اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)0%

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 215

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 106498
تحميل: 7555

توضيحات:

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106498 / تحميل: 7555
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

اعلام الهداية محمد المصطفى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الباب الثالث: فيه فصول:

الفصل الأول: البعثة النبوية المباركة وإرهاصاتها.

الفصل الثاني: مراحل حركة الرسالة في العصر المكي.

الفصل الثالث: موقف بني هاشم وأبي طالب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الفصل الرابع: سنوات الانفراج حتى الهجرة.

الفصل الأول: البعثة النبوية المباركة وإرهاصاتها

تمثل نصوص القرآن الكريم أقدم النصوص التأريخية التي تتمتع بالصحة والدقة والمعاصرة لأحداث عصر الرسالة الإسلامية، والمنهج العلمي يفرض علينا أن لا نتجاوز نصوص القرآن الكريم فيما يخص عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي نزلت فيه الآيات حين بعثته واستمرت بالنزول حتى وفاته.

وإذا عرفنا أن الروايات التأريخية المتمثلة في كتب الحديث والسيرة قد تأخّر تدوينها عن عصر وقوع الحوادث أوّلاً، كما أنّها قريبة من الدس وتطرق التزوير إليها ثانياً; كان من الطبيعي والمنطقي أن نعرضها على محكمات الكتاب والسنة والعقل لنأخذ ما يوافقها ونرفض ما يخالفها.

وينبغي أن لا يغيب عنا أن النبوة سفارة ربّانية ومهمة إلهية تتعيّن من قبله سبحانه وتعالى لغرض رفد البشرية بالهداية اللازمة لها على مدى الحياة. وأن الله إنما يصطفي من عباده مَن يتمتّع بخصائص فذة تجعله قادراً على أداء المهامّ الكبرى المرادة منه وتحقيقها بالنحو اللائق.

اذن لابدّ أن يكون المرسَل من قبله تعالى مستوعباً للرسالة وأهدافها وقادراً على أداء الدور المطلوب منه على مستوى التلقيّ والتبليغ والتبيين والتطبيق والدفاع والصيانة وكل هذه المستويات من المسؤولية تتطلب العلم والبصيرة ( والمعرفة ) وسلامة النفس وصلاح الضمير والصبر والاستقامة والشجاعة والحلم والانابة والعبوديّة لله والخشية منه والإخلاص له والعصمة (والتسديد الرباني ) على طول الخط. ولم يكن خاتم المرسلين بدعاً من الرسل بل هو أكملهم وأعظمهم فهو أجمع لصفات كمالهم والله أعلم حيث يجعل رسالته.

٦١

ومن أبده القضايا ومن مقتضيات طبائع الأشياء أن يكون المرشَّح لمهمّة ربانيّة كبرى على استعداد تام لتقبّلها وتنفيذها قبل أن يتولّى تلك المهمة أو يرشّح لأدائها. إذن، لابد للنبي الخاتم أن يكون قد أحرز كل متطلّبات حمل هذه المسؤولية الإلهية وتوفّر على كل الخصائص اللازمة لتحقيق هذه المهمة الربانية قبل البعثة المباركة. وهذا هو الّذي تؤيده نصوص القرآن الكريم.

١ ـ قال تعالى:( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) .

٢ ـ وقال أيضاً: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) (٢) .

٣ ـ وقال أيضاً:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (٣) .

٤ ـ وقال أيضاً: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (٤) .

اذن مصدر الوحي هو الله العزيز الحكيم. والمرسَلون رجالٌ يُوحي اليهم الله سبحانه معالم توحيده وعبادته ويجعلهم أئمةً يهدون بأمره كما يوحي إليهم تفاصيل الشريعة من فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهم القدوة لغيرهم في العبادة والتجسيد الحي للاسلام الحقيقي لله سبحانه.

ــــــــــــ

(١) الشورى (٤٢): ٣.

(٢) يوسف (١٢) : ١٠٩.

(٣) الأنبياء (٢١) : ٢٥.

(٤) الأنبياء (٢١): ٧٣.

٦٢

وفيما يخص خاتم النبيين يقول سبحانه وتعالى :

١ ـ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ... ) (١) .

٢ ـ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (٢) .

٣ ـ( اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ) (٣) .

٤ ـ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (٤) .

٥ ـ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٥) .

إنّ الذين عاصروا الرسول الكريم قبل بعثته وحتى وفاته لم يقدّموا لنا تصويراً صحيحاً وواضحاً عن الرسول قبل بعثته بل وحين البعثة. ولعلّ أقدم

ــــــــــــ

(١ ـ ٥) الشورى (٤٢): ٧ و١٣ و١٥ و١٧ و٢٤ و٥١ و٥٢.

٦٣

النصوص وأتقنها هو ما جاء عن ربيب الرسول وابن عمه ووصيّه الذي لم يفارقه قبل بعثته وعاشره طيلة حياته، إلى جانب أمانته في النقل ودقته في تصوير هذه الشخصية الفذة. فقد قال عن الفترة التي سبقت البعثة النبوية وهو يتحدّث عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم. ليله ونهاره. ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثَر أمه. يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً. وقد كان يجاور كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري) (١) .

ويتوافق هذا النص مع قوله تعالى:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) . فقد نزل هذا النص في بداية البعثة. والخُلق ملكة نفسية متجذرة في النفس لا تستحدث خلال أيام، فوصفه بعظمة خُلُقه يكشف عن سبق اتصافه بهذه الصفة قبل البعثة المباركة.

وتتضح بجلاء بعض معالم شخصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة من خلال نص حفيده الإمام الصادقعليه‌السلام :إن الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه فلمّا أكمل له الأدب قال: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ثم فوّض إليه أمر الدين والأمة ليسوسَ عباده(٣) .

على أنّ الخلق العظيم جامع لتمام المكارم التي فسّرها النص الوارد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فكيف يراد له تتميم مكارم الأخلاق وهو لم يتصف بها بعدُ؟! إذن لابدّ من القول بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قبل البعثة قد أحرز جميع المكارم ليكون وصفه بالخلق العظيم وصفاً صحيحاً ومنطقياً.

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة: ٢٩٢.

(٢) القلم (٦٨) : ٤ .

(٣) الكافي : ١ / ٦٦ / الحديث ٤.

٦٤

فالرسول قبل بعثته كان مثال الشخصية المتّزنة المتعادلة والواعية المتكاملة والجامعة لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات وحميد الأفعال.

والنصوص القرآنية التي تشير إلى ظاهرة الوحي الرسالي وكيفية تلقي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له تصرّح بشكل لايقبل الترديد بما كان عليه الرسول من الطمأنينة والثبات والاستجابة التامة لأوامر الله تعالى ونواهيه التي كان يتلقّاها قلبه الكريم.

لاحظ ما سقناه اليك من نصوص سورة الشورى، واقرأ أيضاً ما جاء في غيرها مثل قوله تعالى:

١ ـ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) (١) .

٢ ـ( (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) (٢) .

٣ ـ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ) (٣) .

٤ ـ( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ) (٤) .

٥ ـ( قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) (٥) .

٦ ـ( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) (٦) .

ــــــــــــ

(١) النجم (٥٣) : ١ ـ ١١.

(٢) الأنعام (٦): ٥٧.

(٣) الكهف (١٨): ١١٠.

(٤) الأنبياء (٢١): ٤٥.

(٥) الأنبياء (٢١): ١٠٨.

(٦) طه (٢٠) : ١١٤.

٦٥

٧ ـ( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) (١) .

٨ ـ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (٢) .

واذا عرفت ما جاء في هذه النصوص القرآنية المباركة تستطيع أن تولّي وجهك شطر المصادر الحديثية والتأريخية لتقف على محكماتها ومتشابهاتها.

قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أنّها قالت: (أول ما بدئ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه... ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.

وليس في بداية هذا النص ما يدعو للاستغراب سوى أن عائشة لم تكن حين بدء الوحي، والنص لا يفصح أنّها عمّن استقت هذه المعلومات؟ وهي لم تروه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة. ولكن في ذيل النص ما هو مدعاة للاستغراب طبعاً.

قالت: (ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرءاً قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي فكتب بالعربيّة من الإنجيل ـ ما شاء الله أن يكتب ـ وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي! ما ترى؟ فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الذي اُنزل على موسى عليه‌السلام ، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله: (أَو َمُخرِجيّ هم؟ فقال ورقة: نعم. لم يأت رجل

ــــــــــــ

(١) سبأ (٣٤): ٥٠.

(٢) يوسف (١٢): ١٠٨.

٦٦

قط بما جئت به إلاّ عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي)(١) .

إن ورقة الذي لم يُسلِم بعد هو عارفٌ بما سيجري على النبي فضلاً عن علمه بنبوته! بينما صاحب الدعوة والرسالة نفسه لم يتضح له الامر بعد! وكأنّ ورقة هو الذي يفيض عليه الطمأنينة! والقرآن قد صرّح بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بيّنة من ربّه، كما عرفت ذلك في أكثر من آية تنصّ على أن الرسل هم مصدر الهداية للناس وهم أصحاب البيّنات وليس العكس هو الصحيح، بينما يشير هذا الحديث إلى أن ورقة هو الذي عرف رسالة النبي قبله فبعث فيه الطمأنينة.

وهذا هو الذي فتح الطريق لأهل الكتاب للغمز في رسالة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قالوا بأن نبيّكم ـ بموجب نصوصكم هذه ـ لم يطمئن إلى أنه رسول من الله إلاّ بعد تطمين ورقة المسيحي له، وقد تجرأ البعض حتى ادعى أن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسيس من القساوسة الذين ربّاهم ورقة استناداً إلى هذا النص الذي نقلته كتب الحديث وتداوله المؤرخون! وهذه ثغرة حصلت من الابتعاد عن محكمات العقل والكتاب والسنة جميعاً.

وهل يصدّق بهذا عاقل عرف المنطق القرآني وتعرّف على شخصية الأنبياء في القرآن الكريم؟ وكيف يمكن له أن يؤمن بمضمون هذا النص على أنه حقيقة; لمجرد زعم انتسابه إلى عائشة زوجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

وثمة نصّ آخر في تاريخ الطبري هو أكثر فظاعة من هذا وأدعى للريب في محتواه حيث يذكر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان نائماً وجاءه الملك وعلّمه مطلع سورة العلق.. يقول النص بعد ذلك: (وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتاباً. قال:

ــــــــــــ

(١) مسند أحمد، الحديث رقم : ٢٤٦٨١.

٦٧

ولم يكن من خلق الله أحدٌ أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر اليهما، قال: قلت: إن الأبعد ـ يعنى نفسه ـ لشاعر أو مجنون! لا تحدّث بها عني قريش أبداً! لأعمدنّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنّها فلأستريحن. قال: فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل)(١) .

إن اضطراب النبي وخوفه يبلغ به النهاية حتى يريد الانتحار بينما يريد الله اختياره للنبوة وهداية الناس ودعوتهم إلى الحق، فهل يتناسب ما في الرواية مع هذا الأفق الذي هو من الوضوح بمكان ؟ !

وهكذا نستطيع أن نعرض نصوص التاريخ على محكمات العقل والكتاب والسنّة لنخرج بنتائج واضحة تاركين ما لا يصمد أمام النقد العلمي البنّاء.

وبعد ملاحظة النصوص الصريحة من الكتاب العزيز إذا لاحظنا ما ورد في بعض مصادر الحديث والسيرة مما يرتبط باللقاء الأول للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الوحي الإلهي وما رافقه من غرائب تأباها النصوص القرآنية، جاز لنا أن نطمئن إلى تَسرّب الإسرائيليات اليها.

ويحسن بنا أن نقارن بين هذا النص الروائي وبين نص آخر ورد في بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه ) فيما يخصّ إرهاصات الوحي الرسالي وما تبعه من نتائج لوحظت على نفس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشخصيته وسلوكه.

فعن الإمام علي بن محمد الهاديعليهما‌السلام :أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا ترك التجارة إلى الشام وتصدّق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده وينظر من قلله إلى آثار رحمة الله، وإلى أنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكّر بتلك الآيات، ويعبد الله حقّ عبادته.

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٢٠١ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ط دار سويدان. بيروت .

٦٨

فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها أذن لأبواب السماء ففتحت ومحمّد ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمّد ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد وغرّته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه(١) وهزّه وقال:

يا محمد اقرأ، قال: وما اقرأ ؟ قال يا محمّد( اقرأ باسم ربّك الّذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربّك الأكرم * الّذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم ) (٢) .

ثمّ أوحى إليه ما أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ ثمّ صعد إلى العلو.

ونزل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه الحمّى والنافض وقد اشتدّ عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره ونسبتهم إيّاه إلى الجنون، وإنّه يعتريه شياطين، وكان من أوّل أمره أعقل خلق الله، وأكرم براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم، فأراد الله عزّ وجلّ أن يشرح صدره; ويشجّع قلبه، فأنطق الله الجبال والصخور والمدر، وكلّما وصل إلى شيء منها ناداه: السلام عليك يا محمّد، السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا رسول الله أبشر، فإنّ الله عزّ وجلّ قد فضّلك وجمّلك وزيّنك وأكرمك فوق الخلائق أجمعين من الأوّلين والآخرين، لا يحزنك أن تقول قريش إنّك مجنون، وعن الدين مفتون، فإنّ الفاضل من فضّله ربّ العالمين، والكريم من كرّمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقنّ صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربّك أقصى منتهى الكرامات، ويرفعك إلى أرفع الدرجات، وسوف ينعّم ويفرّح أولياءك بوصيّك عليّ بن أبي طالب، وسوف يبثّ علومك

ــــــــــــ

(١) الضبع: وسط العضد وفي المصدر: بضبعيه. وهزه: حركه.

(٢) العلق (٩٦): ١ ـ ٥.

٦٩

في العباد والبلاد بمفتاحك وباب مدينة حكمتك: علي بن أبي طالب، وسوف يقر عينك ببنتك فاطمة، وسوف يخرج منها ومن عليّ : الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، وسوف ينشر في البلاد دينك وسوف يعظّم اُجور المحبّين لك ولأخيك، وسوف يضع في يدك لواء الحمد فتضعه في يد أخيك عليّ، فيكون تحته كلّ نبيّ وصدّيق وشهيد، يكون قائدهم أجمعين إلى جنّات النعيم (١) .

وحين نقارن بين هذا النص الروائي وما سبقه مما رواه الطبري نلاحظ البون الشاسع والفرق الكبير بين الصورتين عن بداية البعثة وشخصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فبينما كانت تصوّره الرواية الاُولى : شاكّاً ومضطرباً ـ اضطراباً ناشئاً عن الجهل بحقيقة ما يجري له! ـ تصوّره الرواية الأخيرة : عالماً مطمئناً متفائلاً بمستقبل رسالته منذ بداية الطريق وهذه الصورة هي التي تنسجم مع محكمات الكتاب والسنّة والتاريخ .

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ١٨ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨ .

٧٠

الفصل الثاني: مراحل حركة الرسالة في العصر المكي

١ ـ بناء الخلية الإيمانية الأولى :

وبعد اللقاء الأوّل مع وحي النبوّة أخذت تتدرّج الآيات القرآنية بالنزول، ويبدو أنه بعد أن نزلت عليه الآيات الأولى من سورة المزمل شرع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهيّء نفسه للخطوات التالية في طريق نشر الرسالة الإسلامية وبناء المجتمع الإسلامي، وكان عليه أن يعدّ العدّة لمواجهة الصعاب الكثيرة والمشاكل المتوقّعة، وأن يُحكم خطّته وأسلوبه في العمل.

إنّ أوّل ما بدأ به هو دعوة أهل بيته. أمّا خديجة (رضي الله عنها) فكان من الطبيعي أن تصدّق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث عاشرته عمراً طويلاً ووجدت فيه منتهى السموّ الأخلاقي والطهر الروحي والتعلق بالسماء.

ولم يتكلّف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهداً في دعوة ابن عمه وربيبه علي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي كان يحمل بين جوانحه قلباً طاهراً لم تلوّثه عبادة الأصنام قطّ، فبادر إلى التصديق به فكان أوّل القوم إسلاماً(١) .

وكان اختيار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي صائباً وموفّقاً لما كان يملكه عليّ عليه‌السلام من مؤهلات الطاعة والانقياد والقوة والاندفاع في الوقت الذي كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأَمسّ الحاجة إلى الناصر والمؤازر، فكان عليعليه‌السلام يمثّل ذراع النبوة في تبليغ الرسالة منذ انطلاقتها والعين الباصرة، ولسان الدعوة الناطق بها.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية لابن هشام : ١/٢٤٥ باب ان علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه أوّل ذكر أسلم.

٧١

فأوّل من آمن عليعليه‌السلام حيث كان يرافق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خلواته في حراء ثمّ خديجة وهما أوّل من صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن كانا يوحّدان الله كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متحدّين قوى الشرك والضلالة. (١) ثم التحق بهم زيد بن حارثة فكانوا هم المجموعة الخيّرة والنواة الأولى التي انفلق منها المجتمع الإسلامي .

٢ ـ أدوار العصر المكّي :

لقد مرّ تبليغ الرّسالة الإسلامية على يدي النبيّ العظيم بثلاثة أدوار على الأقل حتى تهيّأت الظروف لتأسيس أوّل دولة إسلامية مباركة وهي كما يلي:

١ ـ دور إعداد القاعدة الأولى للرسالة الإسلامية. واصطلح البعض على هذا الدور بدور الخفاء أو دور الدعوة الخاصة.

٢ ـ دور الدعوة المحدودة بالأقربين والصراع المحدود مع الوثنية.

٣ ـ دور الصراع الشامل.

٣ ـ دور إعداد القاعدة الأولى :

تحرك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داعياً إلى الإسلام بعد أن أمره الله تعالى بالقيام والإنذار(٢) ساعياً لبناء كتلة إيمانية تكون بؤرة نور وإشعاع لهداية المجتمع واستمر الحال هكذا حوالي ثلاث سنين مسدداً بالغيب معصوماً من الزلل.

وكان التحرك الرسالي هذا محفوفاً بالمخاطر والصعوبات ولكنه كان متقناً متكاملاً.

ــــــــــــ

(١) أسد الغابة: ٤ / ١٨، حلية الأولياء: ١ / ٦٦، شرح ابن أبي الحديد: ٣ / ٢٥٦، مستدرك الحاكم: ٣ / ١١٢.

(٢) كما ورد في مطلع سورة المدّثر.

٧٢

وكان من أسلوب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه المرحلة من الدعوة أن ينوّع الاختيار من حيث الانتماء القبلي والموقع الجغرافي والعمر لأتباعه ليوضح شمولية الرسالة ويضمن لها الانتشار في المجتمع إلى أقصى ما يمكن; فاستجاب له ـ في بداية البعثة ـ المستضعفون والفقراء إذ كانت الرسالة الإسلامية منطلقاً نحو التسامي والحياة الكريمة والأمان، كما استجاب له من الأشراف من كان ذا نفس طيّبة وعقل منفتح ورغبة ففي السلوك النزيه.

ولم يتحسّس جبابرة قريش خطورة الرسالة وحسبوا أن الأمر لا يعدو تكهّنات وتأملات لها سوابق اندثرت; فلم يشدّدوا على محاربتهم للرسالة للقضاء عليها في مهدها.

وفي هذا الوقت القصير استطاع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصوغ من النفوس التي آمنت برسالته عناصر فعالة تحمل قيم الرسالة لتنطلق بها للناس، وهم أشد حرصاً على إسلامهم وأكثر يقيناً بإيمانهم مستنكرين بذلك ما كان عليه آباؤهم من شرك وخلق منحرف حتى تزايد الاستعداد لديهم لتحمل آثار الجهر بالرسالة.

ويروى أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ـ في هذه الفترة ـ كانوا إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشِعاب فصلّوا فرادى ومثنى، فبينما رجلان من المسلمين يصليان في بعض شعاب مكة اِذ ظهر عليهما رجلان من المشركين ـ كانا فاحشين ـ فناكراهما وعابا عليهما ما يصنعان ثم تضاربوا، وانصرفا(١) .

ويبدو تكرر مثل هذه المواجهة مع المشركين(٢) من هنا استعان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض الدور للتخفي لممارسة العبادة والاتصال المنتظم به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيداً

ــــــــــــ

(١) أنساب الاشراف: ١ / ١١٧، السيرة الحلبية: ١ / ٤٥٦.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٢٦٣ و ٢٨٢.

٧٣

عن أنظار قريش فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم(١) خير ملجأ للمسلمين حينئذ.

٤ ـ دور المواجهة الأولى وإنذار الأقربين:

وحين شاع خبر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية وفي الوقت الذي بلغت فيه الفئة المؤمنة المستوى الروحي الذي يؤهلها لخوض الصراع كان لابد من الانتقال إلى مرحلة الإعلان العام وأول خطواته إنذار الأقربين في مجتمع تسوده الاعتبارات القبلية فمن الأولى إنذارهم قبل إنذار الناس كافة، فكان نزول الأمر الإلهي:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (٢) ; من هنا دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشيرته الأقربين وأوضح لهم أمر الرسالة وهدفها ومستقبلها وكان فيهم من يرتجى خيره ويؤمل إيمانه. ولئن نهض أبو لهب معلناً المعاداة والكراهية فقد تبنّى أبو طالبعليه‌السلام دعم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحماية رسالته.

وقد روي أنّه ما إن نزلت الآية المباركة أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً بإعداد وليمة ثمّ دعا عشيرته وكانوا أربعين رجلاً، وما إن تأهب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحديث حتى قاطعه عمه عبد العُزّى ـ المعروف بأبي لهب ـ وحذّره من الاستمرار في التبليغ والإنذار، وحال دون تحقيق هدف الرسول فانفضّ المجلس. ولمّا كان من غد جدّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره لعلي ودعوته لعشيرته وبعد أن فرغوا من الطعام بادرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: (يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله عَزَّ وجَلَّ أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟) فسكتوا جميعاً إلاّ علي بن أبي طالب إذ نهض قائلاً: (أنا يا رسول الله أكون

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ١ / ٢٨٣، اُسد الغابة: ٤ / ٤٤.

(٢) الشعراء (٢٦) : ٢١٤.

٧٤

وزيرك على ما بعثك الله) . فأمره رسول الله بالجلوس، وكرر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته; فلم يجبه غير علىعليه‌السلام ملبياً الدعوة معلناً المؤازرة والنصرة. وعندها التفت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحاضرين من عشيرته وقال:(إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم (أوعليكم )فاسمعوا له وأطيعوا) . فنهض القوم من مجلسهم وهم يخاطبون أبا طالب ساخرين: (قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع)(١) .

٥ ـ دور المواجهة الشاملة

ورغم احتياطات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة السابقة وتجنّبه الدخول في مواجهة مباشرة له أو لأحد من المسلمين مع قوى الشرك والوثنية فإنه كان يتعرّض خلالها للنقد واللوم اللاذع له ولبقيّة المسلمين.

وكان لدعوة بني هاشم إلى الدين الجديد الأثر البالغ والذكر الشائع في أوساط القبائل العربية فقد تبين لهم صدق وجدّية النبوة التي أعلنها محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمن بها من آمن.

وبانقضاء السنوات الثلاث ـ أو الخمس ـ من بداية الدعوة نزل الأمر الإلهي بالصدع بالرسالة الإلهية والإنذار العام ليخرج الأمر عن الاتصال الفردي الذي كان يتمّ بعيداً عن الأنظار، فيدعو الجميع إلى رسالة الإسلام والايمان بالله الواحد الأحد، وقد وعد الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتسديد خُطاه في مواجهة المستهزئين والمعاندين في قوله تعالى:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) (٢) .

فتحرك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادعاً بأمر الله بثقة مطلقة وعزيمة راسخة متحدياً

ــــــــــــ

(١) روي هذا الحديث في مصادر عديدة وبألفاظ متقاربة في: تاريخ الطبري: ٢ / ٤٠٤، السيرة الحلبية: ١ / ٤٦٠، شرح نهج البلاغة: ١٣ / ٢١٠ وراجع أيضاً : حياة محمد: ١٠٤، لمحمد حسين هيكل، الطبعة الأولى.

(٢) الحجر (١٥): ٩٤ ـ ٩٥.

٧٥

كل قوى الشر والشرك، وقام على الصفا ونادى قريشاً من كل ناحية فأقبلوا نحوه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني؟) قالوا: بلى، قال:(فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) . فنهض أبو لهب ليرد على رسول الله فقال: تباً لك! سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا؟! ـ فأنزل الله تعالى:( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) (١) .

لقد كان هذا إنذاراً صارخاً أفزع قريشاً إذ أصبح تهديداً علنياً لكل معتقداتهم وتحذيراً من عاقبة مخالفتهم لأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتضح أمر الدين الجديد لأهل مكة بل كل أطراف الجزيرة إذ أدركوا أنّ انقلاباً حقيقياً سيحلّ بمسيرة البشرية ويرفع من شأنها في القيم والثقافة والمعايير والمواقع الاجتماعية وفق تعاليم السماء وينسف الشر من جذوره فكانت المواجهة مع قادة الشرك والطغيان مواجهة حقيقية لا يمكن أن تنتهي إلى نقاط وفاق.

وخلال هذه الفترة دخل في الإسلام عدد من العرب وغير العرب حتى بلغوا أربعين رجلاً، ولم تتمكن قريش من تحطيم هذه النهضة الفتية إذن المؤمنين ينتمون إلى قبائل شتى، من هنا توسّلت قريش بالمواجهة السلميّة ابتداءً.

ولكن أبا طالب ردّهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

ــــــــــــ

(١) المناقب: ١ / ٤٦، تاريخ الطبري: ٢ / ٤٠٣.

(٢) سيرة ابن هشام: ١ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥، تأريخ الطبري: ٢ / ٤٠٦.

٧٦

الفصل الثالث: موقف بني هاشم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١ ـ دفاع أبي طالب عن الرسول والرسالة :

لم ينثن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الاستمرار في نشر الرسالة الإسلامية بل اتسع نشاطه وكثرت تحركاته وتحركات أتباعه المؤمنين به وازدادت جاذبية الدين الجديد في نظر الناس، وقد بدت قريش تظهر غيظها وتسعى لتجد السبل لإيقاف هذا المدّ الجديد (الإسلام)، والقضاء عليه فعاودت مساعيها عند أبي طالب مرّة أخرى باذلة مغرياتها تارة لإقناع الرسول بالعدول عن دعوته والتراجع عن دينه وتارة أخرى بالتهديد والوعيد فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.

ومن جهته أدرك زعيم بني هاشم قرار قريش الصارم وعدم تورعها عن سلوك كل السبل للقضاء على ابن أخيه ورسالته الفتية فحاول تهدئة الموقف مرة ثانية وتسكين غضب قريش حتى يعالج الموقف مع ابن اخيه ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصرّ على مواصلة تبليغه للرسالة الإسلامية تنفيذاً لأوامر الله مهما كانت الظروف والنتائج فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) ، ثم اغرورقت عيناه الشريفتان بالدموع وقام ليذهب فتأثر أبو طالب لذلك وهو يعلم صدق ابن أخيه ويؤمن به فقال له: إذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.

٧٧

ولم تفتر قريش عن غيّها فمشت مرة أخرى إلى أبي طالبعليه‌السلام تطمعه بخذلان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتعطيه أجمل فتيان مكة بدل ابن أخيه ليسلّمه أبو طالب إليهم فقالوا له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي فرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل برجل، فردّهم أبوطالب مستاء من هذه المساومة الظالمة فقال: هذا والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني إبنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبداً. فقال المطعم ابن عدي بن نوفل: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فأجابه أبو طالب قائلاً : والله ما أنصفوني ولكنّك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك(١) .

وبذا أيقنت قريش بأنّه لا سبيل لهم لإرضاء أبي طالب بخذلان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسارع أبو طالب لاتخاذ تدابير احترازية ليضمن سلامة ابن أخيه واستمراره في نشر رسالته حين وجد الشرّ في نفوس قريش، فدعى بني هاشم وبني عبد المطلب لمنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظه والقيام دونه، فاستجابوا له سوى أبي لهب، وأَكْبَرَ أبو طالب موقف بني هاشم فشجعهم وأثار فيهم العزيمة على الاستمرار في حماية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري: ٢ / ٤٠٩، السيرة النبوية: ١ / ٢٨٦.

(٢) تاريخ الطبري: ٢ / ٤١٠ ، السيرة النبوية: ١ / ٢٦٩.

٧٨

٢ ـ موقف قريش من الرسالة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

نزلت آيات كثيرة من القرآن الكريم خلال أربع سنوات من حركة الرسالة تضمنت بيان عظمة التوحيد والدعوة إليه والإعجاز البلاغي والإنذار والوعيد لمخالفيه فتناقلتها الألسن وحوتها قلوب المؤمنين وانجذب إليها القاصي والداني لاستماعها واستيعابها.

ولما كان للبلاغة أكبر الأثر في النفوس قررت قريش وهي تحاول احتواء حركة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوسائل متعددة أن تمنع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاتصال بالجماهير وعرض دعوته عليهم أن لا يستمع القادم إلى مكة لما نزل من آيات القرآن، بعد أن فشلت في محاولة إغراء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالملك والسلطان عليهم والأموال الطائلة والشرف والسؤدد. ثم أردفوا ذلك بتشكيكهم في صحة دعوته; زاعمين أن الذي يعتري النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو حالة مرضية يسعون لعلاجها، فأجابهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جواباً فيه كل الخير والشرف والنجاة لهم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :كلمة واحدة تقولونها تدين لكم بها العرب وتؤدي إليكم بها العجم الجزية ... ففزعوا لكلمته وحسبوا أنها نهاية المطاف فقالوا: نعم وأبيك عشراً... قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا إله إلا الله فكان الردّ مفاجئة قوية خذلتهم فقاموا مستكبرين وهم يردّدون: ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (١) .

وعندها قرروا أن يلجأوا إلى الإهانة والسخرية من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتباعه الذين بدأوا يتزايدون كل يوم وتتعمق دعوته المباركة في النفوس فكان من أفعالهم قيام أبي لهب وزوجته أم جميل بطرح الشوك على باب بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ١ / ٣٠٣، تاريخ الطبري: ٢ / ٤٠٩.

٧٩

اذ كان بيته يجاورهم(١) . وأخذ أبو جهل يتعرض للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيؤذيه بقوله الفاحش ولكن الله كان للظالمين بالمرصاد إذ ما كان من حمزة عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين علم بذلك إلاّ أن ردّ على أبي جهل إهانته أمام الملأ من قريش معلناً إسلامه وتحدّيه لجمعهم أن يردّوا عليه أو أن يتعرضوا ثانية للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

٣ ـ الكفر يأبى الانصياع لصوت العقل :

تصورت قريش أنها بدهائها تستطيع أن تثني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن رسالته، وقد بان لها استجابة الناس لدعوته المباركة. من هنا اقترح عتبة بن ربيعة ـ حين اجتمعت وجوه قريش ـ أن يذهب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحدّثه كي يكفّ عن دعوته، فمشى إليه والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس ـ وحده ـ في المسجد، وامتدح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومكانته في قريش وعرض عليه عروضه والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينصت مستمعاً فقال: يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَ ئِيّاً تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه... ولما أتم كلامه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :فاسمع مني ثم تلا قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ *وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) (٣) واستمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ الآيات الكريمة فانبهر عتبة لما سمع وألقى يديه خلف

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٣٨٠.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٣١٣، تاريخ الطبري: ٢ / ٤١٦.

(٣) فصلت (٤١): ١ ـ ٥ .

٨٠