اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)0%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 159028
تحميل: 6620

توضيحات:

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159028 / تحميل: 6620
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تهامة حيث لا مفرّ لهم من المرور فيه .

وحين انحدر المسلمون في وادي (حنين) باغتتهم كتائب هوازن من كلّ ناحية ، وانهزمت بنو سليم وكانوا في مقدّمة جيش المسلمين وانهزم مَنْ وراءهم ، وخلّى الله تعالى بينهم وبين عدوّهم لإعجابهم بكثرتهم ، ولم يثبت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ نفر قليل من بني هاشم وأيمن بن عبيد(١) .

ووقف عليّعليه‌السلام كالمارد يضرب بسيفه عن يمينه وشماله ، فلم يدن أحد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إلاّ جَنْدَلَه بسيفه ، وكان لثبات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودفاع عليّعليه‌السلام ومن معه أن عادت الثقة إلى نفوس بعض المسلمين ، فأعادوا الكَرّة على هوازن وخرج رجل من هوازن يدعى (أبو جرول) حامل رايتهم وكان شجاعاً ، فتحاماه الناس ولم يثبتوا له ، فبرز إليه عليّعليه‌السلام وقتله ، فدبَّ الذعر في نفوس المشركين كما دبَّ الحماس في نفوس المسلمين ، ووضع المسلمون سيوفهم في هوازن وأحلافها يقتلون ويأسرون وعليّعليه‌السلام يتقدّمهم حتى قتل بنفسه أربعين رجلاً من القوم ، فكان النصر للمسلمين(٢) .

ح ـ عليّعليه‌السلام في غزوة تبوك(*) :

استعدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمواجهة الروم حين علم أنّهم يريدون الإغارة والهجوم على الجزيرة ، فأعدّ بما يملك من استراتيجية محكمة العدّة والعدد ، وقرّر ـ لأهمية الموقف والنزال ـ أن يكون على رأس الجيش المتقدّم ، ولكنّ الظروف السياسية والعسكرية لم تكن تدعو للاطمئنان التامّ ونفي الاحتمال من هجوم المنافقين أو المرجفين على المدينة أو قيامهم بأعمال تخريبية أخرى ، لذا يتطلّب الأمر أن يبقى في المدينة من يتمتّع بمؤهّلات ولياقات عالية وحكمة بالغة ودراية تفصيلية في جميع الاُمور وحرص على العقيدة كي يتمكّن من مواجهة الطوارئ ، فاختار النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً لهذه المهمّة الحسّاسة كي يقوم مقام النبيّ في غيابه .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٣٤٧ ، وأعيان الشيعة للأمين : ١ / ٢٧٩ .

(٢) روضة الكافي : ص ٣٠٨ رقم الحديث ٥٦٦ ، والمغازي للواقدي : ٢ / ٨٩٥ ، وكشف الغمّة : ١ / ٢٢٦ .

(*) وقعت غزوة (تبوك) في شهر رجب سنة تسعٍ من الهجرة النبويّة .

٨١

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا عليّ ، إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ) .

ولمّا تحرّك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتّجاه (تبوك) ؛ ثقل على أهل النفاق بقاء عليّعليه‌السلام على رأس السلطة المحليّة في عاصمة الدولة الإسلاميّة ، وعظم عليهم مقامه ، وعلموا أنّها في حراسة أمينة ولا مجال لمطمع فيها ، فساءهم ذلك ، فأخذوا يردّدون في مجالسهم ونواديهم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستخلفه إلاّ استثقالاً ومقتاً له ، فبهتوا بهذا الإرجاف عليّاً ، كبهت قريش للنبي بالجِنّة والسِّحر .

فلمّا بلغ عليّاً عليه‌السلام إرجاف المنافقين به أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم ، فأخذ سيفه وسلاحه ولحق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنّ المنافقين يزعمون أنّك خلّفتني استثقالاً ومقتاً ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجع إلى مكانك فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى ـ يا عليّ ـ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي .

فرجع عليّعليه‌السلام ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره(١) .

تبليغ سورة براءة :

استمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبلّغ رسالته المباركة وينشر الإسلام في ربوع

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٣٦٨ ط مؤسسة الأعلمي ، والإرشاد للمفيد : ١٣٨ ، الفصل ٤٣ ، والسيرة الحلبية بهامش السيرة النبوية : ٣ / ١٣٢ ، وصحيح البخاري : باب غزوة تبوك ٦ / ٣ ، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة : ٥ / ٢٣ الحديث ٢٤٠٤ والترمذي : ٢ / ٣٠٠ ومسند أحمد : ١ / ١٨٥ و ٢٨٤ الحديث ٥٠٨ وسنن ابن ماجة : ١ / ٤٢ الحديث ١١٥ وتاريخ بغداد : ١ / ٤٣٢ رقم ٦٣٢٣ .

٨٢

الجزيرة العربية ، وفي ذات الوقت يطارد فلول الشرك عسكرياً حتى أشرفت السنة التاسعة للهجرة على نهايتها ، فأصبح للإسلام كيان سياسي مستقلّ وأمة تسودها علاقات متينة وأرض مترامية الأطراف وحدود منيعة ، ولم يعد لقوى الشرك وجود معتبر ، فكان لابدّ من تصفيتهم ، ونزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة (براءة) الّتي تسنّ التشريعات الّتي تحدّد موقفه من المشركين والعهود والأحلاف الّتي كان قد أبرمها معهم وكان أفضل مكان لإعلان هذا القرار وقراءة هذا البيان الرسمي الإلهي هو البيت الحرام ، وأفضل وقت له هو اليوم العاشر من ذي الحجّة حيث يجتمع المشركون من أطراف الجزيرة ، فأرسل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر ليحجّ بالناس ويبلّغ سورة (براءة) ، ولمّا انتهى إلى (ذي الحليفة ) وهو المكان المعروف اليوم بمسجد الشجرة ، وإذا بالوحي ينزل على النبيّ ويأمره أن يرسل مكانه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فأرسل النبيّ عليّاً وأمره أن يأخذ الآيات من أبي بكر ويبلّغها بنفسه ، فمضى نحو مكّة وهو على ناقة النبيّ حتى التحق بأبي بكر ، فلمّا سمع رغاء الناقة عرفها فخرج فزعاً وهو يظنّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا هو عليّ ، فأخذ منه الآيات ورجع أبو بكر إلى المدينة خائفاً أن يكون قد نزل فيه ما يُغضب النبيّ ، فقال : يا رسول الله ! اَنزل فيَّ شيء ؟ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا ، ولكنّي أمرت أن أُبلّغها أنا أو رجل منّي (١) .

وانطلق عليّعليه‌السلام في طريقه حتى بلغ مكّة ، وعندما اجتمع الناس لأداء مناسكهم ؛ قرأ عليهم الآيات الأولى من السورة ، ونادى في الناس : لا يدخل مكّة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدّته(٢) .

ــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ لابن الأثير : ٢ / ٢٩١ ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : ٢ / ٣٤٣ .

(٢) البداية والنهاية لابن كثير : ٥ / ٤٥ .

٨٣

عليّعليه‌السلام في اليمن :

استمراراً في نشر الإسلام أرسل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن خالد بن الوليد وجمعاً من الصحابة ليدعوا قبيلة (همدان) إلى الإسلام ، وظلّ خالد نحواً من ستة أشهر دون أن يحقّق نجاحاً ، فلم يتمكّن من إقناع همدان في اعتناق الإسلام ، فبعث إلى النبيّ يخبره بعدم إجابة القوم له وانصرافهم عنه ، عند ذاك بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وطلب منه أن يُعيد خالداً إلى المدينة ويحلّ محلّه في مهمّته ، ويبقي معه من يشاء من المجموعة المرسلة مع خالد .

روي عن البراء بن عازب الّذي كان مع خالد وبقي في سريّة عليّعليه‌السلام : كنت ممّن خرج مع خالد فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا ، ثمّ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عليّاًعليه‌السلام وأمره أن يقفل خالداً ويكون مكانه ، فلمّا دنونا من القوم ؛ خرجوا إلينا وصلّى بنا عليّعليه‌السلام ثمّ صفّنا صفاً واحداً ثمّ تقدّم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإسلامهم ، فأسلمت همدان جميعاً وأرسل عليّعليه‌السلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخبر السارّ ، فخرّ رسول الله ساجداً ثمّ رفع رأسه وقال : السلام على همدان(١) .

وروي : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل عليّاً في مهمّة ثانية إلى اليمن ليدعو (مذحج) إلى الإسلام ، وكان معه ثلاثمائة فارس ، وعقد رسول الله له اللواء وعمّمه بيده ، وأوصاه أن لا يقاتلهم إلاّ إذا قاتلوه ، فلمّا دخل إلى بلاد مذحج ؛ دعاهم إلى الإسلام فأبوا عليه ورموا المسلمين بالنبل والحجارة ، فأعدّ عليّعليه‌السلام أصحابه للقتال ، وهجم عليهم فقتل منهم عشرين رجلاً فتفرّقوا وانهزموا فتركهم ، ثمّ دعاهم إلى الإسلام ثانية فأجابوه لذلك ، وبايعه عدد من رؤسائهم ، وقالوا : له نحن على من وراءنا من قومنا وهذه صدقاتنا فخذ منها حقّ الله .

ــــــــــــ

(١) أعيان الشيعة : ١ / ٤١٠ ، والكامل في التأريخ لابن الأثير : ٢ / ٣٠٠ ، والسيرة النبوية لابن كثير ك ٤ / ٢٠١ .

٨٤

وروي : أنّ عليّاًعليه‌السلام قال :بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن ، فقلت : يا رسول الله ، تبعثني إلى قومٍ وأنا حديث السنّ لا أبصر القضاء ، فوضع يده على صدري وقال : اللّهمّ ثبت لسانه واهدِ قلبه ، ثمّ قال : إذا جاءك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر ، فإنّك إذا فعلت ذلك ؛ تبيّن لك القضاء . قال عليّعليه‌السلام :والله ما شككت في قضاءٍ بين اثنين (١) .

ثمّ إنّ عليّاً جمع الغنائم فأخرج منها الخمس وقسّم الباقي على أصحابه ، وبلغه خبر خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ ، فتعجّلعليه‌السلام السير ليلتحق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة ، وروي أنّ بعض من كان في سريّة عليّعليه‌السلام اشتكى من شدّته في إعطاء الحقّ ، فلمّا سمع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك قال :أيّها الناس ، لا تشتكوا عليّاً فو الله إنّه لأخشن في ذات الله من أن يشتكى منه (٢) .

وعن عمرو بن شاس الأسلمي أنّه قال : كنت مع عليّعليه‌السلام في خيله التي بعثه بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن ، فوجدت في نفسي عليه(٣) ، فلمّا قدمت المدينة شكوته في مجالس المدينة وعند من لقيته ، فأقبلت يوماً ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في المسجد ، فلمّا رآني أنظر إلى عينيه نظر إليَّ حتى جلست إليه ، فقال :إيه يا عمرو ، لقد آذيتني ، فقلت :إنّا لله وإنّا إليه راجعون أعوذ بالله والإسلام من أن أؤذي رسول الله ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( من آذى عليّاً فقد آذاني ) (٤) .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية لابن كثير : ٤ / ٢٠٧ .

(٢) سيرة ابن هشام : ٤ / ٦٠٣ ، والسيرة النبوية لابن كثير : ٤ / ٢٠٥ مثله .

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٣٤ .

(٤) السيرة النبوية لابن كثير : ٤ / ٢٠٢ .

٨٥

طبيعة عمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يعيش همّ الرسالة الإسلامية بذل قصارى جهده في التبليغ والنصح لبناء مجتمع رسالي رصين يقاوم كلّ الظروف حتى يسود الإسلام بقاع الدنيا ، وقد عملصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على محورين رئيسين هما : توعية الأمة بوصفها الرعيّة بالمقدار الذي تتطلبه الرعيّة الواعية من فهم وثقافة وقدرة على ممارسة الحياة الإسلامية كما أرادها الله سبحانه , وكان لعليّعليه‌السلام دور فاعل في هذا المحور ، فانّه يمكننا القول بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشغولاً بتوسيع رقعة المجتمع الإسلامي طولياً ، وكان عليّعليه‌السلام مشغولاً بتعميق الرقعة عرضياً ، فكانت مهمّته تكملة لمهمّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والمحور الآخر هو إعداد وتوعية الصفوة التي اختارها الله سبحانه لِتَخْلُفَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غيابه لقيادة المجتمع والرسالة الإسلاميّة وصيانتها عن الانحراف والزيغ ، إعداداً على مستوى قيادة التجربة وعلى مستوى الحاكمية عليها ، وقد أعدّ النبيّ عليّاً ليتسلّم التجربة الإسلاميّة من بعده من خلال إشراكه في كلّ المواقف المهمّة والمعقّدة والصعبة ومن خلال تثقيفه ثقافة خاصة لم يشاركه أحد فيها ، فقد روي عنهعليه‌السلام أنه قال :( علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب ) (١) .

وكان عليّعليه‌السلام يتمتّع بمؤهّلات ولياقات عالية أهّلته أن ينال ثقة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المطلقة في قوله وفعله ، فنجد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ عليّاً صغيراً وتعهّده وربّاه ، فلازمه طوال فترة حياته ، وما أن مضت فترة على الدعوة الإسلامية ؛ حتى أعلن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اتّخاذه عليّاًعليه‌السلام أخاً ومؤازراً له في دعوته ، وكرّر هذا الإعلان في مواطن عديدة ، بل اتّخاذه أخاً ومساوياً له في كلّ شيء ما عدا النبوّة .

ــــــــــــ

(١) أئمّة أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف ، الشهيد السيد محمد باقر الصدر ك ٩٥ .

٨٦

وحين توضّحت شخصيّة عليّعليه‌السلام ؛ بدأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكلّفه نيابةً عنه في المهمّات التي لا يمكن أن يقوم بها أحد غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو شخص كنفسه ، مثل : المبيت في فراش النبيّ ليلة الهجرة ؛ وردّ الودائع ، وحمل الفواطم إلى المدينة ومن درجة اهتمام النبيّ بعليّ في هذه المرحلة ؛ أنّه لم يدخل المدينة عند هجرته إليها ، وصرّح بعدم اتّخاذها مقرّاً جديداً له حتى يلتحق عليّ به ، وتبليغ سورة (براءة) مثال آخر فقد أخذ عليّعليه‌السلام السورة من أبي بكر وبلّغها .

وحين اضطرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمواجهات العسكرية لم يكن يعطي رايته إلاّ لعليّعليه‌السلام ، وكان يرسله في كلّ المواقف المستعصية التي تتطلّب كفاءة عالية ، فكان عليّعليه‌السلام يؤدّيها على أتمّ وجه .

وفي مرحلة جديدة بعد أن امتاز عليّعليه‌السلام من غيره من الصحابة بصدق سريرته وعمق إيمانه وتفانيه من أجل العقيدة والمبدأ أشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أهميّة أهل بيتهعليهم‌السلام ووجودهم وعظيم حبّه لهم ، وميّز عليّاًعليه‌السلام ، وقد دعم القرآن الكريم موقف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) .

وأشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى طهارة عليّ وأهل بيته من الرجس المادي والمعنوي ، ولم يأذن لأحد بالمرور بمسجده على كلّ حال إلاّ لعليّ .

ولم يزل النبيّ يوجّه القاعدة الشعبية للالتفات حول عليّ ، ويأمرهم بحبّه والتعلّق به عند حلول المشاكل أو المستجدات المستعصية ، ووضّح لهم ضرورة فهم شخصية عليّعليه‌السلام في شدّة إيمانه وقوّته في ذات الله وعمق فهمه للعقيدة الإسلامية وسعة علمه ، فكانت الأحاديث :(أقضاكم عليّ أعلمكم عليّ أعدلكم عليّ ) وقد أثبتت الأحداث والوقائع صحّة ذلك .

ــــــــــــ

(١) الشورى (٤٢) : ٢٣ .

٨٧

وفي آخر منسك من مناسك الإسلام أشرك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً في حجّة دون غيره من المسلمين وقد صرّح بذلك ، وقاما معاً بنحر الهدي .

كانت هذه الخطوات إعداداً وتهيئة الأرضية لإعلان الغدير حين وقف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إتمام مراسم حجّة الوداع ليعلن للملأ أنّه سيغادر الدنيا ويخلف عليّاً كقائد ومرجع للاُمّة بعده ، وأنّ هذا الإعلان والتنصيب صادر عن الله تعالى ، وتمّت بيعة الناس لعليّعليه‌السلام بإمرة المؤمنين ونزل الوحي الإلهي ببلاغ تمام النعمة وكمال الدين .

عليّعليه‌السلام في حجّة الوداع :

بشوق غامر وغبطة تملأ القلوب تطلّع المسلمون إلى اللقاء العبادي السياسي الذي لم يشهد التأريخ نظيراً له من قبل عندما تحرّك موكب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة باتجاه مكّة ليؤدّي مناسك الحجّ وحيث اللقاء مع الجموع القادمة من أطراف الجزيرة العربية يحدوها هدف واحد وتحت راية واحدة يردّدون شعاراً إلهياً واحداً(١) :

وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كتب إلى عليّعليه‌السلام في اليمن يأمره أن يلتحق به في مكّة ليحجّ معه ، وأسرع عليّ بالخروج من اليمن ومعه الغنائم والحلل التي أصابها من اليمن ، والتقى بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أشرف على دخول مكّة ، فاستبشر بلقائه وأخبره بما صنع في اليمن ، ففرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك وابتهج وقال له :بِمَ أهللت ؟

ــــــــــــ

(١) يرى بعض المؤرّخين أنّ من خرج مع النبيّ يبلغ تسعين ألفاً ، والبعض الآخر مائة وعشرين ألفاً ، عدا من حجّ من أهالي مكّة وضواحيها واليمن وغيرها راجع السيرة الحلبية : ٣ / ٢٥٧ ، وكنز العمّال : ١١ / ٦٠٩ .

٨٨

فقال عليّعليه‌السلام :يا رسول الله ! إنّك لم تكتب إليّ بإهلالك ولا عرفته فعقدتث نيّتي بنيّتك ، وقلت اللّهمّ إهلالاً كإهلال نبيّك ، وسقت معي من البدن أربعاً وثلاثين ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :الله أكبر وأنا قد سقت معي ستاً وستين ، فأنت شريكي في حجّي ومناسكي وهديي ، فأقم على إحرامك وعد إلى جيشك وعجّل به حتى نجتمع بمكّة ، وكان عليّعليه‌السلام قد سبق الجيش حينما بلغ مشارف مكّة وأَمّر عليهم رجلاً منهم(١) .

وأدى النبيّ مناسك العمرة والحجّ وعلي معه ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :منى كلّها منحر ، فنحر بيده الكريمة ثلاثة وستين ، ونحر عليّعليه‌السلام سبعة وثلاثين تمام المائة ، ثمّ اجتمع الناس فخطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطاباً جامعاً وعظ المسلمين فيه ونصحهم(٢) .

أتمَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون مناسكهم في منى ، ثمّ رجع إلى مكّة فدخل فيها ، وطاف طواف الوداع ، ثمّ اتّجه إلى المدينة .

عليّعليه‌السلام في غدير خم أميراً للمؤمنين :

ولمّا انصرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راجعاً إلى المدينة ومعه تلك الحشود الغفيرة من المسلمين ؛ وصل إلى غدير خمّ من الجحفة التي تتشعّبُ فيها طرق أهل المدينة والعراق ومصر ، وذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة ، نزل إليه الوحي عن الله بقوله :( يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ ) (٣) وأمره أن يقيم عليّاً علماً للناس ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد ، وقد ضمن الوحي للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكفيه شرّ الحاقدين والحاسدين من الناس ، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يردّ من تقدّم منهم ، ويحبس من

ــــــــــــ

(١) الإرشاد للمفيد : ١ / ١٧٢ ، والسيرة النبوية لابن كثير : ٤ / ٢٠٥ .

(٢) السيرة الحلبية : ٣ / ٢٨٣ ن والسيرة النبوية لابن كثير : ٤ / ٢٩١ .

(٣) المائدة (٥) : ٦٧ .

٨٩

تأخّر عنهم في ذلك المكان الذي لم يكن منزلاً لأحد من قبله ، ولم يكن هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل فيه لو لا خطاب الوحي له ، ثمّ وقفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين تلك الجموع وقال بصوت يسمعه الجميع :أيّها الناس كأنّي قد دعيت فأجبت ، إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض .. ثمّ قال :إنّ الله مولاي وأنا وليُّ كلّ مؤمن ومؤمنة ، وأخذ بيد عليّعليه‌السلام وقال :( من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعادِ من عاداه ، وأنصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأَدر الحق معه حيث دار ، أَلا فليبلّغ الشاهد الغائب ) .

ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين الوحي بقوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً ) .

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي والولاية لعلّي من بعدي) ثمّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنينعليه‌السلام وممّن هنّأه في مقدّم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر ، كلٌّ يقول :بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة (١) .

وروي : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بنصب خيمة لعليّعليه‌السلام وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل ذلك كلّهم حتّى من كان معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أزواجه ونساء المسلمين(٢) .

ــــــــــــ

(١و٢) السيرة الحلبية بهامشه السيرة النبوية : ٣ / ٢٧٤ ، والمناقب لابن المغازلي الشافعي ك ١٦ ، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي : ٤٠ ، وينابيع المودة للقندوزي : ٤٠ .

وقد ورد حديث الغدير في مصادر كثيرة جدّاً يضاف لما ذكرنا منها : أسباب النزول للنيشابوري ، مطالب السؤول لكمال الدين الشافعي ، تفسير مفاتيح الغيب للرازي ، تفسير المنار لمحمّد عبده ، تفسير ابن شريح ، تذكرة الخواص لابن الجوزي ، مسند الإمام أحمد ، ذخائر العقبى للطبري ، الرياض النضرة لمحبّ الدين الطبري وغيرها من الجوامع الحديثية والتأريخية والتفسيرية ، راجع الغدير للعلامة الأميني.

٩٠

واقعة الحارث بن النعمان ونزول آية( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) :

لمّا شاع وانتشر قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) فَبلغ الحارث ابن النعمان الفهري ، فأتى النبيّ على ناقته وكان بالأبطح ، فنزل وعقل ناقته وقال للنبيّ وهو في ملأ من الصحابة : يا محمّد ! أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلنا منك ، ثمّ ذكر سائر أركان الإسلام وقال : ثمّ لم ترض بهذا حتّى مددت بضبعي ابن عمك وفضّلته علينا وقلت :( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) فهذا منك أم من الله ؟

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( والله الذي لا إله إلاّ هو ، هو أمر الله ) فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللّهمّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامّته وخرج من دبره ، وأنزل الله تعالى :( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) (١) (٢)

محاولات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتثبيت بيعة عليّعليه‌السلام :

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على علمٍ تامٍّ بما سيؤول إليه وضع المسلمين من بعده ، لأنّه كان يراقب العلل والأمراض التي ابتلي بها هذا المجتمع ن وكان على يقين بأن أوّل ضربة من بعده ستوجّه إلى الخطّ الرسالي الذي أرسى قواعده هو وعليّ ، وإلى الزعامة التي أشار إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن تخلفه في الخطّ الصحيح للدعوة الإسلاميّة ، لانّ هذا يهدّد مصالح الكثير ممّن كانوا يريدون أن يستفيدوا من الإسلام ويتنعّموا بإشباع رغباتهم في ظلاله لا أن يقدّموا جهداً وفائدة للإسلام ، ويتزّعموا هذا الكيان الكبير الذي بناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــ

(١) المعارج (٧٠) : ١ .

(٢) تفسير المنار : ٦ / ٤٦٤ ، وتذكرة الخواص : ص ٣١ مع اختلاف في اللفظ ، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ : ٤٢ ، أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره والحاكم الحسكاني في كتابه دعاة الهداة ، والقرطبي في تفسيره ، والحمويني في فرائد السمطين ، والزرندي الحنفي في معارج الوصول ودرر السمطين ، والسمهودي في جواهر العقدين ، والعماري في تفسيره ، والشربيني القاهري الشافعي في تفسيره ، والمناوي الشافعي في فيض القدير ، والحلبي في السيرة الحلبية والحفني الشافعي في شرح الجامع الصغير ، والزرقاني المالكي في شرح المواهب اللدنية ، والشبلنجي الشافعي في نور الأبصار ، وغيرهم كما تجد تفصيل ذلك في الجزء الأول من موسوعة (الغدير) .

٩١

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخوّف من أن تتحول الشريعة الإسلامية إلى شيء آخر غير الذي أنزله الله عليه ، وتكون خاضعة للأهواء والرغبات ، وكمصداق على تخوف النبيّ هو واقعة الحارث بن النعمان الذي جاء يشكّك ويستنكر على النبيّ مواقفه .

فما كان منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ وأن يعلن موقفه من الاتّجاه الصحيح لخطّ الدعوة الإسلامية عبر مراحل وفترات عديدة ، فكان يكرّر لأصحابه : غن تستخلفوا عليّاً ـ وما أراكم فاعلين ـ تجدوه هادياً مهدياً يحملكم على المحجّة البيضاء(١) .

وروي أنّ سعد بن عبادة قال في ملأ من الناس : فو الله لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :إذا أنا متُّ تضلّ الأهواء بعدي ويرجع الناس على أعقابهم ، فالحقّ يومئذٍ مع عليّ عليه‌السلام .

وحديث الثقلين شاهد آخر على ضرورة التمسّك بطاعة عليّعليه‌السلام والسير على هَدْيه ومنهاج ولايته لضمان سلامة العقيدة الإسلامية وتحصينها من الانحراف .

ثمّ بدأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعداد خطّة جديدة لإتمام الأمر الإلهي بتنصيب عليٍّ أميراً للمؤمنين ، فحاول أن يعدّ جيشاً كبيراً يضمّ فيه كلّ العناصر التي من الممكن أن تدخل في حلبة الصراع السياسي مع الإمام عليّعليه‌السلام وتناوئه على زعامة الساحة الإسلاميّة ، ومن ثَمّ سينحرف مسار الرسالة الإسلامية عن طريقها القويم ، أو على الأقل أنّها تطالب بمكانة سياسية أو إدارية في جهاز الدولة ، وقد تظهر موقفاً معادياً في حالة رفض الإمام عليّعليه‌السلام ذلك ، ممّا قد يثير الكثير من المشاكل للأمة وهي في حالة ارتباك بفقدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــ

(١) حلية الأولياء لأبي نعيم : ١ / ٦٤ ، ومختصراً تأريخ دمشق لابن عساكر : ١٨ / ٣٢ .

٩٢

مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسريّة أسامة :

حياة عليّعليه‌السلام هي حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرسالة الإسلامية ، فالمواقف المهمّة والصعبة في الكثير من الصراعات والأزمات والمنعطفات التي وقف فيها عليّ بكلّ بسالة وشجاعة مع رسول الله حتى آخر لحظات عمره الشريف تكشف عن مدى القرب والاتصال والتلاحم المصيري بين الرسول وعليّ ، وتفهّمنا جيّداً من خلال الآيات والروايات وحوادث التأريخ أنّ عليّاً هو الامتداد الطبيعي لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو المؤهّل لقيادة الأمة الإسلامية بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس ثمة إنسان آخر .

لقد أودع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام أسرار النبوّة وتفاصيل الرسالة وحمّله عبء مسؤولية رعايتها وصيانتها ، حتى أنّه أوكل إليه أمر تجهيزه ودفنه دون غيره ، لعلمه وثقته بأنّ عليّاًعليه‌السلام سينفّذ أوامره ولا يحيد عنها قيد أنملة ولا يتردّد طرفة عين ، ولم يكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطمئنّ لغيره هذا الاطمئنان .

وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُصرّ على تبيان خلافة عليّعليه‌السلام وأنّه الوصيّ من بعده حتى في آخر لحظات حياته المباركة مضافاً إلى كلّ التصريحات والتلميحات التي أبداها في شتى المناسبات ومختلف المواقف .

لمّا رجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّه إلى (يثرب) ، أقام فيها أيّاماً حتى اعتلّت صحّته واشتدّ به ألم المرض ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السمّ ) (١) وتقاطر المسلمون عليه يعودونه وفي نفوسهم القلق والأسى وفي أذهانهم الحيرة والتساؤل عن مصير الأيّام الآتية والرسالة السماوية ، فنعىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم نفسه وأوصاهم بما يضمن لهم استمرار مسيرة الرّسالة وتحقيق السعادة والنجاح ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(أيها الناس ! يوشك أن أُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقدّمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي) ثمّ أخذ بيد عليّعليه‌السلام وقال :(هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض) .

ــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥٨ .

٩٣

وأرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتمّم مساعيه لكي يهيئ الأمور لتنصيب عليٍّ خليفةً من بعده من دون أن تؤثّر عليه قوى التنافس أو مؤامرات المغرضين ودسائس المنحرفين ، فقد أجمع المؤرّخون على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأيّام الأخيرة من حياته المباركة لم يكن يعنيه شيء أكثر من تجهيز جيش يضمّ أكبر عدد من المسلمين بما في ذلك أبو بكر وعمر ووجوه المهاجرين والأنصار ، وأمّر عليهم أسامة بن زيد وإرساله إلى الحدود الشمالية لمنطقة الجزيرة العربية واستثنى عليّاًعليه‌السلام .

ولكنّ عدداً من الصحابة لم يَرُقْ لهم أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتثاقلوا عن الخروج في جيش أسامة واعتذروا بأعذار واهية ، وانطلقت ألسنتهم بالنقد اللاذع والاعتراض المرّ على تأمير أسامة ، فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ رغم كلّ الآلام ـ وخطب فيهم وحثّهم على الانضواء تحت قيادة أسامة ، وقد بدا عليه الانفعال والتصلّب ، واستمرّ يلحّ على إنفاذ الجيش والخروج نحو هدفه ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أنفذوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة (١) .

ونجد هنا غرابةً في الموقف ، وهي إلحاح الرسول على ضرورة مسير جيش أسامة إلى الوجهة التي وجّهها إيّاه على الرغم من مرضه وعلمه بدنوّ أجله ، فلو كان لأحد ممّن كان تحت إمرة أسامة أهميّة في حالة وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لاستثناه .

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية : ٣ / ٣٤ .

٩٤

وأعجب من ذلك هو تلكّؤ القوم وتملّصهم عن تنفيذ أمر النبيّ ، فكأن هناك أمراً خفياً يريدون إبرامه(١) .

ويبدو أنّ الرسول استشفّ من التحركات التي صدرت من الصحابة أنّهم يبغون لأهل بيته الغوائل ويتربّصون بهم الدوائر ، وأنّهم مجمعون على صرف الخلافة عنهم ، فرأىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصون أمته عن الانحراف ويحميها من الفتن ، فأراد أن يحاول معهم محاولة جديدة لتثبيت ولاية عليّعليه‌السلام وخلافته لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :( إئتوني بالكتف والدواة أكتب إليكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ) .

فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبيّ أن يتنازع ـ فقالوا : ما شأنه ؟ أَهَجَر ؟ استفهموه فذهبوا يردّدون عليه القول : فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه وأوصاهم بثلاث ، قال :أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت اُجيزهم . وسكت عن الثالثة عمداً أو قال : فنسيتها(٢) .

رأي :

دوّن أكثر المؤرّخين هذا الحديث في كتبهم على هذا النحو ، ولم يذكروا من وصاياه إلاّ وصيّتين وسكتوا عن الثالثة أو تناسوها مجاراةً للحاكمين الّذين تقمّصوا الخلافة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين أنّه لم يسبق لأحد من الرواة لأحاديثهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نسي شيئاً أو فاته دون أن يدوّنه حتى يمكن القول بأنّهم

ــــــــــــ

(١) وممّا يؤكّد هذا الظنّ أنّ الصحابة الذين أبوا الخروج في جيش أسامة كانوا يخشون تكرار الموقف الذي حصل في غزوة تبوك عندما استخلف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً في المدينة ومن ثمّ تصريحه(أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي) ممّا أثار الريب والحسد في نفوسهم .

بل إنّهم أدركوا أنّ الأمر في هذه المرّة يحمل أبعاداً أخرى تتعدّى مسألة الخروج مع جيش أسامة ، خاصةً بعد أن رأوا الرسول يصرّ على خروجهم ويستثني عليّاً ، وعلامات المرض تشتد عليه ، وفي هذه الفترة كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرّر عليهم بأنّي أوشك أن أُدعى فأجيب .

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد : ٤ / ٦٠ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٤٣٦ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ لابن الأثير : ٢ / ٣٢٠ ، والإرشاد للمفيد : ١ / ١٨٤ .

٩٥

أحصوا حتى أنفاسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف نسي الحاضرون على كثرتهم وازدحامهم عنده وصيّته الثالثة وهو في حالة الوداع لهم ؟ وهم ينتظرون كلّ كلمة تصدر منه تهدّئ من روعهم وتبعث الأمل في نفوسهم نحو المستقبل ؟ ولولا أنّ الثالثة تأكيد لنصوصهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السابقة على خلافة عليّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لم ينسها أو لم يتغافل عنها أحد من الرواة أولئك(١) !

عليّعليه‌السلام مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اللحظات الأخيرة:

اشتدّ المرض على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأغمي عليه ، فلمّا أفاق قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(أُدعوا لي أخي وصاحبي) وعاوده الضعف فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر ، فاجتمعوا عنده جميعاً فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم) (٢) .

ثمّ دُعي عليّعليه‌السلام فلمّا دنا منه أومأ إليه ، فأكبَّ عليه ، فناجاه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طويلاً ، ثمّ ثقل النبيّ وحضره الموت ، فلمّا قارب خروج نفسه قال لعليّعليه‌السلام :( ضع رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر الله تعالى ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك ، وامسح بها وجهك ، ثمّ وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري وصلِّ عليَّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله تعالى ) (٣) .

وهكذا انتقل الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جوار ربّه راضياً مرضيّاً بعد أن أدّى رسالته بأحسن وجه ، وأوضح السبيل للأمة من بعده وعلي بن أبي طالبعليه‌السلام يلازمه ملازمته الظل لذي الظل ويتابعه متابعة التلميذ لأستاذه في جميع لحظات حياته الرسالية المباركة .

ــــــــــــ

(١) سيرة الأئمة الإثني عشر ، للحسني : ١ / ٢٥٥ .

(٢) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٣٩ ط مؤسسة الأعلمي .

(٣) الإرشاد للمفيد : ١ / ١٨٦ .

٩٦

الباب الثالث : فيه فصول :

الفصل الأوّل : عصر الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام

الفصل الثاني : الإمام عليّعليه‌السلام في عهد أبي بكر

الفصل الثالث : الإمام عليّعليه‌السلام في عهد عمر

الفصل الرابع : الإمام عليّعليه‌السلام في عهد عثمان

الفصل الأوّل: عصر الإمام عليّعليه‌السلام

حديث الوفاة :

لم يكن حول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اللحظات الأخيرة من حياته سوى عليّعليه‌السلام وبني هاشم ، وقد علم الناس بوفاته من الضجيج وعويل النساء ، فأسرعوا وتجمّعوا في المسجد وخارجه وهم في حالة من الارتباك والدهشة لا يحيرون جواباً إلاّ البكاء والنواح ، وهم على هذه الحالة وإذا بموقف غريب يصدر من عمر إذ خرج بعد أن دخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسيف في يده يهزّه ويقول : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد مات ، إنّه والله ما مات ولكنّه قد ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران(١) ولم يهدأ عمر حتى وصل أبي بكر(٢) إلى بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكشف عن وجه النبيّ وخرج مسرعاً ، وقال : أيّها الناس ، من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ، ثمّ تلا الآية : ( وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ ... ) (٣) .

ثمّ خرج عمر وأبو بكر وأبو عبيدة الجرّاح من البيت الذي فيه جثمان النبي المبارك وتركوه إلى عليّ وأهل بيته المفجوعين بوفاته ، وقد أذهلهم المصاب عن كلّ شيء ن وقام عليّعليه‌السلام وأهل بيتهعليهم‌السلام بتجهيز النبيّ والصلاة عليه ودفنه ، وفي الوقت نفسه كانت قد عقدت الأنصار اجتماعاً لها في سقيفة بني ساعدة لتدبير أمر الخلافة .

ــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ : ٢ / ٣٢٣ .

(٢) يروى أنّ أبا بكر كان في (السنح) وهو محل يبعد عن المدينة بميل واحد أو أكثر قليلاً .

(٣) آل عمران (٣) : ١٤٤ .

٩٧

الحزب القرشي والأنصار في السقيفة :

ما أن سمع عمر خبر اجتماع الأنصار في السقيفة ؛ حتى أتى منزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه أبو بكر ، فأرسل إليه أن أُخرج إليَّ ، فأجابه بأنّه مشغول ، فأرسل إليه عمر ثانيةً أن أُخرج فقد حدث أمر لا بدّ أن تحضره .

فخرج إليه أبو بكر ، فمضيا مسرعين نحو السقيفة ومعهما أبو عبيدة ومن ثَمّ لحقهم آخرون ، فأدركوا الأنصار في ندوتهم ولمّا يتمّ بعدُ الاجتماع ولم ينفضّ أصحابه ، فتغيّر لون سعد بن عبادة وأُسقط ما في أيدي الأنصار وساد عليهم الوجوم والذهول ، ونفذ الثلاثة في تجمّع الأنصار أتمّ نفوذ وأتقنه ، ينمّ عن معرفتهم بالنفوس ونوازعها ورغباتها ومعرفتهم بنقاط الضعف التي من خلالها تسقط ورقة الأنصار .

أراد عمر أن يتكلّم فنهره أبو بكر لعلمه بشدّته وغلظته والموقف خطير وملبّد بالأحقاد والأضغان ، ويجب أن يستعمل فيه البراعة السياسية والكلمات الناعمة لكسب الموقف أوّلاً ثمّ يأتي دور الشدّة والغلظة .

وافتتح أبو بكر الحديث بأسلوب لبق فخاطب الأنصار باللطف ، ولم يستعمل في خطابه أيّ كلمة مثيرة فقد قال : نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأمسّهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحماً ، وأنتم إخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم وواسيتم ، فجزاكم الله خيراً ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا نفتات عليكم بمشورة ، ولا نقضي دونكم الأمور ، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : يا معشر الأنصار ! املكوا عليكم أمركم ، فإنّ الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ، ولا يصدر أحد إلاّ عن رأيكم ، أنتم أهل العزّة والمنعة ، وأولو العدد والكثرة ، وذوو البأس والنجدة ، وإنّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم ، فإن أبى هؤلاء إلاّ ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير ، فقال عمر : هيهات لا يجتمع سيفان في غمد ، والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ، ولا تمتنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم ، فمن ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته .

فقال الحباب بن المنذر : يا معشر الأنصار ! املكوا أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ؛ فاجلوهم من هذه البلاد ، وأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم ، فإنّه بأسيافكم دانَ الناس بهذا الدين ، أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب ، أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، والله إن شئتم لنعيدها جذعة .

٩٨

وهنا تأزّم الموقف وكاد أن يقع الشرّ بين الطرفين ، فوقف أبو عبيدة بن الجرّاح ليحول دون ذلك ويتدارك الفشل ، فقال بصوت هادئ مخاطباً الأنصار : يا معشر الأنصار ! أنتم أوّل من نصر وآوى ، فلا تكونوا أوّل من بدّل ، وانسلت كلماته هادئةً إلى النفوس ، فسادَ الصمت لحظات على الجميع ، فاغتنمها بشير بن سعد لصالح المهاجرين هذه المرّة ، يدفعه لذلك حَسده لسعد بن عبادة فقال : يا معشر الأنصار ! ألا إنّ محمّداً من قريش وقومه أولى به ، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر .

فاغتنم المهاجرون الثلاثة هذه الثغرة في جبهة الأنصار ، فطفقوا يقدّم بعضهم بعضاً ، فبدا أنّهم لم يروا أنّ واحداً منهم يدعمه نصّ شرعيّ أو يختص بميزة ترفع من رصيده مقابل غيره فتؤهّله للخلافة .

فقال أبو بكر : هذا عمر وأبو عبيدة بايِعوا أيّهما شئتم(١) ، وقال عمر:

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٨ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٢ / ٣٢٥ .

٩٩

يا أبا عبيدة، ابسط يدك أبايعك ، فأنت أمين هذه الأمة(١) ، فقال أبو بكر : يا عمر ! ابسط يدك نبايع لك ، فقال عمر : أنت أفضل منّي ، قال أبو بكر : أنت أقوى منّي ، قال عمر : قوّتي لك مع فضلك ابسط يدك أبايعك(٢) فلمّا بسط يده ليبايعاه سبقهما بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير ! عَقَّتك عقاق، أنفِستَ على ابن عمّك الإمارة ؟

ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد ؛ قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن خضير وكان نقيباً : والله لئن وليتها الخزرج مرّة ؛ لا زالت عليكم بذلك الفضيلة أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه ، وأقبل أصحاب أسيد يبايعون أبا بكر(٣) ، وقالت بعض الأنصار : لا نبايع إلاّ عليّاً(٤) .

ثم أقبل أبو بكر والجماعة التي تحيط به يزفّونه إلى المسجد زفاف العروس(٥) والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لازال ملقىً على فراش الموت ، وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى أزبد شدقاه وجماعته تحوطه وهم متّزرون بالأُزر الصنعانية ، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه وقدّموه ، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى(٦) .

لقد كانت حجّة الحزب القرشي في السقيفة ضد الأنصار مبنيّة على أمرين :

١ ـ إنّ المهاجرين أوّل الناس إسلاماً .

٢ ـ إنّهم أقرب الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمسّهم به رحماً .

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى : ٣ / ١٨١ .

(٢) تأريخ الخلفاء للسيوطي : ٧٠ .

(٣) الكامل في التأريخ : ٢ / ٣٣٠ .

(٤) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٣ ط مؤسسة الأعلمي .

(٥) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٦ / ٨ .

(٦) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ٢١٩ ط دار إحياء الكتب العربية .

١٠٠