اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)16%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177520 / تحميل: 8955
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أي الشعور الديني الفطري، واحدة من السخافات والمهازل.

إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل(١) مطروحة بحال.

فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى الله وإلى ما وراء الطبيعة.

كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.

هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص، وملازمة الزوجية للأربعة وكأنّ التوجه إلى الله وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية

نشيد لا يهدأ

الماركسيون وتقديس المبادئ الماركسية

رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم

__________________

(١) هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون: إنّ الدين لم يوجد إلّا لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل.

ولكن بعد أن ثبت أنّ للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.

٦١

البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.

رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.

وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين ـ أنفسهم ـ لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.

إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين، أُموراً صحيحة مائة بالمائة، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل(١) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.

ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في ٢٦ أبريل ١٩٤٩م إذ قالت :

نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس، ولينين ; وستالين، ولا نؤمن بثلاثة أشياء: الله، والدين، والملكية الخاصة.

إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية، والمروق من اللينينية الماركسية ويعتبرونه مرتداً حزبياً، تماماً كما يفعل المتدينون، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار

__________________

(١) هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!

٦٢

بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.

إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسوا الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.

وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.

ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلّا ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً، ضد الكادحين، سفاكاً، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها، واستهان بآراء الجماهير، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!

وقد وجدنا ووجد العالم كله ـ طوال الفترة التي عشناها ـ نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته(١) .

__________________

(١) بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.

٦٣

وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو »، وسوف لن يمضي زمان طويل إلّا ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.

إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.

فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلّا أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ(١) .

فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.

ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.

ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك‍ « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.

وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلّا لتحقيق منفعة شخصية إلى

__________________

(١) يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها ـ الهادي ـ.

٦٤

درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلّا لمنفعة نفسه، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!

أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟

فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟

أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟

المعنى الآخر لفطرية الإيمان ب الله

وقد تفسر فطرية الإيمان بالله بنحو آخر إذ يقال: يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.

فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال، وإشعاعة من إشعاعاته.

إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.

فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.

كل هذا ـ لو تأملنا ـ دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،

٦٥

ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.

إنّ عشق الكمال المطلق لدليل ـ حقاً ـ على وجود مثل هذا الكمال، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.

إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق، وتحوله بالتالي من باحث عن الله إلى واجد لله، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.

إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام عليعليه‌السلام إذ قال :

« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان »(١) .

إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان الله » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس، انّه نور لا ظلمة فيه، ويقين لا شك فيه، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.

والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟

إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية، إذ يقول :

__________________

(١) نهج البلاغة: شرح محمد عبده، خطبة ١٧٤.

٦٦

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (١) .

ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية(٢) .

إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.

وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلّا عند القليلين من عباد الله المخلصين.

الشعور الديني الفطري في الأحاديث

نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين: التي تتحدّث عن ذلك وإليك طائفة منها :

١. صحيح البخاري في تفسير الآية( فطرة الله ) نقل الحديث التالي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما من مولود إلّا يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو

__________________

(١) الحجر: ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.

٦٧

يمجّسانه » ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (١) .

وقد ورد في أحاديث أهل البيت: في تفسير آية الفطرة ما يقارب (١٥) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد، وهي تفيد أنّ توحيد الله والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته(٢) .

وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب‍ « الإسلام » و « معرفة الله » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.

ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :

أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :

٢. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :

« فطرهم على التوحيد »(٣) .

وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادقعليه‌السلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.

٣. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام حينما سأله قائلاً: أصلحك الله، قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :

__________________

(١) التاج الجامع للأُصول: ٤ / ١٨٠، وتفسير البرهان: ٣ / ٢٦١، الحديث ٥.

(٢) و (٣) راجع تفسير البرهان: ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣، والتوحيد للصدوق: ٣٢٨ ـ ٣٣١.

٦٨

« فطرهم على التوحيد(١) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم »(٢) .

وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :

٤. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجل:( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية، فقال الإمام :

« هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ».

ثم قال :

« فطرهم الله على المعرفة »(٣) .

وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لـمّا سأله عن نفس الآية فقالعليه‌السلام :

« فطرهم على معرفة أنّه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم »(٤) .

وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :

٥. ما عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام لـمّا سأله عن قول الله عزّ وجلّ:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام:

__________________

(١) إنَّ تفسير الدين المفطور عليه، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل إنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.

(٢) و (٣) و (٤) نفس المصادر السابقة.

٦٩

« هي الإسلام »(١) .

ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد الله بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة الله إذ قالعليه‌السلام :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد »(٢) .

٦. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادقعليه‌السلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقالعليه‌السلام :

« من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع »(٣) .

٧. سأل أبو بصير الإمام الصادقعليه‌السلام فقال الإمامعليه‌السلام :

« نعم وليس للعباد فيها صنع »(٤) .

٨. ولقد تعرض الإمام عليعليه‌السلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد بالله » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود الله والإذعان بإلهيته، إذ يقولعليه‌السلام :

« فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول »(٥) .

مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول الله

__________________

(١) و (٢) المصادر السابقة.

(٣) أُصول الكافي: ١ / ٨٥، ٩٣، ١٦٥.

(٤) أُصول الكافي: ١ / ١٦٣.

(٥) نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

٧٠

تعالى:( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (١) في حق الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو: أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع ـ أساساً ـ في فطرتهم أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها ـ على الأقل ـ.

٩. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام قال الرجل: يابن رسول الله دلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له الإمام: « يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ » قال: نعم، قال: « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال: نعم.

قال: « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال: نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث »(٢) .

تنبيه

دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد، وهي تواكب جميع مراحل حياته، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :

( واللهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .

__________________

(١) الغاشية: ٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٣ / ٤١، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.

(٣) النحل: ٧٨.

٧١

فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.

والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي: انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.

أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت ـ في ذهنه ـ ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع، وكذا القول في بقية الحواس.

فالمدركات على قسمين: ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.

والقسم الثاني ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النظرية، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.

وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية(١) .

والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلّا قوة العلم

__________________

(١) راجع مفاتيح الغيب للرازي: ٥ / ٣٤٩.

٧٢

وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه، ولامس الحقيقة الخارجية، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.

وصفوة القول: إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.

وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.

٧٣
٧٤

الفصل الثاني

الله وعالم الذر

٧٥

ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟

١. استعراض الآيات أوّلاً.

٢. نقاط جديرة بالاهتمام.

٣. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».

٤. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.

٥. انتقادات على هذه النظرية.

٦. النظرية الثانية.

٧. إشكالات على هذه النظرية.

٨. النظرية الثالثة.

٩. أسئلة حول هذه النظرية.

١٠. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.

٧٦

استعراض الآيات أوّلاً

قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية، أوّلاً، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.

وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ *وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

نقاط جديرة بالاهتمام

١. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (١٨) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً والمقصود بها في كل تلك الموارد هو: « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟

__________________

(١) الأعراف: ١٧٢ ـ ١٧٤.

٧٧

فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى: المخلوق.

وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.

وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة(١) .

٢. تستعمل لفظة الذرية ـ غالباً ـ في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :

( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (٢) .

وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (٣) .

كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :

( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (٤) .

وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً(٥) .

وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :

__________________

(١) راجع في هذا الصدد: مفردات الراغب مادة « ذرو »، ومجمع البيان: ١ / ١٩٩ تفسير آية( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .

(٢) البقرة: ٢٦٦.

(٣) الأنعام: ٨٤.

(٤) آل عمران: ٣٨.

(٥) ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم: ٦ ).

٧٨

( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .

٣. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية

فالآية تفيد أنّ الله أخذ من ظهور كل أبناء آدم، أنسالهم وذرياتهم، وليس من ظهر آدم وحده.

وذلك بدليل أنّ الله تعالى يقول :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .

ولم يقل: وإذ أخذ ربك من آدم وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسّرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.

٤. تصرح الآية بأنّ الله أخذنا شهداء على أنفسنا، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.

٥. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين، فلا يحقّ لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ) .

من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.

فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.

__________________

(١) الأعراف: ١٧٣.

٧٩

فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :

( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) .

أي أن لا تقولوا(١) .

في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :

كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!

وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!

وبعبارة أُخرى: إنّنا ـ لا شك ـ لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي، في حين أنّ الآية (١٧٢) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد: إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى:( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) ؟

٦. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية إمّا موجه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمّا إلى

__________________

(١) إنّ للمفسّرين في أمثال هذه الآية مذهبين :

أحدهما: تقدير لا، ففي مثل قوله سبحانه :

( يُبَيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ( النساء: ١٧٦ ) قالوا: إنّ المعنى هو أن لا تضلّوا.

فهم جعلوا قوله:( أَنْ تَضِلُّوا ) مفعولاً له ليبين، بنحو « التحصيلي » فيكون المعنى « يبيّن الله لكم لأجل أن لا تضلوا ».

الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب « الحصولي » كقول القائل ضربته لسوء أدبه، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته.

فيكون معنى الآية السابقة هو « يبين الله لوجود الضلالة فيكم » ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

يتحرّجون من إراقة دمائهم .

٣ ـ توسّعت جبهة الانحراف الداخلي في المجتمع الإسلامي ، وازدادت العراقيل أمام حكومة الإمام عليّعليه‌السلام فبعد أن كان تمرّد معاوية في الشام فقط انفتحت جبهة أُخرى ممّا أدّى إلى انحسار التوسّع الخارجي ، وكذلك انحسار الأعمال الإصلاحية والحضارية التي كان يمكن أن تنمو في المجتمع الإسلامي .

٤ ـ إنّ الأحقاد والانحراف فتحا الطريق على المخالفين في المعتقد السياسي للّجوء فوراً إلى حمل السلاح والقتال .

الكوفة عاصمة الخلافة :

بعد أن هدأت الاُمور تماماً تحرّك الإمام عليّعليه‌السلام نحو الكوفة ليتّخذها مقرّاً بعد أن بعث إليهم برسالة أوضح فيها بإيجاز تفاصيل الأحداث(١) ، كما أنّ الإمام أمّر عبد الله بن عباس على البصرة وشرح له كيفية التعامل مع سكّانها بعد الذي وقع بينهم(٢) .

وكان لاختيار الإمامعليه‌السلام الكوفة عاصمةً جديدةً للدولة الإسلامية أسباب عديدة منها :

١ ـ توسّع رقعة العالم الإسلامي ، ولابدّ أن تكون العاصمة الإدارية والسياسية للدولة في موقع يُعين الحكومة في التحرّك نحو جميع نقاط الدولة .

٢ ـ إنّ الثقل الأكبر الذي وقف مع الإمامعليه‌السلام في القضاء على فتنة أصحاب الجمل هم كبار شخصيّات العراق ووجهاء الكوفة وجماهيرها .

٣ ـ الظروف السياسية والتوتّرات الناجمة عن مقتل عثمان وحرب أصحاب الجمل كلّ ذلك جعل الإمامعليه‌السلام أن يستقرّ في الكوفة، ليعيد الأمن والاستقرار للمنطقة .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٣ / ٥٤٥ و ٥٤٦ .

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٥٤٦ ط مؤسسة الأعلمي .

١٨١

الفصل الثالث: الإمام عليعليه‌السلام مع القاسطين(*)

استعدادات معاوية لمحاربة الإمامعليه‌السلام :

ساورت المخاوف معاوية من استقرار الإمام في الكوفة ومضيّهعليه‌السلام في خطّته لتوحيد الدولة وبناء الحضارة الإسلامية على منهج القرآن والسنّة النبويّة ، فسارع معاوية إلى الاستعانة بعمرو بن العاص لما يتمتّع به من حيلة وغدر ، وتوافق معه في العداء للإسلام وللإمامعليه‌السلام ، ولم يتردّد عمرو طويلاً أمام رسالة معاوية ، ولم يكن ليختار على طمعه في الدنيا شيئاً حتى لو كان دينه الذي يُدخله الجنّة(١) .

وما أن وصل عمرو إلى الشام حتى جعل يبكي ويولول كالنساء(٢) مبتدئاً خطّته في التضليل وخداع الجماهير ، وبعد مراوغة ومكايدة بين معاوية وعمرو تمّت المساومة على أن تكون حصّة عمرو ولاية مصر مقابل مواجهة الإمامعليه‌السلام ومحاربته ، وكتب معاوية كتاباً بذلك(٣) .

وشرعاً يخطّطان لمواجهة الإمام والوضع القائم ، فكان الاتّفاق على المضيّ

ــــــــــــ

(*) وقعت معركة صفّين في صفر من عام (٣٧) هـ ، وكانت المناوشات بين الطرفين بدأت في ذي الحجّة عام (٣٦) هـ .

(١) وقعة صفّين : ٣٤ ، والإمامة والسياسة : ١١٦ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٢٧٥ .

(٢) الكامل في التأريخ : ٣ / ٢٧٤ .

(٣) وقعة صفّين : ٤٠ ، والإمامة والسياسة : ١١٧ .

١٨٢

في هذا المسار العدائي المشوب بالظلم والغدر والبغي ، إذ لا سبيل للوصول إلى أهدافهم وغاياتهم إلاّ مواجهة الإمامعليه‌السلام وهو الوريث الشرعيّ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحامل راية الحقّ والعدل، واصطدم الرجلان إذ كلاهما خذلا عثمان فكانت خطّتهم تتطلب التشبّث بقميص عثمان كشعار لتحريك مشاعر وعقول الجماهير غير الواعية ، فرفعاه على المنبر بعد أن قَدِم به عليهما النعمان بن بشير ، فكان الناس يضجّون بالبكاء حتى سرت فيهم روح الحقد والكراهية والعمى عن هدى الحقّ(١) .

ولتحريك جماهير الشام لمؤازرة معاوية وحشدهم للحرب اقترح عمرو أن يكون شرحبيل بن السمط الكندي المحرّك الأول ، لما عرف عنه من عبادة ووجاهة في قبائل الشام وكراهية لجرير مبعوث الإمامعليه‌السلام إلى معاوية ، كما أنّ شرحبيل ممّن لا يتقصّى الحقائق من مصادرها ، وتمّت مخادعة شرحبيل الذي انطلق مطالباً معاوية بالأخذ بثأر عثمان بن عفان ، ويتحرّك بنفسه لحشد الناس للحرب(٢) .

السيطرة على الفرات :

بعد تعبئة الشام للحرب ؛ أخذ معاوية منهم البيعة وكتب بالحرب كتاباً أرسله مع جرير(٣) الذي أبطأ كثيراً على الإمامعليه‌السلام ، ثمّ سارع معاوية بتحريك قوّاته نحو أعالي الفرات في وادي صفّين لاحتلالها ومنع تقدّم قوات الإمامعليه‌السلام وحبس الماء عنهم ، وتصوّر معاوية أنّ هذا أوّل نصر يحقّقه على الإمامعليه‌السلام وطلب الإمامعليه‌السلام من معاوية أن يسمح لجيشه بالاستقاء بعد أن وصلوا متأخرين إلى صفّين ، وأبى معاوية وجيشه ذلك ، وأضرّ الظمأ كثيراً بأهل العراق وازداد الضغط على الإمامعليه‌السلام لكسر الحصار ، فأذن لهم بالهجوم على شاطئ الفرات ، وتمّ إزاحة قوّات معاوية عن ضفّة النهر.

ــــــــــــ

(١) وقعة صفّين : ٣٧ ، الكامل في التأريخ : ٣ / ٢٧٧ .

(٢) المصدر السابق : ٤٦ .

(٣) المصدر السابق : ٥٦ .

١٨٣

ولكنّ الإمامعليه‌السلام لم يقابل أهل الشام بالمثل ، ففسح لهم المجال لأخذ الماء دون معارضة(١) .

محاولة سلمية :

رغم أنّ الإمامعليه‌السلام أكثر من مراسلة معاوية وفتح عدّة قنوات للحوار محاولاً كسبه وإدخاله في بيعته لكنّ ردّ معاوية كان هو الحرب والسعي للقضاء على الإمام وجيشه بكلّ وسيلة ، وبيد أنّ الإمامعليه‌السلام كان يأمل في محاولة سلمية أُخرى بعد أن استقرّ وجيشه ضفّة الفرات ، فسادت هدنة مؤقّتة بعث خلالها الإمامعليه‌السلام مندوبين عنه إلى معاوية وهم بشير بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي ، فقالعليه‌السلام لهم :(إئتوا هذا الرجل ـ أي معاوية ـوادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة) .

وما كان جواب معاوية إلاّ السيف والحرب ، فقال للمندوبين : انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلاّ السيف(٢) .

الحرب بعد الهدنة :

جرت مناوشات بين الجيشين ولم تستعر الحرب بعدُ ، فكانت خرج فرقة منكلا الطرفين فيقتتلان ، وما أن حلّ شهر محرّم من عام (٣٧ هـ) حتى حصلت موادعة بين الطرفين ، حاول من خلالها الإمامعليه‌السلام التوصّل إلى الصلح ، وكانت طروحاتهعليه‌السلام هي الدعوة إلى السلم وجمع الكلمة وحقن الدماء ، ودعوات

ــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٢ / ٣٨٤ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : ٣ / ٣٢٠ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٢٨٣ .

(٢) تأريخ الطبري : ٣ / ٥٦٩ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٢٨٤ .

١٨٤

معاوية وأهل الشام رفض بيعة الإمامعليه‌السلام والطلب بدم عثمان بن عفان(١) .

واستمرّت الهدنة مدّة شهرٍ واحدٍ ، ولمّا طالت فترة المناوشات ؛ سئم الفريقان من ذلك فعبّأ الإمامعليه‌السلام جيشه تعبئة عامة ، وكذلك فعل معاوية ، والتحم الجيشان في معركة رهيبة ، وكان الإمام يوصي جنوده دائماً فيقول :(لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم فأنتم بحمد الله عزّ وجلّ على حجّة) ثمّ قال :(فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثّلوا بقتيل) (٢) .

واستمرت الحرب بين كرٍّ وفرّ حتى سقط خلالها أعداد كبيرة من المسلمين صرعى وجرحى بلغت عشرات الألوف .

مقتل عمار بن ياسر :

روي : أنّ عمار بن ياسر خرج بين الصفوف فقال : إنّي لأرى وجوه قوم لا يزالون يقاتلون حتى يرتاب المبطلون ، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر ؛ لكنّا على الحقّ وكانوا على الباطل ثمّ تقدّم نحو جيش معاوية وهو يرتجز :

نحن ضربناكم على تنزيله

واليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحقّ إلى سبيله

فتوسّط فيهم ببسالته التي قاتل بها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادقاً مخلصاً ، فاشتبكت عليه الرماح فطعنه أبو العادية وابن جون السكسكي ، وروي أنّهما اختصما في رأس عمار إلى معاوية وعبد الله بن عمرو بن العاص جالس فقال لهم ك ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له :(يا عمّار تقتلك الفئة الباغية) (٣) .

ــــــــــــ

(١) وقعة صفّين : ١٩٥ ، وتأريخ الطبري : ٣ / ٥٧٠ .

(٢) وقعة صفّين : ٢٠٢ ، وتأريخ الطبري : ٤ / ٦ .

(٣) وقعة صفّين : ٣٤٠ ، وتأريخ الطبري : ٤ م ٢٧ ط مؤسسة الأعلمي ، والعقد الفريد : ٤ / ٣٤١ .

١٨٥

وكان الإمام قلقاً لا يقرّ له قرار حين برز عمار للقتال في ذلك اليوم ، وأكثر من السؤال عليه حتى جاءه خبر استشهاده ، فأسرع إلى مصرعه كئيباً حزيناً تفيض عيناه دمعاً ، فقد غاب عنه الناصر الناصح والأخ الأمين ، ثمّ صلَّى عليه الإمامعليه‌السلام ودفنه .

وسرى خبر استشهاد عمار بين الجيشين فوقعت الفتنة بين صفوف جيش معاوية ، لما يعلمون من مكانة عمار وحديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ولكنّ المكر والحيلة كانا بالمرصاد لكلّ ساذج جاهل ، فأشاع معاوية أنّ الذي قتل عماراً من جاء به وأذعن بسطاء أهل الشام لهذه الضلالة(١) .

وروي : أنّ ذلك بلغ الإمام علياًعليه‌السلام فقال :ونحن قتلنا حمزة لأنّا أخرجناه إلى أُحد؟ (٢)

خدعة رفع المصاحف :

استمرّ القتال أياماً أظهر خلالها أصحاب الإمام صبرهم وتفانيهم من أجل انتصار الحقّ ، ثمّ إنّ الإمامعليه‌السلام قام خطيباً يحثّ على الجهاد فقال :(أيّها الناس ! قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس ، وإنّ الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأوّلها وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا ، منهم ما بلغنا وأنا غادٍ عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عزّ وجلّ) (٣) .

فبلغ ذلك معاوية وقد بدت الهزيمة على أهل الشام فاستدعى عمرو بن العاص يستشيره ، وقال له : إنّما هي الليلة حتى يغدو عليّ علينا بالفيصل فما ترى ؟

قال عمرو : أرى أنّ رجالك لا يقومون لرجاله ولست مثله ، وهو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء ، وأهل العراق

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٥ / ٦٥٣ .

(٢) العقد الفريد : ٤ / ٣٤٣ ، وتذكرة الخواص : ٩٠ .

(٣) كتاب سليم بن قيس : ١٧٦ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٣١٠ .

١٨٦

يخافون منك إن ظفرت بهم وأهل الشام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم ، ولكن ألقِ إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا وإن ردّوه اختلفوا ،أ ُدعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم(١) .

فأمر معاوية في الحال أن ترفع المصاحف على الرماح ، ونادى أهل الشام : يا أهل العراق ! هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته من لثغور أهل الشام من بعد أهل الشام ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق ؟

وكانت هذه الدعوى المضلّلة كالصاعقة على رؤوس جيش الإمام ، فهاج الناس وكثر اللغط بينهم ، وقالوا : نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه، وكان أشدّ الناس في ذلك أحد كبار قادة جيش الإمام عليّ الأشعث بن قيس .

فقال لهم الإمامعليه‌السلام :(عباد الله ! امضوا على حقّكم وصدقكم وقتال عدوّكم ، فإنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن أبي مسلمة وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالاً ثمّ رجالاً فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، وَيْحَكُم ! والله ما رفعوها إلاّ خديعةً ووهناً ومكيدةً ، إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل) .

فخاطبوا أمير المؤمنين باسمه الصريح قائلين : يا عليّ ، أجب إلى كتاب الله عزّ وجلّ إذ دعيت إليه وإلاّ ندفعك برمّتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفّان .

ولم يجد الإمامعليه‌السلام مع المخدوعين سبيلاً فقال :فإن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما شئتم (٢) .

وكان في ساحة المعركة مالك الأشتر يقاتل ببسالة ويقين حتى كاد أن يصل إلى معاوية فقالوا لأمير المؤمنين : ابعث إلى الأشتر ليأتينّك ولكنّ الأشتر لم ينثنِ عن عزمه في القتال ، لأنه يعلم أنّ الأمر خدعة فهدّدوه بقتل الإمامعليه‌السلام ، فعاد الأشتر يؤنّبهم فقال لهم : خُدعتم والله فانخدعتم ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود كنّا نظن أنّ صلاتكم زهادة إلى الدنيا وشوق إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت.

ــــــــــــ

(١) وقعة صفّين : ٣٤٧ ، وتأريخ الطبري : ٤ / ٣٤ .

(٢) وقعة صفّين : ٤٨١ ، وتأريخ الطبري : ٤ / ٣٤ و ٣٥ ط مؤسسة الأعلمي .

١٨٧

وأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين ، والإمامعليه‌السلام ساكت لا يفيض بكلمة مطرق الرأس حزيناً ، فقد انطلت على جيشه فتمرّد عليه ، ولم يعد باستطاعته أن يفعل شيئاً ، وقد أدلىعليه‌السلام بما مني به بقوله :(لقد كنت أمسِ أميراً فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت بالأمسِ ناهياً فأصبحت اليوم منهيّاً) (١) .

التحكيم وصحيفة الموادعة :

لم تتوقّف محنة الإمامعليه‌السلام بتخاذل الجيش ، وكان بالإمكان أن يحقّق مكسباً سياسياً عن طريق المفاوضات التي دُعي إليها لو أطاعه المتمرّدون في اختيار الممثّلين عنه إلى التحكيم ، فأراد الإمامعليه‌السلام ترشيح عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر لما يعلم عنهما من إخلاص ووعي ، وأصرّ المخدوعون على ترشيح أبي موسى الأشعري، فقال الإمامعليه‌السلام :(إنّكم قد عصيتموني في أوّل الأمر فلا تعصوني الآن ، إنّي لا أرى أن أولِّي أبا موسى فإنّه ليس بثقة ، قد فارقني وخذّل الناس عنّي ـ بالكوفة عند الذهاب لحرب الجمل ـ ثمّ هرب منّي حتى أمّنته بعد أشهر) (٢) .

وتمكّن معاوية وابن العاص من مأربهم في تفتيت جيش الإمامعليه‌السلام ، يساعدهم في ذلك الأشعث بن قيس من داخل قوّات الإمام .

حضر عمرو بن العاص ممثّلاً عن أهل الشام بدون معارضة من أحد لتسطير بنود الاتّفاق مع أبي موسى الأشعري ، ولم يقبل عمرو كتابة اسم (أمير المؤمنين) في الصحيفة ، فقال الإمامعليه‌السلام :إنّ هذا اليوم كيوم الحديبية إذ قال سهيل ابن عمر للنبي : لست رسول الله ، ثمّ قالعليه‌السلام :فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة الخطبة ٢٠٨ ط مؤسسة النشر الإسلامي .

(٢) وقعة صفّين : ٤٩٩ ، وتأريخ الطبري : ٤ / ٣٦ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٣١٩ .

١٨٨

إنّ لك مثلها ستعطيها وأنت مضطهد (١) .

وأهمّ ما جاء في الصحيفة هو إعلان الهدنة ووقف القتال ، وأن يلجأ الطرفان إلى كتاب الله وسنّة نبيّه لحلّ قضاياهم ، وأُجّل البتّ في قرار الحكمين إلى رمضان (٣٧ هـ) ، حيث كتبت الصحيفة في صفر من العام نفسه والغريب أنّ مسألة الأخذ بثأر عثمان لم ترد ولو بإشارة بسيطة في كتاب الموادعة مع أنّها أس الفتنة التي تحرّك فيها معاوية وحزبه من أبناء الطلقاء(٢) ، واتّفقوا على أن يكون موضع اجتماع الحكمين في (دومة الجندل) .

موقف واع وتقييم :

روي : أنّه طلب من الأشتر أن يشهد في الصحيفة ، فقال : لا صبّحتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن خُطّ لي في هذه الصحيفة اسم أوَلست على بيّنة من ربّي من خلال عدوّي ؟ أو لستم قد رأيتم الظفر(٣) ؟

وقيل لأمير المؤمنين : إنّ الأشتر لا يقرّ بما في الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم .

فقالعليه‌السلام :(وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا) ثمّ قالعليه‌السلام :(يا ليت فيكم مثله اثنين ، يا ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوّي ما أرى ، إذاً لخفّت عليّ مؤنتكم ، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم وقد نهيتكم فعصيتموني ، والله لقد فعلتم فِعلة ضعضعت قوّة وأسقطت مُنّة وأورثت وهناً وذلّة) (٤) .

رجوع الإمامعليه‌السلام واعتزال الخوارج :

قفل أمير المؤمنين راجعاً إلى الكوفة مثقلاً بالهموم والآلام ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره أوشك أن يتمّ ، وينظر إلى جيشه وقد فتّته التمرّد لا يستجيب لأَمره .

ــــــــــــ

(١) وقعة صفّين : ٥٠٨ ، وشرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٣٢ .

(٢) تأريخ الطبري : ٤ / ٤٠ .

(٣) وقعة صفّين : ٥١١ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٣٢١ .

(٤) وقعة صفّين : ٥٢١ ، وتأريخ الطبري : ٤ / ٤٢ و ٤٣ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٣٢٢ .

١٨٩

ودخل الإمامعليه‌السلام الكوفة فرأى لوعة وبكاء ، قد سادت جميع أرجائها حزناً على من قتل في صفّين ، واعتزلت فرقة تناهز اثني عشر ألف مقاتل عن جيش الإمام ، ولم يدخلوا الكوفة فلحقوا بحروراء ، وجعلوا أميرهم على القتال شبث بن ربعي ، وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري ، وخلعوا بيعة الإمامعليه‌السلام يدعون إلى جعل الأمر شورى بين المسلمين وكان أمر هؤلاء قد بدأ منذ كتابة صحيفة الموادعة ، إذ لم يعجبهم الأمر فاعترضوا وقالوا : لا نرضى لا حكم إلاّ لله ، واتّخذوه شعاراً لهم رغم أنّهم هم الذين أصرّوا على الإمامعليه‌السلام لقبول التحكيم .

وسعى أمير المؤمنين لمعالجة موقفهم بالحكمة والنصيحة ، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس وأمره أن لا يعجل في الخوض معهم في جدال وخصومة ، ولحقه الإمامعليه‌السلام فكلّمهم وحاججهم وفنّد كلّ دعاويهم ، فاستجابوا له ودخلوا معه إلى الكوفة(١) .

اجتماع الحكمين :

حان الأجل الذي ضرب الحكمين ، فأرسل الإمامعليه‌السلام أربعمائة رجل عليهم شريح بن هاني ، وبعث معهم عبد الله بن عباس ليصلّي بهم ويلي أمورهم وأبو موسى الأشعري معهم ، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل من أهل الشام حتى توافوا في دومة الجندل .

وقد سارع عدد من أهل الرأي والحكمة ممّن أخلصوا للإمامعليه‌السلام بتقديم النصح والتحذير لأبي موسى ، باذلين جهدهم في حمله على التبصرة والرويّة في

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٤ / ٥٤ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٤٢٦ .

١٩٠

اتّخاذ القرار ، وخشية منهم من مكر عمرو وخداعه(١) .

قرار التحكيم :

اجتمع الحكمان : أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ، والأوّل يحمل الغباء السياسي وضعف الانتماء العقائدي وقلّة الولاء لإمامه عليّعليه‌السلام والثاني هو الماكر المخادع ذو السجيّة الغادرة والطامع إلى إقصاء خطّ أهل البيتعليهم‌السلام تماماً عن الميدان السياسي ، يدفعه لذلك طمعه للملك وشركته مع الطليق ابن الطليق معاوية .

ولم يطل الاجتماع طويلاً حتى تمكّن ابن العاص من معرفة نقاط الضعف في شخصية الأشعري والسيطرة عليه وتوجيهه نحو ما يريد ، واتفق الإثنان في اجتماع مغلق على خلع الإمام عليّعليه‌السلام ومعاوية عن ولاية أمر المسلمين ، واختيار عبد الله بن عمر بن الخطاب ليكون الخليفة المقترح .

وبادر ابن عباس محذّراً الأشعري من أن ينساق في لعبة ابن العاص ، فقال له : ويحك ، والله إنّي لأظنّه قد خدعك إن اتّفقتما على أمر ، فقدّمه فليتكلّم بذلك الأمر قبلك ثمّ تكلّم أنت بعده ، فإنّ عَمْراً رجل غادر لا آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه ، فإذا قمت في الناس خالفك .

فقام الأشعري فخطب وخلع الإمام عليّاًعليه‌السلام ، ثمّ انبرى عمرو فخطب وأكّد خلع الإمام وثبّت معاوية لولاية الأمر(٢) .

وبتلك الغدرة ظفر معاوية بالنصر ، وعاد إليه أهل الشام يسلّمون عليه بإمرة المؤمنين ، وأمّا أهل العراق فغرقوا في الفتنة وأيقنوا بضلال ما أقدموا عليه ، وهرب أبو موسى إلى مكّة ، ورجع ابن عباس وشريح إلى الإمام عليّعليه‌السلام .

ــــــــــــ

(١) وقعة صفّين : ٥٣٤ ، وشرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٤٦ ط دار إحياء التراث العربي .

(٢) تأريخ الطبري : ٤ / ٥٢ ، ومروج الذهب : ٢ / ٤١١ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٣٢٢ .

١٩١

الفصل الرابع: الإمام عليعليه‌السلام مع المارقين

بمكن أن نقول : إن ظهور الخوارج إفراز طبيعي للصراع الدموي في الجمل وصفّين ، كما أنّنا لا يمكننا أن نعزل انحرافهم بمعزل عن انحراف الخلافة عن خطّ أهل البيتعليهم‌السلام ، لقد كان من أهمّ صفات الخوارج هو التحجّر والتمسّك بالظواهر والتعصّب والخشونة وعدم التمييز بين الحقّ والباطل ، وأنّهم سريعو التأثّر بالشائعات ، فيتردّدون عند أدنى شكّ .

ونجد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عن صفتهم ، إذ روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(يخرج في هذه الأمة ـ ولم يقل منها ـقوم تحقّرون صلاتكم مع صلاتهم ، يقرءون القرآن ولا يجاوز حلوقهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية) (١) .

ولم يتمكّن الإمامعليه‌السلام من معالجة أمراضهم وانحرافاتهم ، فقد عاجلته الحروب والتمرّدات في الجمل وصفّين في فترة قصيرة جدّاً ، ويمكن أن نعزو ظهور الخوارج إلى :

١ ـ الإحباط النفسي والفشل في تحقيق النصر ، وخصوصاً أنّ معارك الإمامعليه‌السلام ضد متمرّدين هم مسلمون في الظاهر ، فلم يتمكّن الخوارج من فهم

ــــــــــــ

(١) انظر البداية والنهاية : ٧ / ٣٢١ ـ ٣٣٧ وصحيح البخاري : ٩ / ٢١ ـ ٢٢ باب ترك قتال الخوارج ، وصحيح مسلم :٢ / ٧٤٤ الحديث ١٠٦٤ ، ومسند أحمد : ٣ / ٥٦ دار صادر .

١٩٢

معالجة الإمام للمتمرّدين ، ولم يتمكّنوا من تحمّل نتيجة التحكيم ، في حين هم الذين أجبروه على قبول التحكيم ، ولم يواجهوا أنفسهم بمواقفهم المنحرفة ، فسعوا إلى تعليق أخطائهم وتحميل أوزارها إلى طرف آخر غيرهم ولم يكن إلاّ الإمام عليّعليه‌السلام (١) .

٢ ـ استغلالهم الحرية الفكرية التي فتحها الإمامعليه‌السلام لكي تمارس الأمة وعيها الرسالي ، فقد روي أنّهم كانوا يعترضون على الإمام حتى أثناء خطبته بدعوى لا حكم إلاّ لله ، وما كان الإمام يجيبهم إلاّ بـ(كلمة حقّ يراد بها باطل) . وقال الإمامعليه‌السلام لهم :(لكم عندنا ثلاث خصال : لا نمنعكم مساجد الله أن تصلّوا فيها ، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم في أيدينا ن ولا نبدؤكم للحرب حتى تبدؤونا) (٢) فتحوّلت حركتهم من حالة فردية إلى حالة جماعية .

ردّ الإمامعليه‌السلام على قرار الحكمين :

ولمّا بلغ خبر التحكيم إلى الإمامعليه‌السلام تألّم كثيراً ن وخطب في الناس يحثّهم ويدلّهم على إصلاح الخطأ الذي تورّطوا فيه وذكّرهم بنصحه لهم ، فقالعليه‌السلام :(إنّ مخالفة الناصح الشفيق المجرّب تورث الحسرة وتعقب الندامة ، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر فأبيتم عليَّ إباء المخالفين الجفاة المنابذين العصاة حتى ارتاب الناصح بنصحه وضّنَّ الزند بقدحه ، فكنت وإيّاكم كما قال أخو هوازن :

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى

فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد

ألا إنّ هذين الرجلين ـ أبا موسى الأشعري وابن العاص ـاللّذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، واتّبع كلّ واحد منهما

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٤ / ٥٣ ـ ٥٨ .

(٢) تأريخ الطبري : ٤ / ٥٤ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٣٣٤ ، ومستدرك وسائل الشيعة : ٢ / ٢٥٤ .

١٩٣

هواه بغير هدىً من الله ، فحكما بغير حجّة بيّنة ولا سنّة ماضية ، واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، استعدوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام ، وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله (١) .

وكتب الإمام إلى عبد الله بن عباس أن يعبّئ أهل البصرة للالتحاق بالإمامعليه‌السلام لقتال معاوية ، فالتحقت جموع البصرة بالكوفة ، ولكن عبث الخوارج الذين تجمّعوا من البصرة والكوفة متّجهين نحو النهروان وفسادهم في الأرض أقلق أصحاب الإمامعليه‌السلام من تركهم خلفهم لو توجّهوا إلى الشام فطلبوا من الإمام أن يقضي على الخوارج أوّلاً(٢) .

وكان من عيث الخوارج أنّهم قبضوا على عبد الله بن خباب وزوجته فقتلوه ، وبقروا بطن امرأته ، وألقوا ما فيها من دون مبرّر ، وكذلك قتلوا الحارث بن مرّة العبدي رسول الإمامعليه‌السلام إليهم(٣) .

المواجهة مع الخوارج :

تجمّعت قوات المارقين عن الدين قرب النهروان بعد أن التحقت بهم مجاميع من البصرة وغيرها ، وحاول الإمامعليه‌السلام مراراً أن يقنعهم بالتخلي عن فكرتهم وتمرّدهم وسعيهم للحرب ، ولم يجد فيهم إلاّ الفساد والجهل والإصرار ، فعبّأ جيشه ونصحهم بأخلاق الإسلام في كيفية التعامل في مثل هذه الظروف كما هو شأنه في كلّ معركة ولمّا انتهى الإمامعليه‌السلام ؛ إليهم بعث لهم رسولاً يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب وقتلة رسوله الحارث بن مرّة ، فردّوا عليه مجمعين : كلّنا قتلناهم وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٤ / ٥٧ .

(٢) تأريخ الطبري : ٤ / ٥٧ و ٥٨ ، والبداية والنهاية : ٧ / ٢٨٦ .

(٣) تأريخ الطبري : ٤ / ٦١ ، والبداية والنهاية : ٧ / ٢٨٦ ، والفصول المهمة لابن الصبّاغ : ١٠٨ .

١٩٤

وبعث الإمامعليه‌السلام قيس بن سعد وأبا أيوب الأنصاري لينصحوا القوم عساهم أن يفهموا واقع الأحداث ، ويجنّبوا الأمة مزيداً من الدماء، ثمّ أتاهم الإمامعليه‌السلام فقال لهم :

(أيّتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدّها عن الحقّ الهوى ، وطمع بها النزق ، وأصبحت في الخطب العظيم ! إنّي نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غداً صرعى بأثناء هذا الوادي ، وبأهضام هذا الغائط بغير بيّنة من ربّكم ولا برهان مبين) ثمّ بيّن لهمعليه‌السلام أنّه كره التحكيم وعارضه ، وشرح سبب معارضته بوضوح لهم ، ولكنّهم أنفسهم أجبروا الإمام على قبول التحكيم ، وأنّ الحكمين لم يحكما بالقرآن والسنّة ، وها هو الإمام يعدّ العدّة لملاقاة معاوية ثانية ، فلا معنى لخروج المارقين ، ولم يرعِو المارقون لقول الإمام وطالبوه بتكفير نفسه وإعلان توبته ، فقالعليه‌السلام :

(أصابكم حاصب ولا بقي منكم آثر أبعد إيماني برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين) ثمّ انصرف عنهم ، وتقدّم الخوارج فاصطفّوا للقتال وعبّأ الإمامعليه‌السلام جيشه لملاقاتهم ، وفي محاولة أخيرة أمر الإمام أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ، ويقول لهم :(من جاء إلى هذه الراية فهو آمن ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن إنّه لا حاجة لنا فيكم إلاّ فيمن قتل إخواننا) .

فانصرفت منهم مجاميع كثيرة ، وقال الإمامعليه‌السلام لأصحابه :كفّوا عنهم حتّى يبدؤوكم بقتال .

وهجم الخوارج وهم يتصايحون : لا حكم إلاّ لله الرواح الرواح إلى الجنّة ، ولم تمضِ إلاّ ساعة حتى أبيد أكثرهم ، ولم ينجُ منهم إلاّ أقلّ من عشرة ، ولم يُقتل من أصحاب الإمام إلاّ أقلّ من عشرة أشخاص(١) .

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة الخطبة ٥٩ ط مؤسسة النشر الإسلامي ، ومروج الذهب : ٢ / ٣٨٥ ، والبداية والنهاية : ٧ / ٣١٩ .

١٩٥

وبعد أن سكنت أوار المعركة ؛ أمر الإمامعليه‌السلام بطلب (ذي الثُّدية) ـ أحد قادة الخوارج ـ وألحَّ في ذلك لأنّ في ذلك مصداقاً لوصايا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقاتلة المارقين عن الدين الذين فيهم ذو الثدية(١) ولمّا وجدوه أخبروا الإمامعليه‌السلام فقال :(الله أكبر ما كذبت ولا كذّبت ، لو لا أن تنكلوا عن العمل ؛ لأخبرتكم بما قصّ الله على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن قاتلهم مستبصراً في قتالهم ، عارفاً للحقّ الذي نحن عليه) وسجدعليه‌السلام شكراً لله(٢) .

احتلال مصر :

بعد مقتل عثمان بن عفان ولّى أمير المؤمنين قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ولاية مصر ، ثمّ كلّف محمد بن أبي بكر ليقوم مقام قيس بن سعد لرأي رآهعليه‌السلام ، وبقيت مصر الجناح الآخر الذي يقلق معاوية ، فما أن ساد الاضطراب والتخاذل في المجتمع الإسلامي بعد المعارك ونتائجها ؛ تحرّك معاوية وعمرو بن العاص لاحتلال مصر التي كانت ثمناً لجهود عمرو بن العاص لتخريب حكومة الإمام وتهديم الدين ، وحاولعليه‌السلام أن يمدّ محمد بن أبي بكر بالعِدّة والعُدّة عند سماعه بزحف معاوية نحو مصر ، فلم يلبث إلاّ قليلاً حتى أتت الأخبار باحتلال مصر واستشهاد محمد بن أبي بكر ، وحزن الإمامعليه‌السلام على محمد(٣) ، ثمّ كان قد كلّفعليه‌السلام مالك الأشتر بولاية مصر وكتب إليه عهده المشهور في إدارة الحكم وسياسة الناس ، ولكن معاوية وما يملك من وسائل الشيطان والخداع تمكّن من دسّ السم لمالك(٤) .

ــــــــــــ

(١) صحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم والتحريض على قتالهم .

(٢) تأريخ الطبري : ٤ / ٦٦ ، وشرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٦٦ ، والبداية والنهاية : ٢٩٧ .

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد : ٦ / ٨٨ .

(٤) تأريخ الطبري : ٤ / ٧٢ .

١٩٦

انهيار الأمة وتفكّكها :

بدأت بوضوح ملموس ملامح وآثار الانحراف الذي حصل يوم السقيفة في نهاية أيّام حكم الإمامعليه‌السلام حيث بدأ معاوية ومن اقتفى أثره في محاربة الإسلام من داخل الإسلام بتفكيك ما بقي من أواصر تماسك المجتمع الإسلامي وتخريبه وبناء مجتمع ينسجم وفق رغباتهم وأهوائهم، ويمكننا أن نلحظ حال الأمة بعد خوض الإمامعليه‌السلام ثلاث معارك فيصلية لاجتثاث الفساد فيما يلي :

١ ـ مُني الإمامعليه‌السلام والأمة بفقد خيار الصحابة الواعين والمؤثِّرين في المجتمع وحركة الرسالة الإسلامية الذين كان يمكن من خلالهم بناء الأمة الصالحة وفق نهج القرآن والسنّة بإشراف الإمامعليه‌السلام ، وقد بلغ الحزن في نفس الإمام مبلغاً عظيماً نجده في نعيه لهم بقوله :

(ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياءً يسيغون الغصص ويشربون الرنق ، قد والله لقوا الله فوفّاهم أجورهم وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحقّ ؟ أين عمار ؟ وأين ابن التيهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة واُبرد برؤوسهم إلى الفجرة ؟) .

ثمّ وضع يده على كريمته فأطال البكاء ثمّ قال :(أَوِّه على إخواني الذين قرءوا القرآن فأحكموه وتدابروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنّة وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه) (١) .

٢ ـ تمرّد الجيش وتفكّكه وظهور الضعف والسأم من الحرب لكثرة مَن قتل من أهل العراق الذين يشكّلون العمود الفقري لفرق جيش الإمامعليه‌السلام ، ولم

ــــــــــــ

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد : ١٠ / ٩٩ .

١٩٧

يتمكنعليه‌السلام بما يملك من قدرة خطابية رائعة وحجّة بالغة أن يبعث الاندفاع والحزم في قاعدته الشعبية لمواصلة الحرب ، وممّا زاد من تفتيت الجيش عدم توقّف معاوية من مخاطبة زعماء القبائل والعناصر التي يبدو منها حبّ الدنيا ، فمنّاهم بالأموال والهبات والمناصب إذا قاموا بكلّ ما يؤدي إلى إضعاف قوّة الإمامعليه‌السلام وجماهيره المؤيدة ، حتى أنّ الإمامعليه‌السلام لم يستطع أن يعبّئ في معسكر النخيلة بعد معركة النهروان استعداداً لقتال معاوية ن فقد تسلّل أغلب أفراد الجيش إلى داخل الكوفة ممّا أدّى بالإمامعليه‌السلام أن يلغي المعسكر ويؤجّل الحرب(١) .

٣ ـ لقد أتاح الظرف الذي مرّ به الإمامعليه‌السلام والاُمّة الإسلامية لمعاوية أن يقوم بشنّ غارات على أطراف البلاد الإسلامية ، فمارس القتل والسبي والإرهاب ، فبدأ بالهجوم على أطراف العراق فأرسل النعمان بن بشير الأنصاري للإغارة على منطقة (عين التمر) ، ووجّه سفيان بن عوف للإغارة على منطقة (هيت) ثم على (الأنبار والمدائن) ، وإلى (واقصة) وجّه معاوية الضحّاك بن قيس الفهري وفي كلّ مرّة يحاول الإمامعليه‌السلام دعوة الجماهير لمقاومة غارات معاوية فلم يلق الاستجابة السريعة ، وأدرك معاوية ضعف قوة حكومة الإمامعليه‌السلام وتزايد قوّته(٢) .

وبعث معاوية بسر بن أُرطاة للغارة على الحجاز واليمن ، فعاث في الأرض فساداً وقتلاً للأبرياء(٣) وبلغ الأسى والأسف في نفس الإمامعليه‌السلام مبلغاً عظيماً ممّا يفعل المجرمون ومن تخاذل الناس عنه، فكان يصرّح بضجره من تخاذلهم وتقاعسهم فقال :(اللّهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيراً منهم

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٤ / ٦٧ .

(٢) الغارات للثقفي : ٤٧٦ ، وتأريخ الطبري : ٤ / ١٠٢ و ١٠٣ .

(٣) الغارات للثقفي : ٤٧٦ ، وتأريخ الطبري : ٤ / ١٠٦ ط مؤسسة الأعلمي .

١٩٨

وأبدلهم بي شراً منّي) (١) .

وقد أنذر الإمامعليه‌السلام الأمة الإسلامية بمستقبل مظلم وآلام كثيرة تحلّ بها نتيجة لما آلت إليها من تقاعس وتخاذل عن نصرة الحقّ ، فقالعليه‌السلام :(أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاًّ شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرةً يتّخذها الظالمون فيكم سنّة ، فيفرّق جماعتكم ، ويبكي عيونكم ، ويدخل الفقر بيوتكم ، وتتمنّون عن قليل أنّكم رأيتموني فنصرتموني ، فستعلمون حقّ ما أقول لكم) (٢) .

آخر محاولات الإمامعليه‌السلام :

بعد الاضطرابات المتعدّدة وتمكّن معاوية من فساد ونشر الرعب في أطراف الدولة الإسلامية ؛ عزم الإمامعليه‌السلام أن يقوم بحملة واسعة يستنهض فيها الاُمّة ، فخاطب الجماهير وهدّدهم فقال :

(أما إنّي قد سئمت من عتابكم وخطابكم ، فبيّنوا لي ما أنتم فاعلون ، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوّي فهو ما أطلب وما أحب ، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوه لي عن أمركم ، فو الله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوّكم فتقاتلوه حتى يحكم الله بيننا وبينه وهو خير الحاكمين لأدعوّن الله عليكم ثمّ لأسيرنّ إلى عدوّكم ولو لم يكن معي إلاّ عشرة) (٣) .

وأيقظ هذا التهديد الحازم نفوس الناس ، وأيقنوا أنّ الإمامعليه‌السلام سيخرج بنفسه وأهله وخاصّته إلى معاوية وإن لم ينصروه ، فسيلحق العار والذلّ بهم إلى يوم القيامة ، فتحرّك وجهاء الناس للاستعداد لملاقاة معاوية والقضاء على الفساد ، وخرج الناس إلى معسكراتهم في منطقة (النخيلة) خارج الكوفة ، وتحرّكت بعض قطعات الجيش تسبق البقيّة مع الإمامعليه‌السلام الذي بقي ينتظر انقضاء شهر رمضان .

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة (٢٥) .

(٢) أنساب الأشراف : ١ / ٢٠٠ ، نهج البلاغة : الكلمة (٥٨) .

(٣) سيرة الأئمة الإثني عشر : ١ / ٤٥١ عن البلاذري في أنساب الأشراف .

١٩٩

الفصل الخامس: الإمام عليعليه‌السلام شهيد المحراب(١)

تواطأت زمر الشرّ على أن لا تبقي للحقّ راية تخفق أو يداً تطول فتصلح أو صوتاً يدوّي فيكشف زيغ وفساد الظالمين والمنحرفين ، فبالأمس كان أبو سفيان يمكر ويغدر ويفجر ويخطّط لقتل النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوأد الرسالة الإلهية في مهدها ، ولكنّ الله أبى إلاّ أن يتمّ نوره .

وها هو معاوية بن أبي سفيان يستفيد من نتائج انحراف السقيفة ، ويتمّم ما بدأه أبوه سعياص للقضاء على الرسالة الإسلامية ، تعينه في ذلك قوى الجهل والضلالة والعمى ، فخطّطوا لقتل ضمير الأمة الحيّ وصوت الحقّ والعدل وحامل لواء الإسلام الخالد ومحيي الشريعة المحمديّة السمحاء .

واجتمعت ضلالتهم على أن يطفئوا نور الهدى ليبقى الظلام يلفّ انحرافهم وفسادهم ، فامتدّت يد الشيطان لتصافح ابن ملجم في عتمة الليل، وفي ختلة وغدرة هوت بالسيف على هامة طالما استدبرت الدنيا واستقبلت بيت الله وهي ساجدة ، وغادرتها منها في تلك الحال .

لقد اجتمعت عصابة ضالّة على قتل أمير المؤمنينعليه‌السلام لا يبعد أن كان محرّكها معاوية ، واتفقوا أن يداهموا الإمام عند ذهابه لصلاة الفجر ، فما كان أحد يجرؤ على مواجهة الإمامعليه‌السلام .

ــــــــــــ

(١) استشهد أمير المؤمنين في شهر رمضان عام (٤٠) هـ .

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226