ١/ ١٩١.

(٢) الملتدمة: التي تضرب صدرها في النياحة.

(٣) العقد الفريد ٥/ ١٣٢؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٧٣.

(٤) الفصول المهمّة: ١٩٥. انظر: جواهر المطالب ٢/ ٢٩٥؛ نور الأبصار: ١٣٢.

(٥) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣. وانظر: المنتظم ٥/ ٣٤٤؛ تذكرة الخواص: ٢٦٥؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٦؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٣؛ البداية والنهاية ٨/ ١٩٧؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩؛ البحار ٤٥/ ١٤٢.

(٦) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٩. وانظر: تذكرة الخواص: ٢٦٥. حيث يقول: لما دخلت نساء الحسين على

٢٤٧

نعم، روى القاضي نعمان ما يُغاير ما ذكرناه مبدئيّاً، فإنّه روى عن علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال:( وأمر بالنسوة فأُدخلن إلى نسائه، ثمّ أمر برأس الحسين عليه‌السلام ، فرُفع على سنّ القناة، فلما رأين ذلك نساؤه أعولن، فدخل - اللعين - يزيد على

____________________

نساء يزيد قلن: وا حسيناه! فسمعهنّ يزيد فقال: يا صيحة...

أقول: إنّ إحالة الأمر إلى القضاء والقدر - من دون استيعاب معناه - كان من دأب بني أُميّة وأنصارهم، ومن هذا المنطلق ترويج الفكر الجبري أمام الاختيار؛ وذلك لأجل تبرئة أنفسهم عمّا ارتكبوا! وتخدير عقول الناس.

يقول العلاّمة الحجّة آية الله السبحاني - دام ظلّه - في كتاب (أبحاث في المِلل والنحل) ١/ ٢٣٣: لقد اتّخذ الأُمويّون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيئة، وكانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتّى ضروب العَبث والفساد إلى القدر، قال أبو هلال العسكري (في الأوائل ٢/ ١٢٥): إنّ معاوية أوّل مَن زعم أنّ الله يريد أفعال العباد كلّها.

ولأجل ذلك؛ لما سألت أُمُّ المؤمنين عائشة معاوية عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين، فأجابها: إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء! وليس للعباد الخِيَرة من أمرهم. الإمامة والسياسة ١/ ١٦٧، وبهذا أيضاً أجاب معاوية عبد الله بن عمر، عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه... وقد كانت الحكومة الأُمويّة الجائرة مُتحمّسة على تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي، وكانت تواجه المخالف بالشتم والضرب والإبعاد.

قال الدكتور أحمد محمود الصبحي ( في كتابه نظرية الإمامة: ٣٣٤ ): ( إنّ معاوية لم يكن يدعم مُلكه بالقوّة فحسب، ولكن بآيديولوجية تمسُّ العقيدة في الصميم، ولقد كان يُعلن في الناس أنّ الخلافة بينه وبين عليّعليه‌السلام قد احتكما فيها إلى الله، فقضى الله له على عليّعليه‌السلام ، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء، ليس للعباد خِيَرة في أمرهم، وهكذا كاد أن يستقرَّ في أذهان المسلمين أنّ كلّ ما يأمر الخليفة حتّى ولو كانت طاعة الله في خلافه، فهو قضاء من الله قد قُدِّر على العباد ).

وقد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأُمويّين، من الذين كانوا في خدمة خلفائهم وأُمرائهم، فهذا عمر بن سعد بن أبي وقّاص قاتل الإمام الشهيد الحسينعليه‌السلام لما اعترض عليه عبد الله بن مطيع العدوي بقوله: ( اخترت هَمَدَان والرَّيَّ على قتل ابن عمّك؟! ). يُجيبه بالقول: ( كانت أُموراً قُضيت من السماء، وقد أعذرت إلى ابن عمّي قبل الوقعة فأبى إلاّ ما أبى ) (طبقات ابن سعد ٥/ ١٤٨).

٢٤٨

نسائه فقال: ما لَكُنَّ لا تبكين مع بنات عمِّكُنَّ. وأمرهن أن يُعْوِلن معهنّ تمرّداً على الله عزّ وجلّ واستهزاءً بأولياء الله عليهم‌السلام .

ثمّ قال:

نُـفلِّق هـاماً من رجال أعزَّة

عـلينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

صبرنا وكان الصبر منّا سجيّة

بأسيافنا يفرين هاماً ومعصما

وجعل يستفرِه الطرب والسرور، والنسوة يبكين ويندبن، ونساؤه يُعولن معهنّ وهو يقول :

شـجيٌّ بكى شجوة فاجعاً

قـتيلاً وباكٍ على مَن قُتل

فـلم أرَ كـاليوم في مأتم

كان الظُّبا به والنفل )(١)

٢ - موقف زوجة يزيد:

روى الطبري، بإسناده عن القاسم بن بخيت قال: ( ودخلوا على يزيد، فوضعوا الرأس بين يديه، وحدّثوه الحديث، قال: فسمعت دَوْرَ الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كُرَيز - وكانت تحت يزيد بن معاوية - فتقنّعت بثوبها وخرجت، فقالت: يا أمير المؤمنين، أرأسُ الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟!

قال: نعم، فأعْوِلي عليه، وحُدّي على ابن بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد، فقتله قتله الله(٢) ).

ولكنَّ الخوارزمي نقله بعد أحداث ورود أهل بيت الحسين بيت يزيد، قال:

____________________

(١) شرح الأخبار ٣/ ١٥٨. والشجي الهيم. والنَّفل: المغنم، فشبّه اللعين نساءه بالظُّبى، وجعل نساء الحسينعليه‌السلام مغنماً.

(٢) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٥؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٤؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٣.

٢٤٩

(وخرجت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز امرأة يزيد - وكانت قبل ذلك تحت الحسين بن عليّعليهما‌السلام - فشقّت الستر وهي حاسرة، فوثبت على يزيد وقالت: أرأس ابن فاطمة مصلوب على باب داري؟! فغطّاها يزيد، وقال: نعم! فأعْوِلي عليه يا هند، وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله! )(١) .

وصُرِّح في رواية السيّد محمّد بن أبي طالب(٢) والعلاّمة المجلسي(٣) ، أنّها شقّت الستر وهي حاسرة، فوثبت إلى يزيد وهو في مجلس عام فغطّاها.

فبناءً عليه، فهي خرجت إلى مجلس يزيد بعد ورود أهل بيت الحسين إلى بيتها.

قال ابن سعد: ( وبكت أُمّ كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز على الحسين، وهي يومئذٍ عند يزيد بن معاوية، فقال يزيد: حقّ لها أن تُعْوِل على كبير قريش وسيّدها )(٤) .

رؤيا زوجة يزيد!

قال العلاّمة المجلسي: روي في بعض مؤلّفات أصحابنا... قال:

( ونُقل عن هند زوجة يزيد قالت: كنت أخذت مضجعي، فرأيت باباً من السماء وقد فُتحت، والملائكة ينزلون - كتائب كتائب - إلى رأس الحسين وهم يقولون: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بن رسول الله.

فبينما أنا

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٣.

(٢) تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩.

(٣) بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٢.

(٤) الطبقات الكبرى: ٨٣؛ روي في سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٣؛ مرآة الزمان: ١٠٠ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٩).

٢٥٠

كذلك إذ نظرت إلى سحابة قد نزلت من السماء وفيها رجال كثيرون، وفيهم رجل دُرِّيّ اللون، قمريّ الوجه، فأقبل يسعى حتّى انكبّ على ثنايا الحسين يُقبّلهما وهو يقول: يا ولدي، قتلوك! أتراهم ما عرفوك؟! ومن شرب الماء منعوك! يا ولدي، أنا جدّك رسول الله، وهذا أبوك عليّ المرتضى، وهذا أخوك الحسن، وهذا عمّك جعفر، وهذا عقيل، وهذان حمزة والعبّاس، ثمّ جعل يُعدّد أهل بيته واحداً بعد واحد.

قالت هند: فانتبهت من نومي فزعةً مرعوبةً، وإذا بنور قد انتشر على رأس الحسين، فجعلت أطلب يزيد وهو قد دخل إلى بيت مُظلم، وقد دار وجهه إلى الحائط وهو يقول: ما لي وللحسين؟! وقد وقعت عليه الهمومات، فقصصت عليه المنام وهو مُنكّس الرأس )(١) .

إقامة عزاء الحسينعليه‌السلام في بيت الطاغية!

إنّ أهل بيت الحسينعليه‌السلام بدّلوا بيت يزيد إلى موضع إقامة العزاء والمأتم على الحسينعليه‌السلام ، حيث صرَّح بعض المؤرِّخين بقوله: ( وأقمن المأتم )(٢) ، وذلك بعد ورودهنّ بيت يزيد.

وصرّح بعض آخر بأنّهنّ أقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيّام(٣) .

وانقلب الأمر على اللعين يزيد بن معاوية، حتّى التجأ هو لإقامة المأتم على

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٦. وانظر: نور الأبصار: ١٣٥، فقد ذكر الرؤيا بتفصيل.

(٢) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٥؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٦؛ تذكرة الخواص: ٢٦٥؛ روضة الواعظين ١/ ١٩١؛ جواهر المطالب ٢/ ٢٩٥.

(٣) تاريخ الطبري ٤/ ٣٥٣؛ الكامل في التاريخ ٤/ ٨٧؛ مقتل الخوارزمي ٢/ ٧٣؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٩؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٢.

٢٥١

الحسينعليه‌السلام ثلاثاً!!

قال ابن سعد: (وأمر - يزيد - نساء آل أبي سفيان، فأقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيّام، فما بقيت منهنّ امرأة إلاّ تلقّتنا تبكي وتنتحب، ونُحنَ على حسين ثلاثة )(١) .

وقال البلاذري: ( وصيَّحَ نساء من نساء يزيد بن معاوية، وولولن حين أُدخل نساء الحسين عليهنّ، وأقمن على الحسين مأتماً، ويقال: إنّ يزيد أذِن لهنّ في ذلك )(٢) .

وقال السيّد ابن طاووس: ( ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسينعليه‌السلام وتُنادي: يا حبيباه! يا سيّداه! يا سيّد أهل بيتاه! يا بن محمّداه! يا ربيع الأرامل واليتامى! يا قتيل أولاد الأدعياء!

قال الراوي: فأبكت كلّ مَن سمعها )(٣) .

والمستفاد من بعض النصوص: أنّ مأتم الحسين استمرّ أكثر من ذلك - ولعلّ التحديد بثلاثة أيّام راجع إلى ما أمره يزيد بإقامة المأتم، مثل ما رواه العلاّمة المجلسي (رحمه الله) عن بعض مؤلّفات أصحابنا، فإنّه بعدما نقل رؤيا زوجة يزيد قال: ( فلما أصبح [يزيد] استدعى حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهنّ: أيُّما أحبّ إليكنَّ، المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة؟ ولكم الجائزة السَّنْيَّة!

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ٨٣. وروي نحوه في تذكرة الخواص: ٢٦٢؛ مرآة الزمان: ١٠٠ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٩) وفيه: قالت سكينة: فما تلقّتنا (ظ) منهنّ امرأة إلاّ وهي تبكي وتنتحب؛ وسير أعلام النبلاء ٣/ ٣٠٣.

(٢) أنساب الأشراف ٣/ ٤١٧.

(٣) الملهوف: ٢١٣. ورواه السيّد محمّد بن أبي طالب (تسلية المجالس ٢/ ٣٨٤).

٢٥٢

قالوا: نُحبُّ أوّلاً أن ننوح على الحسين.

قال: افعلوا ما بدا لكم.

ثمّ أُخليت لهنّ الحجر والبيوت في دمشق، ولم تبقَ هاشميّة ولا قرشيّة إلاّ ولبست السواد على الحسين، وندبوه - على ما نُقل - سبعة أيّام... )(١) .

بل لابدّ أن يُقال: إنّ العزاء والنوح على الحسينعليه‌السلام استمرّ طيلة مقامهم في دمشق؛ لأنّه لم تكن مُجرّد سكب الدموع وجريانها، بل هي رسالة دم الحسين الذي هزّ أركان سلطة يزيد، بل طريق زوال كلّ ظالم مشى على نهج يزيد.

قال ابن أعثم: ( وأقاموا أيّاماً يبكون وينوحون على الحسين (رضي الله عنه) )(٢) .

وقال ابن نما: ( وكانت النساء مدّة مقامهنّ بدمشق يَنُحْنَ عليه بشجوٍ وأنّةٍ، وينْدُبْن بعويلٍ ورنَّة، ومصاب الأسرى عظم خطبه، والأسى لكم الثكلى عالٍ طبه )(٣) .

وقال السيّد ابن طاووس: (وكانوا مدّة مقامهم في البلد المشار إليه ينوحون على الحسينعليه‌السلام )(٤) .

يزيد يبكي تصنّعاً!!

وآل الأمر إلى أن يُظهر يزيد البكاء أمام الناس تصنّعاً ورياءً، حتّى إنّ ابن قتيبة قال: (فبكى يزيد حتّى كادت نفسه تفيض! وبكى أهل الشام حتّى علت أصواتهم )(٥) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ١٩٦.

(٢) الفتوح ٢/ ١٨٥.

(٣) مُثير الأحزان: ١٠٢.

(٤) الملهوف: ٢١٩.

(٥) الإمامة والسياسة ٢/ ٨.

٢٥٣

ولقد بالغ ابن قتيبة فيما رواه، فما ذكره فهو راجع إمّا إلى حُسْن تصنُّعه! أو ناشٍ عن مدى نصرة ناصريه في الرواية، حشرهم الله معه.

يزيد يأمر بتقديم بعض الخدمات!!

إنّ خوف زوال الملك وحصول الفتن أوجب على يزيد أن يُغيّر معاملته مع أهل البيتعليهم‌السلام ، فلقد ذكرنا في توصيف سكنى أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم أُسكنوا داراً لا يُكنّهم من حرٍّ ولا برد، حتّى أُقْشِرَت وجوههم(١) ، ولكن انظروا إلى ما فعله بعد ذلك.

قال ابن قتيبة: ثمّ قال - يزيد بعد بكائه التصنّعي -: ( خلّوا عنهم، واذهبوا بهم إلى الحمّام، واغسلوهم، واضربوا عليهم القباب ).

ففعلوا، وأمال عليهم المطبخ وكساهم، وأخرج لهم الجوائز الكثيرة من الأموال والكسوة(٢) .

ولكن مع ذلك لم نستبعد وقوع شيء من الكذب في تقديم هذه الخدمات الواهية، فالظنّ الغالب أنّها من أكاذيب أنصار بني أُميّة خذلهم الله.

يزيد يُظهر الندامة ويلعن ابن مرجانة!!

واضطرّ يزيد إلى أن يُظهر الندامة على ما ارتكبه في شأن قتل سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام وأصحابه الكرام الأوفياء، وبادر بلعن عامله على الكوفة عبيد الله بن زياد؛ وذلك نتيجة لعدّة أُمور:

١ - الاستنكار الشعبي العام؛ بحيث بلغه بُغض الناس له ولعنهم وسبّهم

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٢٣١؛ مجلس ٣١؛ ح٢٤٣؛ شرح الأخبار ٣/ ٢٦٩؛ مُثير الأحزان: ١٠٢؛ الملهوف: ٢١٩؛ روضة الواعظين ١/ ١٩٢؛ تسلية المجالس ٢/ ٣٩٦؛ بحار الأنوار ٤٥/ ١٤٠.

(٢) الإمامة والسياسة ٢/ ٨.

٢٥٤

إيّاه، وهذا الاستنكار شمل المسلمين كافّة، حيث صرّح يزيد هو نفسه قائل: ( لعن الله ابن مرجانة! لقد بغّضني إلى المسلمين! وزرع لي في قلوبهم البغضاء )(١) ، ( لعن الله ابن مرجانة!.. لقد زرع لي ابن زياد في قلب البرّ والفاجر، والصالح والطالح العداوة! )(٢) .

وقال جلال الدِّين السيوطي: ( ولما قُتِل الحسين وبنو أبيه، بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد، فسُرَّ بقتلهم أوّلاً، ثمّ ندم لما مقته المسلمون على ذلك، وأبغضه الناس، وحقّ لهم أن يُبغضوه )(٣) .

وقال الشيخ الصبّان: ( ثمّ ندم لما مقته المسلمون على ذلك وأبغضه العالم )(٤) .

٢ - الاستنكار الخاصّ وذلك في:

أ) وجوه أهل الشام: قال سبط ابن الجوزي: ( ولما فعل يزيد برأس الحسين ما فعل، تغيّرت وجوه أهل الشام، وأنكروا عليه ما فعل )(٥) .

ب) عسكر يزيد: روى ابن الجوزي عن مجاهد - بعد ذكر تمثّل يزيد بأشعار ابن الزبعرى: (نافق فيها، ثمّ - والله - ما بقي في عسكره أحد إلاّ تركه، أي عابه وذمّه )(٦) .

ج) استنكار بيت يزيد: وقد ذكرناه تفصيلاً آنفاً.

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٦٥.

(٢) المصدر السابق: ٢٦١.

(٣) تاريخ الخلفاء: ١٦٦.

(٤) إسعاف الراغبين: ١٨٨.

(٥) مرآة الزمان: ١٠٠ (على ما في عبرات المصطفين ٢/ ٢٨٤).

(٦) الردّ على المتعصّب العنيد: ٤٧. وروى نحوه البداية والنهاية ٨/ ١٩٢.

٢٥٥

فظهر أنّ تظاهر يزيد بالندامة، ولعنه ابن مرجانة ما كان إلاّ خوفاً على زوال مُلكه وفناء نفسه الخبيثة، ولم يكن إلاّ عن مكر وخُدعة، وكذب وزور.

هذا هو لُبّ الواقع، وأمّا الظاهر فهناك بعض الروايات تُعالج جانباً من هذا الموضوع، ومع ذلك فيها أمور مُنكرة مدسوسة من قِبل مُحبّي بني أُميّة، ولابدّ من الانتباه لها.

قال ابن الأثير: ( وقيل: ولما وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده، وزاده ووصله وسرّه ما فعل، ثمّ لم يلبث إلاّ يسيراً حتّى بلغه بُغض الناس له ولعنهم وسبّهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما عليَّ لو احتملت الأذى، وأنزلت الحسين معي في داري، وحكّمته فيما يريد وإن كان عليَّ في ذلك وهن في سلطاني؛ حفظاً لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم)، ورعايةً لحقّه وقرابته! لعن الله ابن مرجانة! فإنّه اضطرّه، وقد سأله أن يضع يده في يدي، أو يلحق بثغر حتى يتوفّاه الله، فلم يُجبه إلى ذلك فقتله، فبغّضني بقتله إلى المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فأبغضني البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ما لي ولابن مرجانة؟! لعنه الله وغضب عليه! )(١) .

تأمُّل وملاحظات:

١ - اعتراف يزيد بأنّ ندامته ناشئة عن بُغض المسلمين وعداوتهم له، بعد قتله الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإلاّ فلِمَ الفرح والسرور أوّلاً ثمّ حصول الندامة بعده؟!

٢ - وأمّا قوله: ( وحكّمته فيما يريد وإن كان عليَّ في ذلك وهن في سلطاني )، ففي الحقيقة كان الإمام يرى عدم شرعيّة سلطته، وقد صرّح بقولهعليه‌السلام :( الخلافة

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٤/ ٨٧. وروي نحوه تذكرة الخواص: ٢٦٥؛ سير أعلام النبلاء ٣/ ٣٧؛ تاريخ الإسلام: ٢٠، عن محمّد بن جرير عن يونس بن حبيب.

٢٥٦

مُحرّمة على آل أبي سفيان ) (١) .

فالمطلوب عند الإمام قلع أساس حُكمه وسلطته؛ فحينئذٍ لا يبقى من مُلكه شيء وإن كان موهناً.

٣ - وأمّا قوله: (وقد سأله أن يضع يده في يدي) فهو أيضاً إمّا من أكاذيب يزيد نفسه التي ليست بقليلة، أو من مُفتعلات أعوانه؛ لأنّ الإمام الشهيدعليه‌السلام هو الذي أدلى بموقفه الصامد بقوله:( لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرّ لكم إقرار العبيد ) (٢) ، وهو القائل:( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد تركني بين السلّة والذلّة، وهيهات له ذلك منّي، هيهات منّا الذلّة... ) (٣) .

٤ - وأمّا لعنه ابن مرجانة، فعلى فرض صحّته لا يكون إلاّ صوريّاً؛ لما قد ذكرنا أنّه هو الذي استدعاه وشكر له وشرب معه الخمر بعد مقتل الحسينعليه‌السلام (٤) ، وكذا الجواب فيما قيل: بأنّه غضب على ابن زياد ونوى قتله!(٥) .

والدليل على ذلك؛ بأنّه لم يفعل أيّ شيء بعد ذلك إلاّ الشكر له!

ومن هذا القبيل ما رواه سبط ابن الجوزي عن الواقدي أنّه قال: ( فلما حضرت الرؤوس عنده قال: فرّقت سميّة بيني وبين أبي عبد الله وانقطع الرحم! لو كنت صاحبه لعفوت عنه! ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، رحمك الله يا حسين! لقد قتلك رجل لم يعرف حقّ الأرحام! )(٦) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥/ ٣٢٦.

(٢) بحار الأنوار ٤٥/ ٧.

(٣) الاحتجاج ٢/ ٩٩، عنه بحار الأنوار ٤٥/ ٨٣.

(٤) راجع فصل ( قتله الحسينعليه‌السلام ورضاه ).

(٥) تذكرة الخواص: ٢٦٥ عن تاريخ ابن جرير.

(٦) تذكرة الخواص: ٢٦١.

٢٥٧

ولقد أثبتنا لك بالشواهد المتقنة، وذكر الاعترافات المتعدّدة أنّه هو الذي أمر بقتل الحسينعليه‌السلام (١) ، ولكنّ الخبيث يريد أن يتخلّى عن المسؤولية ويجعلها على عاتق فاسقٍ مثله؛ خوفاً من إثارة الناس عليه.

ومن الغريب جدّاً، أنّنا نجد أُناساً يريدون أن يُبرّئوا ساحة يزيد من هذه الجريمة النكراء، وقد لوّثوا بذلك أنفسهم، ومن هؤلاء صاحب خُطط الشام حينما يقول: ( وكانت غلطة ابن زياد في قتل الحسين وسبي آله الطاهرين ذريعة أكبر للنيل من يزيد وآل يزيد، فتقوّلوا عليه وحطّوا من كرامته! مع أنّه سار بسيرة أبيه في الملك من التوسّع في الفتوح وقتال أعداء المملكة من الروم )(٢) .

نعم، إنّه سار بسيرة أبيه، بل أسرع في السير في بُغيه وظلمه وجوره وطغيانه ووقوفه أمام الحقّ، وقتله الطاهرين من ذرّية خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذهب بنفسه إلى عذاب ربّ العالمين.

فحينئذٍ؛ لا يمكن لأحد أن يُخفي ما في ضميره باستعمال كلمة غلطة ابن زياد وما شابهها، فإنّه إن صحّ التعبير بذلك - وليس بصحيح - فليست هي إلاّ امتثال لما أمره يزيد، والتستّر خلف مسألة الفتوح لا يُغني عن الحقّ شيئاً.

ولعلّ المؤلّف جعل وقعة الحرّة ومجزرة المدينة المنوّرة، وخراب الكعبة من جملة فتوحات يزيد!

ولنختم الكلام بما ذكره السيّد محمّد بن أبي طالب، فإنّه أجاد بقوله: ( وأقول: لعن الله يزيد وأباه! وجَدّيه وأخاه! ومَن تابعه وولاّه، بينا هو ينكت ثنايا الحسين بالقضيب ويتمثّل بشعر ابن الزبعرى... وإغلاظه لزينب بنت عليّ بالكلام

____________________

(١) راجع مبحث: ( قتله الإمام الحسينعليه‌السلام ) في هذا الكتاب.

(٢) خُطط الشام ١/ ١١٣.

٢٥٨

السيّئ لما سأله الشامي.. وقوله لعليّ بن الحسينعليه‌السلام : أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي قتلهما وسفك دماءهما... ونصب رأس الحسينعليه‌السلام على باب القرية الظالم أهلها - أعني بلدة دمشق - وإيقافه ذرّية الرسول على درج المسجد كسبايا التُّرْك والخزر، ثمّ إنزاله إيّاهم في دار لا يُكنّهم من حرّ ولا قُرّ حتّى تقشّرت وجوههم وتغيّرت ألوانهم، وأمر خطيبه أن يرقى المنبر ويُخبر الناس بمساوئ أمير المؤمنين ومساوئ الحسينعليهما‌السلام وأمثال ذلك، ثمّ هو يلعن ابن زياد ويتبرّأ من فعله ويتنصّل من صُنعه! وهل فَعَل اللعين ما فعل إلاّ بأمره وتحذيره من مخالفته؟! وهل سفك اللعين دماء أهل البيت إلاّ بإرغابه وإرهابه له بقوله، ومراسلته بالكتاب الذي ولاّه فيه الكوفة، وحثّه فيه على قتله، وأمره له بإقامة الأرصاد وحفظ المسالك على الحسين، وقوله لابن زياد في كتابه، وأمره له بإقامة الأرصاد وحفظ المسالك على الحسين، وقوله لابن زياد في كتابه: إنّه قد ابتُلي زمانك بالحسين من بين الأزمان، وفي هذه الكَرَّة تُعتق أو تكون رقّاً عبداً كما تعبد العبيد، فاحبس على التُّهمة واقتل على الظنّة...؟!

وإنّما أظهر اللعين التبرّي من فعل ابن زياد لعنه الله خوفاً من الفتنة وتمويهاً على العامّة؛ لأنّ أكثر الناس في جميع الآفاق والأصقاع أنكروا فعله الشنيع وصُنعه الفضيع، ولم يكونوا راضين بفعله وما صدر عنه، خصوصاً مَن كان حيّاً من الصحابة والتابعين في زمنه، كسهل بن سعد الساعدي، والمنهال بن عمرو، والنعمان بن بشير، وأبي برزوة الأسلمي ممّن سمع ورأى إكرام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله له ولأخيه، وكذلك جميع أرباب المِلل المختلفة من اليهود والنصارى... ولم يكن أحد من المسلمين في جميع البلاد راضياً بفعله إلاّ مَن استحكم النفاق في قلبه من شيعة آل أبي سفيان، بل كان أكثر أهل بيته ونسائه وبني عمّه غير راضين بذلك )(١) .

____________________

(١) تسلية المجالس ٢/ ٤٠٠ (بتلخيص).

٢٥٩

وعد يزيد لزين العابدينعليه‌السلام :

قال ابن نما: (وعد يزيد لزين العابدينعليه‌السلام بقضاء ثلاث حاجات )(١) ، والمستفاد من نقل السيّد ابن طاووس أنّه كان بعد اعتراض الإمامعليه‌السلام لما تفوّه به الخطيب الشامي، ووعد يزيد للإمام في ذلك اليوم(٢) ، فحينئذٍ هي من إحدى نتائج الموقف الصلب الذي اتّخذه الإمامعليه‌السلام ، فقام يزيد بتقديم التنازلات، حتى آل الأمر إلى أن يفي بوعده.

قال السيّد (رحمه الله): ( وقال لعليّ بن الحسينعليه‌السلام : اذكر حاجاتك الثلاث التي وعدتك بقضائهنّ.

فقال له:

( الأُولى: أن تُريني وجه سيّدي ومولاي الحسين، فأتزوّد منه، وأنظر إليه وأُودِّعه.

والثانية: أن تردّ علينا ما أُخذ منّا.

والثالثة: إن كنت عزمت على قتلي أن توجّه مع هؤلاء النسوة مَن يردّهن إلى حرم جدّهنّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (٣) .

فقال: أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً، وأمّا قتلك فقد عفوت عنك، وأمّا النساء فلا يردّهن إلى المدينة غيرك، وأمّا ما أُخذ منكم فإنّي أُعوّضكم عنه أضعاف قيمته.

فقالعليه‌السلام : أمّا مالك فلا نُريده، وهو موفّر عليك، وإنّما طلبت ما أُخِذ منّا؛ لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد، ومقنعتها، وقلادتها، وقيمصها.

____________________

(١) مُثير الأحزان: ١٠٣.

(٢) الملهوف: ٢١٩.

(٣) روي الطلب الثالث هذا في مقاتل الطالبيّين: ١٢٠؛ الاحتجاج ٢/ ١٣٥.

٢٦٠