اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)25%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177549 / تحميل: 8955
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وجيء به إلى أبي بكر ، فصاحوا به بعنف : بايع أبا بكر ، فأجابهم الإمام بمنطق الواثق الجريء الشجاع :( أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منكم فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة ؟ وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون ) (١) .

وبهذا الموقف الصريح أوضح الإمام الحقيقة من الحجّة السياسية التي اتّخذوها ذريعة للوصول إلى الحكم ، فلم يكن لهم بدّ من التسليم أو الردّ بما تحويه أفكارهم وتضمره نفوسهم ، فثار ابن الخطّاب بعد أن أعوزته الحجّة في الردّ على الإمام ، فسلك طريق العنف قائلاً له : إنّك لست متروكاً حتى تبايع ، فزجره الإمام قائلاً :( احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم يردده عليك غداً ، والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه ) (٢) .

هنا كشف الإمامعليه‌السلام عن سرّ اندفاعات عمر وحماسه من أجل البيعة ، فإنّ موقفه هذا من أجل أن ترجع إليه الخلافة وشؤون الملك بعد أبي بكر .

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث في غير ما يحب ، وخشي من عواقب غضب الإمام فقال له : إن لم تبايع فلا أكرهك ، ثمّ تكلّم أبو عبيدة بن الجرّاح محاولاً تهدئة الإمام عليّعليه‌السلام وكسب ودّه ، فقال : يا ابن عم ! إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٢٨ .

(٢) أنساب الأشراف : ١ / ٥٨٧ ، وشرح نهج البلاغة : ٢ / ٢ ـ ٥.

١٢١

واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق من فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك(١) .

إنّ هذه التصريحات السياسية غايتها تضليل الآراء وتسويف المواقف ، وهي لم تكن لتنطلي على وعي الإمامعليه‌السلام بل أثارت في نفسه الألم والاستياء من بوادر الانحراف ، فاندفع يخاطب القوم في محاولة لتنبيههم بخطئهم ، فقال :( الله الله يا معشر المهاجرين ! لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به ، لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعيّة ، الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بُعداً ) (٢) .

وروي : أنّ الزهراءعليها‌السلام خرجت خلف أمير المؤمنين من أجل الدفاع عن الإمامعليه‌السلام لأنّها خشيت أن يكون القوم قد أعدّوا السوء لإيقاعه بالإمام ، وقد أخذت بيد ولديها الحسن والحسينعليهما‌السلام وما بقيت هاشمية إلاّ وخرجت معها ، فوصلت مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدّدت القوم بالدعاء عليهم إن لم يتركوا الإمام فقالتعليها‌السلام :( خلّوا عن ابن عمّي ، خلّوا عن بعلي ، والله لأنشرنّ شعري ولأضعنّ قميص أبي على رأسي ولأدعونّ عليكم ، فما ناقة صالح بأكرم على الله منّي ، ولا فصيلها بأكرم على الله من ولدي ) (٣) .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢ ـ ٥ و ١ / ١٣٤ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٢٨ .

(٣) الإحتجاج للطبرسي : ١ / ٢٢٢ .

١٢٢

الإمام عليّعليه‌السلام ومضاعفات السقيفة :

إذا كانت مواقف الإمام عليّعليه‌السلام كلّها رائعة ؛ فموقفه من الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أكثرها روعةً ، فالعقيدة الإلهية تريد في كلّ زمان بَطَلاً يفتديها بنفسه ونفيسه ويعزّز به المبدأ ، وهذا هو الذي بعث بعليّ إلى فراش الموت ، وبالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مدينة النجاة يوم الهجرة ، ولم يكن ليتهيّأ للإمامعليه‌السلام في محنته بعد وفاة أخيه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضحّي لها كلا ولديه الحسن والحسين ؛ لأنه لو ضحّى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة إلى مجراها الشرعي في رأيه ؛ لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه ، وسبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طفلان لا يتهيّأ لهما من الأمر ما يريد .

إنّ عليّاً الذي كان على أتمّ استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع أدوار حياته منذ ولد في الكعبة والى أن استُشْهِدَ في مسجد الكوفة ؛ قد ضحّى بموقعه الذي نصبه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنازل عن القيادة السياسية الظاهرة في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّاً عليها وحارساً لها .

وقف عليّعليه‌السلام عند مفترق طرق ، كلٌ منها حرج وكلٌ منها شديد على نفسه :

١ ـ أن يبايع أبا بكر دون ممانعة ، ويكون حاله مثل بقية المسلمين ، بل ويحافظ على وجوده ومنافعه الشخصية ومصالحه المستقبلية وينال المكانة والتكريم والاحترام لدى الجهاز الحاكم وهذا غير ممكن ، لأنّه يعني إمضاءهعليه‌السلام لبيعة أبي بكر وولايته ، وهذا مخالف لأوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومؤدٍّ إلى انحراف الخلافة والولاية والإمامة عن مسارها الأصلي ومعناها الحقيقي إلى الأبد ، وتبدّد الجهود والتضحيات التي بذلها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليعليه‌السلام من أجل إرساء قواعد الإسلام وتحكيم أصول الخلافة الشرعية ، وبالتالي انحراف التجربة الإسلامية كلّها .

٢ ـ أن يسكت وفي العين قذىً وفي الحلق شجا ، ويحاول أن يسلك سبيلاً معتدلاً يحفظ كيان الإسلام ويصون المسلمين ووجودهم وأن يجني ثماره متأخّراً .

٣ ـ أن يعلن الثورة المسلّحة على خلافة أبي بكر ، ويدعو الناس إليها ويدفعهم نحوها .

ولكن ماذا كان يترقّب للثورة من نتائج ؟ هذا ما نريد أن نتبيّنه على ضوء الظروف التأريخية لتلك الساعة العصيبة .

١٢٣

ومن المألوف أن الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة تواجههم وهم من عرفناهم حرصاً وشدّةً في أمر الخلافة ، معنى هذا أنّهم سيقابلون ويدافعون عن سلطانهم الجديد ، ومن المعقول جدّاً حينئذٍ أن يغتنم سعد ابن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اُخرى لإشباع أهوائه السياسية ، لأنّنا نعلم أنّه هدّد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال :(لا والله حتّى أرميكم بما في كنانتي وأُخضّب سنان رمحي وأضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني ولو اجتمع معكم الإنس والجنّ ما بايعتكم) (١) .

وأكبر الظنّ أنّه تهيّب الغقدام على الثورة ولم يجرؤ على أن يكون أوّل شاهر للسيف ضدّ الخلافة القائمة ، وإنّما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة إعلان الحرب ، وأخذ يترقّب تضعضع الأوضاع ليشهر سيفه بين السيوف ، فكان حريّاً به أن تثور حماسته ويزول تهيّبه ويضعف الحزب القائم في نظره إذا رأى صوتاً قويّاً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة محاولاً إجلاء المهاجرين من المدينة

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٩ ط مؤسسة الأعلمي .

١٢٤

بالسيف(١) ، كما أعلن ذلك المتكلّم عن لسانه في مجلس السقيفة .

ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتّلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان ، وما كان لهم من نفوذ في مكّة في سنواتها الجاهلية الأخيرة ، فقد كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة الإسلام والحكومة النبويّة ، وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص ابن أُمية أميرها المطاع في تلك الساعة .

وإذا تأمّلنا ما جاء في تأريخ تلك الأيام(٢) من أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا توفّي وبلغ خبره إلى مكّة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية استخفى عتاب وارتجّت المدينة وكاد أهلها يرتدّون ، فقد لا نقتنع بما يعلّل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والإيمان ، وليس مردّ ذلك التراجع إلى أنّهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما ذهب إليه بعض الباحثين ؛ لأنّ خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفّي فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأكبر الظنّ أنّ خبر الخلافة جاءهم مع خبر الوفاة ، بل تعليل القضية : أنّ الأمير الأموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتّخذته أسرته في تلك الساعة ، فاستخفى وأشاع بذلك الاضطراب حتّى إذا عرف أنّ أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى مع الحاكمين إلى نتائج تصبّ في صالح البيت الأموي ؛(٣) ظهر مرّة أخرى للناس وأعاد الأمور إلى مجاريها .

وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الأمويين كانت قائمة في ذلك الحين ، وهذا ما يفسِّر لنا القوّة التي تكمن وراء أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً على

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٩ ، قصة السقيفة ، قول الحبّاب بن المنذر : ( أمّا والله لئن شئتم لنعيدنّها جذعَة ) .

(٢) الكامل في التأريخ / لابن الأثير : ٣ / ١٢٣ وصلَ خبر وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية أميراً على مكّة .

(٣) تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ ، هدأت ثائرة أبي سفيان بعد أن ولّى الخليفة الأوّل ابنه معاوية ، فقال : وصلته رحم .

١٢٥

أبي بكر وأصحابه ، إذ قال : إنّي لأرى عجاجة لا يطفيها إلاّ الدمّ ، وقال عن عليّ والعبّاس : أما والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما(١) .

فالأمويون كانوا متأهّبين للثورة والانقلاب ، وقد عرف عليّعليه‌السلام منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعّم المعارضة ولكنّه عرف أنّهم ليسوا من الذين يعتمد على تأييدهم ، وإنّما يريدون الوصول إلى أغراضهم عن طريقه ، فرفض طلبهم ، وكان من المنتظر حينئذٍ أن يشقّوا عصا الطاعة إذا رأوا الأحزاب المسلّحة تتناحر ، ولم يطمئنّوا إلى قدرة الحاكمين على ضمان مصالحهم ، ومعنى انشقاقهم حينئذٍ إظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكّة عن المدينة .

إذاً كانت الثورة العلويّة في تلك الظروف إعلاناً لمعارضة دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتّى ، وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه المشاغبون ثمّ المنافقون .

ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعليّ بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم ، بل لتناحرت وتقاتلت مذاهب متعدّدة الأهداف والأغراض ، ويضيع بذلك الكيان الإسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب أن يلتفّ المسلمون حول قيادة موحّدة ، ويركّزوا قواهم لصدّ ما كان يترقّب أن تتمخّض عنه الظروف الدقيقة من فتن وثورات(٢) .

ومن هنا كان على الإمام عليّ أن يختار الطريق الوسط ليحقّق أكبر قدر ممكن من الأهداف الرسالية التي جعله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّاً عليها .

ومن هنا نعرف أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أعدّ للإمام عليّعليه‌السلام خطّتين أو خطّة واحدة ذات مرحلتين ، فالمرحلة الأولى هي نصبه إماماً شرعياً وخليفةً له بشكل رسمي بعد الإعلان الصريح وأخذ البيعة له من المسلمين وإتمام الحجّة على جميع من حضر وغاب عن مشهد يوم الغدير .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ .

(٢) فدك في التاريخ ، الشهيد السيد محمد الصدر : ١٠٢ ـ ١٠٥ .

١٢٦

وحين كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك القائد السياسي المحنّك الذي أثبت للتأريخ ولمن عاصره جميعاً نفاذ بصيرته وبُعد نظره وشفقته على أمته وارتباطه المستمر بعالم الغيب والعلم الإلهي الذي شاء للشريعة الإسلامية أن تكون خاتمة الشرائع وعلى أساسها ينبغي أن تتحقّق أهداف الرسالات الإلهية جميعاً فمن هنا ومن حيث علمهعليه‌السلام بمدى وعي الأُمة للرسالة الإسلامية في عصره ومدى اندماجها وذوبانها في قيم الرسالة ، وطبيعة المجتمع الذي أسلم أو استسلم لدولة الرسول بما كان يشتمل عليه من عصبيات وقيم جاهلية يصعب اجتثاثها بسرعة وبخطوات تربوية قصيرة لكلّ هذا وغيره ممّا يمكن أن يدركه المتأمّل في الظروف المحيطة بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبدولته ، يشعر المتأمّل بضرورة وجود تخطيط بعيد المدى يتكفّل تحقيق الأهداف الرسالية الكبرى على المدى البعيد بعد أن كان يستحيل أو يصعب اجتناء الثمار المرجوّة من حركة الرسالة في تلك الفترة وفي ذلك المجتمع على المدى القريب بعد ملاحظة منطق العمل التغييري بشكل خاص .

إذن كانت المرحلة الثانية بعد إعراض الأُمة أو عدم انقيادها للأطروحة النبويّة الإلهية هي الصبر والحزم والتخطيط العملي الواقعي لعمل تربوي جذري في ظلّ الدولة الإسلامية الفتيّة ، ريثما تُهيَّأ الظروف اللازمة لاستلام الحكم وتحقيق تلك الأطروحة ، لتتحقّق جميع الأهداف الممكنة لتطبيق هذه الشريعة الخالدة تطبيقاً صحيحاً رائعاً .

الإمام عليّعليه‌السلام ومهمّة جمع القرآن :

اتّفقت كلّ الروايات الصحيحة على أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام ما أن انتهى من تجهيز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواراته الثرى ؛ حتى اعتكف في داره منشغلاً بجمع آيات القرآن وترتيبها حسب نزولها بعد أن كانت مبعثرة في الألواح .

١٢٧

وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّعليه‌السلام :يا عليّ ! القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه ، واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، فانطلق عليّ عليه‌السلام فجمعه في ثوب أصفر (١) وجاء أيضاً أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقسم أنّه لا يضع على ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ن فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن(٢) .

كما روي أنّ عليّاًعليه‌السلام انقطع عن الناس مدّةً حتى جمع القرآن ، ثمّ خرج إليهم في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد ، فلمّا توسّطهم وضع الكتاب بينهم ثمّ قال :إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) وهذا كتاب الله وأنا العترة (٣) ، وقال لهم : لئلاّ تقولوا غداً إنّا كنّا عن هذا غافلين .

ثمّ قال : لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكُمْ إلى نصرتي ولم أذكركم حقّي ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته(٤) .

فقال له عمر : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما .

ــــــــــــ

(١) المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٤١ ، وفتح الباري : ١٠ / ٣٨٦، والإتقان للسيوطي : ١ / ٥١ .

(٢) الفهرست لابن النديم : ٣٠ .

(٣) المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٤١ .

(٤) كتاب سليم بن قيس : ٣٢ ، ط مؤسّسة البعثة .

١٢٨

ويبدو أنّ الإمام لم يكتف بجم الآيات القرآنية بل قام أيضاً بترتيبها حسب النزول ، وأشار إلى عامّه وخاصّه ومطلقه ومقيّده ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه ، كما وأشار إلى أسباب النزول وأملى ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكلّ نوعٍ مثالاً يخصّه ، وبهذا العمل الكبير استطاع الإمام أن يحافظ على أهمّ أصل من أصول الإسلام ، وأن يوجّه العقل المسلم نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن ، ليصبح المنبع الرئيسي للفكر والمصدر المباشر الذي تستمد منه الإنسانية ما تحتاجه في حياتها .

إنّ أمير المؤمنين كان جديراً بما فعل ، فإنّه قال :ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، ودعا الله عزّ وجلّ أن يعلّمني فهمها ، فما نسيت آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ ولا علماً أملاه عليّ فكتبته وما ترك شيئاً علّمه الله عز وجل من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي وما كان أو يكون من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس منه حرفاً واحداً (١) .

من مواقف الإمامعليه‌السلام في عهد أبي بكر :

قال الإمامعليه‌السلام :( فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته ، ولا أنّهم مُنَحّوهُ عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس إلى أبي بكر يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل

ــــــــــــ

(١) كفاية الطالب للكنجي : ١٩٩ ، والاتقان للسيوطي : ٢ / ١٨٧ ، وبحار الأنوار : ٩٢ / ٩٩ .

١٢٩

وزهق واطمأن الدين وتنهنه )(١) .

كلّ الأحداث التي جرت بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما سادها من أجواء المشاحنات وما حفّها من ابتعاد عن الحقّ وانجراف في غير الطريق الذي كان على المسلمين سلوكه لم تَنس عليّاً أنّه الوصيّ على هذه الأُمة وعلى تطبيق الرسالة الإسلامية .

كانت بيعة أبي بكر قد استلبت حقّ الإمام في إدارة شؤون الأُمة مباشرة واضطرّته إلى أن يعتزل إلى حين فإنّ وصايا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له وعهده إليه بالتكليف الإلهي برعاية الأُمة ثمّ حرصه العميق على الرسالة الإسلامية والمجتمع من التمزّق والضياع جعل من أمير المؤمنين القدوة المُثلى للمدافعين عن الكيان الإسلامي في كل الميادين .

من هنا وقف عليعليه‌السلام ليدلي بآرائه الصائبة ، موضّحاً قواعد الدين الصحيحة في كلّ موقف يستعصي على الماسكين بزمام إدارة الدولة في زمن عصيب ، وفي اُمّة لم تترسّخ العقيدة الإلهية في نفوس أبنائها ، فكان عليّعليه‌السلام ميزان القضاء والإفتاء في شؤون الحياة الإسلامية من قضاء واجتماع وإدارة في عهد أبي بكر وما تلاه من فترات حكم الخلفاء .

وقف عليعليه‌السلام ليدافع عن المدينة ويصدّ هجوم المرتدّين عن الإسلام ومعه الصفوة من الصحابة الذين ساندوه في محنته .

وصيّة أبي بكر إلى عمر :

لم يزل الإمام عليّعليه‌السلام مظلوماً يدفع بحقّه بعيداً عنه ، يتألّم على الخلافة إذ تلكّأت وعلى الرسالة إذ ضمرت ، لا يجد سبيلاً إلاّ الصبر وهو الحليم ولا يجد إلاّ الأناة وهو البصير ، وقد عبّر عن أحزانه وآلامه في خطبته الشهيرة بالشقشقيّة إذ قال :

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الكتاب ٦٢ .

١٣٠

( أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ن وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تُراثي نهباً ، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته (١) إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ) (٢) .

لم تطل أيّام أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض وأشرف على الموت ، وقد صمّم على أن يولي عمر الخلافة من بعده ، فاعترض أكثر المهاجرين والأنصار ، وأعلنوا كراهيّتهم لهذا القرار لما علموا من خشونة أخلاق عمر وسوء تعامله مع الناس(٣) .

لكنّ أبا بكر أصرّ على موقفه .

ثمّ إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفّان لوحده ليكتب عهده لعمر ، فقال له : اُكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أما بعد ثمّ أغمي على أبي بكر ، فكتب عثمان : فإنّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ولم آلكم خيراً ، ثمّ أفاق أبو بكر فقال : إقرأ عليّ ، فقرأ عليه فكبّر أبو بكر

ــــــــــــ

(١) إشارة إلى قول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم ، راجع تذكره الخواص : ٦٢ .

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٣ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٣٦ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٦١٨ و ٦١٩ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٥ .

١٣١

وقال : أراك خِفتَ أن يختلف الناس إن مُتُّ في غشيتي ، قال : نعم ، قال : جزاك الله خيراً(١) .

مآخذ على وصية أبي بكر :

لم يكن عليّعليه‌السلام راضياً بما فعله أبو بكر للأسباب التالية :

١ ـ إنّ أبا بكر لم يستشر أحداً من المسلمين في تقرير مصير الخلافة إلاّ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان اللذين كانا على معرفة تامّة بميول أبي بكر لاستخلاف عمر من بعده ، خشية أن يدفعه أهل الرأي من الصحابة المخلصين على تغيير رأيه في اختيار عمر .

٢ ـ الإصرار على إبعاد الإمام عليّعليه‌السلام عن الساحة السياسية ومسألة تقرير مصير الخلافة فلم يستشره في أمر الخلافة ، في حين أنّ أبا بكر كان يفزع إلى الإمام في حلّ المشاكل المستعصية ، أو أنّ آراء الإمام ومواقفه في خلافة أبي بكر هي الناصحة والصائبة دون من عداها .

٣ ـ إنّ أبا بكر فرض عمر فرضاً على المسلمين ، وكأنّ له الوصاية عليهم حيّاً وميّتاً وذلك بقوله : استخلفت عمر بن الخطاب عليكم فاسمعوا له وأطيعوا ، رغم أنّه رأى الغضب ظاهراً في وجوه الكثيرين من الصحابة .

٤ ـ إنّه ناقض نفسه في دعواه بالسير على منهاج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه كان يدّعي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي ولم يعهد لأحدٍ في شأن الخلافة ، في حين نجده يوصي لصاحبه عمر من بعده(٢) .

ــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٥ .

(٢) وهو من العجائب ؛ لأنّه لمّا أفاق من الإغماء واستمع إلى ما كتبه عثمان من تعيين الخليفة بعده ، قال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي قال : نعم ؛ كيف هو وعثمان خافا من اختلاف الناس ؟! وأمّا الرسول الأعظم الحكيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخف من اختلاف أمته ؟! لأنهم يصرّحون بأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات ولم يعيّن أحداً تباً لهم فما لهم كيف يحكمون ؟!

بل نلاحظ عمر يمنع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة وصيّته في لحظاته الأخيرة بينما يجلس وبيده جريدة ومعه شديد مولى لأبي بكر معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر وعمر يقول : أيّها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله إنه يقول غني لم آلكم نصحاً راجع الطبري ط أوربا ١ / ٢١٣٨ أرأيت التناقض بين موقفيه ؟! وهل هناك من تفسير غير التآمر على تخطيط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

١٣٢

٥ ـ هيّأ الملك لبني أُمية ، الذي جلب الويلات للإسلام والمسلمين ، وذلك من خلال إثارة طمعهم في الخلافة وتشجيعهم عليها بقوله لعثمان : لو لا عمر ما عدوتك(١) وأبو بكر يعلم أنّ عثمان عاطفي ضعيف يميل لبني أُمية ، وأنّهم سيغلبونه على أمره ، وهذا ما حصل .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ١٦٤ .

١٣٣

الفصل الثالث: الإمام عليعليه‌السلام في عهد عمر(*)

مهّد أبو بكر كرسيّ الخلافة لعمر بن الخطاب فتولاّها بسهولة ويسر دون معارضة تذكر من أقطاب المهاجرين والأنصار ، وقد قبض على زمام الحكم بقوة وساس الأمة بشدّة ، حتى تحامى لقاءه أكابر الصحابة(١) وحقّقت جاهلية قريش انتصاراً سياسياً آخر ومضت بخطّها على أن لا تعطي حقّاً لبني هاشم ، وأتقن عمر هذا السير أيّما إتقان .

أمّا أمير المؤمنينعليه‌السلام فلم يثأر لحقه المغتصب بعدما شاهد من سيرة السلطة الحاكمة وحركة الفئة غير الواعية في ركبها ، من تعنت وإصرار على الانحراف بالخلافة ، فوقف الإمام موقف الناصح الأمين للخليفة الجديد شعوراً منه بالمسؤولية الكبيرة ، فهو الأمين على سلامة الرسالة والأمة ، لقد ساهم أمير المؤمنين في الحياة العامّة ما وسعه من جهد ، وأدّى ما عليه من تكليف في تعليم وتفقيه وقضاء بصورة أوسع من دوره في عهد أبي بكر حيث اقتضت الضرورة ذلك ، فقد اتّسعت رقعة البلاد الإسلامية واستجدّت أحداث جديدة طارئة كان يعجز عنها الخليفة الجديد وكلّ من معه من الصحابة ، ولم يكن يجد لها حلولاً إلاّ

ــــــــــــ

(*) استخلاف عمر بن الخطاب في جمادى الآخرة عام (١٣) هـ .

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٦١٧ و ٦١٨ .

١٣٤

ممّن عصمه الله عن الذنب والخطأ ، ولذا كان عمر يقف متصاغراً أمام أمير المؤمنين ويحترم رأيه ويمضي حكمه وقراره حتى روي عنه لأكثر من مرّة وفي أكثر من موقف حرج قوله : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن(١) .

فقد روي أنّ عمر أراد أن يرجم امرأةً مجنونةً اُتّهمت بالزنا ، فردّ الإمام عليّعليه‌السلام قضاء عمر وذكّره بحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(رفع القلم عن ثلاث : عن المجنون حتى يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبيّ حتى يعقل) حينذاك قال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر(٢) .

ملامح من سيرة عمر(٣) :

١ ـ الشدّة والقسوة في التعامل مع الناس ، وفرض السلطان بالعنف والقوة ، فخافه القريب والبعيد ، وكان من شدته أنّ امرأةً جاءت تسأله عن أمر وكانت حاملاً ولشدّة خوفها منه أجهضت حملها وقصّته مع جبلّة وعنفه معه ممّا سبب ارتداد جبلّة وهروبه إلى بلاد الروم(٤) .

٢ ـ عدم مساواته في العطاء بين المسلمين ، فقد ميّز بينهم على أساس غير مشروع من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا موجّه في القرآن ، بل على أساس عصبي(٥) ، وكان من آثاره أن ظهرت الطبقية في العهود التي تلته ، فنشط النسّابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب اُصولها ممّا أدّى إلى حنق الموالي على العرب وكراهيتهم لهم والتفتيش عم مثالبهم ، وقد خالف بذلك سيرة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة صاحبه أبي بكر أيضاً .

ــــــــــــ

(١) اُسد الغابة ٤ / ٢٢ ، وتهذيب التهذيب : ٧ / ٢٩٦ ، وتاريخ دمشق : ٣ / ٣٩ حديث ١٠٧١ ، والرياض النضرة : ٢ / ١٩٧ ، وكنز العمال : ٥ / ٨٣٢ .

(٢) تذكرة الخواص : ٨٧ ، وكفاية الطالب : ٩٦ ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : ٢ / ٣٠٩ .

(٣) راجع النص والاجتهاد للسيد شرف الدين : ١٤٨ .

(٤) الطبقات الكبرى : ٣ / ٢٨٥ ، وتأريخ الطبري : ٣ / ٢٩١ ، والعقد الفريد : ٢ / ٥٦ .

(٥) تأريخ الطبري : ٣ / ٢٩١ و ٢٩٢ .

١٣٥

وندم عمر على تصرّفه هذا في آخر فترة حكمه حينما رأى الثراء الفاحش عند كثير من الصحابة ، ولم تطب به نفسه ، وإنّما راح يقول : لو استقبلت من الأمر ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء(١) .

٣ ـ عدم الدقّة والموضوعية في اختيار العمّال والولاة على أسس إسلاميّة تخدم مشروع الحكومة الإسلامية وتحافظ على كيان الأمة ، فإنّه استعمل مَنْ عُرف بالفساد وعدم الإخلاص للدين ، وأصرّ بموقفه هذا على إبعاد كلّ ما يمتّ إلى الخلافة بصلة ، عن الإمام عليّعليه‌السلام والصحابة الأجلاّء الذين وقفوا معه(٢) .

٤ ـ استثناء معاوية من المحاسبة والمراقبة التي كان يشدّدها على ولاته ، وتركه على هواه يعمل ما يشاء لسنين طويلة ، ممّا أعان معاوية على طغيانه واستقلاله بالشام في عهد عثمان ، كما اُثر عنه قوله في توجيه تصرفات معاوية : إنه كسرى العرب(٣) .

محنة الشورى :

إذا كانت السقيفة وبيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها ـ كما قال عمر ـ ؛ فإنّ الشورى أشدّ فتنةً وأكبر انحرافاً عن مسير الرسالة الإسلامية ، فقد امتُحن المسلمون فيها امتحاناً عسيراً ، وزرعت لهم الفتن والمصاعب وجلبت لهم الويلات والخطوب ، وألقتهم في شرّ عظيم ، إذ تبيّن التآمر علناً لإقصاء الإمام عليٍّ عن الحكم وتسليم زمام الأمة الإسلامية بيد المنحرفين من دون واعز من الضمير أو حرص على المصير .

ــــــــــــ

(١) شرح النهج : ٩ م ٢٩ .

(٢) شيخ المضيرة أبو هريرة : ٨٤ .

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٤٧٩ ، وكنز العمال : ٦/٣٩.

١٣٦

فلمّا يئس عمر من حياته وأيقن برحيله عن الدنيا أثر الطعنات التي أصابته قيل له : استخلف علينا ، قال : والله لا أحملكم حيّاً وميّتاً ، ثمّ قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي ـ يعني أبا بكر ـ وإن اَدَع من هو خير منّي ـ يعني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ(١) ، ثمّ أبدى أسفه وحسرته على بعض من شاركه مسيرته للخلافة فقال : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته لأنّه أمين هذه الأمة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته لأنّه شديد الحبّ لله ، فقيل له : يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً .

قال : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأُولّي رجلاً أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ ـ وأشار إلى الإمام عليّعليه‌السلام ـ ورهقتني غشية فرأيت رجلاً دخل جنّة قد غرسها ، فجعل يقطف كلّ غضّة ويانعة فيضمّه إليه ويصير تحته ، فعلمت أنّ الله غالب أمره ، ومتوفّ عمر ، فما أريد أن أتحمّلها حيّاً وميّتاً عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم : إنّهم من أهل الجنّة ، وهم : عليّ وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ، فليختاروا منهم رجلاً ، فإذا ولّوا والياً فأحسنوا مؤازرته وأعينوه(٢) ، وأمرهم أن يحبس هؤلاء الستّة حتى يولّوا أحدهم خلال أيام ثلاثة وأن يضرب عنق المخالف لاتّفاق الأغلبية أو الجناح المخالف للذي فيه عبد الرحمن بن عوف ، وأن يصلّي صهيب بالناس ثلاثة أيام حتى تجتمع الأمة على خليفة ، وطلب أن يحضر شيوخ الأنصار وليس لهم من الأمر شيء(٣) .

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٤١ قد عرفت سابقاً أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدع وقد عيّن خليفته مراراً كيوم الإنذار لعشيرته الأقربين وغدير خم وغيرهما .

(٢) تأريخ الطبري : ٣ / ٢٩٣ ط مؤسسة الأعلمي ، الكامل في التأريخ : ٣ / ٦٦ .

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٩٤ ط مؤسسة الأعلمي ، طبقات ابن سعد : ٣ / ٢٦١ ، والإمامة والسياسة : ٤٢ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٦٨.

١٣٧

وحين اجتمع أعضاء الشورى لدى عمر ، وجّه إليهم انتقادات لاذعة لا تدلّ على وضوح توجّه صحيح أو ارشاد إلى انتخاب يعين الأمة في أزمتها ، فقال : والله ما يمنعني أن استخلفك يا سعد إلاّ شدّتك وغلظتك مع أنّك رجل حرب ، وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلاّ أنّك فرعون هذه الأمة ، وما يمنعني منك يا زبير إلاّ أنّك مؤمن الرضا كافر الغضب وما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته وكبره(١) ، ولو وليها وضع خاتمه في إصبع امرأته وما يمنعني منك يا عثمان إلاّ عصبيتك وحبّك قومك وأهلك وما يمنعني منك يا عليّ إلاّ حرصك عليها ، وإنّك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم(٢) .

مؤاخذات على الشورى :

نظام الشورى الذي وضعه عمر كان عارياً عن الصحّة والصواب يحمل التناقض بين خطواته ، فإنّنا نلاحظ فيه أُموراً يبعده عن الدقّة والموضوعية :

١ ـ إنّ الأعضاء المقترحين للشورى لم يحصلوا على هذا الامتياز بالأفضلية وفق ضوابط الانتخاب حيث لم تشترك القواعد الشعبية في الترشيح والانتخاب ، وإطلاق كلمة الشورى على هذا النظام جزاف ، لأنّه لم يكن إلاّ ترشيح فرد لجماعة وفرضهم على الأمة ومن ثَمّ أمر باجتماعهم تحت التهديد بالقتل والسلاح حتى يختاروا أحدهم .

٢ ـ عناصر الشورى متنافرة في تركيب شخصياتها وأفكارها ، ولا يمثّل كلّ فرد فيهم إلاّ رأيه الشخصي ، فكيف يمكن أن يعبّر عن رأي الأمة ؟ وقد نشب

ــــــــــــ

(١) كيف هم يدخلون الجنة ـ حسب نقل عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع أنّ عبد الرحمن فرعون هذه الأمة وطلحة صاحب الكبر والنخوة والزبير مؤمن الرضا كافر الغضب ؟!

(٢) الإمامة والسياسة : ٤٣ .

١٣٨

الخلاف فيما بينهم من بعد الشورى ممّا فرّق شمل المسلمين(١) .

٣ ـ الاستهانة بالأنصار ودورهم ، فقد طلب عمر حضورهم ولا شيء لهم بل ولا رأي ، فالأمر منحصر في الستّة فما معنى حضور الأنصار ؟ بل إنّ عمر استهان بالأمة كلّها حين تمنّى حياة سالم وأبي عبيدة .

٤ ـ إنّ عمر ناقض نفسه في عمليّة اختيار العناصر ، ففي السقيفة كان يدّعي ويصرّ على أنّ الخلافة في قريش ، بينما نجده في هذا الموقف يتمنّى حياة سالم مولى أبي حذيفة ليوليه الأمر ، كما أنّه استدعى أصحاب الشورى دون غيرهم من الصحابة بدعوى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راضٍ عنهم أو أنّهم من أهل الجنّة ، ولكنّه نسب اليهم عيوباً لا تجتمع مع الرضا عنهم ويتنزّه عنها أهل الجنة ثم إنّه أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، لأنّ إمامة المصلّين لا ترتبط بالخلافة ولا تستلزمها ، وقد كان يناضل يوم السقيفة من أجل استخلاف أبي بكر ، وكات صلاته المزعومة دليله الأول على أهليّة أبي بكر للخلافة .

٥ ـ إنّه أراد أن يستخلف عليّاًعليه‌السلام لأنّه سيحمل الأمة على النهج القويم والمحجّة البيضاء ، ولكنّه رأى في المنام ما رأى ، فأعرض عن الإمامعليه‌السلام وكأنّه أراد بذلك التشويش على مكانة الإمام وأهليّته .

٦ ـ إنّ عمر قال : أكره أن أتحمّلها ـ يقصد الخلافة ـ حيّاً وميّتاً ، ولكنّه عاد فحدّد ستّة أشخاص من اُمّة كبيرة ، فأكّد بذلك نزعته في الاستعلاء على الأمة وقدراتها .

٧ ـ اختيار العناصر الستّة يبدو مبيّتاً بحيث يصل الأمر إلى عثمان باحتمالية أكبر من وصولها إلى الإمام عليّعليه‌السلام وهو العنصر المؤهّل من الله ورسوله لخلافة الأمة ، فترشيح طلحة هو إثارة وتأكيد لأحقاد تيم ، لأنّ الإمام نافس وعارض أبا بكر في خلافته وها هو الآن ينافس مرشّحها الجديد طلحة ، وترشيحه لعثمان تأكيد منه على أحقاد أمية وإثارة نزعة السلطان والوجاهة لديها ، وأمّا ترشيحه لعبد الرحمن وسعد فهو فتح جبهة سياسية جديدة منافسة للإمام عليّعليه‌السلام فهما من بني زهرة ولهما نسب أيضاً مع بني أمية ، فسوف يكون ميلهما لصالح عثمان لو تنافس مع الإمامعليه‌السلام .

ــــــــــــ

(١) أنساب الأشراف : ٥ / ٥٧ ، وتذكرة الخواص : ٥٧ ، والنص والاجتهاد : ١٦٨ .

١٣٩

٨ ـ إنّه أمر بقتل أعضاء الشورى في حالة عدم التوصّل إلى اتّفاق أو إبداء معارضة وإصرار ، وكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين قوله : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راضٍ عنهم ؟ وهل تكون مخالفة رأي عمر موجبة لقتل الصحابة(١) ؟

حوار ابن عباس مع عمر حول الخلافة :

روي أنّ حواراً وقع بين عمر وابن عباس في شأن الخلافة .

قال عمر : أما والله ، إنّ صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ، إلاّ أنّنا خفناه على اثنتين ، قال ابن عباس : فما هما يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : خفناه على حداثة سنّه ، وحبّه بني عبد المطلب .

وفي بعض مجالس عمر بن الخطاب وقد جلس إليه نفر منهم عبد الله بن عباس ، فقال له عمر : أتدري يا ابن عباس ما منع الناس منكم ؟ قال ابن عباس : لا يا أمير المؤمنين ، قال عمر : لكنّني أدري ، قال ابن عباس : فما هو ؟ قال عمر : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفاً فنظرت لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت .

فردّ عليه ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عنّي غضبه ؟ فأمّنه عمر قائلاً : قل ما تشاء .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٩٣ ط مؤسسة الأعلمي .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226