اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)25%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177536 / تحميل: 8955
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وبيسر وبساطة ودون تكاليف تمت الخطبة والزواج ، وكان الجهاز من أبسط ما عرفته المدينة ، واحتفل النبيّ وبنو هاشم بهذا الزواج الميمون(١) .

وروي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عوتب في زواج فاطمةعليها‌السلام فقال :لو لم يخلق الله عليّ بن أبي طالب لما كان لفاطمة كفؤ .

وفي خبر آخر أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال مخاطباً عليّاًعليه‌السلام :لولاك لما كان لها كفؤ على وجه الأرض (٢) .

٣ ـ عليّعليه‌السلام مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معاركه :

أ ـ عليّعليه‌السلام في معركة بدر :

فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهجرته عهداً جديداً في تأريخ البشرية بشكل عامّ وفي تأريخ الرسالة الإسلامية بشكل خاص ، وبدأت معالم الدولة تتوضّح ومظاهر قوة المسلمين تبدو للعيان ، وفي الجانب الآخر لم تتوقّف قريش ومن والاها من المشركين ويهود المدينة الذين أظهروا السلم نفاقاً وتغطيةً على التخطيط السرّي للقضاء على الإسلام وأهله ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعالج الأمور بحكمة ورويّة ، ومن الطبيعي أن لا يقف النبيّ من مؤامرات أعداء الإسلام وتحرّشاتهم موقف الضعيف المتخاذل ، فأخذ يرسل السرايا ليهدّدهم ويطاردهم أحياناً .

ولما كان للمدينة موقع استراتيجي مهم في طرق التجارة والمواصلات في الجزيرة العربية ؛ فقد أصبح المسلمون بعد تزايد عددهم قوّة ضغط لابدّ من وضعها في الحسبان ، ومنذ أن وطأت قدم عليّعليه‌السلام مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ بدأ العمل في كلّ جوانب الحياة وما تتطلبه الرسالة الإسلامية جنباً إلى جنب الرسول من بناء الدولة ونشر الرسالة مندفعاً بطاقة ذاتية هائلة بما وهبه الله من قوّة وعزيمة لا توازيها قوّة وطاقة مجموعة كبيرة من الأفراد ، فكان الذراع القويّ التي يضرب

ــــــــــــ

(١) كشف الغمة : ١ / ٣٤٨ ، وبحار الأنوار : ٤٣ / ٩٢ ، ودلائل الإمامة للطبري : ١٦ ـ ١٧ .

(٢) المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ١٨١ .

٦١

بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونجد هذا واضحاً جليّاً في كلّ وقعة ومعركة دخل فيها عليّعليه‌السلام ، وكان من طبيعة المعارك أنّها تتوقّف في العادة على الجولة الأولى ، فمن يفوز فيها تحسم المعركة لصالحه ، كما في معركة بدر(١) التي كانت عنواناً لبداية اُفول كلّ القوى العسكرية في الجزيرة وخصوصاً قريش ، ومنطلقاً للانتصارات والفتوحات التي حقّقها المسلمون .

روي أنّ عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة خرجوا ودعوا إلى المبارزة ، فخرج إليهم في البداية عوف ومُعَوِّذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة وكلّهم من الأنصار ، فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا : من الأنصار ، فقالوا : أكفاء كرام وما لنا بكم من حاجة ، ليخرج الينا أكفاؤنا من قومنا .

فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه حمزة وعبيدة بن الحارث وعليّاً بمبارزتهم ، فدنا بعضهم من بعض فبارز عبيدة بن الحارث عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز عليّعليه‌السلام الوليد ، فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وقتل عليٌّعليه‌السلام الوليد ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه ، وكرّ حمزة وعليّعليه‌السلام على عتبة فقتلاه(٢) .

ثمّ نشبت المعركة بين طرفين غير متكافئين بالموازين العسكرية : جبهة المسلمين وعددها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، تقاتل عن إيمان وعقيدة ، تدافع عن الحقّ وتدعو إليه ، وجبهة قريش وعددها تسعمائة وخمسون رجلاً تقاتل عن حميّة وعصبيّة جاهلية ، وهنا دخلت عناصر جديدة في الحرب منها : دعاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثباته وبسالة حمزة وقوّة عليّعليه‌السلام ، فغاص عليّ وحمزة وأبطال المسلمين في وسط قريش ، ونسي كلّ واحد منهم نفسه وكثرة عدوه ، فتطايرت الرؤوس عن الأجساد ، وأمدّ الله المسلمين بالقوة والعزيمة والثبات ، واسر المسلمون كلّ من عجز عن الفرار حتى بلغ عدد الأسرى سبعين رجلاً ، وعدد القتلى اثنين وسبعين رجلاً .

ــــــــــــ

(١) يقال لها : معركة بدر العظمى ، وقعت في السنة الثانية للهجرة في السابع عشر من شهر رمضان ، وقيل : في التاسع عشر منه .

(٢) الكامل في التأريخ : ٢ / ١٣٤ و ١٣٥ ط مؤسسة الأعلمي ، وتأريخ الطبري : ٣ / ٣٥ .

٦٢

وتنصّ الروايات على أنّ عليّاًعليه‌السلام قتل العدد الأكبر منهم ، فعلى أقل التقادير أنّهعليه‌السلام قتل أربعة وعشرين ، وشارك في قتل ثمانية وعشرين آخرين ، ويبدو أنّ الذين قتلهم عليّعليه‌السلام هم أبطال قريش وصناديدها(١) .

في هذه المعركة المهمّة كان عليّعليه‌السلام صاحب راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إضافة إلى دوره الحاسم لنتيجة المعركة(٢) .

وروي أنّ رجلاً من بني كنانة دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال له : هل شهدت بدراً ؟ قال : نعم ، قال : فحدّثني ما رأيت وحضرت .

قال : ما كنّا شهوداً إلاّ كغياب ، وما رأينا ظفراً كان أوشك منه ، قال : فصف لي ما رأيت .

قال : رأيت عليّ بن أبي طالب غلاماً شابّاً ليثاً عبقرياً يفري الفري ، لا يثبت له أحد إلاّ قتله ، ولا يضرب شيئاً إلاّ هتكه ، ولم أر من الناس أحداً قطّ أنفق منه يحمل حملته ويلتفت التفاتة ، كأنّه ثعلب روّاغ ، وكأنَّ له عينان في قفاه ، وكأنّ وثوبَه وثوبُ وحش(٣) .

ب ـ عليّعليه‌السلام في معركة اُحد :

لم تكن قريش لتنسى هزيمتها الساحقة في معركة بدر ومقتل صناديدها

ــــــــــــ

(١) الإرشاد للمفيد : ٦٤ الفصل ١٩ الباب ٢ ، وكشف الغمّة : ١ / ١٨٢ .

(٢) الاستيعاب لابن عبد البرّ المالكي بهامش الإصابة : ٣ / ٣٣ ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : ١ / ١٤٢ .

(٣) حلية الأولياء لأبي نعيم : ٩ / ١٤٥ .

٦٣

ورجالها وكثير من أبطالها فعزمت على الثأر من المسلمين ردّاً لاعتبارها الذي فقدته ، ولم يمضِ سوى عام حتى استكملت قريش عدّتها ، واجتمع إليها أحلافها من المشركين واليهود ، وانضمّ اليهم كلّ حاقد وناقم على الدين الإسلامي ، فاتّفقت كلمة الكفر ، واتّحدت قوى الباطل لمواجهة الحقّ ، وخرج جيش الكفر باتّجاه المدينة وقد تجاوز عدده ثلاثة آلاف ، وذلك في أوائل شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وما أن وصل خبرهم إلى مسامع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى جمع المسلمين واستشارهم في الموقف المناسب الذي يجب أن يتّخذوه ، تمّ خطب فيهم وحثّهم على القتال والصبر والثبات ، ووعدهم بالنصر والأجر ، وتجهّز للخروج بمن معه وكانوا ألفاً أو يزيدون ، ودفع لواءه لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ووزّع الرايات على وجوه المهاجرين والأنصار ، وأبى النفاق إلاّ أن يأخذ دوره في إضعاف المسلمين ، فرجع عبد الله ابن أبي بمن تبعه في منتصف الطريق ، وكان عددهم يناهز الثلاثمائة(١) .

واستمرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسيره قدماً حتى بلغ أُحداً ، فأعدّ أصحابه للقتال ووضع تخطيطاً سليماً محكماً للمعركة يضمن لهم النصر ، حيث أمر خمسين رجلاً من الرماة أن يكونوا من وراء المسلمين إلى جانب الجبل ، وأكّد عليهم بأن يلزموا أماكنهم ولا يتركوها حتى لو قُتل المسلمون جميعاً(٢) .

ووصلت قريش إلى (أُحد) وأعدّوا أنفسهم للقتال ، فقسّموا الأدوار ووزّعوا المهام كما بدا لهم ، وأعطوا لواءهم لبني عبد الدار ، وأوّل من استلمه منهم طلحة بن أبي طلحة ، ولمّا علم النبيّ بذلك أخذ اللواء من عليّعليه‌السلام وسلّمه إلى مصعب بن عمير وكان من بني عبد الدار ، وبقي معه إلى أن قُتل ، وحينئذٍ ردّه

ــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ : ٢ / ١٥٠ ، وسيرة ابن هشام : ٣ / ٦٤ .

(٢) مغازي الواقدي : ١ / ٢٢٤ ، والكامل في التأريخ : ٢ / ١٥٢ ، وسيرة ابن هشام : ٣ / ٦٦ .

٦٤

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عليّعليه‌السلام (١) ، وكانت معركة (أُحد) قد وقعت في شوال من العام الثالث من الهجرة .

وفي اللحظة التي كمل فيها التنظيم انطلقت شرارة المعركة عندما برز كبش الشرك وحامل رايتهم طلحة بن أبي طلحة الذي كان يُعدّ من شجعان قريش ، يتقدّم نحو المسلمين رافعاً صوته متحدّياً لهم مستخفّاً بجمعهم قائلاً : يا معشر أصحاب محمد ! إنّكم تزعمون أنّ الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنّة ؛ فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنّة أو يعجلني سيفه إلى النار ؟

فخرج إليه عليّعليه‌السلام (٢) وبرزا بين الصفّين ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في عريش أُعدّ له يشرف على المعركة ويراقب سيرها ، فضرب عليّ طلحة فقطع رجله وسقط على الأرض وسقطت الراية ، فذهب علي ليجهز عليه فكشف عورته وناشده الله والرحم ، فتركه عليّعليه‌السلام فكبّر رسول الله وكبّر معه المسلمون فرحاً بنتيجة هذه الجولة .

ثمّ تقدّم أخوه عثمان بن أبي طلحة فحمل الراية فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه فقتله ، فحمل اللواء من بعده أخوهما أبو سعيد ، فحمل عليه عليّعليه‌السلام فقتله ، ثمّ أخذ اللواء أرطاة بن شرحبيل فقتله عليّ ، وهكذا تعاقب على حمل اللواء تسعة من بني عبد الدار قُتلوا بأجمعهم بسيف عليّ(٣) أو سيف حمزة ، وكان آخر من حمل اللواء هو غلام لبني عبد الدار يُدعى (صواب) فحمل عليه عليّ وقتله ، وسقط اللواء من بعده في ساحة المعركة ولم يجرؤ أحد أن يحمله ، فدبّ الرعب في قلوب المشركين ، وانهارت معنوياتهم ، وانكشف المشركون لا يلوون على شيء حتى أحاط المسلمون بنسائهم ، وبدت المعركة وكأنّها قد حُسمت لصالح المسلمين .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ١٩٩ ط مؤسسة الأعلمي .

(٢) سيرة ابن هشام : ٣ / ٧٣ .

(٣) الكامل في التاريخ : ٢ / ١٥٢ ـ ١٥٤ .

٦٥

وهنا عصفت النازلة العظمى بالمسلمين حيث ترك الرماة موقعهم فوق الجبل ، وانحدروا يشاركون إخوتهم غنائم المعركة ، ولم يثبت على الجبل إلاّ عشرة رماة .

فنظر خالد بن الوليد ـ وكان على خيل المشركين ـ خلوّ الجبل وقلّة الثابتين صاح بخيله ، وكرّ يحمل على الرماة وتبعه عكرمة فقتلوهم ، وهنا تغيّر ميزان القوة ورجحت كفّته لصالح المشركين ، فاستطاعوا أن ينفذوا ويشقّوا صفوف المسلمين(١) ، وكانت المأساة التي لم يعرف المسلمون لها مثيلاً ، فارتبك المسلمون وضاع صوابهم ، فكانت هزيمة بعد نصر وانكساراً بعد انتصار ، وتفرّق الناس كلّهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسلموه إلى أعدائه بعد أن استشهد عمّه حمزة ومصعب بن عمير ، ولم يبق معه أحد إلاّ عليّ ونفر قليل من المهاجرين والأنصار .

في هذه اللحظات الحاسمة والحرجة سجّل التأريخ موقف الصمود والفداء الذي وقفه عليّعليه‌السلام من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقف ليدافع عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلّ قوة وبسالة وهمّه سلامة الرسول والرسالة ، إذ كان يحمل الراية بيد والسيف بالأخرى يصدّ الكتائب ويردّ الهجمات عن الرسول ، وكأنّه جيش بكامل عِدَّته وعُدَّته ، وكان الرسول كلّما رأى جماعة تهجم عليه قال لعليّعليه‌السلام :يا عليّ احمل عليهم ، فيحمل عليهم ويفرّقهم ، فلم يزل عليّ يقاتل حتى أثخنته جراحات عديدة في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه(٢) .

فأتى جبرئيلعليه‌السلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :إنّ هذه لهي المواساة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ١٩٤ ط مؤسسة الأعلمي .

(٢) الكامل في التأريخ : ٢ / ١٥٤ ، وأعيان الشيعة : ١ / ٢٨٨ ، وبحار الأنوار : ٢٠ / ٥٤ .

٦٦

إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرئيل :وأنا منكما ، فسمعوا صوتاً في السماء ينادي :لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ (١) .

وهكذا استطاع أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يحافظ على حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يوصل نتيجة المعركة إلى حالة من التوازن دون أن يحرز أحد الطرفين نصراً حاسماً.

مواقف بعد معركة (أُحد( :

ولمّا انصرف أبو سفيان ومن معه ؛ بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام فقال : اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون ، فإن كانوا قد جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة .

قال عليّعليه‌السلام :فخرجتُ في آثارهم فرأيتهم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل يريدون مكّة (٢) .

ولمّا رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمةعليها‌السلام وقال :اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، وناولها عليّعليه‌السلام سفيه وقد خضّب الدم يده إلى كتفه ، فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :خذيه يا فاطمة فقد أدّى بعلك ما عليه ، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش (٣) .

كانت معركة أُحد قاسية نتيجتها ، شديدة وطأتها ، باهضة مكلّفة خسارتها ، ورغم مرارة المعركة نلمح فيها ومضات ساطعة من مواقف عليّعليه‌السلام ، فقد امتاز بأمور دون أن يشاركه فيها أحد :

ــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ : ٢ / ١٥٤ ، وفرائد السمطين للحمويني : ١ / ٢٥٧ الحديث ١٩٨ ، ١٩٩ ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : ١ / ١٤٨ ، وروضة الكافي : الحديث : ٩٠ .

(٢) أعيان الشيعة : ١ / ٣٨٩ ، والسيرة النبوية لابن هشام : ٣ / ٩٤ .

(٣) أعيان الشيعة : ١ / ٣٩٠ .

٦٧

١ ـ أنه كان صاحب راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي لم تسقط إلى الأرض رغم فرار أغلب المسلمين .

٢ ـ قتلهعليه‌السلام أصحاب راية المشركين الذين تصدّوا لحملها ، وقد أظهر بذلك حنكة عسكرية وشجاعة فذّة ، وأحدث بذلك شرخاً كبيراً في صفوف المشركين كان سبباً في هزيمتهم في أوّل المعركة .

٣ ـ ثباتهعليه‌السلام مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم فراره بعدما فرّ عنه الناس يدلّ على إيمانه المطلق بالمعركة ، والذي يكشف عن عمق العقيدة ورسوخها في نفسهعليه‌السلام .

٤ ـ أنه كان هو المحامي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدافع عنه كتائب المشركين الذين قصدوا قتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانعليه‌السلام يمثّل الدرع التي تقي رسول الله عن وصول مكروه إليه ، وهذا يدلّ على عظيم حبّه للرسول وتفانيه في الحرص على سلامته .

٥ ـ أنّ أكثر المقتولين من المشركين يومئذٍ قتلاه(١) ، وهذا يدلّ على فاعليته القتالية العالية وقوّته وشجاعتهعليه‌السلام .

٦ ـ الأخلاق والقيم العالية التي عكسها في المعركة حيث ترك الإجهاز على طلحة بن أبي طلحة عندما كشف عن عورته حياءً منهعليه‌السلام وتكرّماً .

٧ ـ أنّهعليه‌السلام كان قريباً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملازماً له حيث كان الرسول يوجّهه ليرد الهاجمين عليه ، وأيضاً هو الذي أخذ بيد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا سقط في إحدى الحفر التي حفرها أبو عامر الراهب في ساحة المعركة ليقع فيها المسلمون(٢) .

ــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٨٢ ، الفصل ٢٣ الباب ٢ .

(٢) سيرة ابن هشام : ٣ / ٨٠ .

٦٨

كما أنّه هو الذي حمل الماء بدرقته إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليغسل الدم والتراب عن وجهه ورأسه .

٨ ـ ورغم الجراحات التي تعرّض لها عليّعليه‌السلام والجهد الذي بذله ؛ فقد أرسله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد انصراف قريش عن المعركة ليستطلع أخبارهم ، وهذا يدلّ على ثقة الرسول بقدرة عليّ ودقّة ضبطه للمعلومات وحنكته في معالجة الأمور الطارئة ، فالمعركة لم تنته بعد تماماً(١) .

ج ـ عليّعليه‌السلام في معركة الخندق :

تمثّل أمام قريش الفشل في القضاء على المسلمين حقيقة واضحة ن ولكنّها الجاهلية والعناد والإصرار على الكفر ، فعادت قريش تتهيّأ مرةً أخرى لتوجيه الضربة القاضية للمسلمين ، وذلك بالتحالف مع القبائل الجاهلية الأخرى واليهود أيضاً ، حتى بلغ عددهم عشرة آلاف يقودها أبو سفيان(٢) ، وازداد غيظ وحقد المشركين حين واجهوا الأسلوب الدفاعي والتكتيك الحربي الّذي اتّخذه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعد أن استشار أصحابه فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق ، غير أنّ الاندفاع والحماس والغرور بالعدّة والعدد كان قويّاً في نفوس الأحزاب المجتمعة لقتال المسلمين والقضاء على الإسلام نهائياً .

وتمكّن بعض فرسان قريش من عبور الخندق من مكان ضيّق فيه ، فأصبحوا هم والمسلمون على صعيد واحد ، فازداد المسلمون خوفاً على خوفهم وخرج عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم .

ــــــــــــ

(١) هذه الامتيازات لعليّعليه‌السلام في غزوة أُحد قد ذكرها العلاّمة السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة : ١ : ٣٩٠ فراجع .

(٢) السيرة الحلبية : ٢ / ٦٣١ .

٦٩

فوقف عمرو بن عبد ودّ يطلب المبارزة ويتحدّى المسلمين ، وهدأت أصوات المسلمين أمام صيحاته وكأنّ على رؤوسهم الطير ، كلّ يفكر في نفسه ويحسب لهذا الفارس ألف حساب .

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :هل يبارزه أحد ؟ فبرز إليه عليّعليه‌السلام فقال :أنا له يا رسول الله ، فأجلسه النبيّ ، وللمرّة الثانية والثالثة طالب عمرو المبارزة فلم يكن يجيبه إلاّ عليّعليه‌السلام وفي كلّ مرّة كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلب منه الجلوس(١) ثم أذن النبيّ لعليّ بعد أن عمّمه بعمامته وقلّده بسيفه وألبسه درعه ، ثمّ رفع يديه وقال :) اللّهم إنّك أخذت عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أُحد وهذا عليّ أخي وابن عمّي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) (٢) .

وبرز عليّعليه‌السلام إلى ساحة المعركة بعد أن قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :) برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه ( (٣) .

وانحدر عليّعليه‌السلام نحو عمرو والثقة بنصر الله تملأ قلبه ، أمّا عمرو فقد كان لقاؤه مع عليّ مفاجأة له ، وفي هذا الموقف تردّد عمرو في مبارزة عليّعليه‌السلام فقال له :يا عمرو ، إنّك كنت في الجاهلية تقول : لا يدعوني أحد إلى ثلاثة إلاّ قبلتها أو واحدة منها ، قال : أجل .

قال عليّعليه‌السلام :فإنّي أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله وأن تسلم لربّ العالمين ، قال : أخّر عني هذه ، قال عليعليه‌السلام :أما إنّها خير لك لو أخذتها ، ثمّ قال : ترجع من حيث جئت ، قال: لا تتحدّث نساء قريش بهذا أبداً ، قال عليّعليه‌السلام : تنزل تقاتلني .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية لابن هشام : ٣ / ٢٢٤ ، تاريخ الطبري : ٣ / ١٧٢ ، والكامل في التاريخ : ٢ / ١٨٠ ، والسيرة الحلبية : ٢ / ٣١٨ .

(٢) موسوعة التاريخ الإسلامي : ٢ / ٤٩١ و ٤٩٢ ، عن شرح نهج البلاغة : ١٩ / ٦١ ، وراجع المناقب للخوارزمي : ١٤٤ ، السيرة الحلبية : ٢ / ٣١٨ .

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٩/ ٦١ ، ينابيع المودة : الباب الثالث والعشرون ، رواه عن ابن مسعود ورواه الميلاني في قادتنا : ٢ / ١٠٨ عن الدميري في حياة الحيوان : ١ / ٢٤٨ وعن الفضل بن روزبهان : انّه حديث صحيح لا ينكره إلاّ سقيم الرأي ضعيف الإيمان ولكنه ليس نصّاً في الإمامة .

٧٠

فغضب عمرو عند ذلك ونزل عن فرسه وعقرها ، ثمّ أقبل على عليّعليه‌السلام فتقاتلا ، وضربه عمرو بسيفه فاتّقاه عليّ بدرقته ، فأثبت فيها السيف وأصاب رأسه ، ثمّ ضربه عليّ على عاتقه فسقط إلى الأرض يخور بدمه ، وعندها كبّر عليعليه‌السلام وكبّر المسلمون خلفه ، وانجلت الواقعة عن مصرع عمرو ، وفرّ أصحابه من هول ما شاهدوه ، فلحق بهم عليّ فسقط نوفل بن عبد الله في الخندق فنزل إليه علي فقتله(١) .

وتلقّت الأحزاب هذه الضربة القاسية بدهشة واستغراب ، لأنّها لم تكن تتوقّع أنّ أحداً يجرؤ على قتل عمرو بن عبدودّ ، فدبّ الخوف في نفوسهم ولم يجسر أحد منهم على تكرار المحاولة إلاّ أنّهم بقوا محاصرين للمدينة فترة من الزمن حتى أذن الله بهزيمتهم حين استخدم رسول الله أسلوباً آخر لمحاربتهم .

وامتاز عليّعليه‌السلام على جميع من حضروا غزوة الخندق بأمور :

١ ـ مبادرته لحماية الثغرة التي عبر منها عمرو وأصحابه ، والتي تدلّ على الحزم والإقدام في مواجهة الطوارئ في ساحة المعركة .

٢ ـ مبارزته عَمْراً وقتله ، وقد تردّد المسلمون في مبارزته فلم يخرج إليه أحد ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشيداً بموقف عليّعليه‌السلام :(لمبارزة عليّ بن أبي طالب لعمرو بن عبدودّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة) (٢) .

٣ ـ الشجاعة والقوّة الفائقة التي ظهرت منهعليه‌السلام طوال المعركة تمثلت واضحة حينما لحق المنهزمين الذين عبروا مع عمرو بن عبدود ، وهو راجل وهم فرسان .

ــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق : ١ / ١٥٠ ، وراجع أيضاً موسوعة التاريخ الإسلامي : ٢ / ٤٩٥ .

(٢) مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٢ ، نقلاً عن هامش تأريخ دمشق : ١ / ١٥٥ ، وفرائد السمطين : ١ / ٢٥٥ حديث ١٩٧ .

٧١

٤ ـ الأخلاق العالية التي كان يتميز بهاعليه‌السلام في شتّى المواقف ، مظهراً فيها عظمة الرسالة والرسول ، منها أنه لم يسلب عَمْراً درعه مع أنّها من الدروع الممتازة بين دروع العرب .

٥ ـ إن قتلهعليه‌السلام عَمْراً ونوفلاً ولحوقه بالمنهزمين كان سبباً في إعادة الثقة للمسلمين بنفوسهم بعدما رأوا الجمع الكبير لقريش وأحلافها ، وأيضاً كان سبباً لهزيمة المشركين مع ما أصابهم من الريح والبرد وسبب خوفهم من أن يعاودوا الغزو .

٦ ـ الشرف الرفيع الذي ناله عليّعليه‌السلام بشهادة الرسول حين قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مبارزة عليّعليه‌السلام :( برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه ) (١) .

د ـ عليّعليه‌السلام في صلح الحديبية(*) :

بعد الأحداث المتغيّرة والمؤلمة والمعارك الدامية التي خاضها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون مع قريش واليهود ؛ تمكّنت الرسالة الإسلاميّة أن تخطو خطوات بعيدة المدى تحقّق من خلالها للمسلمين كياناً واضحاً ووجوداً مستقلاً وقوة لابدّ من حسابها في شتى الميادين .

وكان المسلمون يشغفون شوقاً لزيارة الكعبة ويتذكّرونها كلّما وقفوا في صلاتهم متّجهين نحوها في هذا الوقت من عمر الرسالة الإسلامية عزم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أداء فريضة من فرائض الإسلام بأمر من الله ، فقرّر الحجّ واتّخذ كلّ الإجراءات والتدابير اللازمة لمثل هذه الخطوة حتّى أعلنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مراراً أنّه لا يريد الحرب ضد قريش أو غيرها .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ك ١٩ / ٦١ .

(*) كان خروج النبي لأداء العمرة في مطلع ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة المباركة .

٧٢

ولمّا علمت قريش بالخبر ، اجتمعت كلمتهم على منعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دخول مكّة مهما كلّفهم ذلك من جهد وخسائر ، وأرسلوا خالد بن الوليد على رأس جماعة من الفرسان ليقطع عليه الطريق .

وحين نزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون منطقة (الجحفة) ؛ كان الماء قد نفد لديهم ولم يجدوا ماءً ، فأرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الروايا فلم يتمكّنوا من جلب الماء لتردّدهم وخوفهم من قريش ، عندها دعاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام وأرسله بالروايا لجلب الماء ، وخرج السقاة وهم لا يشكّون في رجوعه لمّا رأوا من رجوع من تقدّمه ، فخرج عليٌّعليه‌السلام حتى وصل (الحرار) واستقى ، ثمّ أقبل بها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولها زَجَل ، فلمّا دخل كبّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا له بالخير(١) .

ثم إن قريشاً اضطرّت النبيّ أن يعدل عن الطريق المؤدّي إلى مكّة ، وانحرف به رجل من (أسلم) إلى طريق وعرة المسالك خرجوا منها إلى ثنية المراد ، فهبط الحديبيّة ، وحاولت قريش أكثر من مرّة التحرّش بالمسلمين ومهاجمتهم بقيادة خالد بن الوليد ، لكنّ عليّاًعليه‌السلام وجماعة من المسلمين الأشدّاء كانوا يصدّون تلك الغارات ويفوّتون الفرصة على قريش في جميع محاولاتها العدوانية(٢) .

واضطرّت قريش أن تفاوض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدما رأت العزيمة والإصرار منه ومن المسلمين على دخول مكّة ، فأرسلت إليه مندوبين عنها للتفاوض ، وكان آخرهم سهيل بن عمر وحويطب من بني عبد العزّى ويبدو أنّ المفاوضات لم

ــــــــــــ

(١) الإرشاد : ١٠٨ ، الفصل ٣٠ الباب ٢ ، وكشف الغمة : ١ / ٢٨٠ باب المناقب مثله .

(٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر للحسني : ١ / ٢١٧ نقلاً عن ابن إسحاق .

٧٣

تنحصر بخصوص قضيّة الدخول إلى مكّة في ذلك العام(١) بل تناولت أموراً أخرى لصالح الطرفين .

فقد روي أنّ عليّاًعليه‌السلام قال : لمّا كان يوم الحديبيّة ؛ خرج إلينا ناس من المشركين فقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمد ! خرج إليك أناس من أبنائنا وإخواننا وأرقّائنا وليس لهم فقه في الدين ، وإنّما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا ، فقال : إذا لم يكن لهم فقه في الدين كما تزعمون سنفقّههم فيه ، وأضاف إلى ذلك : يا معشر قريش ! لتنتهنّ أو ليبعثنّ الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف قد امتحن الله قلبه بالإيمان ، فقال له أبو بكر وعمر والمشركون : من هو ذلك الرجل يا رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو خاصف النعل ، وكان قد أعطى نعله لعليّعليه‌السلام يخصفها(٢) .

وبعد أن تمّ الاتّفاق بين الطرفين على بنود الصلح ؛ دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب فقال له :اُكتب يا عليّ ، بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل : أمّا الرحمن فو الله ما أدري ما هو لكن اكتب باسمك اللّهمّ ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :اُكتب باسمك اللّهمّ ، هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله ، فقال سهيل : لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب محمّد بن عبد الله ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني ، ثمّ قال لعليّعليه‌السلام : امحِ رسول الله ، فقالعليه‌السلام :يا رسول الله ، إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة ، فأخذه رسول الله فمحاه ، ثمّ قال له : أما إنّ لك مثلها وستأتيها وأنت مضطرّ لذلك (٣) .

ــــــــــــ

(١) كنز العمال : ١٠ / ٤٧٢ ، غزوة الحديبية .

(٢) ينابيع المودة للقندوزي : ٥٩ ، وكنز العمال : ١٣ / ١٧٣ ، وفضائل الخمسة للفيروزآبادي : ٢ / ٢٣٧ .

(٣) تأريخ الطبري : ٢ / ٢٨٢ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل لابن الأثير : ٢ / ٤٠٤ .

٧٤

هـ ـ عليّعليه‌السلام في غزوة خيبر(*) :

لمّا تم عقد صلح الحديبية اطمأن النبيّ على مصير الرسالة الإسلاميّة من ناحية قريش وباقي أطراف عرب الجزيرة الذين كانوا على شركهم ، لأنّ بنود الصلح كانت تميل غلى ترجيح كفّة المسلمين ، يضاف إلى ذلك تنامي قوّة المسلمين عِدّة وعُدّة ، فقد أقبل على الإسلام خلق كثير ، والعرب أدركوا أنّ قريشاً على عتوّها وطغيانها وقوّتها قد انكسرت شوكتها وفشلت خططها في القضاء على الإسلام عن طريق القوّة ، ولذا بدا التوقيع على عقد الصلح استسلاماً من جانب قريش .

وبقيت قوّة أخرى تثير الشغب وتمثّل النفاق والغدر ، تلك هي جموع اليهود الذين كانوا خارج المدينة ، فكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراقبهم خشية أن يقوموا بعمل معادي بدعم خارجي ، وخصوصاً أنّ تأريخ اليهود مليء بالغدر ونقض العهود ، لذا قرّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غزو (خيبر) معقل اليهود وحصنهم فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه أن يتجهّزوا للغزو بأسرع وقت ، فتمّ ذلك فخرج من المدينة وأعطى الراية لعليّعليه‌السلام ومضى يجدّ السير باتّجاه خيبر ، فوصل إليهم ليلاً ولم يعلم به أهلها ، فخرجوا عند الصباح ، فلمّا رأوه عادوا وامتنعوا في حصونهم ، فحاصرهم النبيّ وضيّق عليهم ونشبت معارك ضارية بين الطرفين حول الحصون ، وتمكّن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فتح بعض حصونهم ، واستمرّ الحال هذا من الحصار والقتال بضعاً وعشرين يوماً ، وبقيت بعض الحصون المنيعة ، فبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برايته أبا بكر فرجع ولم يصنع شيئاً ، وفي اليوم الثاني بعث بها عمر بن الخطاب فرج خائباً

ــــــــــــ

(*) خيبر : مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير ، تقع خارج المدينة على بعد حوالي (٩٠) ميلاً ، وقعت الغزوة في بداية محرّم من العام السابع للهجرة .

٧٥

كصاحبه يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه ، وهنا عزَّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعقد بيده لواءً فيرجع خائباً ، أو يوجّه أحداً نحو هدف فيرتد منهزماً ، فأعلنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمة خالدة تتضمّن معان عميقة ومغاز جليلة ، فقال بصوت رفيع يسمعه أكثر المسلمين : ( لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرّاراً غير فرّار يفتح الله عليه ، جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ) (١) .

فاشرأبّت الأعناق وامتدّت وتمنّى كلّ واحد أن يكون مصداق ذلك ، حتى أنّ عمر بن الخطاب قال : ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذٍ ، وتمنّيت أن أعطى الراية(٢) .

فلمّا طلع الفجر ، قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا باللواء والناس على مصافّهم ، ثمّ دعا عليّاًعليه‌السلام ، فقيل : يا رسول الله ! هو أرمد ، قال :فأرسلوا له ، فذهب إليه سلمة ابن الأكوع وأخذ بيده يقوده حتى أتى به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عصّب عينيه ، فوضع النبيّ رأس عليّ في حجره ، ثمّ بلَّ يده من ريقه ومسح بها عيني عليّ فبرأتا حتى كأن لم يكن بهما وجع ، ثمّ دعا النبيّ لعليّ بقوله :اللّهمّ أكفه الحرّ والبرد (٣) .

ثمّ ألبسه درعه الحديد وشدَّ ذا الفقار الّذي هو سيفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وسطه وأعطاه الراية ووجّهه نحو الحصن ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه ، فو الّذي نفسي بيده ، لإن يهدي بهداك ـ أو لغن يهدي الله بهداك ـ رجلاً واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم ) .

قال سلمة : فخرج والله يهرول هرولةً وإنّا لخلفه نتّبع أثره حتّى ركز رايته في رخم من حجارة تحت الحصن ، فأطلع إليه يهوديّ من رأس الحصن ، فقال : من أنت ؟ قال :(أنا عليّ بن أبي طالب) .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٣٠٠ ط مؤسسة الأعلمي ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : ١ / ١٦٦ ترجمة الإمام عليعليه‌السلام ، تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنفي : ٣٢ ، والسيرة الحلبية بهامش السيرة النبوية : ٣ / ٣٧ .

(٢) تذكرة الخواص : ٣٢ .

(٣) تأريخ الطبري : ٢ / ٣٠١ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل لابن الأثير : ٢ / ٢٢٠ ، وفرائد السمطين : ١ / ٢٦٤ ، حديث ٢٠٣ .

٧٦

قال : قال اليهودي لأصحابه : غلبتم ، وما أُنزل على موسى(١) .

ثمّ خرج إليه أهل الحصن ، وكان أوّل من خرج إليه الحارث أخو (مرحب) وكان معروفاً بالشجاعة ، فانكشف المسلمون ووثب عليّعليه‌السلام ، فتضاربا وتقاتلا فقتله عليّعليه‌السلام وانهزم اليهود إلى الحصن ، ثمّ خرج مرحب وقد لبس در عين وتقلّد بسيفين واعتمّ بعمامتين ومعه رمح لسانه ثلاثة أسنان .

فاختلف هو وعليّ بضربتين ، فضربه عليٌّ بسيفه فقدّ الحجر الذي كان قد ثقبه ووضعه على رأسه ، وقدّ المغفر ، وشقّ رأسه نصفين حتى وصل السيف إلى أضراسه ، ولمّا أبصر اليهود ما حلّ بفارسهم (مرحب) ؛ ولّوا منهزمين إلى داخل الحصن وأغلقوا بابه .

فصار عليّعليه‌السلام إليه فعالجه حتى فتحه ، وأكثر الناس من جانب الخندق ـ الّذي حول الحصن ـ لم يعبروا معهعليه‌السلام فأخذ باب الحصن فقلعه وجعله على الخندق جسراً لهم حتى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم(٢) .

وروي : أنّه اجتمع عدّة رجال على أن يحرّكوا الباب فما استطاعوا .

قال ابن عمرو : ما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي عليّعليه‌السلام ولكنّا عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه أربعين ذراعاً ، ولقد تكلّف حمله أربعون رجلاً فما أطاقوه ، فأخبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال :( والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكاً ) .

ــــــــــــ

(١) أعيان الشيعة : ١ : ٤٠١ .

(٢) تأريخ الطبري : ٢ / ٣٠١ ط مؤسسة الأعلمي ، والإرشاد للمفيد : ١١٤ ، الفصل ٣١ من باب ٢ ، وبحار الأنوار : ٢١ / ١٦ .

٧٧

وروي أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قال في رسالته إلى سهل بن حنيف :والله ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري أربعين ذراعاً بقوّة جسدية ولا حركة غذائية ، لكنّي أيّدت بقوّة ملكوتية ونفس بنور ربّها مضيئة ، وأنا من أحمد كالضوء من الضوء (١) .

و ـ عليّعليه‌السلام في فتح مكّة(*) :

ساد الهدوء والسلم الأجواء المحيطة بقريش والمسلمين ، والتزم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكامل بنود الحديبية ، غير أنّ قريشاً كانت تنوي نقض المعاهدة ، وقد تصوّرت أن ضعفاً أصاب المسلمين بعد انسحابهم من معركة (مؤتة) منهزمين ، فأدّى استخفافها بالمسلمين إلى التآمر على أحلاف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خزاعة ، فحرّضت بعض أحلافها من بني بكر ، فوقعت بينهما مناوشات فتغلّب بنو بكر بمعونة قريش على خزاعة ، وبهذا فقد نقضت قريش المعاهدة وأعلنت الحرب على المسلمين .

فعزم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على محاربة قريش ، وقال كلمته المشهورة :( لا نصرت إن لم أنصر خزاعة ) وأخذ يستعدّ لذلك وهو يحرص على أن لا يذاع هذا الأمر ، ولكن حاطب بن أبي بلتعة سرّب الخبر ، فأرسل كتاباً إلى قريش مع امرأة يخبرهم بما عزم عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبل خروجها من ضواحي المدينة ؛ نزل الوحي على النبيّ وأخبره بذلك ، فأرسل خلفها بالفور عليّاً والزبير ، وأمرهما بأن يجدّا السير في طلبها قبل أن تفلت منهما ، فأدركاها على بعد أميال من المدينة ، فأسرع إليها الزبير وسألها عن الكتاب فأنكرته وبكت فرقّ لها الزبير ، ورجع عنها ليخبر عليّاً ببراءتها وقال له : ارجع لنخبر الرسول بذلك ، فقال عليّعليه‌السلام :إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبرنا بأنّها تحمل كتاباً وتقول أنت بأنّها لا تحمل شيئاً ، ثمّ شهر عليّ عليه‌السلام سيفه

ــــــــــــ

(١) الأمالي للصدوق : المجلس السابع والسبعون ، الحديث ١٠ .

(*) كان فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمانٍ من الهجرة النبويّة .

٧٨

وأقبل عليها حتى استخرج الكتاب منها ، ورجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّمه إيّاه (١) .

ولمّا أتمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاستعدادات والتجهيزات اللازمة للخروج إلى مكّة ؛ أعطى لواءه إلى عليّعليه‌السلام ووزّع الرايات على زعماء القبائل ومضى يقطع الطريق باتّجاه مكّة .

ولمّا رأت قريش أنّها لا طاقة لها أمام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ؛ استسلمت ولم تجد بُدّاً من أن يدخل كلّ فرد منهم داره ليأمن على نفسه انقياداً للأمان الذي أعلنه النبيّ لهم(٢) .

وروي : أنّ سعد بن عبادة كان معه راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأنصار ولمّا مرَّ على أبي سفيان وهو واقف بمضيق الوادي ( في الطريق إلى مكّة ) قال أبو سفيان : من هذه ؟ قيل له : هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة مع الراية ، فلمّا حاذاه سعد قال : يا أبا سفيان ، اليوم يوم الملحمة ، اليوم تُستحلّ الحرمة ، اليوم أذلّ الله قريشاً ، فلمّا مرَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبي سفيان وحاذاه أبو سفيان ناداه : يا رسول الله ! أمرت بقتل قومك فإنّه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا فإنّه قال : اليوم يوم الملحمة أنشدك الله في قومك ، فأنت أبرّ الناس وأرحمهم وأوصلهم .

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( كذب سعد ، اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعزَّ الله فيه قريشاً ، اليوم يعظّم الله فيه الكعبة ، اليوم تكسى فيه الكعبة ) .

وأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سعد بن عبادة عليّاًعليه‌السلام أن ينزع اللواء منه ، وأن يدخل بها مكّة(٣) .

ودخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة بذلك الجيش الكبير الذي لم تعرف له مكة نظيراً في تأريخها الطويل ، ولواؤه بيد عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأعلن العفو العامّ وهو على أبواب مكّة .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٣٢٨ ط مؤسسة الأعلمي ، والسيرة الحلبية بهامشه السيرة النبويّة : ٣ / ٧٥ .

(٢) تأريخ الطبري : ٢ / ٣٣٢ ، والكامل في التأريخ لابن الأثير : ٢ / ٢٤٣ .

(٣) تأريخ الطبري : ٢ / ٣٣٤ ط مؤسسة الأعلمي ، الإرشاد للمفيد : ١٢١ الفصل ٣٤ الباب ٢ .

٧٩

صعود عليّعليه‌السلام على منكب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتحطيم الأصنام :

وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال :انطلق بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كسر الأصنام ، فقال لي : اجلس ، فجلست إلى جنب الكعبة ، ثمّ صعد الرسول على منكبي فقال لي : انهض بي ، فنهضت به ، فلمّا رأى ضعفي تحته قال : اجلس ، فجلست ونزل عنّي ، وقال : يا عليّ اصعد على منكبي ، فصعدت على منكبيه ، ثمّ نهض بي حتى خيل لي أن لو شئت نلت السماء ، وصعدت على الكعبة فألقيت الصنم الأكبر وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عالجه ، فلم أزل أعالجه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إيه إيه ، حتّى قلعته ، فقال : دقّه ، فدققته وكسّرته ونزلت (١) .

ز ـ عليّعليه‌السلام في غزوة حنين(*) :

بعد أن كتب الله النصر والفتح لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين دخل مكّة واستسلمت قريش وأذعنت له أجمعت قبيلة (هوازن) وقبيلة (ثقيف) على محاربة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمبادرة إليه قبل أن يغزوهم ، وأعدّ لهم النبيّ العدّة لمّا سمع بذلك ، وعبّأ المسلمين الذين تجاوز عددهم اثني عشر ألفاً وخرج اليهم من مكّة .

ولمّا قربوا من موقع العدوّ صفّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووزّع الألوية والرايات على قادة الجيش وزعماء القبائل ، فأعطى عليّاً لواء المهاجرين(٢) ، ولكنّ هوازن أعدّت خطّةً للغدر بالمسلمين على حين غفلة منهم ، فكمنوا لهم في شعاب وادٍ من أودية

ــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٦٧ و ٣ / ٥ وروى ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ٣٤ مثله ، ينابيع المودة للقندوزي : ٢٥٤ .

(*) وقعت غزوة (حنين) في شوال سنة ثمانٍ للهجرة النبويّة .

(٢) السيرة الحلبية : ٣ / ١٠٦ .

٨٠

يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).

وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.

ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).

فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.

( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(1) .

لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.

نصّه على إمامة الرضا:

ونصب الإمام موسىعليه‌السلام ولده الإمام الرضاعليه‌السلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(2) .

وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:

1 - محمد بن إسماعيل:

روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).

قالعليه‌السلام :

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 - 471.

(2) نفس المصدر.

٨١

( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(1) .

2 - علي بن يقطين:

روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(2) .

3 - نعيم بن قابوس:

روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(3) .

4 - داود بن كثير:

روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟

فأشارعليه‌السلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(4) .

5 - سليمان بن حفص:

روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(5) .

____________________

(1) كشف الغمّة 3 / 88.

(2) كشف الغمّة 3 / 88.

(3) كشف الغمّة 3 / 88.

(4) الفصول المهمّة (ص 225).

(5) عيون أخبار الرضا 1 / 26.

٨٢

6 - عبد الله الهاشمي:

قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!

قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(1).

7 - عبد الله بن مرحوم:

روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(2).

8 - عبد الله بن الحرث:

روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!

قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(3)

9 - حيدر بن أيوب:

روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 26 - 27.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا.

٨٣

بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟

يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(1).

10 - الحسين بن بشير:

قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(2) .

11 - جعفر بن خلف:

روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(3).

12 - نصر بن قابوس:

روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4) .

13 - محمد بن سنان:

روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟

قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا 1 / 30.

(4) عيون أخبار الرضا 1 / 31.

٨٤

والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(1) حرام على النار أن تمسّك أبداً(2) .

هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليه‌السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.

وصيّة الإمام:

وأقام الإمام موسىعليه‌السلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.

أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليه‌السلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.

سجن السندي:

وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.

____________________

(1) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 32 - 33.

٨٥

وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

كتابه إلى هارون:

وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(1) .

وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

اغتيال الإمام:

وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..

فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(2) .

وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.

إلى الرفيق الأعلى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليه‌السلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى

____________________

(1) البداية والنهاية 10 / 183.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 - 500.

٨٦

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(1) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.

ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(2) .

لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.

سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.

سيّدي أبا الرضا:

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 504).

(2) حياة الإمام موسى 2 / 514 - 515.

٨٧

لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.

تحقيق الشرطة في الحادث:

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).

( نعم )...

( ليس هنا إلاّ الخير... ).

( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).

( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..

( لا ).

( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).

( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).

هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).

( نعم ).

ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،

٨٨

أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:

( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).

( نعم ).

ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(1) .

كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(2). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.

وضعه على الجسر:

ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:

مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقىً على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً

لم يشيّعه للقبور موحّد

حملوه وللحديد برجليه هزيج

له الأهاضيب تنهد(3)

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521.

٨٩

النداء الفظيع:

يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(1) .

قيام سليمان بتجهيز الإمام:

وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).

فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).

وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:

( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(2) .

وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.

وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:

( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر.

٩٠

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(1) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:

قد قلت للرجل المولّى غسله

هلاّ أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسّله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحّها

عنه وحنّطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله

كرماً ألست تراهم بإزائه

لا توه أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه(2)

وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.

وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

تقلّد الإمام الرضا للزعامة الكبرى:

وتقلّد الإمام الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.

____________________

(1) الأنوار البهية (ص 99).

(2) الإتحاف بحب الأشراف (ص 57).

٩١

سفره إلى البصرة:

وبعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام سافر الإمام الرضاعليه‌السلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).

وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).

سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).

فقالعليه‌السلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).

وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).

( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).

وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك

٩٢

الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.

وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).

وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).

فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.

والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).

ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).

ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).

وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة عيسى

٩٣

بمحمد؟... ).

وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).

فأخذ الإمامعليه‌السلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).

قال الجاثليق: ( صفه ).

وأخذ الإمامعليه‌السلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).

وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).

وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليه‌السلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطفقا قائلين:

٩٤

( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).

وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).

وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).

( بل صدق وعدل... ).

وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).

قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).

وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).

( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).

٩٥

وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).

ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).

وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليه‌السلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).

فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).

والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).

وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).

والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليه‌السلام بالإمامة، وطلبعليه‌السلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه

٩٦

ومضى إلى المدينة المنوّرة(1) .

سفره إلى الكوفة:

وغادر الإمامعليه‌السلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).

فقالوا جميعاً: ( نعم ).

فقالعليه‌السلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).

وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )

فقالعليه‌السلام :

( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(2) .

وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام

____________________

(1) البحار 12 / 21 - 23، بتصرف نقلنا الخبر.

(2) البحار 12 / 23، نقلنا الحديث بتصرف.

٩٧

عليه‌السلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.

٩٨

٩٩

مناظراته واحتجاجاته

واتسم عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.

ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.

ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226