جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)0%

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 305

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 305
المشاهدات: 27805
تحميل: 5855

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27805 / تحميل: 5855
الحجم الحجم الحجم
جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال (عليه السلام): مَنْ شهر سيفه، ودعا إلى سبيل ربّه (1) .

فاعتقاد الإمام السجاد (عليه السلام) أنّ الفضل والسبق يتحقّق بإشهار السيف، يقتضي بُطلان نسبة معارضة الحركة المسلّحة إليه (عليه السلام).

وثالثاً: إنّ هذا الشرط الخروج بالسيْف ليس شرطاً على إطلاقه، وليس قابلاً لأن يكون شرطاً للإمامة كذلك.

ومن ثَمّ، فإنّ التُهمة المذكورة مردودة وباطلة.

وقد يكون مَنْ قلّل من شدّتها وحِدّتها، فعمد إلى تخفيفها، وعبّر عنها بدعوى عدم صحّة الإمامة لو أَرخى الإمام ستره، وأغلق بابه (2) كان ينظر إلى هذه الملاحظة.

فإنّ هذه الصيغة يمكن التأمّل فيها، والبحث عنها، من حيث أنّها لا تتجاوز شرط الخروج بالمعنى الذي عرفناه؛ لأنّها يمكن أن تكون فرضاً للحدّ الأقل من الفروض الممكنة للخروج، وأنّ إشهار السيف هو الحدّ الأكثر له.

ومع أنّ إغلاق الباب، وإرخاء الستر ليس ذكراً إلاّ لأبعد الاحتمالات الممكنة، فإنّا لم نَجِدْ في سيرة الإمام السجاد (عليه السلام)، وكذلك الأئمّة من ولده مثل هذا الإرخاء وهذا الستر.

فهم (عليهم السلام) وإن لم يشهروا السلاح الحديدي لكنّهم لم يغلقوا أبوابهم، بل نجد سيرتهم مليئة بالنشاط القيادي، حتّى في أصعب الحالات، وأقسى المواقف والظروف، وأكثرها حسّاسية، كما في حالة الأسر التي مرّ بها الإمام السجاد (عليه السلام)، وحالة السجن التي مرّ بها الإمام الكاظم (عليه السلام)، فإنّهم لم ينقطعوا فيها عن أداء دورهم المتاح لهم.

____________________

(1) تفسير الحِبريّ (ص 354) الحديث (88) وانظر الحديث (89) وتخريجاته، وكذلك الحديث (90)، وشواهد التنزيل للحسكاني (2: 104) رقم (782) وفي الحديث (783) نحوه عن زيد الشهيد.

(2) كفاية الأثر، للخزّاز (ص 300 - 302)، ولاحظ معتزلة اليمن (ص17 - 18).

٢١

هذا بغضّ النظر عن عملهم الدؤوب في إرشاد الناس وهدايتهم إلى الحق في أُصول العقائد، ومن ذلك إعلان إمامة أنفسهم، وتعريفهم بالحق الصحيح من فروع الأحكام وعلم الشريعة، وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة، وتعليمهم سنن الحياة الحرّة الكريمة، هذا العمل الذي هو الهدف لكل الأنبياء في رسا لاتهم، ولكل المصلحين في نضالهم، وهو من أميز وظائف الأئمّة، وأبرز واجبات الإمامة.

والظالمون من الحكّام غير الإلهيين يقفون أمام مثل هذا العمل، ويعدّونه تحدّياً لسلطانهم، ومنافياً لمصالحهم، وبناء على ذلك: فالقائم به يكون معارضاً سياسياً خارجاً عليهم ولو بغير سيف.

وإصرار الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) على هذا العمل، إلى جانب مَنْ كان يقوم منهم بنشاط مسلّح، يدل على أنّ الجهاد في هذا المجال له من الأهمية والأثر في الوصول إلى الأهداف المنشودة من الإمامة، ما يوازي الحاصل من الجهاد المسلّح، على أقلّ الاحتمالات.

ويمكن التأكّد من ذلك، من خلال الممارسات العنيفة للحكّام الظالمين تجاه أولئك الأئمة الذين لم يحملوا السلاح، بنفس الشكل الذي واجهوا به المجاهدين المسلّحين.

فعمليات المراقبة، والمطاردة، والجلب إلى مراكز القوّة والجند عواصم الحكم، بل السجن، والتهديد، والضغط على بعض الأئمة الاثني عشر، من الأمور التي كانت قائمة ومستمرّة، على الرغم من عدم مدّ أيديهم إلى الأسلحة الحديدية.

إنّ ذلك يدلّ بوضوحٍ على أنّ الحكّام عرفوا أنّ هؤلاء الأئمة يحاربونهم بأسلحة أفتك من السيف.

كما يعرف كلّ المناضلين: أنّ الحرب الفكرية والاختراق الثقافي من أساليب ما يُسمّى بالحرب الباردة، هي أشدّ ضراوة، وأعمقُ أثراً في الخصم، وأنفذُ في كيانه، من الحرب بالأسلحة.

وهل يجرؤ عارف بالتاريخ الإسلامي على إنكار الأثر البارز للأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) في هذا المجال؟ فضلاً عن نسبة إغلاق الباب وإرخاء الستر إليهم.

٢٢

لولا الخطأ في الحكم؟ أو التعمّد في تخطّي الحقائق؟.

وعلى كلٍّ، فإنّ حالة إرخاء الستر، وإغلاق الباب لا تمثّل إلاّ أبعد الفروض المحتملة، والممكنة الوقوع في حياة الأئمّة (عليهم السلام).

كما أنّ حالة إشهار السيف تمثّل أقوى الفروض، وأشدّ الحالات وأحوجها إلى مثل ذلك.

فكلا الفرضين محتمل في الإمامة.

فكما أنّ من الممكن فرض حالة إشهار السيف في ما إذا تحقّقت الظروف المناسبة للحركة المسلّحة، وتوافرت الشروط والإمكانات اللازمة للخروج بالسيف، إذ لم نجد نصّاً يمنع الحركة، فضلاً عن أن يجوز للإمام تفويت تلك الفرص، وتبديد تلك الإمكانات.

فكذلك إذا اجتمعت شروط الإمامة غير السيف فإنّ تحدّي الظالمين عَبْرَ وسائل أخرى، تعبّر عن الخروج والتصدّي لحكمهم، هو المتعيّن للكشف عن عدم الرضا باستمرار الأنظمة الجائرة، ولا يمكن أن يُعتبر ذلك نقطة ضعف، أو يُجعل دليلاً على التخلّي عن الحركة المسلّحة.

ومن هنا نعلم أنّ السيف ليست له موضوعية، وهو ليس شرطاً بإطلاق الكلمة، من دون تقييد بوقتٍ، ولا محدوديّة بإمكانيات.

بل، لا ريب في أنّ الخروج بالسيف، مشروط بما يحقّق الأهداف المطلوبة منه، وهي لا تتحقّق بالخروج العشوائي، بل لابدّ أن يتأهّب الخارج لها، ويُعدّ للأمر ما يلزم له من قوّة وعُدّة.

و إلاّ، فإنّ الانفراد في الساحة والاستبداد بالرأي من دون أنصار، أو بأنصار غير كفوئين، أو من غير خُطّة مدَبرة مدروسة، أو في ظروف غير مؤاتية.

إنّ الخروج ولو بأقوى سيف في مثل ذلك لا يمكن أن يكون شرطاً لشيءٍ متوقّع، فضلاً عن أن يكون شرطاً لشيءٍ هامّ مثل الإمامة.

هذا إذا صدق على مثل ذلك اسم غير الانتحار.

وقد أرشد الإمام السجاد (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة في احتجاجه على مَن

٢٣

اعترض عليه بترك الجهاد، والالتزام بالحجّ، بقوله: تركتَ الجهاد وصعوبته، وأقبلتَ على الحجّ ولينه، والله عزّ و جلّ يقول: ( إن الله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ... * إلى قوله وبشّر المؤمنين ) . [ التوبة: 9 الآية 111 ].

فقال الإمام (عليه السلام): إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ (1) .

وهو المستفاد من كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: (أما والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت أوّلها بكاس آخرها) (2) .

ولو كان الخروج واجباً على كل حال، وغير مشروط، لما قال الإمام هذا الكلام.

وفي الجامع الكافي للشريف العلوي: قال الحسن (عليه السلام): ويحقّ على مَن أراد الله والانتصار للدين: أن لا يُظهر نفسه، ولا يعود بسفك دمه ودماء المسلمين، وإباحة الحريم، إلاّ ومعه فئة المتديّنين يوثق بطاعتهم ووفائهم (3) .

إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصى إلى علي (عليه السلام)، قال: يا أخي، عليك بالصبر، إلاّ أن تجد أعواناً وأنصاراً، فاشهر سيفك حينئذٍ، فإن لم تجد أعواناً وأنصاراً، فاحقن دمك، فإنّ القوم لم ينسوا قتل ساداتهم في مواقفك التي شرّفك الله تعالى بها في دينه (4) .

نعم، قد يضطرّ الواقع إنساناً أبيّاً، إلى الإقدام على الخروج المسلّح، وإن لم توجد شروطه، لحاجة الوضع إلى إثارة، فيضحّي بنفسه فداءً من أجل قضيّته. وهذا وإن كان لا يُسمّى في قاموس اللغة خروجاً، ولا في مصطلح الفقه جهاداً، ولا يمكن أن يُعتبر في حسابات العقل واجباً، ولا في موازين

____________________

(1) الاحتجاج، للطبرسي (ص 315)، وانظر الكافي (4:257) ح 24، وثواب الأعمال (71: 7)، ووسائل الشيعة (11: 95) تسلسل (14330).

(2) الإفصاح للمفيد (ص 46)، نهج البلاغة (315).

(3) الاعتصام (5:408).

(4) المقنع في الإمامة، للسدّآبادي (ص 99) وانظر (ص 109).

٢٤

المنطق شرطاً لشيء، فضلاً عن الإمامة.

إلاّ أنّه يحتوي على فضيلة هذه العناوين كلّها بأعظم شكل؛ إذ إنّه يُعدّ في قاموس النهضات بطولة، وفي وجدان الشعوب تضحية، وفي روح الدين فداء وعلى صفحات التاريخ خلوداً ويكون قاعدةً لإصلاحات كبيرة، وباروداً لانفجارات مهيبة، بعيدة أو قريبة، كما كانت نهضة الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام) (1) .

وأخيراً: فإنّ من الممكن نفي اشتراط الإمامة بالخروج بالسيف خاصّة، على أساس المفهوم من حديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دالاًّ على إمامة الحسن والحسين (عليهما السلام) بقوله: (ابناي هذان إمامان، قاما أو قعدا) (2) .

فإنّ القيام لو كان شرطاً للإمامة، والقعود لو كان منافياً لها، لما كان حتّى للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يثبتها للحسنين (عليهما السلام) مع فرض القعود.

ثم إنّ الحسنين (عليهما السلام)، قد استجمعا هذا الشرط، فقاما وناضلا، فما هو المبرّر لفرض القعود في حقّهما؟ وإبراز إمامتهما مع القعود؟ فليس من الحكمة إظهار هذا المعنى، لو كان حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) موجّهاً إليهما بالخصوص.

إلاّ أنّ من الواضح أنّ المراد تعميم الحكم المذكور على الإمامة نفسها، باعتبارها واقعاً واحداً، وعلى الأئمّة جميعهم باعتبارهم قائمين بأمرٍ بعينه.

والمفهوم من الحديث: أنّ الإمامة إذا ثبتتْ حَسَبَ الموازين المتّفق عليها، التي أهمّها النصّ، فإنّ القيامَ بالأمر والقعود متساويان.

____________________

(1) تحدّثنا عن ذلك في رسالة ذكرى عاشوراء والاستلهام من معطياتها فقهيّاً وأدبيّاً. ولا تزال مخطوطة.

(2) حديث متّفق عليه بين المسلمين: صرّح بذلك الشيخ المفيد في النُكَت (ص 48) الفقرة (82)، ورواه الصدوق في علل الشرائع (1: 211) عن الحسن (عليه السلام)، والخزّاز في كفاية الأثر (ص 117) من حديث أبي أيّوب الأنصاري، والمفيد في الإرشاد (ص 220)، وابن شهر آشوب في المناقب (3: 394) وقال: أجمع عليه أهل القبلة، ورواه مجد الدين في التحف (ص 22) وأرسله في حاشية شرح الأزهار (4:522) نقلاً عن كتاب الرياض، ورواه الناصر في ينابيع النصيحة (ص 237) وقال: لا شبهة في كون هذا الخبر ممّا تلقته الأُمّة بالقبول وبلغ حدّ التواتر فصحّ الاحتجاج به.

٢٥

إذَنْ:

فالذي يمكن أن يكون شرطاً لابدّ أن يعمّ الحركة المسلّحة المباشرة، وأن تكون هي وحدة تمثّل تحقّق ذلك الشرط الذي تبتني عليه الإمامة، بل هي متعيّنة، عندما تتهيّأ ظروفها وتتكامل إمكاناتها، أو كما يُشخّص الإمام نفسه ضرورة القيام بها.

ويتحقّقُ ذلك الشرط ضمن وحدات أُخرى تمثّله، وتوصل إلى الأهداف المطلوبة لأجلها الإمامة.

وذلك الشرط هو الإصلاح في الأمة.

وقد عُبّر عنه في مصادر قدماء الزيدية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

في ما رواه الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، قال: بُلّغنا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: (مَنْ أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذرّيتي فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله) (1) .

ولم يختلف أحد من الأُمّة خاصة الشيعة - إمامية وزيدية - في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا على الإمام فحسب، بل على الأمة جمعاء (2) .

لكن هذا الواجب:

أوّلاً: ليس من أصول الدين، بل من فروع العمل؛ ولذا كان وجوبه عامّاً على كلّ الأمة، فلا يمكن أن يؤخذ شرطاً خاصاً، لأصل دينيّ، كالإمامة، ولا على شخصٍ معيّن، كالإمام.

ثانياً: إنّ وجوبه ليس مطلقاً، بل هو مشروط ومقيّد بحالات (3) ، فلا يعلّق عليه أمر ضروري مطلق، كالإمامة التي يعدّها الشيعة من أثافي الإسلام وأعمدته (4) .

____________________

(1) درر الأحاديث النبوية بالأسانيد اليحيوية (ص 48).

(2) شرح الأزهار (4: 582).

(3) شرح الأزهار (4:583).

(4) لاحظ وسائل الشيعة (ج 1 ص 13 - 29) الباب الأول.

٢٦

فمن القيود، عدم التقية:

قال الإمام السجاد (عليه السلام): التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلاّ أن يتقي تقاةً.

قيل: وما تقاته؟

قال (عليه السلام): يخاف جبّاراً عنيداً، أن يَفْرُطَ عليه أو أن يطغى (1) .

ومنها، ظنّ التأثير:

فإنْ لم يظنّ لم يجب.

بل جعل منها في الفقه الزيدي شرط: أن لا يؤدّي إلى مثله أو أنكر، أو تلفه، أو عضو منه، يقبح غالباً.

واحترز بقيد الغالب عمّا لو حصل بتلف القائم إعزاز الدين، كما كان من الحسين (عليه السلام) وزيد (عليه السلام) (2) .

فهو قد جعل حركة الحسين وزيد (عليهما السلام) مثلاً للأمر المعروف والنهي عن المنكر، ولا ريب في أنّهما كذلك، وفي المنظار العام، بل هما من أروع الأمثلة وأعلاها.

وذكره للإمام الحسين (عليه السلام) مع أنّ إمامته ثابتة بالنصّ عند الشيعة إماميّة وزيديّةً دليل على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب آخر، من دون دخالةٍ له في أمر الإمامة.

والذي نستخلصه من هذا البحث:

أنّ الإمامة إنّما هي منصب إلهي يعتمد على النص، خاصّاً كما يقوله الإمامية، أو عاماً كما يقوله الزّيدية، وإذا ثبت النص على إمام بعينه كان الحجّة على الأمة، مهما فعل من قيام أو قعود.

نعم، إنّ من المستلزمات الواضحة للإعلان عن الإمامة هو التحرّك في سبيل مصلحة الدين والمسلمين، والتحرّق من أجل مشاكلهم ومآسيهم، والسعي في حلّ

____________________

(1) حلية الأولياء، لأبي نعيم (3: 140).

(2) شرح الأزهار (4:584)، وانظر الاعتصام (5:425 و 543).

٢٧

أزماتهم بكلّ الطرق والسُبل، ولو بتجريد السيف. ولعلّ اشتراط الخروج والدعوة الذي يظهر من كلمات الزيدية، يُراد كونه شرطاً لتعريف الأمة بالإمام، والإعلان عن بدء حركته الجهاديّة، لا شرطاً في الإمامة وثبوتها للإمام؛ وبهذا يقترب المذهبان.

ولنختم هذا البحث بكلام اثنين من علماء الشيعة: من كبار علماء الزيدية، ومن كبار علمائنا الإماميّة: أمّا من الزيديّة: فعن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) على ما نقل الشريف العلوي في (الجامع الكافي) لمّا سُئل عن خروج زيد (عليه السلام) وقعود جعفر (عليه السلام)؟ أنّه قال: خروج زيد صلّى الله عليه طاعة، وقعود جعفر (عليه السلام) طاعة، وليس للناس أن يحكموا عليهما (1) .

وأمّا الإماميّ فهو الشيخ المحدّث الحافظ، المتكلّم، الفقيه، أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزّاز القمّي، فإنّه قال في كتابه القيّم كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر بعدما أورد النصوص المتضافرة على إمامتهم (عليهم السلام) ما نصّه فإن قال قائل: فزيد بن عليّ، إذا سمع هذه الأخبار، وهذه الأحاديث من ثقات المعصومين، وآمن بها، واعتقدها، فلماذا خرج بالسيف؟ وادّعى الإمامة لنفسه؟ وأظهر الخلاف على جعفر بن محمد؟ وهو بالمحل الشريف الجليل، معروف بالستر والصلاح، مشهور عند الخاص والعام بالعلم والزهد؟ وهذا ما لا يفعله إلاّ معاند أو جاحد، وحاشا زيداً أن يكون بهذا المحل.

فأقول في ذلك، وبالله التوفيق:

إنّ زيد بن علي (عليه السلام) خرج على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا على سبيل المخالفة لابن أخيه جعفر بن محمد (عليهما السلام). وإنّما وقع الخلاف من جهة الناس، وذلك أنّ زيد بن علي (عليه السلام) لَمّا خرج، ولم يخرج جعفر بن محمد (عليهما السلام) توهّم قوم من الشيعة أنّ امتناع جعفر كان للمخالفة. وإنّما كان لضربٍ من التدبير.

فلمّا رأى الذين صاروا للزيدية سلفاً قالوا: ليس الإمام مَنْ جلس في بيته وأغلق بابه وأرخى ستره، وإنّما الإمام مَنْ خرج بسيفه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

فهذا كان سبب وقوع الخلاف بين الشيعة، وأمّا جعفر وزيد (عليهما السلام)، فما كان بينهما خلاف (2) .

____________________

(1) نقله السيد مجد الدين المؤيدي في: لوامع الأنوار (ج 1 ص 447)

(2) كفاية الأثر للخزّار (ص 300 - 302)، وانظر ثورة زيد بن علي (ص 140 - 147).

٢٨

التمهيد

البحث الثاني: إمامة السجّاد زين العابدين (عليه السلام)

اتّفق الشيعة الإمامية على إمامة زين العابدين (عليه السلام):

قال الشيخ المفيد: واتفقت الإمامية على أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نصّ على علي بن الحسين، وأنّ أباه وجدّه نصّا عليه كما نصّ عليه الرسول (عليه السلام)، وأنّه كان بذلك إماماً للمؤمنين (1) .

وقد أقاموا الحجج وجمعوا النصوص الدالة على إمامته (عليه السلام) في كتبهم (2) .

ثمّ إنّ خصال الفضل الموجب للتقدّم ووجوهه، في عصر التابعين، هي: العلم بالدين، والإنفاق في سبيل الله، والزهد في الدنيا (3) .

وقد اجتمعت كلّها في شخص الإمام زين العابدين (عليه السلام).

ولا أظنّ أنّ القول بإمامة السجاد (عليه السلام) في عقيدة الشيعة الإمامية بحاجة إلى الاستدلال، بعد وضوح ذلك، والاتفاق الذي نقله الشيخ المفيد، وإثبات النصوص في صحاحهم المعتمدة.

____________________

(1) أوائل المقالات في المذاهب المختارات (ص 47).

(2) الكافي للكليني (1: 1 - 242)، والإمامة والتبصرة (ص 193) الباب (10)، وكفاية الأثر للخزّاز (ص 230 - 235)، والغيبة للطوسي (ص 5 - 196)، وإثبات الهداة للحر العاملي (3: 1 32).

(3) راجع الإفصاح للمفيد (ص 231).

٢٩

وأمّا الزيديّة:

فالذي يظهر من كلام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (المتوفّى 298) أنّه يلتزم بإمامة السجاد (عليه السلام) بالنصّ على الوصيّة إليه حيث ذكره باسمه الصريح، فقد قال: إنّ الله عزّ وجل أوصى بخلقه على لسان النبي إلى عليّ بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وإلى الأخيار من ذريّة الحسن والحسين، أوّلهم علي بن الحسين، وآخرهم المهدي، ثم الأئمة في ما بينهما (1) .

وهذا الكلام صريح الدلالة على أنّ الوصية كانت إلى الإمام السجاد (عليه السلام) كما كانت لأبيه وعمّه وجدّه، بالتعيين من الله تعالى فهو (عليه السلام) من الأوصياء الذين اختارهم الله للإمامة وثبتت لهم بالاختيار الإلهي.

لكنّ بعض العلماء المعاصرين، من فضلاء الزيدية حاول صرف هذا الكلام عن صريح لفظه، إلى أنّ سيد الساجدين علي بن الحسين (صلوات الله عليه) من دعاة الأئمة (2) ولم يذكره في عداد الأئمة.

فبالرغم من عدم قرينة على هذا الحمل، فإنّه يقتضي أن يكون المهدي أيضاً من دعاة الأئمة، وهو ما لا يلتزم به أحد من الأُمّة!

ونقل السيّد بدر الدين الحوثي عن القاسم (عليه السلام) ما نصّه: وجرى الأمر في ولد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصفوة بعد الصفوة، لا يكون إلاّ في خير أهل زمانه وأكثرهم اجتهاداً وأكثرهم تعبّداً وأطوعهم لله وأعرفهم بحلال الله وحرامه وأقومهم بحقّ الله وأزهدهم في الدنيا وأرغبهم في الآخرة وأشوقهم للقاء الله، فهذه صفة الإمام، فمن استبان منه هذه الخصال فقد وجبت طاعته على الخلائق، فتفهّموا وانظروا:

هل بيننا وبينكم اختلاف في علي بن أبي طالب ثم بعده الحسن بن علي؟

____________________

(1) كتاب فيه معرفة الله والعدل والتوحيد، للهادي، مطبوع في رسائل العدل والتوحيد (2: 82). وأورده بنصّه في المجموعة الفاخرة (ص 221). ونقله السيد بدر الدين الحوثي في رسالة (الزيدية في اليمن) (ص 17).

(2) التحف شرح الزلف (ص 25).

٣٠

أو هل اختلفنا من بعده في الحسين بن علي؟

أو هل اختلفنا في علي بن الحسين؟

أو هل اختلفنا في محمد بن علي؟

أو هل ظهر منهم رغبة في الدنيا؟ أو طلب أموال الناس؟

إلى قوله (عليه السلام): فلو أردنا أن نجحد الحقّ لجحدناهم من بعد الحسين بن علي، وصيّرناه في أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عامّةً (1) .

وهذا النصّ أصرح في التزام الزيدية بإمامة علي بن الحسين السجاد ومحمد بن علي الباقر (عليهما السلام)، حالهم حال الإمامية بلا خلاف في القول بإمامتهم الخاصة.

والذي يظهر من تتبّع أقوال خبراء الملل والنحل أنّ الزيدية القدماء كانوا يلتزمون بإمامة السجاد (عليه السلام)، ولم يختلف الشيعة في إمامته: فالشهرستاني لما ذكر الاختلاف في الإمامة، وذكر مَنْ قال بالنصّ على الحسن الحسين قال: ثم اختلفوا: فمنهم مَن أجرى الإمامة في أولاد الحسن (عليه السلام)، فقال بعده بإمامة ابنه الحسن المثنى ثم ابنه عبد الله...

ومنهم مَن أجرى الوصية في أولاد الحسين، وقال بعده بإمامة ابنه علي بن الحسين زين العابدين، نصّاً عليه، ثم اختلفوا بعده: فقالت الزيدية بإمامة زيد.

وأمّا الإمامية فقالوا بإمامة ابنه محمد بن علي الباقر، نصّاً عليه (2) .

وقال في الجارودية: فساق بعضهم الإمامة من علي إلى الحسن، ثم إلى الحسين، ثم إلى علي بن الحسين زين العابدين، ثم إلى ابنه زيد... (3) .

وقال القاضي النعمان المصري: الزيدية من الشيعة زعموا أنّ مَنْ دعا إلى الله عزّ وجلَ من آل محمد فهو إمام مفترض الطاعة.

قالوا: وكان علي إماماً حين دعا الناس إلى نفسه، ثم الحسن والحسين، ثم زين

____________________

(1) الزيدية في اليمن (ص 17 - 18) عن كتاب (الردّ على الروافض من الغلاة) المخطوط ص 264.

(3) الملل والنحل (1: 27).

(4) الملل والنحل (1: 158).

٣١

العابدين، ثم زيد بن علي... (1) .

ويظهر التزام زيد بإمامة أبيه من الحوار الذي جرى بينه وبين أخيه الإمام الباقر، والذي نقله الشهرستاني، فإنّ زيداً كان يرى الخروج شرطاً في كون الإمام إماماً، فقال له الباقر يوماً: مقتضى مذهبك: والدك ليس بإمام فإنّه لم يخرج قطْ ولا تعرّض للخروج (2) .

فلو لم يكن زيد ملتزماً بإمامة والده السجاد (عليه السلام)، لم يتمّ إلزامُه بما في هذا الحوار.

لكنّ الزيدية المتأخّرين خالفوا ذلك: ففي المعاصرين مَنْ لم يلتزم بإمامة السجاد (عليه السلام) بل يَعُدّهُ من دعاة الأئمة.

وهؤلاء يسوقون الإمامة من الحسين (عليه السلام) الشهيد في كربلاء (سنة 61) إلى الحسن المثنى بن الحسن المجتبى (عليه السلام) ويلقبّونه بالرضا ثم إلى زيد (3) .

ويبدو أنّ الالتزام بعدم إمامة السجاد (عليه السلام) أصبح مذهباً للجارودية في الفترة المتأخّرة عن عهد الهادي إلى الحق، فإنّ الشيخ المفيد نقل إنكارهم أن يكون علي بن الحسين (عليه السلام) إماماً للأُمّة بما توجب به الإمامة لأحد من أئمّة المسلمين (4) .

وقال السيد مانكديم أحمد بن الحسين بن هاشم الحسيني ششديو، في تعيين الإمام: اعلم أنّ مذهبنا أنّ الإمام بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم زيد بن علي، ثم مَنْ سار بسيرتهم (5) .

والملاحظ عدم ذكره للحسن المثنى.

____________________

(1) شرح الأخبار للقاضي (3: 317).

(2) الملل والنحل (1: 156).

(3) التحف شرح الزلف (ص 22 و 24 - 25).

(4) أوائل المقالات (ص 47)، ولاحظ أجوبة ابن قبة الرازي على كتاب (الإشهاد) لأبي زيد العلوي الزيدي المطبوع في إكمال الدين (ص 113) إذ قال له: وأنت لا تعترف بإمامة مثل علي بن الحسين (عليه السلام)، مع محلّه في العلم والفضل عند المخالف والموافق.

(5) شرح الأصول الخمسة، للقاضي (ص 757).

٣٢

ومع أنّ هذه النصوص تدلّ على الخلاف الكبير بين الزيدية في تعيين الإمام بعد الحسين (عليه السلام)، فإنّا يمكننا الوصول إلى رأي واحد من خلال الملاحظات التالية:

فعلى الرأي الأخير، فإنّ منصب الإمامة يبقى شاغراً عمّن يتولاّه من سنة (61) مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، إلى سنة (121) مخرج زيد (عليه السلام).

وحتّى على الرأي الثاني، فالمنصب يبقى شاغراً من سنة 61 إلى سنة 83 مخرج ابن الأشعث ودعوته إلى الحسن المثنى، على الفرض (1) .

ومن المعروف وحسب الأحاديث الصريحة أنّ الأرض لا تخلو من حجّة (2) .

ودلالة الأحاديث المشهورة: مَن مات لا يعرف إمامه أو وليس له إمام، مات ميتةً جاهلية (3) ، على أنّه لابدّ للأُمّة في كل زمانٍ من إمام عدل يعرفونه، ويدينون بإمامته وولايته، وأنّ الجاهل بالإمام خارج عن ملّة الإسلام، واضحة صريحة.

فخلوّ الفترة بين (61) إلى (83) أمر لا ينطبق على هذه الأصول.

على أنّ القول بإمامة الحسن المثنّى، وإن التزم به بعض المتأخّرين من الزيدية، استناداً إلى ما قيل من أنّ: عبد الرحمن بن الأشعث قد دعا إليه، وبايعه، فلمّا قُتِلَ

____________________

(1) ولا يمكن الالتزام بإمامة الحسن ولا زيد، قبل خروجهما، إذا كان الخروج شرطاً للإمامة، كما يقول هؤلاء، وحسب تفسيرهم للخروج.

(2) الكافي (1 ص 6 12) والإمامة والتبصرة (ص 157 - 163) ب (2) وإكمال الدين (ص 10)

(3) الكافي (1 ص 308) والإمامة والتبصرة (ص 219 - 220) ب (18) وح 50 ب 11، وانظر: بحار الأنوار (ج 23 ص 76 - 95)، ورواه في (الجامع الكافي) كما في الاعتصام (5: 409) وقال: رواه الهادي في الأحكام (2: 466) ودرر الأحاديث اليحيوية (ص 177)، ورواه المفيد في الإفصاح (ص 28) وعبّر عنه بالمتواتر، وعبّر عنه الشهيد الثاني بقوله: (من مشاهير الأحاديث بين العامّة والخاصّة وقد أوردها العامّة في كتب أصولهم وفروعهم) جاء ذلك في كتاب: حقايق الإيمان (ص 151). ورواه من العامة الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1: 77 و 117)، والطبراني في المعجم الكبير (10: 350) رقم (10687) وبلفظ (بغير إمام) في (19: 388) رقم (910) ومجمع الزوائد (5: 225)، وقد جمع الحديث بألفاظه المختلفة الشيخ مهدي الفقيه في كتابه (شناخت إمام) باللغة الفارسية وهو مطبوع.

٣٣

عبد الرحمن توارى الحسن حتّى دُسّ إليه مَن سقاه السمَ، فمات، وعمره ثلاث وخمسون سنة (1) ، وهو أمر لم يثبت.

لأنّ الشيخ المفيد قال: ومضى الحسن [ المثنّى ] ولم يدّع الإمامة، ولا ادّعاها له مدّعٍ (2) .

ولو فرضنا صحّة الدعوة منه، أو إليه، فهل مجرّد الدعوة ثمّ الاختفاء والموت يكفي لإسناد منصب الإمامة العظيم إلى شخص؟

وهل يقنع العقل بمجرّد ذلك لإسناد الإمامة إلى شخص غير الإمام السجاد (عليه السلام)؟

فكيف يُعرض عن ملاحظة الإنجازات السياسية والدينية الهائلة التي قدّمها الإمام السجاد (عليه السلام) طيلة فترة إمامته (61 - 95) والتي سنستعرضها في الفصول القادمة؟.

وهل تُقاس هذه الجهود بمجرّد الدعوة ثم الاختفاء والموت؟

وهل مثل تلك الدعوة على قصرها تحقّق المطلوب من روح شرط الخروج؟ مع أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) قد أعلن الدعوة صريحة إلى إمامة نفسه، وعلى رؤوس الأشهاد، وعلى مدى أربع وثلاثين عاماً كما سيأتي.

وأمّا العامّة:

فقد قال الذهبي في ترجمة الإمام السجاد: السيد الإمام، زين العابدين، وكان له جلالة عجيبة، وحقّ له ذلك، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى: لشرفه، وسؤدده، وعلمه، وتألّهه، وكمال عقله (3) .

وقال المناوي: زين العابدين، إمام، سند، اشتهرت أياديه ومكارمه، وطارت بالجوّ في الوجود حمائمه، كان عظيم القدر، رحب الساحة والصدر، رأساً لجسد

____________________

(1) عمدة الطالب (100 - 101) وانظر هامشه.

(2) الإرشاد إلى أئمة العباد للمفيد (ص 197) وقد فصل الحديث عنه وقال: كان جليلاً رئيساً فاضلاً ورعاً وكان يلي صدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في وقته، وله مع الحجاج خبر رواه المفيد في الإرشاد ص (196).

(3) سير أعلام النبلاء (4: 398).

٣٤

الرئاسة، مؤمّلاً للإيالة والسياسة (1) .

وقال الجاحظ: أمّا علي بن الحسين بن علي: فلم أر الخارجي في أمره إلاّ كالشيعي ولم أرَ الشيعي إلاّ كالمعتزلي ولم أرَ المعتزلي إلاّ كالعامي، ولم أرَ العامي إلاّ كالخاصيّ، ولم أجد أحداً يتمارى في تفضيله ويشكّ في تقديمه (2) .

وقال الجاحظ أيضاً: وأمّا علي بن الحسين (عليه السلام) فالناس على اختلاف مذاهبهم مجمعون عليه لا يمتري أحد في تدبيره، ولا يشكّ أحد في تقديمه (3) .

وقد ترجَمَ له (عليه السلام) أعلام العامة فلم يذكروه إلاّ بالسيادة والشرف، والتقى والعلم، والعبادة والفضل، والحلم والكرم، والتدبير والحكمة، وكثير منهم وصفه بالإمامة (4) .

وهل يشكّ مسلم مؤمن بالكتاب والسنّة، ومزدان بالعقل والعدل، في تقدّم هذا الإمام على خُلَفاء عصره، وأولويّته بالإمامة والخلافة والحكم؟

الإشارة إلى إمامة السجّاد (عليه السلام):

ولنختم هذا البحث بحديث اتفقت المذاهب الإسلامية الكبيرة على روايته ونقله:

1 - فمن طرق الإمامية:

ما رواه الشيخ أبو جعفر الصدوق محمّد بن علي ابن بابويه القمّي، مسنداً، عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين زين العابدين؟ فكأنّي أنظر إلى ولدي عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطر بين الصفوف (5) .

وروى الصدوق أيضاً، مسنداً عن عمران بن سليم، قال: كان الزهري إذا حدّث عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: حدّثني زين العابدين علي بن الحسين فقال له

____________________

(1) الكواكب الدريّة (2: 139).

(2) عمدة الطالب (3 - 194) عن (رسالة) الجاحظ في فضل بني هاشم، وانظر العلم الشامخ للمقبلي (ص 10).

(3) رسالة الجاحظ، ونقله عنه في كشف الغمّة (1: 31).

(4) انظر: طبقات ابن سعد (5:211)، المعارف لابن قتيبة (ص 214)، حلية الأولياء (3: 133)، تذكرة الحفّاظ (1: 74)، تهذيب التهذيب (7: 304)، النجوم الزاهرة (1: 229)، وغيرها.

(5) أمالي الصدوق (ص 272)، نهاية المجلس (53) وعنه في بحار الأنوار (46 ص 3).

٣٥

سفيان بن عُيَيْنة: ولِمَ تقول له: زين العابدين؟

قال: لأنّي سمعت سعيد بن المسيّب، يحدّث عن ابن عبّاس أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إذا كان... (1) وروى الحديث بلفظه.

ورواه في العلل أيضاً مسنداً إلى الصادق (عليه السلام) موقوفاً عليه (2) .

2 - من طرق العامّة:

ما رواه الحافظ ابن عساكر، بسنده، عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن أبي الزبير قال: كنّا عند جابر، فدخل عليه علي بن الحسين، فقال له جابر: كنت عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فدخل الحسين، فضمّه إليه وقبّله وأقعده إلى جنبه، ثم قال: يولد لابني هذا ابن يقال له علي بن الحسين إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بُطنان العرش: ليقم سيّد العابدين فيقوم هو (3) .

وروى ابن المديني عن جابر أنّه قال للإمام الباقر محمد بن علي، وهو صغير: رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يسلّم عليك فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً عنده، والحسين في حجره وهو يداعبه، فقال: يا جابر، يولد له مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيّد العابدين فيقوم ولده، ثم يولد له ولدُ اسمه محمد، فإنْ أدركْتَه يا جابر فأقرئه منّي السلام (4) .

3 - من طرق الزيديّة:

ما رواه السيد الموفق بالله قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد: أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله: أخبرنا الحسن بن علي بن زكريا: حدثّنا العباس بن بكّار: حدثّنا أبو بكر الهذلي، عن أبي الزبير، عن جابر قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول:

____________________

(1) علل الشرائع (ص 87) وعنه في بحار الأنوار (46 ص 2 3) وعوالم العلوم (ص 17).

(2) علل الشرائع (1: 229) وعنه بحار الأنوار (46 ص 3).

(3) تاريخ دمشق ص 26 الحديث 34 (من ترجمة الإمام زين العابدين (عليه السلام)) ومختصره لابن منظور (17: 234).

(4) الصواعق المحرقة (ص 120) ولسان الميزان (5: 168).

٣٦

يُولَد للحسين ابن يُقال له علي، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيّد العابدين (1) .

ورواه الشهيد المحلّي أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيّد العابدين فيقوم عليّ بن الحسين (2) .

أمّا دلالة الحديث فإنّه مع تعدّد طرقه وشواهده، التي يؤيّد بعضها بعضاً، فيه الإشارة إلى الإمام السجاد، من نوع النصّ الخفيّ الذي يلتزم به كثير من الزيديّة على إمامته، وإلاّ فدلالته على تشخّصه وفضله وشرفه على أهل عصره، ممّا لا يُرتاب فيه.

خير أهل الأرض:

وروى الباقر (عليه السلام) عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال لابنه الحسين لمّا أخذ شَهْربانُوَيْه أُمّ علي بن الحسين: يا أبا عبد الله، لتلدنّ لك خير أهل الأرض. فولد عليّ بن الحسين (عليه السلام) (3) .

ومن المعلوم أنّ خير أهل الأرض في عصره لابدّ أن يكون هو الإمام؛ لأنّه الأفضل.

دعوة الإمام إلى إمامة نفسه:

ثم إنّ الإمام السجاد (عليه السلام) قد دعا إلى إمامة نفسه في كثير من أقواله وتصريحاته ومنها قوله: نحن أبواب الله، ونحن الصراط المستقيم، ونحن عيبة علمه، ونحن تراجمة وحيه، ونحن أركان توحيده، ونحن مواضع سرّه... (4) .

وغير ذلك من النصوص التي سنذكر بعضها (5) .

____________________

(1) كتاب الاعتبار وسلوة العارفين (ص 185).

(2) الحدائق الوردية (ص 137).

(3) الكافي للكليني (1: 466)، وإثبات الوصيّة للمسعودي (ص 145)، وانظر: محاضرات الراغب الأصفهاني (1: 347) ط بيروت وقد نقله في العوالم (ص 6) عن بصائر الدرجات للصفار (ص 335 355)، وانظر البحار (46 - 19 2).

(4) معاني الأخبار للصدوق (ص 31).

(5) لاحظ نهاية الفصل الثاني من كتابنا هذا.

=

٣٧

ومهما يكن: فلو التزمنا بإمامة الإمام السجاد (عليه السلام)، كما تقول به الشيعة الإمامية، وقدماء الزيدية.

أو التزمنا بأهليّته للإمامة، كما نصّ عليه العامة.

أو قلنا إنّه من دعاة الأئمة، كما يقول به المعاصرون من الزيدية.

فإنّ حياة مثله لا يمكن أن تفرّغ من التحرّك السياسي، الذي عرفنا أنّه من مهمّات الإمامة، بل من صميم معناها.

وبعد:

فلو أعرضنا عن كل ذلك، فإنّ ما نستعرضه في الفصول القادمة، تعطينا الأدلّة والبراهين الصادقة، والشواهد العينيّة البيّنة، على أنّ الإمام السجاد (عليه السلام)، لا أنّه لم يعتزل السياسة ولم يبتعد عن شؤونها، فحسب، بل إنّه خطّط لعمله السياسي أدقّ الخطط، ودخل معمعة السياسة من الأبواب الواسعة، والخطيرة، بما حقّق أهداف الإمامة بأحسن شكل.

وأهم ميزات هذه الخطط أنّها كانت دقيقة حتّى أنّها خفيت على الكثيرين من المؤرّخين والدارسين، فراحوا ينكرونها وينفونها.

وأمّا الحكّام والساسة المعاصرون للإمام، فقد أربكتهم تلك السياسة الدقيقة، ولم يتمكّنوا من مقاومتها، ولا الوقوف في وجهها، فلم يكن منهم إلاّ مسايرتها، والتسليم أمامها، وبالتالي التراجع عن كثير من مواقع السلطة التي بنوا عليها نظام حكمهم، وأسّسوا عليها أساس ظلمهم وغصبهم للخلافة.

وتفصيل هذا الإجمال، تتكفّله الفصول التالية، بعون الله.

____________________

=

ويبدو أنّ البحث عن إثبات إمامة السجاد قد كانَ مُثاراً منذ القرن الرابع فقد قام واحد من كبار علماء الإماميّة وهو العيّاشي السمرقندي محمد بن مسعود السلمي صاحب التفسير المعروف، بتأليف كتاب باسم (إثبات إمامة علي بن الحسين (عليه السلام))، ذكره النجاشي في رجاله (ص 352) رقم (944)، وانظر الفهرست للطوسي (ص 164) رقم (605)، ولاحظ الفهرست لابن النديم (ص 325).

٣٨

الفَصْلُ الأوّل

أدْوَارُ النِضَالِ في حَيَاةِ الإمام (عَلَيْهِ السَلامُ):

أوّلاً: في كربلاء.

ثانياً: في الأسر.

ثالثاً: في المدينة.

٣٩

٤٠