اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)16%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177535 / تحميل: 8955
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).

وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.

ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).

فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.

( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(1) .

لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.

نصّه على إمامة الرضا:

ونصب الإمام موسىعليه‌السلام ولده الإمام الرضاعليه‌السلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(2) .

وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:

1 - محمد بن إسماعيل:

روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).

قالعليه‌السلام :

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 - 471.

(2) نفس المصدر.

٨١

( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(1) .

2 - علي بن يقطين:

روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(2) .

3 - نعيم بن قابوس:

روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(3) .

4 - داود بن كثير:

روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟

فأشارعليه‌السلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(4) .

5 - سليمان بن حفص:

روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(5) .

____________________

(1) كشف الغمّة 3 / 88.

(2) كشف الغمّة 3 / 88.

(3) كشف الغمّة 3 / 88.

(4) الفصول المهمّة (ص 225).

(5) عيون أخبار الرضا 1 / 26.

٨٢

6 - عبد الله الهاشمي:

قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!

قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(1).

7 - عبد الله بن مرحوم:

روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(2).

8 - عبد الله بن الحرث:

روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!

قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(3)

9 - حيدر بن أيوب:

روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 26 - 27.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا.

٨٣

بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟

يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(1).

10 - الحسين بن بشير:

قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(2) .

11 - جعفر بن خلف:

روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(3).

12 - نصر بن قابوس:

روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4) .

13 - محمد بن سنان:

روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟

قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا 1 / 30.

(4) عيون أخبار الرضا 1 / 31.

٨٤

والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(1) حرام على النار أن تمسّك أبداً(2) .

هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليه‌السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.

وصيّة الإمام:

وأقام الإمام موسىعليه‌السلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.

أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليه‌السلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.

سجن السندي:

وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.

____________________

(1) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 32 - 33.

٨٥

وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

كتابه إلى هارون:

وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(1) .

وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

اغتيال الإمام:

وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..

فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(2) .

وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.

إلى الرفيق الأعلى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليه‌السلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى

____________________

(1) البداية والنهاية 10 / 183.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 - 500.

٨٦

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(1) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.

ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(2) .

لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.

سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.

سيّدي أبا الرضا:

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 504).

(2) حياة الإمام موسى 2 / 514 - 515.

٨٧

لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.

تحقيق الشرطة في الحادث:

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).

( نعم )...

( ليس هنا إلاّ الخير... ).

( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).

( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..

( لا ).

( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).

( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).

هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).

( نعم ).

ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،

٨٨

أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:

( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).

( نعم ).

ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(1) .

كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(2). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.

وضعه على الجسر:

ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:

مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقىً على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً

لم يشيّعه للقبور موحّد

حملوه وللحديد برجليه هزيج

له الأهاضيب تنهد(3)

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521.

٨٩

النداء الفظيع:

يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(1) .

قيام سليمان بتجهيز الإمام:

وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).

فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).

وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:

( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(2) .

وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.

وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:

( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر.

٩٠

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(1) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:

قد قلت للرجل المولّى غسله

هلاّ أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسّله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحّها

عنه وحنّطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله

كرماً ألست تراهم بإزائه

لا توه أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه(2)

وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.

وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

تقلّد الإمام الرضا للزعامة الكبرى:

وتقلّد الإمام الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.

____________________

(1) الأنوار البهية (ص 99).

(2) الإتحاف بحب الأشراف (ص 57).

٩١

سفره إلى البصرة:

وبعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام سافر الإمام الرضاعليه‌السلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).

وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).

سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).

فقالعليه‌السلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).

وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).

( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).

وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك

٩٢

الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.

وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).

وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).

فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.

والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).

ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).

ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).

وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة عيسى

٩٣

بمحمد؟... ).

وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).

فأخذ الإمامعليه‌السلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).

قال الجاثليق: ( صفه ).

وأخذ الإمامعليه‌السلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).

وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).

وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليه‌السلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطفقا قائلين:

٩٤

( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).

وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).

وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).

( بل صدق وعدل... ).

وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).

قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).

وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).

( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).

٩٥

وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).

ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).

وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليه‌السلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).

فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).

والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).

وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).

والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليه‌السلام بالإمامة، وطلبعليه‌السلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه

٩٦

ومضى إلى المدينة المنوّرة(1) .

سفره إلى الكوفة:

وغادر الإمامعليه‌السلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).

فقالوا جميعاً: ( نعم ).

فقالعليه‌السلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).

وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )

فقالعليه‌السلام :

( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(2) .

وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام

____________________

(1) البحار 12 / 21 - 23، بتصرف نقلنا الخبر.

(2) البحار 12 / 23، نقلنا الحديث بتصرف.

٩٧

عليه‌السلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.

٩٨

٩٩

مناظراته واحتجاجاته

واتسم عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.

ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.

ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ولمّا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان ؛ كان الإمامعليه‌السلام يكثر التأمل في السماء وهو يردّد :(ما كذبت ولا كذّبت إنّها الليلة التي وعدت بها) (١) وأمضىعليه‌السلام ليلته بالدعاء والمناجاة ، ثمّ خرج إلى بيت الله لصلاة الصبح فجعل يوقظ الناس على عادته إلى عبادة الله فينادي :الصلاة الصلاة .

ثمّ شرععليه‌السلام في صلاته ، وبينما هو منشغل يناجي ربّه إذ هوى المجرم اللعين عبد الرحمن بن ملجم وهو يصرخ بشعار الخوارج (الحكم لله لا لك) ووقع السيف على رأسه المبارك فقدّ منه فهتف الإمامعليه‌السلام :(فزت وربّ الكعبة) (٢) .

ولمّا علت الضجّة في المسجد ؛ أقبل الناس مسرعين فوجدوا الإمامعليه‌السلام طريحاً في محرابه ، فحملوه إلى داره وهو معصّب الرأس والناس يضجّون بالبكاء والعويل ، واُلقي القبض على المجرم ابن ملجم ، وأوصى الإمامعليه‌السلام ولده الحسن وبنيه وأهل بيته أن يحسنوا إلى أسيرهم وقال :(النفس بالنفس ، فإن أنا مُتّ فاقتلوه كما قتلني ، وإن أنا عشت رأيت فيه رأيي) (٣) .

وصيّة الإمامعليه‌السلام :

أوصى الإمامعليه‌السلام ولديه الحسن والحسينعليهما‌السلام وجميع أهل البيت بوصايا عامّة فقال :

(أوصيكما بتقوى الله ، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا بالحقّ واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً ، واعملا بما في

ــــــــــــ

(١) الصواعق المحرقة : ٨٠ ، وبحار الأنوار : ٤٢ / ٢٣٠ .

(٢) الإمامة والسياسة : ١٨٠ أو : ١٣٥ ط بيروت و ١٥٩ ط مصر ، وتأريخ دمشق : ٣ / ٣٦٧ ترجمة الإمام عليّعليه‌السلام .

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٢ ، شرح النهج لابن أبي الحديد : ٦ م ١١٨ ، وبحار الأنوار : ٤٢ / ٢٣١ .

٢٠١

الكتاب ، ولا تأخذكما في الله لومة لائم) (١) .

ولم يمهل الجرح أمير المؤمنين طويلاً لشدّته وعظيم وقعته ، فقد دنا الأجل المحتوم ، وكان آخر ما نطق به قوله تعالى : ( لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) ثمّ فاضت روحه الطاهرة إلى جنّة المأوى .

دفن وتأبين الإمامعليه‌السلام :

نهض الإمامان الحسن والحسينعليهما‌السلام بتجهيز أمير المؤمنين وما يترتّب عليهما من إجراءات الدفن من غسل وتكفين ، ثمّ صلى الإمام الحسنعليه‌السلام على أبيه ومعه ثلّة من أهل بيته وأصحابه ، ثمّ حملوا الجثمان الطاهر إلى مثواه الأخير ، فدفن في النجف قريباً من الكوفة ، وتمّت كلّ الإجراءات ليلاً(٢) .

ثمّ وقف صعصعة بن صوحان يؤبّن الإمامعليه‌السلام فقال :

هنيئاً لك يا أبا الحسن ! فلقد طاب مولدك ، وقوي صبرك ، وعظم جهادك ، وظفرت برأيك ، وربحت تجارتك ، وقدمتَ على خالقك فتلقّاك الله ببشارته وحفّتك ملائكته ، واستقررتَ في جوار المصطفى فأكرمك الله بجواره ، ولحقتَ بدرجة أخيك المصطفى ، وشربت بكأسه الأوفى ، فأسأل الله أن يمنَّ علينا باقتفائنا أثرك ، والعمل بسيرتك ، والموالاة لأوليائك ، والمعاداة لأعدائك ، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك ، فقد نلتَ ما لم ينله أحد ، وأدركت ما لم يُدركه أحد ، وجاهدت في سبيل ربّك بين يدي أخيك المصطفى حقّ جهاده ، وقمت بدين الله حقّ القيام ، حتى أقمتَ السنن وأبرت الفتن واستقام الإسلام وانتظم الإيمان ، فعليك منّي أفضل الصلاة والسلام .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٤ / ١١٤ ط مؤسسة الأعلمي ، راجع أيضاً نهج البلاغة : باب الكتب ٤٧ طبعة صبحي الصالح .

(٢) بحار الأنوار ك ٤٢ / ٢٩٠ .

٢٠٢

ثمّ قال : لقد شرّف الله مقامك ن وكنت أقرب الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسباً ، وأوّلهم إسلاماً ، وأوفاهم يقيناً ، وأشدّهم قلباً ، وأبذلهم لنفسه مجاهداً ، وأعظمهم في الخير نصيباً ، فلا حرمنا أجرك ، ولا أذلّنا بعدك ، فو الله لقد كانت حياتك مفاتح الخير ومغالق الشر ، وإنّ يومك هذا مفتاح كلّ شر ومغلاق كلّ خير ، ولو أنّ الناس قبلوا منك ؛ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة(١) .

* * *

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٢ / ٢٩٥ .

٢٠٣

الفصل السادس: تراث الإمام المرتضى علي بن أبي طالبعليه‌السلام

إنّ أوّل عمل اهتمّ به الإمامعليه‌السلام بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد كان بوصية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هو جمعه للقرآن الكريم ، وامتاز بترتيبه حسب النزول وتضمّن معلومات فريدة عن شأن النزول والتفسير والتأويل الذي تحتاجه اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد عرضه على الخليفة الأوّل فقال : لا حاجة لنا به ، فأشارعليه‌السلام إلى أنّهم سوف لا يحصلون عليه بعد ذلك اليوم ، وهكذا كان ، والمعروف أنّه يتوارثه الأئمّة من أبنائهعليهم‌السلام .

واُثر عن الإمام ما سمّي بالصحيفة التي تضمّنت أحكام الدّيات ، وقد روى عنها البخاري ومسلم وابن حنبل ، كما اُثر عه ما سمّي بالجامعة التي تضمّنت أو جمعت كلّ ما يحتاج إليه الناس من حلال و حرام ، ووصفها الإمام الصادق بأنّ طولها سبعون ذراعاً ، وليس من قضية إلاّ وهي فيها حتى أرش الخدش .

وتضمّن كتاب الجفر ما يرتبط بحوادث المستقبل وصحف الأنبياء السابقين ، وقد يشبهه مصحف فاطمة وهو ما أملته عليه فاطمة الزهراءعليها‌السلام بعد وفاة أبيها ممّا كانت تُلهم به من مفاهيم(١) وكلّ هذه الكتب تعتبر من مواريث الإمامة التي يتناقلها الأئمّةعليهم‌السلام إماماً بعد إمام .

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي : الجزء الأول باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة وراجع : سيرة الأئمّة الاثني عشر : ١ / ٩٦ ـ ٩٩ و ٢٧٤ ـ ٢٩٤ .

٢٠٤

وقد تصدّى جمع من علماء الأمة إلى جمع ما اُثر عن الإمامعليه‌السلام من خطب ورسائل وكلمات ، وسمّيت بأسماء تتناسب مع أغراض جامعيها ، وأوّلها وأشهرها ما سمّي بـ (نهج البلاغة) للشريف الرضي المتوفى (٤٠٤ هـ) ، وقد انطوى على روائع فكر الإمام في شتى المجالات العقائدية والأخلاقية وأنظمة الحكم والإدارة والتأريخ والاجتماع وعلم النفس والدعاء والعبادة وسائر العلوم الطبيعية والإنسانية ، وهو ما اختاره الشريف الرضي من خطبه ورسائله ووصاياه وكلماته البليغة ومن هنا فقد تصدّى علماء آخرون لجمع ما لم يجمعه الشريف الرضي وسمّي بمستدرك نهج البلاغة .

وجمع النسائي المتوفى (٣٠٣ هـ) ما رواه الإمام علي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمَّاه بـ (مسند الإمام عليّعليه‌السلام ) .

وجمع الآمدي (المتوفّى بين ٥٢٠ و ٥٥٠ هـ) قصار كلماته الحكمية وسمّاها بـ (غررالحكم ودرر الكلم) .

وجمع أبو إسحاق الوطواط (المتوفّى بين ٥٥٣ و ٥٨٣ هـ) من كلامه ما سمّاه بـ (مطلوب كلّ طالب من كلام عليّ بن أبي طالب) وأثرت عن الجاحظ المتوفى (٢٥٥ هـ) (مائة كلمة) للإمام عليّعليه‌السلام و (نثر اللئالي) جمع الطبرسي صاحب مجمع البيان ، وكتاب صفّين لنصر بن مزاحم اشتمل على مجموعة من خطبه وكتبه و(الصحيفة العلوية) وهي مجموعة من الأدعية التي أثرت عنهعليه‌السلام .

في رحاب نهج البلاغة :

إذا كان (القرآن الكريم) هو معجزة النبوة ؛ فإنّ (نهج البلاغة) معجزة الإمامة فليست هذه العقلية العظيمة المتجلّية بذلك الأسلوب العلوي الواضحة في كلّ فقرة من فقرات (النهج) وفي كلّ شذرة من تلك الشذور إلاّ غرس ذلك النبيّ العظيم المستمدّ من وحي الله تعالى ، فما من موضوع يطرقه الإمام إلاّ وترى نور الله

٢٠٥

يشعّ أمامه وهدي الرسول ينير له الطريق)(١) .

وقال الشريف الرضيقدس‌سره : كان أمير المؤمنينعليه‌السلام مشرّع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولّدها ، ومنهعليه‌السلام ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب ، وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وقد تقدّم وأخّروا ، لأنّ كلامهعليه‌السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ .

في رحاب العقل والعلم والمعرفة :

١ ـلا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل ، والعقل ينبوع الخير وأشرف مزيّة ، وأجمل زينة .

٢ ـالعقل رسول الحقّ العقل أقوى أساس والإنسان بعقله وبالعقل صلاح كلّ أمر .

٣ ـالعلم غطاء وساتر والعقل حسام قاطع ، فاستُر خلل خُلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك والفكر مرآة صافية .

٤ ـالعقل صاحب جيش الرحمن ، والهوى قائد جيش الشيطان ، والنفس متجاذبة بينهما فأيّهما غلب كانت في حيّزه .

٥ ـأفضل حظّ الرجل عقله ، إن ذلّ أعزّه ، وإن سقط رفعه ، وإن ضلّ أرشده ، وإن تكلّم سدّده .

٦ ـإنّ أفضل الناس عند الله من أحيا عقله وأمات شهوته وأتعب نفسه لإصلاح آخرته .

٧ ـعلى قدر العقل يكون الدين ما آمن المؤمن حتى عقل قيمة كلّ امرئ عقله .

٨ ـ وعرّف العقل بما يلي :

أ ـإنّما العقل التجنّب من الإثم والنظر في العواقب والأخذ بالحزم .

ب ـالعقل أصل العلم وداعية الفهم .

ــــــــــــ

(١) حياة أمير المؤمنين في عهد النبي : ٤٠٢ ، تأليف : محمد صادق الصدر .

٢٠٦

ج ـالعقل غريزة تزيد بالعلم وبالتجارب .

د ـللقلوب خواطر سوء والعقول تزجر عنها .

هـغريزة العقل تأبى ذميم الفعل .

و ـالعاقل من يعرف خير الشرّين .

في رحاب القرآن الكريم والسنّة النبويّة المباركة :

١ ـ قالعليه‌السلام :وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء وعَمَّر فيكم نبيّه أزماناً حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي لنفسه .

٢ ـذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن أخبركم عنه ، ألا إنّ فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله ، ولا يَعوَجُّ فيقام ولا يزيغ فيستعتب ولا تخلقه كثرة الردّ وولوج السمع لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ن ولا تكشف الظلمات إلاّ به .

وفيه ربيع القلب وما للقلب جلاء غيره فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ورياض العدل وغدرانه ، وأثافيّ الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون جعله الله ريّاً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ، ومحاجَّ لطرق الصلحاء وعلماً لمن وعى ، وحديثاً لمن روى ، وحكماً لمن قضى وشفاءً لا تخشى أسقامه ودواءً ليس بعده داء فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم ؛ فإنّ فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال (١) .

وأما سُنَّةُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد دعا الإمام إلى العمل بها، وبيَّن موقع الأئمّة وموقفهم المشرّف في إيصال السنّة الصحيحة إلى الأمة وإحياء ما أماته المبطلون من سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسباب انحراف من انحرف عن مدار السُّنة .

ــــــــــــ

(١) راجع الخطبة ١٧٦ من نهج البلاغة ، طبعة صبحي الصالح .

٢٠٧

قالعليه‌السلام :اقتدوا بهدي نبيّكم فإنّه أفضل الهدي ، واستنّوا بسنّته فإنّها أهدى السنن .

وقالعليه‌السلام :أحبّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصّ أثره وقالعليه‌السلام :إرض بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رائداً والى النجاة قائداً .

وقالعليه‌السلام :إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعامّاً وخاصّاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً ، ولقد كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده حتى قام خطيباً فقال : من كذّب عليّ متعمّداً ؛ فليتبوأ مقعده من النار .

وقالعليه‌السلام :لا يُقاس بآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأمة أحد هم عيش العلم وموت الجهل لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه هم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ في نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية هم موضع سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحماة أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وجبال دينه ، هم مصابيح الظلم وينابيع الحِكمَ ومعادن العلم ومواطن الحلم .

وقالعليه‌السلام :وإنّي لعلى بيّنة من ربّي ومنهاج من نبيّي ، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألفظه لفظاً (١) .

في رحاب التوحيد والعدل والمعاد :

قالعليه‌السلام في مجال إثبات وجوده تعالى :الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه وبمحدث خلقه على أزليته وباشتباههم على أن لا شبه له وقال :عجبت لمن شكّ في الله وهو يرى خلق الله بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم .

وحين سُئلعليه‌السلام : هل رأيت ربّك ؟ أجاب :وكيف أعبد ربّاً لم أره ؟ ثمّ قال :لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بَصَر .

وجاء في دعائه المعروف بدعاء الصباح :يا من دلّ على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته ، وجلّ عن ملائمة كيفياته يا من قرب من خطرات الظنون وبَعُد عن لحظات العيون ، وعلم بما كان قبل أن يكون ...

ــــــــــــ

(١) راجع المعجم الموضوعي لنهج البلاغة : ٤٢ ـ ٥٣ و ١٠١ وتصنيف غرر الحكم : ١٠٩ ـ ١١٧ .

٢٠٨

لقد شحن الإمام خطبه العلوية بآيات القدرة الإلهية السماوية والأرضية ، وأطنب فيها إطناب الخبير البصير ، ففصّل آيات القدرة والعظمة تفصيلاً يعطي للمطالع إيماناً وخشوعاً لله وخضوعاً لعظمته ، بحيث يلمس السامع لخطبهعليه‌السلام أنّه كما قال : والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً .

وقدّم الإمام تصويراً دقيقاً لصفاته تعالى بحيث صار معياراً للبحوث الفلسفية الدقيقة ومفتاحاً للدخول إلى مثل هذه البحوث التي تضلّ فيها الأفكار لو لا الهداية الربّانية الموجّهة .

قالعليه‌السلام :وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومَن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا بمزايلة .

وقالعليه‌السلام : مستدلاً على وحدانيته :واعلم يا بني ، إنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، واعلم يا بُني أنّ أحداً لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارض به رائداً .

وقال عن عدله تعالى :وارتفع عن ظلم عباده وقام بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه وعدل في كلّ ما قضى وقال :فإنّه لم يأمرك إلاّ بحسن ولم ينهك إلاّ عن قبيح وإنّ حكمه في أهل السماء والأرض لواحد وما كان الله ليدخل الجنّة بشراً بأمرٍ أخرج به منها ملكاً .

في رحاب القيادة الإلهية (النبوّة والإمامة) :

الهداية الإلهية عبر القادة المهديّين الذين اختارهم الله لهداية عباده هي سنّة الله الدائمة لخلقه الذين زوّدهم بالعقل والعلم وسلّحهم بسلاح الإرادة والاختيار .

وتبدأ هذه السُنّة لهذه البشرية باختيار آدم خيرة من خلقه :فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجّة به على عباده ، ولم يخلهم بعد أن قبضهم ممّا يؤكد عليهم حجّة ربوبيّته ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحمّلي ودائع رسالاته قرناً فقرناً فاستودعهم في أفضل مستودع ، وأقرّهم في خير مستقر ، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهّرات الأرحام حتى أخرج آخرهم نبيّنا محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أفضل المعادن منبتاً وأعزّ الأُرومات مغرساً ، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه وانتجب منها أمناءه .

٢٠٩

ووصف الإمامعليه‌السلام زهد الأنبياء وشجاعتهم وتواضعهم ورعاية الله لهم وتربيته لهم بالاختبار والابتلاء وتعريضهم للأذى في سبيل الله ، وبيّن وظائفهم المتمثّلة في التبليغ والدعوة إلى الله سبحانه والتبشير والإنذار وإقامة حكم الله في الأرض وهداية الناس بإخراجهم من الجهل والضلالة ومجاهدة أعداء الله .

وتستمرّ مسيرة الهداة الربّانيين على مدى العصور إلى يوم القيامة ، فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مستوراً لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته وحيث خُتمت النبوة بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتهى أمر الهداية إلى عترته التي هي خير العتر ، إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا ، وهم شجرة النبوّة ومحطّ الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكم ، والأعظمون عند الله قدراً يحفظ الله بهم حججه وبيّناته بهم عُلِم الكتاب وبه عُلموا ، فيهم كرائم القرآن وكنوز الرحمن ، فهم الراسخون في العلم يخبركم حلمهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم وصمتهم عن حكم منطقهم ، لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ إلى نصابه وانزاح الباطل عن مقامه ، فهم أساس الدين وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ، لهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصية والوراثة .

٢١٠

لقد أكّد الإمام على موقف أهل البيت القيادي الفكري والسياسي وأدان زحزحة القيادة عن موقعها الذي عيّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعترض على خطّ الخلفاء جملةً وتفصيلاً ، بالرغم من اضطراره للتنازل عن حقّه وجهد في تقديم الأطروحة النبويّة للقيادة بعد الرسول بشكل ناصع ، وجاهد من أجل إحقاق الحقّ بشكل حكيم وأسلوب كان ينسجم مع حساسية الظرف التي كانت تمرّ بها الدولة والاُمّة الإسلامية حينذاك ، واستطاع أن يقدّم النظرية كاملة ويعدّ العدّة لتطبيقها حينما تسمح له الظروف(١) .

في رحاب الإمام المهديعليه‌السلام :

استأثر التبشير بقضيّة الإمام المهدي (عج) اهتمام القرآن الكريم والنبيّ العظيم والإمام المرتضى على الرغم من التشتّت الذي كان يعيشه ذلك المجتمع المضطرب بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالعليه‌السلام :ألا وفي غدٍ ـ وسيأتي غدٌ بما لا تعرفون ـ يأخذ الوالي من غيرها عمّالَها على مساوئ أعمالها ، وتُخرج له الأرض أفاليذ كبدها ، وتلقي إليه سِلْماً مقاليدَها ، فيريكم كيف عدلُ السيرة ، ويُحيي ميِّت الكتاب والسُنّة (٢) .

إنّها رؤية دقيقة محدّدة مضيئة واضحة المعالم ، تتمثّل في قيام ثورة عالمية تصحّح وضع العالم الإسلامي بل الإنساني أجمع ، قالعليه‌السلام عن قائدها :يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى ، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا

ــــــــــــ

(١) راجع المعجم الموضوعي لنهج البلاغة : ٨٧ ـ ١١٦ و ٣٧٤ ـ ٤٤٥ .

(٢) من الخطبة ١٣٨ من نهج البلاغة .

٢١١

القرآن على الرأي (١) .

وقد تصدّت مؤسّسة نهج البلاغة لجمع الأحاديث التي وردت عن الإمام عليّعليه‌السلام حول الإمام المهدي (عج) وقد اجتمعت في جزء واحد وبلغ مجموعه (٢٩١) حديثاً ، أربعة عشر منها عن اسم المهدي وصفاته ودعائه وسبعة وسبعون منها عن نسب الإمام وأنّه من قريش وبني هاشم ومن أهل البيت ومن ولد عليّ ، وأنّه من ولد فاطمة ، بل من ولد الحسين وأحد الأئمّة الإثني عشر ن وخمسة وأربعون منها ترتبط بالمهدي في القرآن ونهج البلاغة وشعر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وثلاثة وعشرون منها حول أنصار المهدي والرايات السود ، واثنا عشر منها حول السفياني والدجّال ، وستة وعشرون منها عن غيبة المهدي ومحن الشيعة عند الغيبة وفضيلة انتظار الفرج ، وخسمة وسبعون منها حول الفتن قبل المهدي وعلائم الظهور وما بعد الظهور ودابّة الأرض ويأجوج ومأجوج ، وتسعة عشر منها ترتبط بفضل مسجد الكوفة وخروج رجل من أهل بيتهعليهم‌السلام بأهل المشرق يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر حتى يقولوا : والله ما هذا من ولد فاطمة ثم يبيّن حكم الأرض عند ظهور القائمعليه‌السلام وحكومته وكيفية ختم الدين به .

قالعليه‌السلام :يا كميل ، ما من علم إلاّ وأنا أفتحه ، وما من سرٍّ إلاّ والقائم عليه‌السلام يختمه يا كميل ، لا بدّ لِماضيكم من أوبة ، ولابدّ لنا فيكم من غلبة ... (٢) .

بنا يختم الدين كما بنا فُتح ، وبنا يستنقذون من ضلالة الفتنة كما استنقذوا من ضلالة الشرك ، وبنا يؤلّف الله قلوبهم في الدين بعد عداوة الفتنة كما ألّف بين قلوبهم ودينهم بعد عداوة الشِرك (٣) ولو قد قام قائمنا ؛ لأنزلت السماء قطرها وأخرجت الأرض نباتها ،

ــــــــــــ

(١) المصدر السابق .

(٢) عن بشارة المصطفى ك ٢٤ ـ ٣١ .

(٣) عن ملاحم ابن طاووس : ٨٤ ـ ٨٥ .

٢١٢

وليذهب الشحناء من قلوب العباد ، وأصلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة من العراق إلى الشام لا تضع قدمها إلاّ على النبات وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه (١) .

في رحاب الحكم الإسلامي : فلسفته وأصوله

لقد قدَّم الإمامعليه‌السلام نموذجاً عمليّاً فريداً في الحكم الإسلامي بعد عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قرن ذلك بنظرية كاملة منسجمة الأبعاد والجوانب تمثّلت في كتابه وعهده المعروف لمالك الأشتر حين ولاّه مصر ، وقد اهتمّ الاجتماعيون بهذا العهد شرحاً وتعليقاً وتبييناً ومقارنةً بأنظمة الحكم الأخرى ، ويعتبر هذا النص دليلاً من أدلّة إمامتهعليه‌السلام وبه تتميّز مدرسة أهل البيت عن سائر الاتّجاهات التي حملت اسم الإسلام والخلافة الإسلامية ، وبالإضافة إلى هذا النصّ المعجز نجد في نهج البلاغة وغيره من النصوص التي وصلتنا عنهعليه‌السلام ما يعيننا على كشف نظرية الإمام ونظرية الإسلام الفريدة عن فلسفة الحكم ونظامه أصولاً وفروعاً ، ونشير إلى الخطوط العريضة بإيجاز .

لقد أكّد الإمامعليه‌السلام على أنّ الحكم ضرورة اجتماعية بقوله :لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر ، والإمامة نظام الأمة وبيّن أنّ الحكم مختبر الحياة قائلاً :القدرة تُظهر محمود الخصال ومذمومها .

وأوضح أنّ الحكم عرض زائل فلا ينبغي الاغترار به بقوله :الدولة كما تُقبل تُدبر ثمّ أفاد أنّ الحكم النموذجي هو الذي يكون ذا قيمة ويستحقّ التمهيد والتخطيط له .

وأمّا الخطوط العريضة لنظام الحكم الإسلامي ومهام الدولة النموذجية فتتمثّل في : ١ ـ تثقيف الأمة ٢ ـ إقامة العدل ٣ ـ حماية الدين ٤ ـ إقامة الحدود ٥ ـ تربية المجتمع .

٦ ـ الاجتهاد في النصيحة والإبلاغ في الموعظة. ٧ ـ توفير الفيء وتحسين الوضع المعيشي للناس ٨ ـ الدفاع عن استقلال وكرامة الأمة ٩ ـ توفير الأمن الداخلي .

١٠ ـ نصرة المستضعفين ١١ ـ إغاثة الملهوفين ١٢ ـ الاهتمام بالعمران .

ــــــــــــ

(١) عن خصال الصدوق : ٢ / ٤١٨ وراجع موسوعة أحاديث أمير المؤمنين ، الجزء الأول ما روى عنه حول الإمام المهديعليه‌السلام . مؤسّسة نهج البلاغة .

٢١٣

وأمّا الحاكم النموذجي فينبغي له أن يتمتّع بجملة من الصفات والتي تكون من أهمّ عوامل ثبات حكمه ، وهي ملخّصاً كما يلي : ١ ـ الانقياد للحقّ ٢ ـ تفهّم الأمور ٣ ـ سطوع البيان ٤ ـ الشجاعة في إقامة الحقّ ٥ ـ حسن النيّة ٦ ـ الإحسان إلى الرعية ٧ ـ عفّة النفس ٨ ـ عموم العدل ٩ ـ التدبير والاقتصاد ١٠ ـ الإنصاف ١١ ـ الرفق ١٢ ـ الحلم ١٣ ـ الدفاع عن الدين ١٤ ـ كثرة الورع ١٥ ـ الشعور بالأمانة والمسؤولية ١٦ ـ اليقظة ١٧ ـ التكليف بما يُطيقه الشعب ١٨ ـ عدم الاغترار بالقدرة ١٩ ـ التوزيع الصحيح للأعمال وتعيين مسؤولية كلّ فرد بما يناسبه ٢٠ ـ البذل والجود من غير إسراف من كلّ ما يملك .

وقد طفحت كلمات الإمامعليه‌السلام بعوامل سقوط الدول وآفات الحكم محذّراً الحكّام والعمّال والولاة منها ، ويمكن إيجازها كما يلي :

١ ـ الجهل ٢ ـ الاستبداد بالرأي وترك المشورة ٣ ـ إتّباع الهوى ٤ ـ تعدّد مراكز القرار ٥ ـ إتّباع الباطل والاستخفاف بالدين ٦ ـ البغي والظلم ٧ ـ التكبّر والفخر ٨ ـ منع الإحسان. ٩ ـ الإسراف والتبذير ١٠ ـ الغفلة ١١ ـ الانتقام ١٢ ـ سوء التدبير ١٣ ـ قلّة الاعتبار وعدم الانتفاع بالتجارب ١٤ ـ كثرة الاعتذار وتراكم الأخطاء ١٥ ـ تضييع الأصول ١٦ ـ تقديم الأراذل وغير الجديرين للمناصب الإدارية على الأفراد الأكفاء ، قالعليه‌السلام :تولّي الأراذل والأحداث الدُوَل دليل انحلالها وإدبارها .

١٧ ـ الخيانة ، قالعليه‌السلام : إذا ظهرت الخيانات ارتفعت البركات ، ومن خانه وزيره فسد تدبيره ١٨ ـ ضعف السياسة ، قالعليه‌السلام : آفة الزعماء ضعف السياسة ، وآفة القوي استضعاف الخصم ، ومن تأخّر تدبيره تقدّم تدميره ، ١٩ ـ سوء السيرة ، قالعليه‌السلام : آفة الملوك سوء السيرة ٢٠ ـ عجز العمّال والولاة ٢١ ـ ضعف الحماية الشعبية للحاكم ، قالعليه‌السلام : آفة المُلك ضعف الحماية ٢٢ ـ سوء الظنّ بالنصيح من علامات الإدبار ٢٣ ـ طمع القادة وحرصهم وجشعهم على ملذّات الحياة الدنيا، قالعليه‌السلام : السيّد من لا يصانع ولا يخادع ولا تغرّه المطامع ، وقالعليه‌السلام : الطمع يذلّ الأمير ٢٤ ـ وفقدان الأمن .

٢١٤

في رحاب العبادات والفرائض :

قالعليه‌السلام :إنّ الله سبحانه فرض عليكم فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها ، ولم يأمركم إلاّ بحسن ، ولم ينهكم إلاّ عن قبيح .

وقالعليه‌السلام :عليك بحفظ كلّ أمر لا تعذر بإضاعته وقال : أوّل ما يجب عليكم لله سبحانه شُكر أياديه وابتغاء مراضيه ، وطوبى لمن حافظ على طاعة ربّه ، وسارعوا إلى فعل الطاعات وسابقوا إلى فعل الصالحات ، فإن قصّرتم فإيّاكم أن تقصّروا عن أداء الفرائض ، ولا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض ، ولا عبادة كأداء الفرائض واهتمّ الإمامعليه‌السلام ببيان فلسفة جملة من التشريعات قائلاً :فرض الله سبحانه الإيمان تطهيراً من الشرك ، والصلاة تنزيهاً عن الكبر ، والزكاة تسبيباً للرزق ، والصيام ابتلاءً لإخلاص الخلق ، والحجّ تقوية للدين ، والجهاد عزّاً للإسلام ، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء ، وصلة الأرحام منماةً للعدد ، والقصاص حقناً للدماء ، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم ، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل ، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفّة ، وترك الزنا تحصيناً للأنساب ، وترك اللواط تكثيراً للنسل ، والشهادة استظهاراً على المجاحدات ، وترك الكذب تشريفاً للصدق ، والإسلام أماناً من المخاوف، والإمامة نظاماً للأمة ، والطاعة تعظيماً للإمامة .

وقالعليه‌السلام أيضاً :زكاة البدن الجهاد والصيام ، وزيارة بيت الله أمن من عذاب جهنّم .

٢١٥

وقالعليه‌السلام :وَامر بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجُهدِك ، وغاية الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود ، والجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء، ومن جاهد على إقامة الحقّ وفِّق ، والمجاهدون تفتّح لهم أبواب السماء ، وثواب الجهاد أعظم الثواب (١) .

في رحاب الأخلاق والتربية :

اعتنى الإمام المرتضى بتربية المجتمع وحاول أن يعالج الانحراف الأخلاقي في الإنسان من جذوره العميقة ، فوصف الداء الأساسي بقولهعليه‌السلام :ألا وإنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ثمّ بيّن السبب الأعمق في هذا الحبّ حينما أوضح الأسباب العميقة التي كانت تكمن وراء التآمر على الأطروحة النبويّة للخلافة والسرّ في استلاب الحكم منه بالرغم من تواتر النصوص النبويّة الكثيرة وإتمام الحجّة على المسلمين قائلاً :بلى لقد سمعوها ووعَوْها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها .

ويترتّب على هذا الحبّ الشديد أنّ الإنسان سوف يستخدم مختلف الوسائل للوصول إلى ما يصبوا إليه فإنّ حبّ الشيء يُعمي ويصمّ ولهذا برّر الخلفاء تقمّصهم الخلافة بمختلف التبريرات التي دحضتها حجج الإمامعليه‌السلام الدامغة ، ولكن استمرّ التصلّب على الموقف الذي أدانه الإمامعليه‌السلام وإذا سألنا الإمامعليه‌السلام عن الدواء الناجع لعلاج هذا السبب الأعمق في الانحراف ؛ وجدناه العلاج في وصفه الدقيق للمتّقين في الخطبة المعروفة بخطبة همّام حيث وضّح السرّ الذي أوصلهم إلى هذه المرتبة من الكمال المتمثّلة بالتقوى بقوله :لقد عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم . وهكذا تكون المعرفة الحقيقية بالله العظيم سبباً في حقارة الدنيا في أعين عباده المتّقين ، وإذا صغرت الدنيا في أعينهم ؛ لم تكن الدنيا غاية همّتهم ولم يجدّوا في اقتنائها ، بل يحرصوا عليها وعلى ملكها كما لم يحرص عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام عليها فقد تنازل عن الخلافة حينما استبدّت بها قريش قائلاً :فإنّها كانت إثرة شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين والحَكَم الله والموعد القيامة .

ــــــــــــ

(١) تصنيف غرر الحكم : ١٧٥ ـ ١٩٠ و ٣٣١ ـ ٣٣٥ ، والمعجم الموضوعي لنهج البلاغة : ١٤٠ ـ ١٥٠ و ٢١٦ ـ ٢٣٩ .

٢١٦

ومن هنا نشأت في المجتمع الإسلامي أخلاقيتان متميّزتان : أخلاقية عليّ النموذجية التي تدين السياسة الميكافيلية ، وأخلاقية الخلفاء التي كانت ترى مشروعية الوصول إلى الحكم بأيّة وسيلة ممكنة ، ومن هنا كان زهد عليّ في الحكم وحرص غيره عليه(١) .

في رحاب الدعاء والمناجاة :

اهتمّ الإمام عليّعليه‌السلام كما اهتم سائر الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام بحقل الدعاء والمناجاة بعد أن فتح القرآن الكريم هذا الباب قائلاً للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) وبيّن أهميّة الدعاء بنصوصه وسيرته فقالعليه‌السلام :(الدعاء سلاح الأولياء ) .

وتضمّن نهج البلاغة مجموعة من الأدعية العلويّة لشتى الأغراض والمجالات ، وجمعت أدعيتهعليه‌السلام فيما يُسمّى بالصحيفة العلوية. ومن غرر أدعيته الدعاء المعروف بدعاء كميل ودعاء الصباح والمناجاة الشعبانية ، ونشير إلى مقطع من مناجاته المنظومة التي أثرت عنه ، قالعليه‌السلام :

لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلى

تباركت تعطي من تشاء وتمنعُ

إلهي وخلاّقي وحرزي وموئلي

إليك لدى الإعسار واليُسر أفزعُ

ــــــــــــ

(١) المعجم الموضوعي لنهج البلاغة : ٢٨٢ ـ ٣٥٦ و ١٩٤ ـ ٢١٤ و ١٥٢ ـ ١٦٩ و ٣٧٤ ـ ٣٧٩ ، وتصنيف غرر الحكم : القسم الأخلاقي : ٢٠٥ ـ ٣٢٣ و ١٢٧ ـ ١٤٧ .

٢١٧

إلهي لئن جلّت وجمّت خطيئتي

فعفوك عن ذنبي أجلّ وأوسعُ

إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي

وأنت مناجاتي الخفيةَ تسمعُ

إلهي فلا تقطع رجائي ولا تُزغ

فؤادي فلي في سيب جودك مطمعُ

إلهي لئن خيّبتني أو طردتني

فمن ذا الذي أرجو من ذا اُشفِّعُ؟

إلهي أجرني من عذابك إنّني

أسير ذليل خائف لك أخضعُ

إلهي لئن عذّبتني ألف حجّة

فحبل رجائي منك لا يتقطّعُ

إلهي إذا لم تعفُ عن غير محسن

فمن لمسيء بالهوى يتمتّعُ؟

إلهي حليف الحبّ في الليل ساهر

يناجي ويدعو والمغفّل يهجعُ (١)

في رحاب أدب الإمامعليه‌السلام :

لقد تعرّفنا على مجموعة من النصوص المنثورة والمنظومة التي أثرت عن الإمامعليه‌السلام في نهج البلاغة أو غيره من الكتب التي اهتمّت بتراث الإمامعليه‌السلام ، ولاحظنا القمّة الشاهقة التألّق التي بلغها الإمام سواء في ميدان الخطابة أو الكتب والرسائل أو الكلمات الحكمية والمواعظ أو ميدان الشعر ، ولا نبالغ إذا قلنا ـ كما قال متخصّصو الأدب ـ إنّ أجود نتاج أدبي عرفه التأريخ فنّاً وعمقاً وفكراً هو نتاج الإمام عليّعليه‌السلام (٢) .

ونختار نماذج منظومة من أدبهعليه‌السلام في مختلف المجالات ، علماً بأنّ هناك ديوان شعر منسوباً إليه ، وقد اعتمده بعض المؤرّخين واستشهدوا بنماذج أدبيّة من نصوصه(٣) .

قالعليه‌السلام في رثاء أبيه أبي طالب رضوان الله تعالى عليه .

أبا طالبٍ عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظُلَم

ــــــــــــ

(١) الصحيفة العلوية ومفاتيح الجنان .

(٢) تأريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي للدكتور محمود البستاني : أدب الإمام عليعليه‌السلام .

(٣) راجع : في رحاب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام للسيد محسن الأمين : ٢ / ٣٠١ ـ ٣١٣ .

٢١٨

لقد هدّ فقدُكَ أهل الحفاظ

فصلّى عليك وليّ النِعَم

ولقّاك ربّك رضوانه

فقد كنت للمصطفى خير عمّ (١)

وجاء عن الجاحظ والبلاذري : أن عليّاً أشعر الصحابة وأفصحهم وأخطبهم وأكتبهم ، وممّا قاله يوم بدر :

نصرنا رسول الله لمّا تدابروا

وثاب إليه المسلمون ذوو الحجى

ضربنا غواة الناس عنه تكرّماً

ولمّا يروا قصد السبيل ولا الهدى

ولما أتانا بالهدى كان كلّنا

على طاعة الرحمن والحقّ والتقى

وممّا أورده سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص قولهعليه‌السلام :

للناس حرص على الدنيا بتدبير

وصفوها لك ممزوج بتكدير

لم يرزقوها بعقل حينما رزقوا

لكنّما رزقوها بالمقادير

لو كان عن قوّة أو عن مغالبةٍ

طار البزاة بأرزاق العصافير

وعنهعليه‌السلام :

داؤك فيك وما تشعر

وداؤك منك وما تبصر

وتحسب أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فسلام عليك يا أبا الحسن والحسين يا سيّد البلغاء والشعراء يوم ولدت ويوم آمنت وجاهدت ويوم صبرت وآثرت ويوم أقمت حدود الله واستشهدت صابراً محتسباً ويوم تبعث حياً ، تقود أحبّاءك على الحوض إلى جنّات النعيم .

والحمد لله ربّ العالمين

ــــــــــــ

(١) راجع : الغدير : ٣ / ١٠٦ و ٧ / ٣٧٨ , ٣٧٩ .

٢١٩

الفهرست

المقدمة ٤

الباب الأول: فيه فصول: ١٠

الفصل الأوّل:  الإمام المرتضى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في سطور ١٠

الفصل الثاني: انطباعات عن شخصيّة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.... ١٥

الفصل الثالث: مظاهر من شخصية الإمام عليّ عليه‌السلام.... ٢٠

عبادته وتقواه عليه‌السلام: ٢١

زُهده عليه‌السلام: ٢٢

إباؤه وشهامته عليه‌السلام: ٢٣

مروءته عليه‌السلام : ٢٤

صدقه وإخلاصه عليه‌السلام: ٢٤

شجاعته عليه‌السلام: ٢٥

عدله عليه‌السلام: ٢٦

تواضعه عليه‌السلام: ٢٧

نقاؤه عليه‌السلام: ٢٧

كرمه عليه‌السلام: ٢٧

علمه ومعارفه عليه‌السلام : ٢٨

الباب الثاني: فيه فصول: ٣١

الفصل الأول: نشأة الإمام علي عليه‌السلام.... ٣١

نسبه الوضّاء : ٣١

جدّه الكريم : ٣١

والده : ٣٢

أُمّه : ٣٣

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام عليّعليه‌السلام .... ٣٤

الفصل الثالث: المرحلة الأولى : من الولادة إلى البعثة النبوية المباركة ٣٥

٢٢٠

221

222

223

224

225

226