جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)0%

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 305

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 305
المشاهدات: 27809
تحميل: 5855

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27809 / تحميل: 5855
الحجم الحجم الحجم
جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تُحيي به ما قد مَات، وتردّ به ما قد فات، وتخرج به ما هو آت، وتوسّع به في الأقوات، سحاباً متراكماً، هنيئاً مريئاً، طبقاً مجلجلاً، غير ملث ودقه، ولا خلّب برقه.

اللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً، مريعاً ممرعاً، عريضاً واسعاً، غزيراً، تردّ به النهيض، وتجبر به المهيض.

اللّهمّ اسقنا سقياً تُسيل منه الظراب، وتملأ منه الجباب، وتفجّر به الأنهار، وتُنبت به الأشجار، وترخّص به الأسعار في جميع الأمصار، وتنعش به البهائم، والخلق، وتكمل لنا به طيّبات الرزق، وتُنبت لنا به الزرع، وتدرّ به الضرع، وتزيدنا به قوّةً إلى قوّتنا.

اللّهمّ لا تجعل ظلّه علينا سموماً، ولا تجعل برده علينا حسوماً، ولا تجعل صوبه علينا رجوماً، ولا تجعل ماءه علينا أجاجاً.

اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وارزقنا من بركات السماوات والأرض إنّك على كلّ شي قدير (1) .

وهكذا فإنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء الاستسقاء، لا يحصر اهتمامه بما حوله من الأفراد والشؤون الخاصة، بل يعمّم اهتمامه على كل العباد وكل البلاد، وينظر برقّةٍ ولطف إلى كل قضاياها الطبيعيّة والنفسية والمعاشيّة، وحتّى الجويّة والزراعية وحتّى طلب (القوّة).

إنّ التأمّل في مضامين هذا الدعاء يفتح آفاقاً من سياسة الإمام السجّاد (عليه السلام).

وهكذا ننتهي من هذا الفصل، وقد وقفنا فيه على أبرز ما امتاز به الإمام زين العابدين (عليه السلام) من التزام العبادة، والبكاء، والدعاء، ووجدنا كيف أنّ الإمام (عليه السلام) قد استخدم كلّ ذلك في تمرير خطّته الحكيمة التي اتخذها لتثبيت قاعدة الإمامة الحقّة، وما في عمله من تعرّض للحاكمين، وتعريض بهم وبفساد تصرّفاتهم ومخالفتهم

____________________

(1) الصحيفة السجّادية (الدعاء التاسع عشر).

٢٠١

للشريعة والدين.

ومع أنّ الإمام كان يقوم بما يخصّه، ويُعدّ من حقّه الشخصي أن يتعبّد، ويبكي، ويدعو؛ فإنّنا نرى في أعماله نضالاً سياسيّاً، وتدبيراً حكيماً ضدّ الحكومات.

وسنقرأ في الفصل الآتي، مواقف في مواجهة الحكّام وأعوانهم الظلمة، من دون غطاء أو تقيّة، وهي المواقف الحاسمة التي وقفها الإمام زين العابدين (عليه السلام) منهم.

٢٠٢

الفَصلُ الخامِس

مَوَاقِف حَاسِمَة للإمَامِ (عَلَيهِ السلاَم)

أوّلاً: موقفه من الظلمة.

ثانياً: موقفه من أعوان الظلمة.

ثالثاً: موقفه من الحَركات المسلّحة.

٢٠٣

٢٠٤

وبعد سنين من النضال المرير، الذي قام به الإمام زين العابدين (عليه السلام)، بالأساليب التي شرحنا صوراً منها في الفصول السابقة، والتي كان تطبيقها والاستفادة منها في تلك الظروف الحرجة لا يقلّ صعوبة عن إشهار السيف، وفائدتها لا تقلّ عن دخول المعارك الضارية.

فلقد أنتجت نتائجها الهائلة: فعزّزت موقع الإمام (عليه السلام)؛ لكونه القائد الإلهي المسؤول عن هذا الدين، وهذه الأمّة، والهادي لها.

وتمكّن بالتزامه بالخطط الدقيقة المذكورة من أداء وظائف الإمامة، وتجميع القوى المتبدّدة حول مركز الحقّ، وتأسيس القاعدة لانطلاق الأئمّة من بعده على أُسس رصينة محكمة.

وعزّزت تلك المواقف الاجتماعية العظيمة، مكانة الإمام (عليه السلام) في أنظار الأمة، باعتباره سيّداً من أهل البيت (عليهم السلام) يتمتّع بمكارم الأخلاق وفضائلها، وعالماً بالإسلام من أصفى ينابيعه وروافده، ومحامياً عن الأمّة. وكانت لهذه المواقع، وهذه المكانة، آثارها في تغيير أسلوب العمل السياسي. عند الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الفترة التالية، حيث نجد أنّ تعامله مع الحكّام والأحداث يختلف عمّا سبق، ويكاد الإمام (عليه السلام) يُعلن عن المعارضة، ويُبدي التعرّض للحكّام. وكان من أبرز مظاهر هذا التعامل هو ما اتّخذه من مواقف حاسمة تجاه الحكّام الظالمين، وتجاه أعوانهم، وتجاه الحركات السياسية التي عاصرته.

٢٠٥

أوّلاً: موقفه من الظالمين

موقفه من يزيد:

فقد اتّخذ الإمام (عليه السلام) موقفاً حكيماً من يزيد، وهو من أعتى طغاة بني أُميّة وأخبثهم، وأبعدهم عن كلّ معاني الدين والإنسانية والمروة وحتّى السياسة فكان موقف الإمام (عليه السلام) منه فذّاً، فلم يدع له مبرّراً للقضاء عليه، مع أنّه واجهه بكل الحقيقة التي لا يتحمّلها الطغاة، بل أجبره على إطلاق سراح الأسرى من آل محمّد؛ وذلك بما صنعه الإمام (عليه السلام) من أجواء لمثل هذا الإجراء.

فرجع الإمام (عليه السلام) إلى المدينة ليبدأ عمله طبق التخطيط الرائع الذي شرحنا صوراً منه في هذه البحوث.

وبعد أن قضى الإمام السجّاد (عليه السلام) عمراً في تطبيق خططه القويمة في معارضة الدسائس التي كان يضعها الحكّام من بني أميّة ضدّ الدين وأهله، وفضحها، وحاول أن يبني ما كانوا يهدمونه، ويهدم ما كانوا يبنونه، وصدّ ما يحاولونه.

وبعد تعزيز المواقع والمكانة لوجوده الشريف بين الأمة، سواء مَن كان من أتباعه أو من عامّة الناس، لم يكن للحكّام أن يتعرّضوا للإمام (عليه السلام) من دون أن يكشفوا عن وجوههم أغطية التزوير، وأقنعة الدجل والكفر والنفاق.

فالإمام الذي ذاع صيته في الآفاق بالكرامة، والإمامة، والسيادة والشرف، والتقى والعلم والحلم والعبادة والزهد، أضف إلى ذلك حنانه وعطفه على الأمّة ورعايته لشؤونها، قد دخل أعماق القلوب، وأصبح له من الاحترام والتقدير ما لا يكون من مصلحة الحكّام التعرّض له بأذى.

كما يبدو أنّ الإمام (عليه السلام) بعد أن استنفذَ أغراضه من خططه، وعلم بأنّ الدولة الأمويّة وحكّامها الحاقدين على الإسلام ورجاله وخاصة من أهل البيت (عليهم السلام)، سوف يقضون على حياته إن عاجلاً أو آجلاً، إن خفيةً أو علناً؛ بدأ العمل الهجومي عليهم.

فكان يُفرغ ما بقي في كنانته من السهام على هيكل الحكم الأمويّ الفاسد، والذي

٢٠٦

بدأ التنازل من كثير من المواقع الاستراتيجية التي كان يحتلّها، فقام الإمام (عليه السلام) بالإشهار بهم، من خلال أعمال أصدق ما يُقال فيها إنّها الاستفزاز والتحرّش السياسيّ.

ومواقفه من عبد الملك بن مروان:

قد رأينا أنّ الأمويين بكلّ مرافق أجهزتهم، كانوا يرون من الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) خيراً لا شرّ فيه.

وقد كانت علاقة مروان بن الحكم الأمويّ، بالخصوص، طيّبة مع الإمام (عليه السلام) لما أبداه الإمام تجاهه من رعايةٍ، أيام وقعة الحرّة، وكان مروان شاكراً للإمام (عليه السلام) هذه المكرمة.

وطبيعيّ أن يعرف عبد الملك بن مروان، للإمام زين العابدين (عليه السلام) هذه اليد والمكرمة.

ولذلك نراه، لمّا ولي الخلافة، يكتب إلى واليه على المدينة الحجّاج الثقفي السفّاك يقول: أمّا بعد، فانظر دماء بني عبد المطلب فاحتقنها واجتنبها، فإنّي رأيتُ آل أبي سفيان بن حرب [ لما قتلوا الحسين ] لمّا ولغوا فيها (نزع الله ملكهم) لم يلبثوا إلاّ قليلاً. والسلام (1) .

لكنّ الإمام (عليه السلام) لم يمرّ بهذه الرسالة بشكل طبيعيّ، بل بادر إلى إرسال كتاب إلى عبد الملك، يقول فيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم... أمّا بعد، فإنّك كتبتَ يوم كذا وكذا، من ساعة كذا وكذا، من شهر كذا وكذا، بكذا وكذا. وإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنبأني وأخبرني، وأنّ الله قد شكر لك ذلك وثبّت ملكك، وزاد فيه بُرهة).

____________________

(1) المحاسن والمساوي للبيهقي (ص 78) وفي طبعة (55) كشف الغمة للإربلي (2: 112) مروج الذهب (3: 179) والاختصاص (ص 314) وبحار الأنوار (46: 28 و 119).

٢٠٧

وطوى الكتاب، وختمه، وأرسل به مع غلام له على بعيره، وأمره أن يوصله إلى عبد الملك ساعة يُقدم عليه (1) .

إنّ أُسلوب هذا الكتاب، ومحتواه، كلاهما مثار للاستفزاز:

فأوّلاً: يحاول الإمام (عليه السلام) أن يعرّف الحاكم باطّلاعه الكامل على تاريخ كتابته للرسالة، بدقّة، حتّى اليوم والساعة.

فهو يوحي إليه علم الإمام بما يجري داخل القصر الملكي. وهذا أمر لا يمر به الطواغيت بسهولة.

وثانياً: يصرح الإمام (عليه السلام) باتصاله المباشر بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنّه الذي أخبره وأنبأه بالرسالة ومحتواها.

وهذا أيضاً يوحي أنّ الإمام (عليه السلام) مع أنّه مرتبط بالرسول نسبيّاً، فهو مرتبط به روحيّاً، ويأخذ علمه ومعارفه منه مباشرةً.

ومثل هذا الإدعاء لا يتحملّه الخليفة، بل يثقل عليه؛ لأنّ ادعاء ذلك يعني كون الإمام (عليه السلام) أوثق صلة بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، من هذا الذي يدّعي خلافته!

والمقطع الأخير من الكتاب، حيث يخبر الإمام (عليه السلام) عن أن فعل عبد الملك وتوصيته بآل عبد المطلب (مشكور عند الله) وأنّه ثبّت بذلك ملكه، وزيد فيه بُرهة، ليس قطعاً أسلوب دعاء وثناء وتملّق، وإنّما هو تعبير عن قبول الصنيع، وردّ الجميل، والعطف عليه بزيادة بُرهة فقط في الملك لا الخلافة.

مع أنّ صدور مثل هذا الخبر من الإمام (عليه السلام) إلى عبد الملك الخليفة فيه نوع من التعالي والفوقيّة الملموسة، التي لا يصبر عليها مَنْ هو في موقع القدرة، فضلاً عن الطغاة أمثال عبد الملك.

والحاصل أنّ هذا الكتاب الصادر من الإمام (عليه السلام) لم يكن يصدر، إذا أراد الإمام (عليه السلام) أن يجتنب التعرّض بالحاكم، وخاصة بهذا الأسلوب المثير، ومع أنّ الرسالة التي كتبها عبد الملك لم تكن مرسلة إلى الإمام (عليه السلام).

____________________

(1) كشف الغمة (2: 112) وبحار الأنوار (46: 29) ورواه في عوالم العلوم (ص 42) عن الخرائج للقطب الراوندي.

٢٠٨

وكان عبد الملك واقفاً على بعض ما للإمام (عليه السلام) من موقعيّة ومكانة، لوجوده فترة كبيرة في المدينة إلى جوار الإمام (عليه السلام) وعلمه بأوضاعه.

مضافاً إلى أنّ الإمام (عليه السلام) قد تحدّث معه بلغة الأرقام ممّا لا يمكنه دفعه أو إنكاره؛ فلذلك كلّه تظاهر عبد الملك بفرحه بهذا الكتاب.

فقد جاء في ذيل ذلك الحديث أنّ عبد الملك لمّا نظر في تاريخ الكتاب وجده موافقاً لتلك الساعة التي كتب فيها الرسالة إلى الحَجّاج، فلم يشكّ في صدق عليّ بن الحسين، وفرح فرحاً شديداً وبعث إلى عليّ بن الحسين وَفْر راحلته دراهم وثياباً، لِما سرّه من الكتاب (1) .

ثمّ الذي يُشير إليه الحديث التالي أنّ الإمام (عليه السلام) قاطعَ النظام، مقاطعة سلبيّة، توحي بعدم الاعتراف والاعتناء برأس الحكومة، وهو شخص الخليفة:

فقد روي أنّ عبد الملك بن مروان كان يطوف بالبيت، وعليّ بن الحسين (عليه السلام) يطوف أمامه، ولا يلتفت إليه.

فقال عبد الملك: مَنْ الذي يطوف بين أيدينا؟ ولا يلتفت إلينا؟.

فقيل له: هذا عليّ بن الحسين.

فجلس مكانه، وقال: ردّوه إليّ، فردّوه، فقال له: يا عليّ بن الحسين إنّي لستُ قاتل أبيك، فما يمنعك من المسير إليّ.

فقال (عليه السلام): إنّ قاتل أبي أفسد بما فعله دنياه عليه، وأفسد أبي عليه آخرته، فإنْ أحببت أن تكون هو، فكنْ (2) .

إن تحدّي الإمام (عليه السلام) الاستفزازي، يتبلور في نقاط:

فأوّلاً: يمشي بين يدي الخليفة متنكّراً لوجوده، لا يأبَهُ به، وفي مرأىً ومسمع من الحجيج الطائفين، ولابدّ أنّه كان في الموسم، بحيث أثار الخليفة، وبعثه على السؤال عنه: مَنْ هذا الذي يجرؤ على تحدّي احترام الخليفة هكذا.

____________________

(1) كشف الغمة (2: 112).

(2) بحار الأنوار (46: 120) وإثبات الهداة، للحر العاملي (3: 15).

٢٠٩

ولمّا سمع اسم الإمام (عليّ بن الحسين) أجلسه (الاسمُ) في مكانه، وهذا يعني أنّه قطع طوافه، لعظم وقع النبأ عليه، وقطع الطواف على الإمام بردّه إليه.

وثانياً: عتاب عبد الملك للإمام (عليه السلام) لعدم السير إليه، يكشف عن أنّ مقاطعة الإمام للخليفة والمسير إليه ولقائه، اتخذ شكلاً أكبر من مجرّد العزلة، بل دلّ على عدم الرغبة، أو الإعراض، حتّى أصبح الخليفة يحاسب عليه.

وثالثاً: إنّ قول عبد الملك: (إنّي لست قاتل أبيك) كما يحتوي على التبرُؤ من الدماء المراقة على أرض المعركة المحتدمة بين أهل البيت (عليهم السلام) والأمويين، فإنّه في نفس الوقت تهديد، بهزّ العصا في وجه الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وتلويح له بإمكانيّة كلّ شي، حتّى القتل.

ورابعاً: ولذلك كان جواب الإمام حاسماً، وقوياً، وشجاعاً؛ إذ حدّد النتيجة في تلك المعارك السابقة، وأثبت فيها انتصار أهل البيت الذين ربحوا النتيجة، وخسران قتلتهم الأمويين.

ومع ذلك أبدى استعداده، لأن يقف نفس الموقف المشرّف الذي وقفه أبوه، إذا كان عبد الملك بصدد الوقوف على نفس الموقع الظالم الذي وقف عليه قاتل أبيه.

إنّه استعداد، وطلب المبارزة والقتال، وتحدٍّ سافر لسلطة خليفة لا يمنعه شي من الإقدام على الفتك والقتل والظلم والإبادة.

وهذا الموقف، وحده، كافٍ للدلالة على أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن طول عمره ذلك المسالم، الموادع، المنعزل عن الدنيا وسلطانها، والمشغول بالعبادة، والصلاة والدعاء والبكاء، فقط.

ويبدو أنّ عبد الملك رأى أنّ الإمام (عليه السلام) بمواقفه الاستفزازية تلك، يبرز في مقام أبيه وجدّه، ويتزعّم الحركة الشيعية، وقد ركّز موقعيته كإمام، بعد تلك الجهود المضنية، واستعاد جمع القوى المؤمنة حوله، فأصبح له من القوّة والقدرة، أن يقف في وجه الخليفة؛ فلذلك تصدّى للإمام (عليه السلام) وحاول أن يفرّغ يد الإمام (عليه السلام) من بعض

٢١٠

إثباتات الإمامة، كوجود مخلّفات النبوّة عند الإمام (1) ، ومنها سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلمّا بلغ عبد الملك أنّ ذلك السيف موجود عند الإمام زين العابدين (عليه السلام) بعث إليه يستوهبه منه.

فأبى الإمام (عليه السلام).

فكتب إليه عبد الملك، يهدّده أن يقطع رزقه من بيت المال.

فأجابه الإمام (عليه السلام):

أمّا بعد:

فإنّ الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: ( إنّ الله لا يحبّ كل خوّان كفور ) [ سورة الحج (22) الآية (38) ] فانظر أيّنا أولى بهذه الآية (2) .

إنّ طلب عبد الملك، للسيف من الإمام (عليه السلام) بهذه الشدّة إلى حدّ التهديد، ليس ناشئاً من مجرّد الرغبة، وإلاّ فعبد الملك هو ذا مُعرض عن الاحتفاء بأقدس الأشياء المنسوبة إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) و أعزّ من سيف الرسول، وهاهم أهله يعرّضون من قِبله بالتهديد بقطع الرزق.

فإنّ موقف الإمام (عليه السلام) بإبائه إعطائه السيف، إذا كانت الأمور في حالتها الطبيعيّة، لا يبرّره شيء.

إلاّ أنّ الوضع ليس طبيعياً قطعاً.

وتشير بعض الأحاديث إلى بلوغ حدّة التوتّر بين الإمام وبين النظام إلى حدّ أنّ الحجّاج الثقفيّ، وهو من أعتى ولاة الأمويين، يكتب إلى عبد الملك بما نصّه: (إن

____________________

(1) اقرأ عن سلاح رسول الله الموجود عند الإمام حديث أبي خالد الكابلي في المناقب لابن شهرآشوب (4: 148).

(2) عوالم العلوم (ص 117) عن المحاسن للبرقي، والمناقب لابن شهرآشوب (4: 302) وانظر بحار الأنوار (46: 95)

٢١١

أردتَ أن يثبت ملكك فاقتل عليّ بن الحسين) (1) .

فلو كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) كما هو المعروف زاهداً في السياسة، فما معنى ربط الحجّاج الذي لا يرتاب في دهائه بين الإمام وبين الملك.

فكلام الحجّاج واضح الدلالة على أنّ وجود الإمام (عليه السلام) أصبح يشكّل خطراً عظيماً على الملك، يزعزعه ويزيله، فهو لا يثبت إلاّ بقتل الإمام.

وأمّا عبد الملك، فقد حاول أن يحدّد الإمام (عليه السلام)، كما يقوله الحديث التالي:

قال الزهري: شهدتُ عليّ بن الحسين، يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأثقله حديداً، ووكّل به حفاظاً عدّة.

فاستأذنتُهم في التسليم عليه، والتوديع له، فأذنوا لي، فدخلتُ عليه، وهو في قبّة، والأقياد في رجليه، والغلّ في يديه، فبكيتُ، وقلتُ: وددتُ أنّي مكانك، وأنت سالم.

فقال: يا زهريّ، أوَ تظنّ هذا ممّا ترى عليّ وفي عنقي يكرثني، أما لو شئتُ ما كانَ، فإنّه وإن بلغ فيك وفي أمثالك ليذكّرني عذاب الله.

ثمّ أخرج يديه من الغلّ و رجليه من القيد، وقال: لاجزتُ معهم على ذا منزلتين من المدينة.

قال الزهريّ: فما لبثتُ إلاّ أربع ليالٍ، حتّى قدم الموكّلون به، يظنّون أنّه بالمدينة، فما وجدوه. فكنتُ فيمَن سألهم عنه؟.

فقال لي بعضهم: إنّا نراه متبوعاً، إنّه لنازل، ونحن حوله لا ننام، نرصده، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلاّ حديده.

قال الزهريّ: فقدمتُ بعد ذلك على عبد الملك بن مروان، فسألني عن علي بن الحسين؟ فأخبرته، فقال لي: إنّه قد جاءني في يوم فقدوه الأعوان، فدخلَ عليّ فقال: ما أنا وأنت؟.

فقلت: أقم عندي.

فقال: لا أحبّ.

____________________

(1) بحار الأنوار (ج 46 ص 28 ح 19).

٢١٢

ثم خرج، فو الله، لقد امتلأ ثوبي منه خيفةً.

قال الزهري: فقلت: يا أمير المؤمنين ليس عليّ بن الحسين حيث تظنّ، إنّه مشغول بنفسه.

فقال: حبّذا شغل مثله، فنعم ما شغل به (1) .

إنّ هذا الحديث على طوله فيه من الدلالات على أنّ وضع الإمام (عليه السلام) السياسيّ أصبح بمستوى يُلجىء الدولة إلى اعتقال الإمام وتقييده وتكبيله الغلّ، وتطويقه بالحرس.

فهل يعامل المنعزل عن السياسة والزاهد فيها، بهذا الشكل حتّى لو فرضنا أنّ الضرورة اقتضت جلبه إلى العاصمة؟.

إنّ أسلوب الجلب هذا فيه الدلالة القويّة على أن تحرّك الإمام (عليه السلام) كان على مستوى بالغ الخطورة على الدولة.

ثم ماذا كان يظنّ الخليفة في الإمام حتّى التجأ إلى فعل كلّ هذا ضدّه، لو لم يتوجّس منه خيفة التحرّك السياسي.

ويبدو الإمام (عليه السلام) مصمّماً على التزامه، فقد أجاب الخليفة بما أحبّ هو، لا ما أراد الخليفة.

وفي التجاء الإمام (عليه السلام) إلى إعمال قدراته الملهمة من الله كإمام للأمة، ووليّ من أولياء الله المخلصين، فأظهر للملك وللزهري إعجازه الخارق، تأكيد على ما نريد إثباته وهو أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) صرّح بأنّه يقوم بمهمّة الإمامة الإلهيّة، ويثبتُ للملك وأعوانه ولكل مَن اطّلع على مجاري الأحداث، أنّه الإمام الحقّ، والأولى بمقام الحكم الذي يدّعيه عبد الملك.

وهذا هو أظهر أشكال النضال السياسيّ.

____________________

(1) حلية الأولياء (3: 135) تاريخ دمشق (الحديث 42) مختصر ابن منظور (17: 234) ورواه ابن شهرآشوب في المناقب (4: 145).

٢١٣

وموقفه من هشام بن عبد الملك.

وموقف الإمام زين العابدين (عليه السلام) من هشام، من أشهر المواقف بين المسلمين، وقد تناقله الأعلام في صُحفهم وكتبهم، وأرسلوه إرسال المسلّمات، وفيه من الدلالات الواضحة على قيام الإمام (عليه السلام) بالاستفزاز السياسيّ، مالا يخفى على أحد.

والحديثُ: أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في خلافة أبيه، فطاف بالبيت، وأراد أن يستلم الحَجَر الأسود، فلم يقدر عليه من الزحام، فنُصِبَ له مِنْبَر فجلس عليه.

فبينا هو كذلك إذ أقبل عليّ بن حسين (عليه السلام)، عليه إزار وردا، أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم رائحةً، وبين عينيه سجّادة، كأنّها ركبة بعير.

فجعل يطوف بالبيت، فإذا هو بلغ إلى موضع الحَجَر تنحّى الناس له عنه، حتّى يستلمه، هيبةً له وإجلالاً.

فقال رجل من أهل الشام لهشامٍ: مَنْ هذا الذي قد هابه الناسُ هذه الهيبة، فأفرجوا له عن الحَجَر؟.

فقال هشام: لا أعرفه؛ لئلاّ يرغبَ فيه أهل الشام!.

فقال الفرزدقُ وكان حاضراً: أنا أعرفه:

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وَطْأتَهُ

والبيتُ يعْرِفُهُ والحلّ والحَرَمُ

هذا ابنُ خَيْر عبادِ الله كُلّهِمُ

هذا التقي النقي الطاهِرُ العَلَمُ

هذا ابن فاطمةٍ إن كُنْتَ جاهِلَهُ

بِجَدّهِ أنبياءُ الله قد خُتِمُوْا

يكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفانَ راحَتِهِ

ركنُ الحطيمِ إذا ما جاء يستلمُ

من معشرٍ حُبّهم دِيْن وبُغْضُهُمُ

كُفْر وقُرْبُهُمُ منجى ومُعْتَصَمُ

إن عُدّ أهْلُ التُقى كانوا أئمّتَهُمْ

أو قيل مَنْ خَيْرُ أهل الأرض قيل هُمُ

هُمُ الغُيُوثُ إذا ما أزمة أزمَتْ

والأُسد أُسْدُ الشَرى والبأسُ محتدِمُ (1)

____________________

(1) هذه الأبيات هي التي اختارها الأستاذ الفاضل المحقق الدكتور السيد جعفر الشهيدي، من مجموع ما نسب إلى الفرزدق في مدح الإمام السجاد (عليه السلام) بعنوان (الميميّة) بعد أنْ أشبعها بحثاً وتحقيقاً في كتابه القيّم (زندكاني عليّ بن الحسين (عليه السلام)) (الصفحات112 - 133) وقد فصّل فيه

=

٢١٤

إنّ الموقف لم يكن بحيث يخفى شيء من أبعاده على الإمام (عليه السلام)، ولم يكن هو (عليه السلام) بحيث يقوم بما قام متجاهلاً عواقبه وآثاره، فلابدّ لمَن يحضر المطاف أن ينتبه لحضور مثل هشام وليّ العهد على المِنْبَر، وحوله الجلاوزة من أهل الشام.

لكنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) تجاهل وجود هشام، قاصداً إلى عواقب إقدامه الجريء ذلك، فهو يسير في إكمال أشواط الطواف، متزيياً بزيّ الأنبياء، والناس يتنسّمون منه ريح النبّوة وعبق الرسالة، وهذا واحد من آثار نضال السنوات الطويلة العجاف الشداد، التي كابد فيها الإمام أنواع الصعاب، ليفتح أمام الناس طريق معرفة الإمام والوصول إلى الإمامة، بينما كانت الخلافة في غفلة عن هذا كلّه، ومنهمكة في عتوّها

____________________

=

الحديث عمّا وقع من الاختلاف في ما ورد من أبيات على وزن الميميّة في التراث العربي، من حيث قائلها، والممدوح الذي قيلتْ في حقّه، وفي عدد أبيات ما قيل في كلّ مناسبة، وفي خصوص ما نُسِبَ إلى الفرزدق في مدح الإمام (عليه السلام) في مقام الحجر الأسود، من حيث عدد الأبيات، ودقّق في مضمون الأبيات المنسوبة، فتوصّل إلى أنّ الأنسب بالمقام - زماناً و مكاناً ووضعاً - هو هذه الأبيات السبعة التي اختارها، وأنّها الأنسب بالشاعر وبالمناسبة لفظاً وبلاغة، ومعنى ودلالةً.

وأبان الوجوه التي استبعد بها الأبيات الأُخر، بتفصيل وافٍ، وممّا يحسن ترجمته من كلامه، بعد إيراده البحث المذكور، قوله:

إن كان الفرزدق قد أنشأ هذه الأبيات في حقّ الإمام علي بن الحسين، فقد أدّى جُزءاً ضئيلاً من دَيْنه، وخَفّفَ شيئاً من أثقال جرائمه التي يحملها على عاتقه، حيث يعجّ ديوان هذا الشاعر بمدائح معاوية، وعبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، ويزيد بن عبد الملك، وعمّالهم مثل: الحجاج بن يوسف، ويُعثر في ديوانه على أكثر من عشرة قصائد في مديح هشام وابنه بالخصوص. إنّ ما كتبه اليافعي - في حقّ الفرزدق - يبدو وافياً جدّاً، حيث قال: (وتنْسَبُ إلى الفرزدق مكرمة يُرتجى له بها الرحمةُ في دار الآخرة) وأورد حديث الميميّة، في مرآة الجنان (ج1ص239) طبع مؤسسة الأعلمي بيروت - عن طبعة حيدر آباد الهند 1337.

وإليك بعض مصادر هذه القصيدة: تاريخ دمشق (الحديث133) مختصره (17:6 - 247) ديوان الفرزدق (2:178) الأغاني (15:327) و (15:261ثقافة) وصفوة الصفوة (2:8 - 99) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (1:153) وأمالي المرتضى(621) وانظر الإمام زين العابدين (عليه السلام) للمقرّم (ص385) وما بعدها.

٢١٥

وظلمها ولهوها وبذخها وترفها وطغيانها، بعيداً عن الناس.

والناسُ، أولئك الذين تجاهلوا ابن الخليفة، ولم يأبهوا به، ولم يفتحوا له طريقاً إلى لمس الحجر الأسود، هاهم يقفون سماطين، هيبةً للإمام زين العابدين (عليه السلام)، يُفْرِجون له عن الحَجَر، ليستلمه!.

ومثل هذا العمل يخدش غرور هشام الذي يمثّل الخلافة، ويغيض المنتمين إلى الدولة، ولذلك تجاهل هشام شخص الإمام (عليه السلام).

وممّا يدلّ على حدّة تأثير الموقف فيهم رواية المدائني، عن كيسان، عن الهيثم أنّ عبد الملك قال للفرزدق: أوَ رافضي أنت يا فرزدق؟!.

فقال: إن كان حبّ أهل البيت رفضاً، فنعم (1) .

والشاعر الشعبيّ الفرزدق الذي يعيش بين العامة، استصعَبَ ذلك التجاهل، وانبرى بإنشاد الميمية العصماء، التي طار صيتها مع الحُجّاج عندما عادوا إلى مختلف البقاع.

إنّ أيّ حكم سياسيّ لا يتحمّل مثل هذه المواقف التي تحطّ من كرامة رجال الدولة، وخاصّةً رجال البلاط، وبهذه الصورة.

ولذلك، فإنّ الأمويين سجنوا الفرزدق على هذا الشعر الذي اعتبروه إهانةً للنظام.

فكيف لا يكون عمل الإمام زين العابدين (عليه السلام) استفزازاً سياسيّاً؟!.

وممّا يؤكّد على استهداف الإمام (عليه السلام) للنظام في هذا التصرّف هو أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) سارع إلى الاتصال بالفرزدق في السجن، ووصله بشيء رمزيّ من المال، مكافأة لموقفه السياسي ذلك.

ولا ريب أنّ في هذا أيضاً إعلاناً لدعم المعارضة المعلنة من قبل الفرزدق، لا يمكن إغفاله عن سجلّ الأعمال السياسيّة التي قام بها الإمام (عليه السلام).

وموقفه من عمر بن عبد العزيز:

كان عمر بن عبد العزيز، قبل تولّيه الخلافة، يسكن المدينة، يَرْفُلُ أثوابَ التَرَف،

____________________

(1) المحاسن والمساوي للبيهقي (ص 22 - 213).

٢١٦

باعتباره من العائلة المالكة. وكان من ترفه انّه يلبس الثوب بأربعمائة دينار، ويقول: (ما أخْشَنَهُ) (1) .

وقال بعضهم: كنّا نعطي الغسّال الدراهم الكثيرة حتّى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز، من كثرة الطيب الذي فيها (2) .

قال عبد الله بن عطاء التميمي: كنت مع علي بن الحسين في المسجد فمرّ عمر بن العزيز، وعليه نعلان شراكهما فضّة، وكان من أمجن الناس، وهو شاب (3) .

ولمّا كان يتمتّع به من ذكاء وتدبير، كان يُراقب أعمال الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن كَثَب، فيجد أنّه (عليه السلام) قد هيّأ بجهاده وصبره الأرضيّة الصالحة لانقلابٍ اجتماعي جذري على الحكم الأمويّ المروانيّ.

وكان الإمام يتوسّم في عُمَرَ التطلّع إلى الخلافة، فقد قال (عليه السلام) لعبد الله بن عطاء ذيل حديثه السابق: أترى هذا المترَف - مُشيراً إلى عمر - إنّه لن يموت حتّى يلي الناس، فلا يلبث إلاّ يسيراً حتّى يموت، فإذا مات لعنه أهلُ السماء، واستغفر له أهلُ الأرض (4) .

ففي هذا الحديث:

1 - يشاهد توسّم الإمام (عليه السلام) في عُمَرَ أنّه يتطلّع إلى الحكم والولاية، رغم بعده عنها، واشتغاله في المدينة بما لا يمتّ إلى ذلك.

وإعلانه عن هذا التوسّم يدل بوضوح على أنّ الإمام كان يفكّر في شؤون الحكومة لا حاضرها بل ومستقبلها، وأنّه كان مفتوحاً أمامه بوضوح.

2 - إنّ الإمام (عليه السلام) كان يعرف من ذكاء عمر ودهائه أنّه سوف يُنافق في ولايته،

____________________

(1) طبقات ابن سعد (5: 246).

(2) الأغاني (9 262).

(3) مناقب ابن شهرآشوب (4:155).

(4) بصائر الدرجات (ص 45) ودلائل الإمامة للطبري (ص 88) وبحار الأنوار (46: 23 و 327) وإثبات الهداة (3: 12) وقد روى عاصم بن حُميد الحنّاط في أصله (ص 23) قريباً من هذا النصّ عن عبد الله بن عطاء قال: كنت آخذاً بيد أبي جعفر، وعمر بن عبد العزيز عليه ثوبان معصفران، قال: فقال أبو جعفر: أما إنّه سيلي ثم يموت، فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء، ودلالته على المعاني التي ذكرناها أوضح

٢١٧

بما ينطلي على الناس أنّه صالح و(عادل) في الحكم، بينما هو، قد احتال في ضرب الحقّ وتثبيت الباطل مدّةً أطول، وقد كان من شأن الدولة الأموية أن تزول قبل ذلك، لولا تصرّفاته المريبة حيث إنّ آثار جهود الإمام زين العابدين (عليه السلام) ونضاله ضدّ الطاغوت الأمويّ، كانت قد بدت ظاهرةً، فكان الجوّ السياسيّ على أثر انتشار الوعي مشرفاً على الانفتاح، بحيث لم يطق التعنّت الأمويّ على الاستمرار في عتوّه، وإعلان فساده، وانتهاكه للحرمات، كسَبّ الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر، على رؤوس الأشهاد، وصَدّ الأُمّة عن المعارف والثقافة الإسلامية الصحيحة بمنع الحديث والسنّة، والأدهى من كلّ ذلك استمرار الضغط على كبار المسلمين وسادتهم كعلماء أهل البيت (عليهم السلام) بالتقتيل والتشريد والسجن، وكعلماء الصحابة ومؤمنيهم بالإهانة والمطاردة والقتل.

فكان عمر بن عبد العزيز - وهو الذي راقب الأوضاع عن كَثَبٍ - يعرف كلّ هذه المفارقات في حكم آبائه وسلفه، فلمّا استولى على كرسيّ الخلافة بدأ بتبديل تلك السياسة الخاطئة.

فعمد إلى رفع ذلك السبّ عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي كان وصمة عار على جبين الحكم الأمويّ، ولطخة سوداء في صفحات تاريخ المسلمين لا تُمحى مدى الدهر، إذ يُسبّ أحد الخلفاء، ابن عمّ رسول الله وصهره، وأحد كبار الصحابة، على منابرهم مدّة مديدة، بكلّ صلافةٍ وجُرْأةٍ (1) .

وقد كان عمر نفسه ممّن يلعن عليّاً قبل تولّيه السلطة، حينما كان يتعلّم في المدينة (2) .

ويمكن التوجّه إلى بعض سياسات عمر في هذا المجال من خلال ما روي من أمره بجلد من سب معاوية (3) .

مع أنّ من غير المتصوّر أن يكون عمر جاهلاً بما جناه معاوية على هذا الدين من مآس وإجرام بدءاً بمحاربة أمير المؤمنين (عليه السلام) وانتهاءً بتنصيبه ابنه يزيد على رقاب المسلمين بالولاية والحكم. ثم إنّ سبّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يؤدّ إلاّ إلى النتائج المضادّة لأهداف بني أُميّة، مهما تطاول. وقد تنبّه العقلاء إلى ذلك، وجاء نموذج من هذا في ما روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير، وكان من عقلاء قريش سمع ابناً له ينتقص علي بن

____________________

(1) لاحظ الكشكول في ما جرى على آل الرسول (ص 156).

(2) الكامل في التاريخ لابن الأثير (5:42).

(3) انظر الاستيعاب لابن عبد البر القرطبي (3:1422).

٢١٨

أبي طالب (عليه السلام)، فقال له: لا تنتقص عليّاً، فإنّ الدينَ لم يَبْنِ شيئاً فاستطاعت الدنيا أنْ تهدمَه، وإنّ الدنيا لم تبْنِ شيئاً إلاّ هدمه الدين!.

يا بنيّ، إنّ بني أُميّة لهجوا بسبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في مجالسهم ولعنوه على منابرهم، فإنّما يأخذون - والله - بضَبْعَيْه إلى السماء مدّاً، وإنّهم لهجوا بتقريظ ذويهم وأوائلهم من قومهم فكأنّما يكشفون منهم عن أنتن من بطون الجيَف، فأنهاك عن سبّه (1) .

ثم رفع عُمَر بن عبد العزيز المنع عن نشر الحديث والسنّة، فعمّم أمراً بكتابة الحديث وتدوين العلم، وسجّل باسمه هذه المأثرة التي لا يزال كثير من المصنّفين يمدحونه بها!.

إنّ عمر بادر إلى هذه الأعمال وأمثالها، لتلافي أمر انهدام الدولة الأموية، وقبل أن ينسحب البساط من تحته وتحت قبيلته.

وأخطر ما في عمله أنّه أخّر نتائج الجهود الجبّارة التي قام بها الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى فترة أبعد، لما فتحه أمام الناس من نوافذ للأمل بالإصلاح، فتقاعسوا عن متابعة الأهداف التي خطّط لها الإمام (عليه السلام)؛ لأنّهم علّقوا آمالاً طوالاً عراضاً على عمر، وتظاهره بالصلاح، بل عدّوه مجدّداً للإسلام في بداية القرن الثاني، وكالوا له المدح والثناء، وكَسَبَ وُدَ كثير من الناس، حتّى أتبعوه بالاستغفار بعد هلاكه.

بينما هو، لو كان يريد الخير للأمّة لردّ الأمر إلى أهله، والحقّ إلى نصابه، ولأصلح أهمّ ما أفسده بنو أمية والخلفاء من قبله، وهو إرجاع الأمر إلى أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم أولى بالأمر منه.

قال السيّد المقرّم: ولو كان ابن عبد العزيز صادقاً... لردّ الخلافةَ إلى أهلها، وهل ظُلامة أحدٍ أكبرُ من ظلامة أهل البيت (عليهم السلام) في عدم إرجاع الحقّ إليهم؟ وتعريف الأمّة أنّهم الأولى ممّن تسنّم منبر النبوّة بغير رضىً من الله ولا من رسوله؟ (2)

____________________

(1) الأمالي للطوسي ط البعثة ص 588 رقم 1217 المجلس (25).

(2) الإمام زين العابدين (عليه السلام) (ص 65).

٢١٩

ولكنّه لم يفعل أيّ شيء في هذا المجال.

ولو كان محبّاً للعلم، وحفظه من الدروس، لما اكتفى برفع المنع من تدوينه، بل لتصدّى لتلك المجموعة التي دأبَ الخلفاء، وخاصة معاوية على اختلاقها ووضعها ونشرها وتشويه الحقّ بها، وكان من السهل وقوف عُمَرَ عليها فجمعها وأبادها، أو كشفها وأعلن عن زيفها، ولأمكنه كذلك السعي لفسح المجال أمام تلك المجموعة الممنوع نقلها وتداولها من الحديث والعلم، والتي كانت تحتوي على فضائل علي وآله (عليهم السلام)، فنشرها وأفصح عنها وأذاعها.

ولكن تلك الأحاديث لو نشرت لما بقي لدولة بني أمية ذكر.

فهو لم يفعل شيئاً من هذا، وإنّما اكتفى بتصرّفاتٍ تغرّ الناس وتقنعهم بأنّه عادل، يحبّ العلم، ويحافظ على الإسلام، كي لا تتعمّق نقمة الناس عليه وعلى الخلافة الأموية، فتنقلب عليه الأمة.

ومهما يكن، فإنّ تعرّض الإمام زين العابدين (عليه السلام) لعمر بن عبد العزيز، في ذلك الوقت، وهو من العائلة المالكة، ويتطلّع إلى الخلافة، وهو على ما كان عليه من الترف والبذخ اللذين يدّلان على روح الطاغوت في وجوده.

إنّ تعرّض الإمام له يدّل على نوع من الاقتحام السياسي، وهو موقف خطر يقفه الإمام، بلا ريب، يستتبع المؤاخذة من الحكّام الظلمة.

ولكن الإمام (عليه السلام) كان يقتطف ثمار خطّته السياسيّة، فلا يبالي بما سيقع عليه من جراء هذا الإعلان.

ولقد أعلن، فعلاً تصدّيه لمثل ذلك في ما رواه حفيده جعفر الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ) [ سورة مريم: 98 ] قال: هم بنو أُمية، و يوشك أن لا يحسّ منهم أحد ولا يُخشى... ما أسرعه سمعتُ علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: إنّه قد رأى أسبابه (1) .

نعم، رأى الإمام السجّاد (عليه السلام) تلك الأسباب التي كانت من صنع سياسته الحكيمة.

____________________

(1) مناقب شهرآشوب (3:276).

٢٢٠