اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)0%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 159045
تحميل: 6620

توضيحات:

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159045 / تحميل: 6620
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في الاستمرار بمسيرتها نحو هدفها السماوي الذي فرضه الله سبحانه وتعالى وقد عمل الإمام على هذا المحور بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، كما عبّر عن مسؤوليته تجاه هذا الأمر بقولهعليه‌السلام :(لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ؛ لألقيت حبلها على غاربها) (١) .

فحاول الإمامعليه‌السلام تعبئة الأمة ، ولكنّه لم يتمكّن أن يصل إلى حدّ إنجاح هذه المحاولة لأسباب منها :

١ ـ عدم وعي الأمة لرزيّة يوم السقيفة وما جرى فيها من مؤامرات سياسية وتوجّها خاطئة كانت خافية على شريحة كبيرة من الأمة .

٢ ـ عدم فهم دور ومسؤولية الإمام والإمامة ، فقد تصوّروه مطلباً شخصياً وهدفاً فردياً ، ولكنّ الحقيقة أنّ دخول الإمام في مواجهة الحاكمين كان بوعي رسالي وإرادة صادقة لاستمرار الرّسالة الإسلامية نقيةً كما شرّعها الله بعيدةً عن الزيغ والانحراف ، ومضحّياً بكلّ شيء من أجل ذلك حتى لو كان ذلك تعدّياً على حقّ الشخصيّ ، فالمقياس هو سلامة الرسالة وديمومتها على أسس الحقّ والعدل الإلهي وهو القائل :(إعرف الحقّ تعرف أهله) (٢) وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ) (٣) .

كما أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام عمل بشمولية وعلى جميع المستويات موفّقاً بين النظرية والتطبيق ، فربّى أصحابه على أنّهم أصحاب الأهداف الرسالية لا أصحاب الأشخاص يميلون مع هذا الطرف أو ذاك، ونجد أنّ الإمام رفض أن يستلم الحكم بشرط السير بسيرة من قبله ، إذ كانت تسيء إلى الرسالة والمجتمع .

٣ ـ الرواسب الجاهلية المتأصّلة في فكر الأمة ، فالعهد قريب ولم تدرك الأمة عمق الرسالة والرسول ودور الإمام ، فتصوّروا أنّ عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوصاية للإمامعليه‌السلام مجرّد عملية ترشيح لأحد أعضاء أسرته ، وإنّه قد يهدف لإحياء أمجاد أسرة متطلّعة للمجد والسلطان كما هو دأب غالب الحكّام قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده .

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة الشقشقية .

(٢) بحار الأنوار : ٦ / ١٧٩ ط الوفاء .

(٣) راجع سنن الترمذي : ٢ / ٢٩٨ وتاريخ بغداد : ١٤ / ٣٢١ .

١٦١

٤ ـ دور المنافقين وأطماعهم في زعزعة الاستقرار الأمني والاجتماعي ، ومحاولة إثارة النوازع والأحقاد بين صفوف المسلمين ، وتغلغلهم في صفوف الجهاز الحاكم والدولة ويزدادون توغّلاً إذا كان الحاكم ضعيفاً أو منحرفاً .

٥ ـ الأمراض النفسية لدى المتصدّين للزعامة ، فكان الشعور بالنقص لديهم تجاه الإمام عليّعليه‌السلام بدرجة عالية ، حيث كان الإمامعليه‌السلام يمثّل تحدّياً بوجوده ، بصدقه ، بجهاده ، بصراحته ، باستبساله وشبابه (كما ورد في كتاب معاوية لمحمد ابن أبي بكر)(١) .

المحور الثاني : وحين لم يفلح المحور الأوّل في بلوغ هدفه عمل الإمامعليه‌السلام بمنهجية أخرى ، ألا وهي تحصين الأمة ضد الانهيار التامّ وإعطاؤها من المقوّمات القدر الكافي كي تتمكّن من البقاء صامدة في مواجهة المحنة بعد استيلاء فئة غير كفوءة على السلطة وانحدار الأمة عن جادّة الحقّ والصواب بسببها .

فاجتهد الإمامعليه‌السلام في تعميق الرسالة فكرياً وروحياً وسياسياً في صفوف الأمة ، وتقديم الوجه الحقيقي للنظرية الإسلامية عبر أساليب منها :

١ ـ التدخّل الإيجابي في عمل الزعامة المنحرفة بعد أن كانوا لا يحسنون مواجهة ومعالجة القضايا الكثيرة البسيطة منها والمعقدة وتوجيههم نحو المسار الصحيح لإنقاذ الأمة من مزيد الضياع ، فكان دور الإمامعليه‌السلام دور الرقيب الرسالي الذي يتدخّل لتقويم الأود.

ونجد الإمام يتدخّل للردّ على شبهات المنكرين للرسالة بعد أن عجز

ــــــــــــ

(١) وقعة صفّين : ١١٩ .

١٦٢

المتصدّي للزعامة عن ذلك ، ونجده أيضاً يتدخّل ليعطي للخليفة نصائح عسكرية أو اقتصادية ، وما أكثر نصائحه ومعالجاته القضائية(١) !

٢ ـ توجيه مسار سياسة الخليفة ومنعها من المزيد من الانحراف من خلال الوعظ والنصيحة ، وبدا هذا الأسلوب جليّاً في عهد عثمان بن عفان حيث كان لا يقبل التوجيه والنصيحة .

٣ ـ تقديم المثل الأعلى للإسلام والصورة الحقيقية لطبيعة وشكل الحكم والمجتمع الإسلامي ، وقد ظهر هذا واضحاً في فترة حكومة الإمامعليه‌السلام ، وعلى هذا الأساس استند قبول الإمام للحكم بعد أن رفضه ، فقد مارس دور القائد السياسي المحنّك والحاكم العادل ونموذج الإنسان الذي صاغته الرسالة الإسلامية وكان مثالاً يُحتذى به لبلوغ هدف الرسالة ، فهو المعصوم عن الخطأ والزلل والدنس في الفكر والعمل والسيرة .

٤ ـ تربية وبناء ثلّة صالحة من المسلمين تُعين الإمامعليه‌السلام في حركته الإصلاحية والتغييرية ، وذلك عبر تحرّكها في وسط الأمة لإنضاج أفكارها وتوسيع قاعدة الفئة الواعية الصالحة ، وتستمر في مسيرها عبر التأريخ لتتواصل الأجيال اللاحقة في العمل وفق النهج الإسلامي(٢) .

٥ ـ إحياء سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتنبيه عليها وتدوينها والاهتمام بالقرآن تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وتدويناً ، إذ هما عماد الشريعة، ولابدّ أن تدرك الأمة حقائق القرآن والسنّة كما شُرّعت وكما أريد لها أن تفهمها .

الثقافة الإسلامية في حكم الخلفاء(*) :

من أخطر المشاكل التي تواجهها الرسالات والعقائد هو تصدّي الفئات

ــــــــــــ

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٣٣ ، ١٤٥ .

(٢) أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف للشهيد السيد محمّد باقر الصدر : ٥٩ ـ ٦٩ .

(*) للمزيد من التفصيل راجع معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري : ٢ / ٤٣ .

١٦٣

العاجزة والفارغة فكرياً للدفاع عنها أو تطبيقها ، وحين يتعرّض المتصدّون للزعامة للاختبار لمعرفة رأي الرسالة ومدى علمهم بها فإنّ سكوتهم أو اختلافهم سيزرع شكّاً لدى الجماهير ويزعزع ثقتهم بالرسالة ومقدرتها على مجاراة الحياة ، ومن ثَمّ يتحوّل الشكّ إلى حالة مرضية تجعل الأمة تتقاعس عن التفاعل مع الرسالة أو الدفاع عنها في معترك الصراعات وخضمّ الأزمات ، ومن هنا نجد تصدّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلّ قضيّة غامضة أو مجهولة تبدو هنا أو هناك في حياة الأمة حيث يعطي الموقف الواضح للرسالة منها ، كما ترى ذلك جليّاً في سيرة الإمام عليّعليه‌السلام من بعده خلال حكم الخلفاء الثلاثة حين كان يظهر للناس عجزهم وقصورهم العلمي والعملي ، إذ فسحعليه‌السلام المجال إلى أقصاه للبحث والسؤال عندما تسلّم زمام الحكم.

وحين أدركت الفئة الحاكمة أنّها ليست المؤهّلة للحكم وأنّها قاصرة علمياً ؛ اتّخذت عدّة إجراءات لمعالجة هذه المثالب منها :

١ ـ منع نشر أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما فيها من التوجيه العلمي والبعث نحو الوعي والفاعلية في الحياة ، إضافةً إلى أنّ أحاديث الرسول تعلن بوضوح أنّ أهل البيت هم المعنيّون بالخلافة وشؤون الرسالة دون من عداهم ، ومن هنا نعلم السرّ في رفع شعار (حسبنا كتاب الله) الذي تحدّى قائله به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه عندما أراد أن يدوّن كتاباً لن تضلّ الأمة من بعده .

ويبدو أنّ ظاهرة تحديد أو منع نشر أحاديث النبيّ بدأت قبل هذا التأريخ ، وذلك عندما منعت قريش عبد الله بن عمرو بن العاص بن كتابة الأحاديث(١) ، كما قامت السلطة الحاكمة بحرق الكتب التي تضمّنت نصوصاً من أحاديث الرسول(٢) .

ــــــــــــ

(١) سنن الدارمي : ١ / ١٢٥ ، وسنن أبي داود : ٢ / ٢٦٢ ، ومسند أحمد : ٢ / ١٦٢ وتذكرة الحفّاظ : ١ / ٢ .

(٢) طبقات ابن سعد : ٥/ ١٤٠ ط ، بيروت .

١٦٤

٢ ـ إنّ ظاهرة النهي عن السؤال عمّا لا يُعلم من معاني الآيات القرآنية تعني تجريد الأمة من سلاح البحث والتحقيق والتعلّم للقرآن نفسه بعد عزل السنّة عن القرآن ، والاهتمام بظواهر القرآن من دون فسح المجال للتدبّر والتفقّه في آياته وأحكامه حتى أوصى عمر عمّاله قائلاً : (جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم) بل إنّه عاقب كلّ من يسأل عن تفسير آيات القرآن(١) .

٣ ـ فتح باب الاجتهاد في مقابل النصّ ، فقد اجتهد أبو بكر في جملة من الأحكام من دون أن يستند إلى نصّ قرآني أو حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ذلك مصادرة تركة النبيّ ومنع أهل البيت من حقّهم في الخمس ، وإحراقه الفجاءة السلمي(٢) وفتواه في مسألة الكلالة(٣) وفتواه في إرث الجدّة(٤) ، كما اجتهد عمر بن الخطّاب في التمييز في العطاء خلافاً لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) واجتهد في منع متعتي الحجّ والنساء وغيرها ممّا تجده في كتاب (النصّ والاجتهاد)(٦) ، وقد اجتهد عثمان بن عفّان في إسقاط القود عن عبيد الله بن عمر(٧) وتأوّل في جملة من الأحكام الصريحة خلافاً لما قرّره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ثار عليه المسلمون كما عرفت .

كلّ هذه الأمور وغيرها أثارت للدولة الإسلامية وللأمة المسلمة الكثير من المصاعب والمصائب التي كانت السبب الرئيس في انحراف المسيرة المقرّرة للرسالة الإسلامية ووقوع الكثيرين في شِباك الفتن والضلالة حتى قال الإمام عليّعليه‌السلام عن ذلك :

ــــــــــــ

(١) تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٠٧ ، وسنن الدارمي : ١ / ٥٤ ، وتفسير الطبري : ٣ / ٣٨ والإتقان للسيوطي : ١ / ١١٥.

(٢) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٨ ط مؤسسة الأعلمي .

(٣) سنن الدارمي : ٢ / ٣٦٥ ، والسنن الكبرى للبيهقي : ٦ / ٢٢٣ .

(٤) سنن الدارمي : ٢ / ٣٥٩ ، واُسد الغابة : ٣ / ٢٩٩ .

(٥) فتوح البلدان : ص ٥٥ ، وتأريخ الخلفاء للسيوطي : ١٣٦ .

(٦) كنز العمال : ١٦ / ٥١٩ الحديث ٤٥٧١٥ ، وزاد المعاد لابن القيم : ٢ / ٢٠٥ ز

(٧) راجع منهاج السنّة لابن تيمية : ٣ / ١٩٣ ، وهناك اجتهادات كثيرة للخلفاء تذكرها كتب التأريخ .

١٦٥

(إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله ، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ ؛ لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل ، انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى)(١) .

جهود الإمامعليه‌السلام في إحياء الشريعة الإسلامية :

كان الإمام عليّعليه‌السلام يرى أن من أوليّات مهامّه بعد غياب الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو صيانة الشريعة المقدسة من الزيغ والانحراف ورعاية شؤون الدّولة الإسلامية حتى تستمر من دون تلكؤ أو توقّف ، وقد بذل جهده في ذلك أثناء حكم الخلفاء متغاضياً بمرارة وألم عن حقّه في إدارة شؤون الأمة مباشرة ، وما أن أمسك زمام الحكم ؛ حتى خطا خطوات عظيمة في إحياء سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الدعوة إلى الحياة في ظلّها ، واهتم اهتماماً كبيراً بالقرآن الكريم وتفسيره وتربية الأمة وإصلاح الفساد أَينما وجد ، ويمكننا أن نلحظ الخطوات التي قام بها الإمام عليّعليه‌السلام كما يلي :

١ ـ فتح باب الحوار والسؤال عن القرآن والسنّة وكلّ ما يتعلّق بالشريعة المقدّسة أمام الجماهير المسلمة وبصورة علنية وعامّة من دون أن يتردّد حتى في جواب مخالفيه وأعدائه الحاقدين عليه .

٢ ـ الاهتمام بالقرّاء مراعياً لشؤونهم ومتّبعاً فيهم سنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التعليم ، فكان تعليم قراءة القرآن مقروناً بتعلّم ومعرفة ما فيه من العلم والعمل والتفقّه في أحكام الدين .

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة (٥٠) .

١٦٦

٣ ـ الاهتمام بقراءة المسلمين من غير العرب ، أو من الذين لا يحسنون اللغة العربية بصورة صحيحة ، فوضع علم النحو لتقويم اللسان عن اللحن في الكلام(١) .

٤ ـ دعا الإمامعليه‌السلام إلى رواية السنّة النبوية وتدوينها ومدارستها ، فكان يقول :(قيّدوا العلم بالكتابة) (٢) وأمرعليه‌السلام بالبحث في علوم السنّة فيقول :(تزاوروا وتدارسوا الحديث ولا تتركوه يدرس) (٣) .

٥ ـ ركّز الإمام على مصدرية القرآن والسنّة في التشريع والأحكام ، وأدان المصادر الأخرى كالاستحسان والقياس وغيرهما ممّا لا يكون مصدراً شرعياً للأحكام الإلهية(٤) .

كما أنّ الإمامعليه‌السلام أحيى سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سيرته العبادية والأخلاقية ، فعالج البدع التي طرأت على الشريعة نتيجة اجتهاد وإبداع من سبقه من الخلفاء(٥) .

٦ ـ استطاع الإمام أن يبني ثلّةً صالحةً من المؤمنين تتحرّك في المجتمع الإسلامي للمساهمة في قيادة التجربة الإسلامية والمحافظة على المجتمع الإسلامي .

ويبدو أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام بدأ عملياً في هذا المسار منذ حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبأمر منه ، فنجد أن النبيّ كان يُوكل مهمّة تعهّد ورعاية من يجد فيهم الرغبة والوعي في التحرك الإسلامي إلى الإمام عليعليه‌السلام ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحثّ على التمسّك في العمل بخط عليّ حتى تكوّنت جماعة عرفت بشيعة عليّ في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل : عمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، وأبي ذر ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، والمقداد بن الأسود ، وعبد الله بن عباس ، ممّن ثبتوا على هذا الخطّ رغم كلّ الظروف الصعبة التي مرّت بها التجربة الإسلامية بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وحين استلم أمير المؤمنينعليه‌السلام الخلافة ؛ احتفّت به جماعة من المؤمنين الأوفياء الأشدّاء ، فازداد الإمامعليه‌السلام اعتناءً بهم وأعدّهم إعداداً رسالياً خاصاً ، وأودعهم علوماً شتّى في مختلف نواحي الحياة ،

ــــــــــــ

(١) الأغاني : ١٢ / ١٣ ، الفهرست لابن النديم : ٥٩ ، وفيات الأعيان ك ٢ / ٢١٦ ، والبداية والنهاية ك ٨ / ٣١٢ .

(٢) الطبقات الكبرى : ٦ / ١٨٦ ، وتدوين السنّة الشريفة للسيد الجلالي : ١٣٧ .

(٣) كنز العمال ك ١٠ حديث ٢٩٥٢٢ .

(٤) نهج البلاغة : الخطبة (١٢٥) .

(٥) صحيح مسلم : كتاب صلاة التراويح ، ومسند أحمد : ٥ / ٤٠٦ ، وصحيح البخاري : كتاب الخمس : باب ٥ / حديث ٢٩٤٤ ، وسنن أبي داود : ٢ / حديث ١٦٢٢ .

١٦٧

وقام هؤلاء الصحابة الأجلاّء بدورهم في دعم الرسالة الإسلامية ومساندة الإمامة والمحافظة على الشريعة من الزيغ والانحراف والاندثار ، فكانت مواقفهم رائعة وبطولية مقابل الحكّام الطواغيت والمتسلّطين بغير حقّ على أمور المسلمين ، ومن هؤلاء : مالك الأشتر ، كميل بن زياد النخعي ، محمد بن أبي بكر ، حجر بن عدي ، عمرو بن الحمق الخزاعي ، صعصعة بن صوحان العبدي ، رشيد الهجري ، هاشم المرقال ، قنبر ، سهل بن حُنيف وغيرهم .

الفصل الثاني: الإمام عليعليه‌السلام مع الناكثين(*)

مثيروا الفتن :

كانت بيعة الناس لأمير المؤمنينعليه‌السلام بمنزلة صاعقة حلّت بقريش وكلّ من يكنّ العداء للإسلام ، فحكومة الإمام هي امتداد لحكومة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أذلّت الظلم والعدوان والبغي ، وجاءت بالعدل والمساواة والحقّ والفضيلة ، وحطّمت المصالح الاقتصادية القائمة على الربا والاحتكار والاستغلال ، فعزّ على كثير من كبار قريش أن يكونوا على قدم المساواة مع أيّ مواطن آخر من أيّ فئة كانت في حكومة الإمام عليّعليه‌السلام الذي طالت إصلاحاته ولاة عثمان .

وقد كان كلّ من طلحة والزبير يرى نفسه قريناً لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، بعدما رشّحهما عمر للخلافة فكان يتوقّع كلّ منهما أن يلي حكومة جزء كبير من البلاد الإسلامية على أقلّ تقدير ، وكان لعائشة المقام المرموق لدى الخلفاء السابقين حيث كانت تتحدّث كما تشاء ، وهي الآن تعلم أن لا مجال لها في حكومة تعتمد القرآن والسنّة مصدراً ودستوراً للتشريع والتنفيذ .

وكان معاوية يتصرّف في الشام تصرّف الحاكم المطلق المتفرّد والمطامع في السيادة الإسلامية العظمى جادّاً في تولّي أمور الأمة الإسلامية بصورة تامّة ، فكانت المفاجأة لجميع هؤلاء بقرارات الإمام وتخطيطه للإصلاح الشامل إضافةً إلى تضرّر مجموعة أو مجموعات كانت تستغل مناصبها في عهد عثمان وهي الآن قد فقدت مصدر ثرواتها ، فإنّ وجود الإمام في قمّة السلطة كان يُعدّ تهديداً صارخاً للخطّ القبلي المنحرف الذي سارت عليه قريش لأنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام قد عرف بأنّه القادر على رفع راية الإسلام الحق من دون أن تأخذه في الله لومة لائم ، ولهذا فهو سيكشف زيف الخطّ المنحرف دون تردّد .

ــــــــــــ

(*) وقعت معركة الجمل في جمادي الآخرة عام (٣٦) هـ.

١٦٨

من هنا اجتمعت آراؤهم وأهواؤهم على إثارة الفتن للحيلولة دون استقرار الحكم الجديد ، ولم يكن تقلّب الوضع السياسي ووجود العناصر المعادية للاتّجاه الصحيح لمسيرة الحكومة الإسلامية غريباً على الإمام عليّعليه‌السلام ؛ فقد أخبره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتمرّد بعض الفئات على حكمه ، وعهد إليه بقتالهم كما أنّه قد سمّاهم له بالناكثين والقاسطين والمارقين(١) .

عائشة تعلن التمرّد :

كان موقف السيّدة عائشة من عثمان غريباً متناقضاً لا يليق بمقام امرأة تعدّ من نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانت تردّد قولها : (اقتلوا نعثلاً) ، وتحرّض الناس على التمرّد عليه وعلى قتله(٢) ، وقد خرجت من المدينة إلى مكّة أثناء محاصرة عثمان من قبل الثوار وهي تتوقّع النهاية السريعة لعثمان ، ومن ثمَّ فوز قريبها طلحة بالخلافة ، والاستيلاء على الحكم .

وحين فوجئت بأنّ الأمر قد استقرّ ـ بعد بيعة الناس إلى الإمام عليّعليه‌السلام ، كرّت راجعة نحو مكّة بعد أن كانت قد عزمت على الرجوع إلى المدينة(٣) ، وأعلنت حزنها وتظلّمها على عثمان ، فقيل لها : أنتِ التي حرّضت على قتله

ــــــــــــ

(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٣٩ ، وتأريخ بغداد : ٨ / ٣٤٠ ، ومجمع الزوائد : ٩ / ٢٣٥ ، وكنز العمال : ٦ / ٨٢ .

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ٦ م ٢١٥ ، وكشف الغمة ك ٣ / ٣٢٣ .

(٣) الكامل في التأريخ : ٣ / ٢٠٦ .

١٦٩

فاختلقت عذراً واهياً ، فقالت : إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه(١) . وكأنّها كانت حاضرة تشهد مقتله .

وأعلنت السيدة عائشة حربها ضدّ الإمام عليّعليه‌السلام في خطابها الذي ألقته في مكّة محرّضة أتباعها على الحرب(٢) .

وطمعت السيدة عائشة في توسيع جبهتها ضدّ الإمام عليّعليه‌السلام فحاولت مخادعة أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخروج معهنّ ضدّ الإمام ، فامتنعن من ذلك ، وحاولت أم سلمة أن تنصحها عسى أن ترجع عن غيّها ، وتجنّب الأمة البلاء والدماء ، فقالت لها : إنّك كنت بالأمس تحرّضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول وما كان اسمه عندك إلا نعثلاً ، وإنّك لتعرفين منزلة عليّ بن أبي طالب عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أفأذكِّرك ؟ قالت أم سلمة : أتذكرين يوم أقبلعليه‌السلام ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال خلا بعليّ يناجيه ، فأطال فأردت أن تهجمين عليهما فنهيتك فعصيتِني فهجمتِ عليهما ، فما لبثتِ أن رجعت باكية ، فقلتُ : ما شأنك ؟ فقلتِ : إنّي هجمت عليهما وهما يتناجيان ، فقلتُ لعليّ : ليس لي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ يوم من تسعة أيام أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي ؟ فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليَّ وهو غضبان محمرّ الوجه ، فقال :(ارجعي وراءك والله لا يبغضه أحدٌ من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلاّ وهو خارج من الإيمان) ، فرجعتِ نادمة ساخطة ، قالت عائشة : نعم أذكر ذلك ، قالت أم سلمة : أيّ خروج تخرجين بعد هذا ؟ فقالت عائشة : إنّما أخرج للإصلاح بين الناس ، وأرجو فيه الأجر إن شاء الله ، فقالت أم سلمة : أنتِ ورأيكِ ، فانصرفت عائشة عنها(٣) .

وروي : أنّ نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرجن مع عائشة إلى منطقة (ذات عرق)

ــــــــــــ

(١) الكافي في التأريخ : ٣ / ٢٠٦ .

(٢) تأريخ الطبري : ٣ / ٤٧٤ .

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد : ٦ / ٢١٧ ، وبحار الأنوار ك ٣٢ / ١٤٩ .

١٧٠

ويبدو أنّهنّ حاولن إرجاع عائشة إلى المدينة والحيلولة دون وقوع الفتنة ، فلم يتوصّلن إلى حلّ فبكين على الإسلام وبكى الناس معهنّ ، وسمّي ذلك اليوم بـ (يوم النحيب)(١) .

مكر معاوية ونكث الزبير وطلحة للبيعة :

كان معاوية يتمتّع بسيطرة إدارية على شؤون الشام ، ولديه أجهزة يستطيع بها أن يحرّكها وفق رغباته وأهوائه ، وما كانت لديه مشكلة مع جماهير الشام لأنّ بلاد الشام منذ عرفت الإسلام عرفت آل أبي سفيان ولاة عليها من قبل الخليفة ، فقبله كان أخوه يزيد والياً عليها ، كما أنّ بلاد الشام بعيدة عن عاصمة الخلافة ممّا أعطاه قدراً كافياً من الاستقرار والقوّة وبدأ معاوية تحرّكه السياسي لتأجيج الفتنة المشتعلة بسبب مقتل عثمان ، ومن ثَمَّ ليستثمرها لصالحه ، فخاطب الزبير وطلحة بصيغة تحرّك فيهما الأطماع والرغبات للدخول في الصراع الجديّ ضدّ الإمامعليه‌السلام فتزداد الفتنة في العاصمة المركزية فكتب رسالة إلى الزبير جاء فيها :

لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب ، فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك فأظهر الطلب بدم عثمان وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله وخذل مناوئكما(٢) .

ولمّا وصلت رسالة معاوية إلى الزبير ؛ خفّ لها طرباً واطمأنّ إلى صدق نيّة معاوية ، واتفق هو وطلحة على نكث بيعة الإمام والخروج عليه ، فأظهر الحسرة

ــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٢٠٩/٣.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد: ٢٣١/١.

١٧١

والتأسف على بيعتهما للإمام مردّدين : بايعنا مكرهين ، وما أن وصلت إلى أسماعهما صيحة السيدة عائشة محرّضة على الإمام ؛ حتى اجتهدا في إيجاد الحيلة للخروج إليها وروي أنّهما جاءا يطلبان من الإمام المشاركة في الحكم فلم يتوصّلا إلى شيء ، فقرّرا الالتحاق بعائشة ثمّ عادا ثانية إلى الإمامعليه‌السلام ليستأذناه للخروج للعمرة ، فقال لهما الإمامعليه‌السلام :نعم، والله ما العمرة تريدان وإنّما تريدان أن تمضيا لشأنكما (١) وروي أنّهعليه‌السلام قال لهما :بل تريدان الغدرة (٢) .

لقد أجمع رأي الخارجين على بيعة الإمامعليه‌السلام في بيت عائشة في مكّة بعد أن كانوا متنافرين متحاربين في عهد عثمان ، فضمّ الاجتماع الزبير وطلحة ومروان بن الحكم على أن يتّخذوا من دم عثمان شعاراً لتعبئة الناس لمحاربة الإمام عليّعليه‌السلام ، فرفعوا قميص عثمان كشعار للتمرّد والعصيان ، وأنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام هو المسؤول عن إراقة دم عثمان ، لأنه آوى قتلته ولم يقتصّ منهم ، وقرّروا أن يكون زحفهم نحو البصرة واحتلالها واتّخاذها مركزاً للتحرّك ومنطلقاً للحرب ، حيث أنّ معاوية يسيطر على الشام ، والمدينة لا زالت تعيش حالة الاضطراب(٣) .

حركة عائشة ومسيرها نحو البصرة :

مضت عائشة في خطّتها لإثارة الفتنة والدخول في المواجهة المسلّحة مع الإمام عليّعليه‌السلام الخليفة الشرعي ، فحشدت أعداداً من الناس يدفعهم الحقد والكراهية للإسلام وللإمام عليّعليه‌السلام ويحدوهم الطمع بالدنيا ونيل السلطان ، وجهّزهم يعلى بن منية بمستلزمات الحرب من السيوف والإبل التي سرقها من اليمن عندما عزله الإمام عنها ، وقدم عليهم عبد الله بن عامر بمال كثير من البصرة

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ٧٠ .

(٢) شرح النهج : ١ / ٢٣٢ .

(٣) تأريخ الطبري : ٣ / ٤٧١ ط مؤسسة الأعلمي .

١٧٢

سرقه أيضاً(١) وجهّزوا لعائشة جملها المسمّى (عسكر) وقد احتفّ بها بنو أمية وهي تتقدّم أمام الحشد الزاخر متوجّهين نحو البصرة ، تسبقهم كتبهم التي أرسلوها إلى عدد من وجوه البصرة ، يدعونهم فيها للخروج على بيعة الإمامعليه‌السلام بدعوى المطالبة بدم عثمان(٢) .

وبدرت سمة المكر والخداع ـ التي تكاد تكون ملازمة لكلّ من ناوأ الإمام عليّاًعليه‌السلام ـ من زعماء الفتنة ، فلمّا خرجوا من مكّة أذّن مروان بن الحكم للصلاة ، ثمّ جاء حتّى وقف على طلحة والزبير محاولاً إثارة الوقيعة بين الرجلين وغرس فتنة ليستغلّها إن تمكّن من الأمر ، فقال : على أيّكما أُسلِّم بالإمرة وأُؤذَّن بالصلاة ، فتنافس أتباع الرجلين كلّ يريد تقديم صاحبه ، فأحسّت عائشة بوقوع التفرقة فأرسلت أن يصلّي بالناس ابن أختها عبد الله بن الزبير .

وحين وصل جيش عائشة إلى منطقة (أوطاس) ؛ لقيهم سعيد بن العاص والمغيرة بن شعبة ، وحين علم سعيد بدعوى عائشة (الطلب بدم عثمان) استهزأ ضاحكاً وقال : فهؤلاء قتلة عثمان معك يا أم المؤمنين(٣) ! .

وروي : أنّ سعيداً قال : أين تذهبون وتتركون ثأركم وراءكم على أعجاز الإبل(٤) ؟! ، يقصد بذلك طلحة والزبير وعائشة ، ووصل الجيش إلى مكان يقال له : (الحوأب) فتلقّتهم كلاب الحيّ بنباح وعواء ، فذعرت عائشة وسألت محمد بن طلحة عن المكان فقالت : أيّ ماء هذا ؟ فأجابها : ماء الحوأب يا أم المؤمنين فهلعت وصرخت : ما أراني إلاّ راجعة ، قال : لِمَ ، قالت : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لنسائه : كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب وإيّاك أن تكوني يا

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٧٩ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٢٠٧ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٨٠ ، الكامل في التأريخ : ٣ / ٢١٠ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٨٢ .

(٤) الكامل في التأريخ : ٣ / ٢٠٩ .

١٧٣

حميراء(١) ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت : ردّوني ، أنا والله صاحبة ماء الحوأب ، فأناخوا حولها يوماً وليلة ، وجاءها عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله انه ليس ماء الحوأب ، وأتاها ببيّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلك(٢) فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام .

مناوشات على مشارف البصرة :

حين شارف جيش عائشة مدينة البصرة ؛ قام عثمان بن حنيف والي الإمامعليه‌السلام على البصرة موضّحاً أمر الجيش المتقدم إليهم ، ومحذّراً الناس من الفتنة وبطلان وضلالة موقف زعماء الجيش ، وأعلن المخلصون للإسلام وللإمامعليه‌السلام استعدادهم للدفاع عن الحقّ والشريعة المقدّسة وصدّ الناكثين عن الاستيلاء على البصرة(٣) .

وفي محاولة من عثمان بن حنيف ـ الذي يتأسّى بأخلاق الإسلام ويطيع إمامهعليه‌السلام ـ سعى أن يثني عائشة ومَن معها من غيّهم لتجنّب وقوع القتال ، فأرسل إليهم عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي ليحاججوا عائشة ومن معها ببطلان موقفهم ، ولكن محاولات الرجلين باءت بالفشل ، فقد كانت عائشة ومعها طلحة والزبير مصرّين على نيّتهم في إثارة الفتنة وإعلان الحرب(٤) .

وأقبلت عائشة ومن معها حتى انتهوا إلى (المربد) فدخلوا من أعلاه وخرج إليهم عثمان بن حنيف ومن معه من أهل البصرة ، فتكلّم طلحة والزبير وعائشة يحرّضون الناس على الخروج على بيعة الإمامعليه‌السلام بدعوى الثأر لعثمان ، فاختلف الناس بين معارض ومؤيّد .

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٨٢ ، وأخرج الحديث أحمد في مسنده : ٦ / ٥٢١ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : ٢ / ٤٩٧ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٨٢ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٩٥ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٨٣ .

(٤) تاريخ الطبري : ٣ / ٤٧٩ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٢١١ .

١٧٤

وأقبل جارية بن قدامة السعدي لينصح عائشة عسى أن يردّها عن تأجيج الفتنة ، فقال : يا أم المؤمنين ! والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون ، عرضة للسلاح ، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكتِ سترك وأبحت حرمتك ، إنّه من رأى قتالك ؛ فإنّه يرى قتلك ، لئن كنت أتيتنا طائعةً فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس(١) .

الاقتتال ـ الهدنة ـ الغدر :

افتتن الناس بقدوم عائشة على البصرة ، فبين منكر ومؤيّد ومصدّق ومكذّب افترقت جماهير البصرة ، وتأزّم الموقف ، فاصطدم الناس واقتتلوا على فم السكّة ، ولم يحجز بينهم إلاّ الليل ، وكان عثمان بن حنيف لا يريد إراقة الدماء ويجنح للسلم وينتظر قدوم الإمام عليّعليه‌السلام إلى البصرة ، فلمّا عضّت الحرب الطرفين ؛ تنادوا للصلح ، فكتبوا كتاباً لعقد هدنة مؤقّتة على أن يبعثوا رسولاً إلى المدينة يسأل أهلها ، فإن كان طلحة والزبير اُكرها على البيعة ؛ خرج ابن حنيف عن البصرة ، وإلاّ خرج عنها طلحة والزبير(٢) .

وعاد كعب بن مسور رسول الطرفين إلى المدينة بادّعاء أسامة بن زيد أنّ طلحة والزبير بايعا مكرهين ومخالفة أهل المدينة لرأي أسامة فاستغلّها زعماء جيش عائشة ، فهجموا في ليلة ذات رياح ومطر على قصر الإمارة حيث يتواجد عثمان بن حنيف فقتلوا أصحابه وأسروا ونتفوا لحيته ورأسه وحاجبيه ، ولكنّهم خافوا من قتله لأنّ أخاه سهل بن حنيف والي الإمام على المدينة(٣) .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٣ / ٤٨٢ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٢١٣ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٨٧ ، والطبري : ٣ / ٤٨٣ ط مؤسسة الأعلمي ، وراجع الكامل في التأريخ : ٣ / ٢١٥ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٨٩ ، وتأريخ الطبري : ٣ / ٤٨٤ ط مؤسسة الأعلمي ، ومروج الذهب للمسعودي : ٢ / ٣٦٧ .

١٧٥

حركة الإمامعليه‌السلام للقضاء على التمرّد(١) :

حين استلم الإمام عليّعليه‌السلام زمام الحكم كانت هناك عقبة أمام استقرار الأمن وسيطرة الحكومة الشرعية المركزية ، وهي إعلان معاوية بن أبي سفيان تمرّده على خلافة الإمام ، فشرععليه‌السلام بالاستعداد العسكري والسياسي لإيقاف التمزّق في كيان الأمة ومنع سفك الدماء .

وما أن اُحيط الإمامعليه‌السلام علماً بحركة عائشة وطلحة والزبير نحو البصرة وإعلانهم العصيان عدل عمّا كان يخطّط لمعالجة موقف معاوية والشام ، فاتّجهعليه‌السلام نحو البصرة بجيش يضمّ وجوه المهاجرين والأنصار .

وصل الإمامعليه‌السلام إلى منطقة (الربذة) فكتب إلى الأمصار يستمدّ العون ويوضّح الأمر ، كي يتوصّل إلى إخماد نار الفتنة وحصرها في أضيق نطاق ، فأرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر ، فأبى أبو موسى الأشعري الاستجابة للإمام ومارس دور المثبّط عن مناصرة الإمامعليه‌السلام في موقفه ، ثمّ أرسل عبد الله بن عباس ولم يتمكّن من إقناع أبي موسى بالانصياع والكفّ عن تثبيط الناس عن نصرة الإمام ، فأرسلعليه‌السلام ولده الحسن وعمار بن ياسر ثمّ تبعهم مالك الأشتر فعزلوا أبا موسى ، وتحرّكت الكوفة بكلّ ثقلها تنصر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلحقت به في (ذي قار) .

وفي هذا الأثناء لم يتوقّف الإمامعليه‌السلام في مراسلة طلحة والزبير وإيفاد الرسل إليهم ، عسى أن يعودوا لرشدهم ويدركوا خطورة فتنتهم فيجنّبوا الأمة المصائب والبلايا وسفك الدماء ، فأوفد إلى عائشة زيد بن صوحان وعبد الله بن عباس وغيرهما ، فحاوروهم بالحجّة والدليل والعقل حتى أنّ عائشة قالت لابن

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٧٤ ، وتأريخ الطبري : ٥ / ٥٠٧ .

١٧٦

عباس : لا طاقة لي بحجج عليّ ، فقال ابن عباس : لا طاقة لك بحجج المخلوق فكيف طاقتك بحجج الخالق(١) ؟!

آخر النصائح :

أكثر الإمامعليه‌السلام من مراسلة طلحة والزبير بعد أن شارفت قواته على أبواب البصرة ، فخشيت عائشة ومن معها من اقتناع قادتها وجموع الناس معها بحجج الإمامعليه‌السلام فخرجوا لملاقاته ، فلمّا توقّفوا للقتال أمر الإمامعليه‌السلام منادياً ينادي في أصحابه :لا يرمينّ أحد سهماً ولا حجراً ولا يطعن برمح حتى أُعذر القوم فأتّخذ عليهم الحجّة البالغة (٢) .

فلم يجد الإمامعليه‌السلام منهم إلاّ الإصرار على الحرب ، ثمّ خرج الإمامعليه‌السلام إلى الزبير وطلحة فوقفوا ما بين الصفّين ، فقال الإمامعليه‌السلام لهما :لعمري لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إن كنتما أعددتما عند الله عذراً فاتّقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، أَلم أكن أخاكما في دينكما ؟ تحرّماني دمي وأُحرّم دمكما فهل من حدث أحلّ لكما دمي ؟

ثمّ قالعليه‌السلام لطلحة :أجئت بعرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت ؟! أما بايعتني ؟ ثمّ قالعليه‌السلام للزبير :قد كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء عبد الله ففرّق بيننا ، ثمّ قالعليه‌السلام :أتذكر يا زبير يوم مررت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني غنم ، فنظر إليّ فضحك وضحكت إليه فقلتَ له : لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس بِمُزهٍ ـ أي : ليس به زهو ـلتقاتله وأنت له ظالم ؟! قال الزبير : اللَّهُم نعم .

وروي : أنّ الزبير اعتزل الحرب وقتل بعيداً عن ساحة الحرب بعد أن

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة ك ٩٠ ، وبحار الانوار : ٣٢ / ١٢٢ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٩١ ، ومروج الذهب : ٢ / ٢٧٠ .

١٧٧

استعرت الفتنة(١) كما أنّ طلحة قتله مروان بن الحكم في ساحة المعركة(٢) .

نشوب المعركة :

كان الإمامعليه‌السلام طامحاً حتى آخر لحظة قبل نشوب القتال أن يرتدع الناكثون عن غيّهم ، فلم يأذن بالقتال رغم ما شاهد من إصرار زعماء الفتنة على المضي في الحرب ، فقالعليه‌السلام لأصحابه :(لا يرمينّ رجل منكم بسهم ، ولا يطعن أحدكم فيهم برمح حتى اُحدث إليكم ، وحتى يبدؤوكم بالقتال والقتل) (٣) .

وشرع أصحاب الجمل بالرمي فقتل رجل من أصحاب الإمام ، ثمّ قتل ثانٍ وثالث ، عندها أَذِنَعليه‌السلام (٤) بالردّ عليهم والدفاع عن الحقّ والعدل .

التحم الجيشان يقتتلان قتالاً رهيباً ، فتساقطت الرؤوس وتقطّعت الأيادي وأثخنت الجراحات في الفريقين ، ووقف أمير المؤمنين ليشرف على ساحة المعركة فرأى أصحاب الجمل يستبسلون في الدفاع عن جملهم فنادى بأعلى صوته :(ويلكم اعقروا الجمل فإنّه شيطان ...) .

فهجم الإمامعليه‌السلام وأصحابه حتى وصلوا الجمل فعقروه ، ففرّ من بقي من أصحاب الجمل من ساحة المعركة فأمرعليه‌السلام بعد ذلك بحرق الجمل وتذريّة رماده في الهواء لئلاّ تبقى منه بقية يفتتن بها السذّج والبسطاء ، ثمّ قال الإمامعليه‌السلام :لعنه الله من دابّة ، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل .

ومدّ بصره نحو الرماد الذي تناثر في الهواء فتلا قوله تعالى :( ... وَانظُرْ إِلَى‏ إِلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً ) (٥) .

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٩١ ، ومروج الذهب ٢ / ٢٧٠ .

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ١٥٨ ، والإمامة والسياسة : ٩٧ .

(٣) شرح النهج : ٩ / ١١١ .

(٤) الإمامة والسياسة : ٩٥ .

(٥) طه (٢٠) : ٩٧ .

١٧٨

مواقف الإمام بعد المعركة :

كتب الله النصر لأمير المؤمنينعليه‌السلام على مخالفيه ، ووضعت الحرب أوزارها ، وانقشع غبار المعركة ، ونادى منادي الإمامعليه‌السلام يعلن العفو العام :ألا لا يجهز على جريح ولا يتبع مول ولا يطعن في وجه مدبر ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، وأن لا يؤخذ شيء من أموال أصحاب الجمل إلاّ ما وجد في عسكرهم من سلاح أو غيره ممّا استخدم في القتال ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم (١) .

وأمر الإمام عليّعليه‌السلام محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أن يحملوا هودج عائشة من بين القتلى وسط ساحة المعركة وينحّوه جانباً ، وأن يتعهّد محمد أمر أخته عائشة ، فلمّا كان من آخر الليل أدخلها محمد البصرة فأنزلها في دار عبد الله ابن خلف الخزاعي .

وطاف الإمامعليه‌السلام في القتلى من أصحاب الجمل ، وكان يخاطب كلاًّ منهم ويكرّر القول :قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقاً فهل وجدتَ ما وعدك ربّك حقاً .

وقال أيضاً :ما ألوم اليوم من كفّ عنّا وعن غيرنا ولكنّ المليم الذي يقاتلنا (٢) .

وأقام الإمامعليه‌السلام في ظاهر البصرة ولم يدخلها ، وأذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم(٣) ، ثمّ دخلعليه‌السلام مدينة البصرة معقل الناكثين ، فانتهى إلى المسجد فصلّى فيه ثمّ خطب في الناس وذكّرهم بمواقفهم ومواقف الناكثين لبيعته ، فناشدوه الصفح والعفو عنهم ، فقالعليه‌السلام :(قد عفوت عنكم ، فإيّاكم والفتنة ، فإنّكم أوّل الرعيّة نكث البيعة ، وشقّ عصا هذه الأمة) ثمّ أقبلت الجماهير

ــــــــــــ

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٧٢ ، ومروج الذهب : ٢ / ٣٧١ .

(٢) الإرشاد للمفيد : ١ / ٢٥٦ ط مؤسسة آل البيتعليهم‌السلام .

(٣) الكامل في التأريخ : ٣ / ٢٥٥ .

١٧٩

ووجوه الناس لمبايعة الإمامعليه‌السلام (١) .

وبعد ذلك دخل أمير المؤمنين بيت المال في البصرة ، فلمّا رأى كثرة المال قال :(غُرّي غيري ..) وكرّرها مراراً ، وأمر أن يقسّم المال بين الناس بالسوية ، فنال كلّ فرد منهم خمسمائة درهم ، وأخذ هو كأحدهم ، ولم يبقَ شيء من المال فجاءه رجل لم يحضر الوقعة يطالب بحصّته ، فدفع إليه الإمام ما أخذه لنفسه ولم يصب شيئاً(٢) .

ثمّ أمر أمير المؤمنين بتجهيز عائشة وتسريحها إلى المدينة ، وأرسل معها أخاها وعدداً من النساء ألبسهنّ العمائم وقلّدهن السيوف لرعاية شؤونها وأوصلنها إلى المدينة ، ولكنّ عائشة لم تحسن الظنّ بأمير المؤمنين وتصوّرت أنّ الإمام لم يرعَ حرمتها ، وما أن علمت أنّ الإمامعليه‌السلام بعث معها النساء ، أعلنت ندمها على خروجها وفشلها وإثارتها للفتنة ، فكانت تكثر من البكاء(٣) .

نتائج حرب الجمل :

خلّفت حرب الجمل نتائج سلبيّة على واقع المجتمع الإسلامي منها :

١ ـ توسّعت مسألة قتل عثمان بن عفّان حتى أصبحت قضية سياسية كبيرة جرّت من ورائها ظهور تيارات مناوئة فعلاً وقولاً لمسيرة الرسالة الإسلامية ، فأطلّ معاوية بن أبي سفيان ليكمل مسيرة الانحراف الدموي في الجمل .

٢ ـ شاعت الأحقاد بين المسلمين ، وفتحت باب الحرب والاقتتال فيما بينهم ، فكانت الفرقة بين أهل البصرة أنفسهم وبين باقي الأمصار الإسلامية ، فكانت العداوة لمطالبة بعضهم البعض الآخر بدماء أبنائهم في حين كان المسلمون

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٣ / ٥٤٤ ، والإرشاد للشيخ المفيد : ١٣٧ .

(٢) شرح النهج : ١ / ٢٥٠ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٩٨ ، ومروج الذهب للمسعودي : ٢ / ٣٧٩ ، والمناقب للخوارزمي : ١١٥ ، والتذكرة للسبط ابن الجوزي : ٨٠ .

١٨٠