الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة30%

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 183

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة
  • البداية
  • السابق
  • 183 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99591 / تحميل: 7444
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الثاني: الصحابة في القران الكريم

وتعرّض القرآن الكريم لأحوال الصحابة وصفاتهم، منذ بداية بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحتّى وفاته في كثيرٍ من سوره وآياته ...

لقد قسّم القرآن الكريم الملتّفين حول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مقابل الكافرين، والذين أُوتوا الكتاب، إلى ثلاثة طوائف، هم:

١ - الذين آمنوا.

٢ - الذين في قلوبهم مرض.

٣ - المنافقون.

والجدير بالدراسة والبحث وجود عنوان:( الّذين في قلوبهم مرض ) إلى جنب( الّذين آمنوا ) في بعض السِّوَر المكيّة،

ففي سورة (المدّثّر)، المكيّة بالإجماع، وهي من أُوليات السِّوَر، جاء قوله تعالى:

( وَما جَعلنا أصحَابَ النَّارِ إلاّ مَلائكةً * وما جَعلنَا عِدّتهُم إلاّ فِتنَةً للَّذينَ كَفرُوا ليستيقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيماناً ولايَرتَابَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ والمؤمنُونَ وليقُولَ الَّذينَ في قُلوبِهمِ مَرضٌ والكافِرونَ ماذا

٢١

أرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ) (١) .

دلّت الآية المباركة على وجود أُناس( في قلوبهم مرض ) حول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ الأيّام الأُولى من الدعوة الإسلامية، و (المرض) بأيِّ معنىً فُسّر، فهؤلاء غير المنافقين الذين ظهروا بالمدينة المنوَّرة، قال الله تعالى:

( وممّن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة ) (٢) .

فالّذين في قلوبهم مرضٌ لازموا النبيّ منذ العهد المكّي، حيث كان الإسلام ضعيفاً، والنبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مطارداً.

أمّا المنافقون فقد ظهروا بعد أن ظهرت شوكة الإسلام، فتظاهروا بالإسلام؛ حفظاً لأنفسهم وأموالهم وشؤونهم.

وبناءً على هذا، فكلُّ آيةٍ من القرآن الكريم، ورد في ظاهرها شيءٌ من الثناء على عموم الصحابة، فهي - لو تمّ الاستدلال بها - محفوفة بما يخرجها عن الإطلاق والعموم وتكون مخصّصةً بـ( الّذين آمنوا ) حقيقةً، فلا يُتوهّم شمولها للذين في قلوبهم مرضٌ، والمنافقين، الذين وقع التصريح بذمّهم - كذلك - في كثيرٍ من الآيات(٣) .

وفيما يلي، نستعرض الآيات القرآنية التي نزلت في الصحابة، في مختلف مراحل الدعوة الإسلامية، وفي مختلف ظروفهم من حيث القرب والبُعد عن الأُسس الثابتة في العقيدة والشريعة، ومن حيث درجة الانقياد لله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الأوامر والنواهي:

____________________

١) سورة المدّثر ٧٤: ٣١.

١) سورة التوبة ٩: ١٠١.

٣) اُنظر تفسير الميزان ٢٠: ٩٠.

٢٢

آيات المدح والثناء:

ذكر غير واحدٍ من المؤلفين، آياتٍ من القرآن الكريم للاستدلال، على أنّ الله قد أثنى في كتابه على الصحابة بنحو العموم:

الآية الأُولى:

قال تعالى:

( كُنتُمْ خيرَ أُمَّةٍ أُخرجَتْ للنّاسِ تأمُرُونَ بالمعروفِ وتَنهَونَ عَنِ المنكرِ وتؤمنونَ باللهِ ) (١) .

قالوا: نزلت هذه الآية في المهاجرين من مكّة إلى المدينة، كما ورد عن عبدالله بن عبّاس أنّه قال:

(هم الذين هاجروا مع رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - من مكّة إلى المدينة)(٢) .

وعن عِكْرِمة ومقاتل:

(نزلت في ابن مسعود واُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة، وذلك أنّ مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: إنَّ ديننا خيرٌ مما تدعوننا إليه، ونحن خيرٌ وأفضل منكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ...)(٣) .

لكنّ قول ابن عباس لو ثبت مقيّدٌ بما أشرنا إليه، فلا يكون المراد عموم المهاجرين الشامل للذين في قلوبهم مرضٌ قطعاً.

كما أنّ قول عِكْرِمة وأمثاله ليس بحجّة.

____________________

١) سورة آل عمران ٣: ١١٠.

٢) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ١: ٣٩٩. والدر المنثور، للسيوطي ٢: ٢٩٣. وبنحوه في الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ٤: ١٧٠.

٣) أسباب نزول القرآن، للواحدي: ١٢١.

٢٣

والآية حتّى لو كانت نازلةً في موردٍ خاصٍ إلاّ أنّ المفسرين وسّعوا المفهوم ليشمل جميع الأُمّة الإسلامية، كما يقول ابن كثير:

(والصحيح أنَّ هذه الآية عامّة في جميع الأُمّة كلّ قرنٍ بحسبه)(١) .

واختلف العلماء في تشخيص من تشمله الآية، هل هو الأُمّة بأفرادها فرداً فرداً؟

أي أنّ كلّ فرد من الأُمّة الإسلامية هو موصوف بالخيريّة، أو هو الأُمة إجمالاً، أي: بمجموعها دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً.

فذهب جماعةٌ إلى الرأي الأول، ومنهم: الخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وابن عبدالبر القرطبي، وابن الصلاح، وابن النجّار الحنبلي(٢) .

فالآية في نظرهم شاملة لجميع أفراد الأُمّة وهم الصحابة آنذاك، فكُلُّ صحابيٍّ يتصف بالخيرية والعدالة مادام يشهد الشهادتين.

وذهب آخرون إلى الرأي الثاني، وهو اتصاف مجموع الأُمّة بالخيرية دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً، وقيّدوا هذه الصفة بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يتصف بالخيريّة من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، سواء كان فرداً أو أُمّة.

قال الفخر الرازي:

( المعنى أنّكم كنتم في اللّوح المحفوظ خير الأُمم وأفضلهم، فاللاّئق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة وأن تكونوا منقادين مطيعين في كلِّ ما يتوجّه عليكم من التكاليف والألف

____________________

١) تفسير القرآن العظيم ١: ٣٩٩.

٢) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. الإصابة ١: ٦. والاستيعاب ١: ٢. ومقدمة ابن الصلاح: ٤٢٧. وشرح الكوكب المنير ٢: ٢٧٤.

٢٤

واللاّم في لفظ (المعروف)، ولفظ (المنكر) يفيدان الاستغراق، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلِّ معروف وناهين عن كلِّ منكر (تأمرون) المقصود به بيان علة تلك الخيرية)(١) .

وقال الفضل الطبرسي:

(كان بمعنى صار، ومعناه: صرتم خير أُمّة خلقت لأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر، وإيمانكم بالله، فتصير هذه الخصال شرطاً في كونهم خيراً)(٢) .

وقال القرطبي:

(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر: مدح لهذه الأُمّة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم)(٣) .

فالخيرية تزول إن زالت علّتها، وذهب إلى ذلك - أيضاً - نظام الدين النيسابوري(٤) ، والشوكاني(٥) ، وآخرون.

وذكر ابن كثير قولين - في ذكر الشروط - أحدهما لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والآخر لعمر بن الخطّاب:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

( خيرُ الناس أقرأهم، وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم ) (٦) .

____________________

١) التفسير الكبير ٨: ١٨٩ - ١٩١.

٢) مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي ١: ٤٨٦.

٣) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ٤: ١٧٣.

٤) تفسيرغرائب القرآن، للنيسابوري ٢: ٢٣٢.

٥) فتح القديرللشوكاني: ٣٧١.

٦) تفسيرالقرآن العظيم: لابن كثير ١: ٣٩٩

٢٥

فالآية الكريمة ناظرةٌ إلى مجموع الأُمّة، أمّا الأفراد، فقد وضع (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مقياساً لاتصافهم بالخيرية، كما جاء في قوله.

وفي حجةٍ حجّها عمر بن الخطاب رأى من الناس دعةً، فقرأ هذه الآية، ثم قال:

(من سرّه أن يكون من هذه الأُمّة فليؤدِ شرط الله فيها)(١) .

وذهب أحمد مصطفى المراغي إلى أنّ الخيريّة مختصةٌ بمن نزلت فيهم الآية في حينها، ثم وسّع المفهوم مشروطاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال:

( أنتم خير أُمّةٍ في الوجود الآن، لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون إيماناً صادقاً، يظهر أثره في نفوسكم وهذا الوصف يصدُق على الذين خوطبوا به أولاً، وهم النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل وما فتئت هذه الأُمّة خير الأُمم حتّى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(٢) .

وأضاف محمد رشيد رضا: الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرّق، إلى شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال:

( شهادة من الله تعالى للنبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ومن اتّبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها، بأنّها خير أُمّةٍ أُخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث، ومن اتّبعهم فيها كان له حكمهم لامحالة، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الإسلام، واتّباع - النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم - إلاّ الدعوى وجعل الدين جنسية لهم، بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحجّ البيت الحرام والتزم الحلال واجتنب الحرام، مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام، إلاّ بعد القيام بالأمر

____________________

١) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ١: ٤٠٤.

٢) تفسير المراغي، لأحمد مصطفى المراغي ٤: ٢٩.

٢٦

بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالاعتصام بحبل الله، مع اتّقاء التفرّق والخلاف في الدين ...

إنّ هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الإيمان الكامل، لم تكن لكلِّ من يُطْلق عليه المحدّثون اسم الصحابي )(١) .

ومن خلال طرح هذه الآراء نجد أنّ الرأي الثاني هو الأقرب للمعنى المراد، فإنَّ الآية ناظرةٌ إلى مجمل الأُمّة وليس إلى الأفراد فرداً فرداً.

وأكدّ الدكتور عبدالكريم النملة هذا المعنى فقال:

( لا يجوز استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، فالمراد مجموع الأُمّة من حيث المجموع، فلا يُراد كل واحد منهم أي من الصحابة -)(٢) .

الآية الثانية :

قال تعالى:

( وكذلِكَ جعلناكُم أُمَّةً وسطاً لِتكونُوا شُهداءَ على النّاسِ ويكونَ الرّسُولُ عليكم شهيداً ) (٣).

جعل الله تعالى المسلمين أُمّةً وسطاً بين الأُمم، لا سيّما اليهود والنصارى، فالأُمّة الوسط بعيدة عن التقصير والغُلوّ في الاعتقاد وفي المواقف العملية من الأنبياء، قال النيسابوري:

(إنّهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط، والغالي والمقصّر في شأن الأنبياء لا كالنصارى ولا كاليهود)(٤) .

ويُطْلق الوسط - أيضاً - على الخيار والعدل.

____________________

١) تفسير المنار ٤: ٥٨ - ٥٩.

٢) مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف: ٨٢.

٣) سورة البقرة ٢: ١٤٣.

٤) تفسير غرائب القرآن ١: ٤٢١.

٢٧

قال الزمخشري: ( وقيل للخيار وسط لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعوار، والأوساط محميّة محوطة.. أو عدولاً لأنَّ الوسط عدل بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض)(١) .

وقال القرطبي نحو ذلك(٢) .

والوسطيّة بمعنى الاعتدال بين الإفراط والتفريط هي المستعملة في آراء المشهور من المفسّرين(٣) .

فهذه الآية كسابقتها في أنّ المراد مجموع الأُمّة من حيث المجموع، وإنْ حاول جماعةٌ - ومنهم: عبدالرحمان ابن أبي حاتم الرازي، والخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وابن عبدالبر القرطبي، وابن الصلاح، وابن النجّار(٤) - تنزيلها على الأفراد، فجعلوا كلّ مسلمٍ وسطاً وعدلاً، فالصحابة جميعهم عدولٌ بشهادة القرآن لهم.

قال الفضل الطبرسي:

( إنّه - تعالى - جعل أُمّة نبيه محمّدٍ - صلّى الله عليه وآله وسلّم - عدلاً وواسطة بين الرسول والناس، ومتى قيل: إذا كان في الأُمّة من ليس هذه صفته، فكيف وصف جماعتهم بذلك؟

فالجواب: إنّ المراد به من كان بتلك الصفة، ولأنّ كلَّ عصرٍ لا يخلو من جماعةٍ هذه صفتهم)(٥) .

____________________

١) الكشّاف ١: ٣١٨.

٣) الجامع لأحكام القرآن ٢: ١٥٤.

٤) مجمع البيان ١: ٢٤٤. وتفسير المراغي ٢: ٦. وتفسير المنار ٢: ٥.

٥) الجرح والتعديل ١: ٧. والكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة ١: ٦. والاستيعاب ١: ٢. ومقدمة ابن الصلاح: ٤٢٧. وشرح الكوكب المنير ٢: ٤٧٤.

٦) مجمع البيان ١: ٢٢٤.

٢٨

وجعل أحمد مصطفى المراغي شرطاً للاتصاف بالعدالة والوسطيّة، وهو اتّباع سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فمن لم يتّبعْها يُعتبر خارجاً عن هذه الأُمّة فقال:

( فنحن إنّما نستحق هذا الوصف إذا اتّبعنا سيرته وشريعته، وهو الذي يحكم على من اتّبعها، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أُخرى، وانحرف عن الجادّة، وحينئذٍ يكون الرسول بدينه وسيرته حجّةً عليه بأنّه ليس من أُمتّه.. وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين )(١) .

وذهب إلى هذا الرأي محمد رشيد رضا في تفسير المنار(٢) .

وخصّص العلاّمة الطباطبائي هذه الصفة بالأولياء دون غيرهم، فقال:

(ومن المعلوم أنّ هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأُمّة، إذ ليست إلاّ كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم)(٣) .

وقال - أيضاً -:

( فالمراد بكون الأُمّة شهيدةً أنّ هذه الشهادة فيهم، كما أنّ المراد بكون بني إسرائيل فُضّلوا على العالمين، أنّ هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف بها كلُّ واحدٍ منهم، بل نُسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه )(٤) .

وممّا يشهد على أنَّ المقصود ليس أفراد الأُمّة، هو أنَّ الذين ذهبوا إلى حجيّة إجماع الأُمّة استندوا إلى هذه الآية، واعتبروا إجماع الأُمّة هو الحجّة، دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً، كما حكى عنهم الشريف

____________________

١) تفسير المراغي ٢: ٦.

٢) تفسير المنار ٢: ٥.

٣) الميزان في تفسير القرآن ١: ٣٢١.

٤) الميزان في تفسير القرآن ١: ٣٢١.

٢٩

المرتضى(١) وأبو حيان الأندلسي(٢) .

وأكدّ علاء الدين البخاري على أنّ المقصود هو مجموع الأُمّة فقال:

(فيقتضي ذلك أن يكون مجموع الأُمّة موصوفاً بالعدالة، إذ لا يجوز أن يكون كلُّ واحدٍ موصوفاً بها؛ لأنّ الواقع خلافه)(٣) .

وبعد، فإنَّ من غير الصحيح الاستدلال بالآية الكريمة على عدالة الصحابة أجمعين، أمّا على تفسير العلاّمة الطباطبائي فالأمر واضح، وأمّا على ما ذكرنا سابقاً من ضرورة لحاظ آيات القرآن الكريم كلّها، وضمّ بعضها إلى البعض الآخر، فهي وإنْ شملت الأفراد لكن(الذين آمنوا) فقط، دون(الذين في قلوبهم مرض) و(المنافقين) ، وأمّا على أقوال الجمهور، فلا يمكن أن يكون المقصود أفراد الأُمّة واحداً واحداً ليستفاد منها عدالة الصحابة، لأن الواقع خلافه، كما نصّ عليه العلاء البخاري.

فالآية الكريمة جعلت المسلمين أُمّةً وسطاً أو عدلاً، وهذه الوسطيّة والعدليّة ممتدة مع امتداد الأُمّة الإسلامية في كلِّ عصرٍ وزمان، فالأُمّة الإسلامية في مراحل لاحقة هي أُمّة وسط في عقيدتها وشريعتها وتطبيقها للمنهج الإسلامي، وفي مرحلتنا الراهنة حينما نقول إنّ الأُمّة الإسلامية أُمّةٌ وسط أو أُمّة عادلة، يصح القول إذا كان المقصود مجموع الأُمّة، أمّا سراية الوسطيّة والعدليّة للأفراد فرداً فرداً فلا تصح، لأنّ الواقع يخالف ذلك، فكثير من المسلمين بعيدون عن الإسلام كلّ البعد في تصوراتهم

____________________

١) الشافي في الإمامة ١: ٢٣٢ وما قبلها.

٢) تفسير البحر المحيط ١: ٤٢١.

٣) كشف الأسرار، لعلاء الدين البخاري، دار الكتاب العربي - بيروت ١٣٩٤ هـ.

٣٠

ومشاعرهم ومواقفهم، فكيف نعمّم العدالة على الأفراد؟

وما نقوله هنا نقوله في حقِّ أفراد الأُمّة في زمن النزول، فالآية مختصة بمجموع الأُمّة، بما فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والعترة الطاهرة، والمهاجرون والأنصار السابقون للخيرات والذين لم يخالفوا الأوامر الإلهيّة والنبويّة، طرفة عين، واستمروا على ذلك حتّى بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

الآية الثالثة:

قال تعالى:

( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تبيَّنَ لهُ الهدى ويتَّبِع غيرَ سبيلِ المؤمنين نولِّه ما تولّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءت مصيراً ) (١) .

استدل البعض على طهارة وعدالة جميع الصحابة فرداً فرداً بهذه الآية الكريمة، ومنهم عبدالرحمان الرازي(٢) .

ووجه الاستدلال:

أنّ الله - تعالى - جمع بين مشاقّة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فيكون اتّباع سبيلهم واجباً، ولا يصح الأمر باتّباع سبيل من يجوز عليهم الانحراف والريبة والفسق.

ولا علاقة للآية بمسألة عدالة الصحابة أبداً كما لا يخفى. ومع التنزل فإنّ الاستدلال بهذه الآية على عدالة جميع الصحابة فرداً فرداً لا يصح من عدة وجوه:

الأوّل :

ذهب كثيرٌ من المفسرِّين والمتكلِّمين إلى أنَّ المقصود بسبيل المؤمنين هو مجموع الأُمّة ومنهم: القصّار المالكي والسبكي(٣) .

____________________

١) سورة النساء ٤: ١١٥.

٢) الجرح والتعديل، لعبدالرحمان الرازي ١: ٧.

٣) المقدمة في الأُصول، للقصّار المالكي: ٤٥. والإبهاج في شرح المنهاج، للسبكي ٢: ٣٥٣.

٣١

الثاني:

المراد بسبيل المؤمنين هو الاجتماع على الإيمان وطاعة الله ورسوله، فإنَّ ذلك هو (الحافظ لوحدة سبيلهم)(١) .

الثالث :

أن يكون سبيل المؤمنين خالياً من الإثم والعدوان، كما ورد في الآيات الكريمة، ومنها: قوله تعالى:

( وتَعاونُوا على البرِّ والتَّقوى ولا تَعاونُوا على الإثمِ والعُدوانِ ) (٢) .

وقوله تعالى:

( يا أيُّها الذين آمنُوا إذا تناجَيتُم فلا تَتَناجَوا بالإثمِ والعُدوانِ ومعصِيةِ الرَّسُولِ وتناجَوا بالبّرِ والتَّقوى ) (٣) .

فالله تعالى ينهى عن التعاون والمناجاة بالإثم والعدوان، لإمكان وقوعه من قبل المسلمين.

الرابع :

اختلف الصحابة فيما بينهم حتّى وصل الحال بهم إلى الاقتتال، كما حدث في معركة الجمل وصفّين، فيجب على الرأي المتقدِّم اتّباع الجميع، اتّباع علي بن أبي طالب (عليه السلام) والخارجين عليه، وهذا محال، واتّباع أحدهم دون الآخر يعني:

عدم اتّباع الجميع، بل البعض منهم، وهذا هو الوجه الصحيح، وهو وجوب اتّباع من وافق الحقّ والشريعة وليس اتّباع كل سبيل.

فالسبيل المقصود هو سبيل المؤمنين الموافق للحق وللأُسس الثابتة في الشريعة، وليس هو سبيل كلِّ فردٍ من أفراد المؤمنين.

وقد أشار ابن قيّم الجوزية إلى استحالة توزيع سبيل المؤمنين على

____________________

١) الميزان في تفسير القرآن ٥: ٨٢.

٢) سورة المائدة ٥: ٢.

٣) سورة المجادلة ٥٨: ٩.

٣٢

الأفراد فقال:

( إنّ لفظ الأُمّة ولفظ سبيل المؤمنين، لا يمكن توزيعه على أفراد الأُمّة وأفراد المؤمنين )(١) .

الآية الرابعة :

قال الله تعالى:

( يا أيُّها النَّبيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المـُؤمِنينَ ) (٢) .

في هذه الآية تطييب لخاطر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ الله حسبه أي كافيه وناصره ومؤيده على عدوه، واختلف في بيان المقصود من ذيل الآية، فقال مجاهد: (حسبك الله والمؤمنون)(٣) .

فجعل المؤمنين معطوفين على الله تعالى، فالله تعالى، والمؤمنون، هم الذين ينصرون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويؤيّدوه.

وذهب ابن كثير إلى جعل المؤمنين معطوفين على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنّ الله تعالى ناصرهم ومؤيّدهم، فقال:

(يخبرهم أنّه حسبهم، أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم)(٤) .

وذكر العلاّمة الطباطبائي كلا الرأيين ورجَّحَ الرأي الأوّل(٥) .

وهنالك قرينة تدل على ترجيح الرأي الأوّل، وهي قوله تعالى:

( ...فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ هو الذي أيَّدَكَ بنصرِهِ وبالمؤمنين ) (٦) .

والآية تُسمّي من كان مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمؤمنين سواء كان الله تعالى

____________________

١) أعلام الموقعين ٤: ١٢٧.

٢) سورة الانفال ٨: ٦٤.

٣) الدُّر المنثور ٤: ١٠١.

٤) تفسير القرآن العظيم ٢: ٣٣٧.

٥) الميزان في تفسير القرآن ٩: ١٢١.

٦) سورة الأنفال ٨: ٦٢.

٣٣

ناصره وناصرهم، أو كان الله والمؤمنون ناصرين له (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا دلالة على أكثر من ذلك.

وقد ذهب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني إلى أنّ الآية تدل على ثبوت عدالة الصحابة أجمعين وطهارتهم(١) .

وجعلوا الآية شاملةً لجميع الصحابة، حتّى الّذين لم يشتركوا في أيّ غزوةٍ من الغزوات، وهذا التعميم بحاجةٍ إلى دليل، ولا يكفي أن نقول:

إنَّ العبرة بعموم اللفظ لابخصوص المورد، فالآية قد نزلت في موردٍ خاصٍ وفي معركة بدرٍ بالخصوص، فكيف نعمّمها على جميع الصحابة حتّى الّذين كانوا يقاتلون في صف المشركين ثمّ أسلموا فيما بعد؟

وتسالم المفسرون على نزول الآية في موردٍ خاص، وهو غزوة بدر، وفي جماعةٍ خاصةٍ من الصحابة، وهم الصحابة الأوائل الذين اشتركوا في الغزوة ولم يتخلّفوا، لا في مطلق الصحابة.

فقيل: أنّها نزلت في الأنصار(٢) .

وقيل: أنّها نزلت في الأربعين الذين أسلموا في بداية البعثة(٣) .

وعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام):

( إنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب ) (٤) .

والجامع المشترك لهذه الآراء أنّها نزلت في الصحابة الذين شاركوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في القتال.

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة في تمييز الصحابة ١: ٦.

٢) التفسير الكبير ١٥: ١٩١. والدر المنثور ٤: ١٠١.

٣) أسباب النزول، للسيوطي: ١٨٣. والدر المنثور ٤: ١٠١.

٤) شواهد التنزيل، للحسكاني ١: ٢٣٠.

٣٤

وبهذا يتضح عدم صحة ما ذهب إليه الخطيب البغدادي، وابن حَجَر العسقلاني، من شمولها لجميع الصحابة، فرداً فرداً، فالمتسالَم عليه أنّ عدد الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدرٍ كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، أمّا بقيّة الصحابة الذين أسلموا فيما بعد، وخصوصاً بعد فتح مكة، فقد كان بعضهم في صفوف المشركين الذين قاتلوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكيف تشملهم الآية التي نزلت لتطييب خاطر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإبلاغه بأنّ الله تعالى كافيه وناصره، على أعدائه الذين جمعوا له، للقضاء عليه وعلى رسالته، وجميعهم من الصحابة الذين أسلموا فيما بعد، كمعاوية، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد وغيرهم!

ومع نزول الآية في الصحابة الأوائل، إلاّ أنّها مشروطة بحسن العاقبة، كما سيأتي فيما بعد(١) .

وهذا كلّه بحسب الأقوال والآراء في معنى الآية ونزولها.

أمّا بالنظر إلى ما قدّمناه فإنّ الآية المباركة تقول للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

(حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المـُؤمِنينَ) .

وهل يعمّ هذا اللّسان غير(الذين آمنوا) من(الذين في قلوبهم مرض) ومن(المنافقين) ؟!

الآية الخامسة :

قال الله تعالى:

( والسّابِقُونَ الاَوّلُونَ مِنَ المهاجرِينَ والأنصارِ والَّذينَ اتّبعُوهُم بإحسانٍ رّضيَ اللهُ عنهُم ورضُوا عنهُ وأعدَّ لهُم جنّاتٍ تجري تَحتَها الأنهارُ خالدِينَ فيها أبداً ) (٢) .

____________________

١) راجع الآية السابعة من هذا الفصل.

٢) سورة التوبة ٩: ١٠٠.

٣٥

في هذه الآية ثناء من الله تعالى للسابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وتصريح منه تعالى برضاه عنهم لما قدّموا من تضحيات في سبيل الله.

واختلف المفسرون في مصداق السابقين على آراء(١) :

الرأي الأوّل: أهل بدر.

الرأي الثاني: الذين صلّوا إلى القبلتين.

الرأي الثالث: الذين شهدوا بيعة الرضوان.

واختلفوا في تفسير التابعين على آراء:

الأوّل: هم الأنصار، على قراءة من حذف الواو من قوله (والذين)(٢) .

الثاني: هم المسلمون الذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار(٣) .

الثالث: هم المسلمون الذين جاءوا بعد عصر الصحابة(٤) .

الرابع: هم المسلمون في كلِّ زمانٍ إلى أن تقوم الساعة(٥) .

واستدل الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني وابن النجّار، حسب رأيهم المعروف بهذه الآية، على رضوان الله تعالى عن جميع الصحابة

____________________

١) مجمع البيان ٣: ٦٤. والجامع لأحكام القرآن ٨: ٢٣٦. والكشاف ٢: ٢١٠. وتفسير القرآن العظيم ٢: ٣٩٨. والدُّر المنثور ٤: ٢٦٩.

٢) التفسير الكبير ١٦: ١٧١.

٣) المصدر السابق ١٦: ١٧٢.

٤) الجرح والتعديل ١: ٨.

٥) الدُّر المنثور ٤: ٢٧٢.

٣٦

الذين عاصروا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإن أسلموا فيما بعد، أو ارتدّوا ثم عادوا إلى الإسلام، حسب تعريفهم للصحابة، وبهذا الرضوان كانوا عدولاً(١) .

وهذا الاستدلال خلاف للواقع، فالآية مختصّة بالمهاجرين والأنصار الذين سبقوا غيرهم في الهجرة والنصرة، من غير(الذين في قلوبهم مرض) و(المنافقين) أمّا التبعيّة لهم فمشروطة بالإحسان، سواءٌ فُسِّر بإحسان القول فيهم كما ذهب الفخر الرازي(٢) ، أو حال كونهم محسنين في أفعالهم وأقوالهم، كما قال المراغي:

(فإذا اتّبعوهم في ظاهر الإسلام، كانوا منافقين مسيئين غير محسنين، وإذا اتّبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض، كانوا مذنبين)(٣) .

فمن لم يُحسِن القول فيهم أو من لا يتّبعهم بإحسان، لا يكون مستحِقاً لرضوان الله - تعالى - فمن أمر بشتم الإمام عليّ (عليه السلام) وذمّه، لا تشمله الآية، فقد جاء في وصيّة معاوية للمغيرة بن شعبة: (لا تترك شتم عليٍّ وذمّه)، فكان المغيرة (لا يدع شتم عليٍّ والوقوع فيه)(٤) .

فكيف يدّعون رضوان الله عنهم، وقد خالفوا شرطه في الاتّباع بإحسان، وخرجوا على أول المؤمنين ووصي رسول ربِّ العالمين، أو من استقرّت له الخلافة ببيعة أهل الحل والعقد حسب رأيهم، وسفكوا في هذا الخروج دماء السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان:

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة ١: ٦. وشرح الكوكب المنير ٢: ٤٧٢.

٢) التفسير الكبير ١٦: ١٧٢.

٣) تفسير المراغي ١١: ١١.

٤) الكامل في التاريخ ٣: ٤٧٢.

٣٧

كعمّار بن ياسر، وذي الشهادتين، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وغيرهم كما هو مشهور؟!

وإضافةً إلى ذلك، فرضوان الله - تعالى - مشروطٌ بحسن العاقبة، كما ورد عن البراء بن عازب، حينما قيل له: ( طوبى لك صحبت النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وبايعته تحت الشجرة)، فقال للقائل: ( إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده)(١) .

وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

( لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ ) (٢) .

الآية السادسة:

قال تعالى:

( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المـُؤمِنينَ إذ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهُمْ فتحاً قرِيباً) (٣) .

أثنى الله تعالى على الصحابة(المؤمنين) الذين بايعوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت الشجرة، وهي بيعة الرضوان، ومصداق الثناء هو رضوان الله عنهم، وإنزال السَكِينة على قلوبهم.

وعلى الرغم من نزول الآية في بيعة الرضوان عام الحديبية، واختصاصها بالمبايعين فقط، وعددهم - حسب المشهور من الروايات - كان ألفاً وأربعمائة(٤) ، وهي بقرينة الآيات الأُخرى مخصّصةً بالذين آمنوا ولم يكن في قلوبهم مرض، واستقاموا على الإيمان، ولم ينحرفوا عن لوازم البيعة، إلاّ أنّ الخطيب البغدادي أدرج جميع الصحابة في هذه الآية،

____________________

١) صحيح البخاري ٥: ١٦٠.

٢) مسند أحمد ٦: ١٩.

٣) سورة الفتح ٤٨: ١٨.

٤) السيرة النبوية، لابن هشام ٣: ٣٢٢. والسيرة النبوية، لابن كثير ٣: ٣٢٤.

٣٨

وتابعه ابن حجر العسقلاني مستشهداً برأيه(١) ، ولهذا ادّعوا عدالة جميع الصحابة كما هو المشهور في تعريفهم للصحابي.

وهذا الادّعاء غير صحيح، فرضوان الله وسكينته مختصّة بالمبايعين الموصوفين بما ذكرناه فقط، أمّا غيرهم فخارج عن ذلك، ولأنّ سبب البيعة هو وصول الخبر بمقتل عثمان من قِبَل المشركين، بعد أن أرسله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مبعوثاً عنه إلى قريش، فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى البيعة على قتال المشركين(٢) .

وهؤلاء المشركون هم الذين أسلموا فيما بعد وأصبحوا من الصحابة، فكيف يشملهم رضوان الله وسكينته، وهم السبب الأساسي في الدعوة إلى البيعة، فكيف يُعقل أن يكون رضوان الله شاملاً للمبايعين، وللمراد قتالهم في آن واحد؟!

وإضافةً إلى ذلك فإنّ الأجر المترتِّب على البيعة موقوفٌ على الوفاء بالعهد، كما جاء في الآية الكريمة:

( إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أيدِيهِمْ فمن نَكَثَ فإنَّما يَنكُثُ على نفسِهِ وَمَنْ أوفى بما عاهَدَ عَلَيه اللهَ فسيؤتيهِ أجراً عظيماً ) (٣)

فرضوان الله وسكينته مشروطةٌ بالوفاء بالعهد وعدم نكثه(٤) .

وكلُّ ذلك مشروطٌ بحسن العاقبة، كما في رواية البراء بن عازب المتقدِّمة، ولم تمضِ على البيعة إلاّ أيّامٌ معدودة حتّى عقد رسول

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة ١: ٦ - ٧.

٢) السيرة النبوية، لابن هشام ٣: ٣٣٠.

٣) سورة الفتح ٤٨: ١٠.

٤) الكشّاف ٣: ٥٤٣. ومجمع البيان ٥: ١١٣. وتفسير القرآن العظيم ٤: ١٩٩.

٣٩

الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معاهدة الصُلْح في الحديبية، فدخل الشك والريب قلوب بعض الصحابة، حتّى خالفوا أوامر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلم يستجيبوا له حينما أمرهم بالحلْق والنحر(١) إلاّ بعد التكرار وقيامه بنفسه بالحلْق والنحر، وهذا يدّل على أنّ لحسن العاقبة دوراً كبيراً في الحكم على البعض بالعدالة وعدمها، فرضوان الله تعالى، إنّما خُصّص بالبيعة، ولا دليل لشموله لجميع المراحل التي تعقب مرحلة البيعة، فمثلاً:

أنّ قاتل عمّار بن ياسر في صفّين، كان من المبايعين تحت الشجرة(٢) ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عمّار:

( قاتِلهُ وسالِبُه في النار ) (٣) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

( ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، عمّار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النّار ) (٤) .

الآية الثامنة :

قال الله تعالى:

( مُحَمّدٌ رسُولُ اللهِ والَّذينَ معَهُ أشدّاءُ على الكفّار رُحماءُ بَينَهُم تراهُم رُكَّعاً سُجَّداً يبتغُونَ فضلاً من اللهِ ورضواناً وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ مِنهُم مَغفِرةً وأجراً عظيماً ) (٥) .

وصف الله تعالى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه بأنّهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، عُرفوا بالركوع والسجود وابتغاء الفضل والرضوان من الله، ووعد تعالى المؤمنين منهم والذين عملوا الصالحات، مغفرةً وأجراً عظيماً.

____________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٥. والكامل في التاريخ ٢: ٢٠٥.

٢) الفصل في الأهواء والملل والنحل ٤: ١٦١.

٣) سِيَر أعلام النبلاء ١: ٤٢٠ - ٤٢٦. والطبقات الكبرى ٣: ٢٦١. وأُسد الغابة ٤: ٤٧. وكنز العمّال ١٣: ٥٣١ / ٧٣٨٣. ومجمع الزوائد ٩: ٢٩٧ وقال: رجاله رجال الصحيح.

٤) صحيح البخاري ٤: ٢٥. وبنحوه في العقد الفريد ٥: ٩٠. والكامل في التاريخ ٣: ٣١٠.

٥) سورة الفتح ٤٨: ٢٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إن حصول مَلَكة الصّدق تتمّ عبر اتّباع التعاليم التالية:

١. الاتّباع لأئمّة الصّدق والسنة: وهم النبي وأهل بيته ( عليه السلام ) هذا الاتّباع شامل لكلّ حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم، لأنّهم؛

( هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَلا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَصَامِتٌ نَاطِقٌ ) (١) .

فينبغي الاتّباع التّام للأئمة الّذين هم ورثة النبيّ لأنّهم( إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا ) (٢) .

٢. معرفة القيمة المعنويّة للصدق: والنتائج الّتي تترتّب عليه( ولسان الصّدق يجعله الله للمرء في الناس خيرٌ له من المال يرثه غيره ) (٣) .

٣. أن يفعل الإنسان الخير فهو يؤدّي إلى الصّدق وترسيخه في نفسه: فكلّما كان فعله للخير كثيراً، كان ذلك باعثاً للصّدق وتوطيده( قدر الرّجل على قدر همّته، وصدقه على قدر مروءته ) (٤) .

٤. التقّرب والالتصاق بالصّالحين وأهل التقوى والصّدق ( وأَلصق بأهل الورع والصّدق ) (٥) .

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٤٧.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٥٤.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ٢٣.

(٤) نفس المصدر: الحكمة ٤٣.

(٥) نفس المصدر: الكتاب ٥٣.

١٤١

٥. الابتعاد عن أهل الكذب: ينبغي للرّجل المسلم أن يتجنّب مؤاخاة الكذّاب، لأنّه( لا يزال يكذب حتى يجيء بالصّدق فلا يُصدّق ) (١) .

أمّا بالنسبة إلى الوضوح فإنّ السّبيل إليه يتسنّى من خلال استعمال العلم والعمل به، حالة الغموض التي تطرأ أو تستولي على الأفراد ناتجة من تخلّف العمل عن العلم، وقد أوضح ( عليه السلام ) إنّ عدم الوضوح لا يوصل إلى هدف وحاجة.

( فإنّ العامل بغير علمٍ كالسّائر ( السّابل - السّابك ) على غير طريق، فلا يزيده بُعده عن الطّريق الواضح إلاّ بُعداً عن حاجته، والعامل بالعلم كالسّائر على الطرّيق الواضح ) (٢) .

٢. الشموليّة والاستيعاب

إنّ الشّموليّة التي أضفاها علي ( عليه السلام ) بين أهل الكوفة هي نفس الشمولية التي نزل بها القرآن؛ لأنّ علياً والقرآن صنوان متلازمان لا يفترقان( وإنّ الكتاب لمعي، ما فارقته مذ صحبته ) (٣) .

لذا عندما نقول: إنّ من الصّفات الثّقافية الّتي نشرها علي ( عليه السلام ) الشّمولية والاستيعاب، فإنّ ذلك يعني أنّ من صفات القرآن الشمولية والاستيعاب؛ لأنّ علياً هو القرآن الناطق، والكتاب الكريم هو القرآن الصادق.

____________________

(١) إرشاد القلوب: ١/٣٣٨.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١٥٤.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ١٢٢.

١٤٢

قد يُستدرك بالسؤال من أين لعلي أن يكون رفيع الغاية وشامل الحَلَبة؟

لقد رضع علي التقوى، وزُقّ العلم من لدن أن كان صبياً( وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ) (١) .

نعم يُرفع له ( عليه السلام ) كل يومٍ من أخلاق النّبي علماً، وأفصح عن نوع هذه العلوم وتمامها وشمولها بقوله:( تَاللَّهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالاتِ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ وَتَمَامَ الْكَلِمَاتِ، وَعِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَ ضِيَاءُ الأَمْرِ ) (٢) .

تكميلاً لِما تقدّم يظهر رأس العلّة في قول الإمام ( عليه السلام ):

( سَلوني قبل أن تفقدوني، فو الله ما من أرض مخصبة ولا مجدبة، ولا فئة تضلّ مِئة أو تهدي مِئة، إلاّ وأنا أعلم قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة ) (٣) .

هذه الصفة في التسلّط العلمي تفرّد بها الإمام دون غيره، ما أحد قال على المنبر سَلوني غير عليّ(٤) .

الإمام ( عليه السلام ) بقوله: سلوني خلق نوعاً من التحدّي في الإجابة على أي سؤال يخطر في أذهانهم، وحرّضهم على السؤال قبل أن يفقدوه، وقبل فوات الفرصة ومرورها، وحرّك فيهم دواعي الاطّلاع والمعرفة( والله لو شئت أن

____________________

(١) نفس المصدر الخطبة ١٩٢.

(٢) نفس المصدر الخطبة ١١٩.

(٣) أمالي الطوسي: ٥٨.

(٤) مناقب آل أبي طالب: ٢/٤٨.

١٤٣

أخبر كلّ رجلٍ منكم بمخرجه وموْلِجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، أَلا وإنّي مفضيه إلى الخاصّة ممّن يُؤمن ذلك منه ) (١) .

( ولو تعلمون ما أعلم ممّا طُوي عنكم غيبُه ) (٢) .

بعد هذا العرض المقتضب لمصدر ومنبع الشّمولية والاستيعاب والتسلّط العلمي عند الإمام، نريد أن نعرف مدى العمل بهذه الصفة.

إنّ الرّوحية الإسلامية الواسعة الّتي تسع حتى غير المسلم وتستوعبه، قد عمل بها الإمام ( عليه السلام ) وأوصى بها( وأحسن إلى جميع النّاس كما تحّبّ أن يُحسن إليك، وارضَ لهم ما ترضاه لنفسك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وحسّن مع جميع النّاس خلقك ) (٣) .

( فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق ) (٤) .

في هذه الفقرات يوصي الإمام بأن يكون التعامل حسناً وطيباً وشاملاً لجميع الناس، ويأمر بتحسين الأخلاق مع كلّ النّاس، وأن يكون هناك في المحبّة لهم واللّطف بهم، وهذه الأخلاق الّتي يوصي بها الإمام تشمل حتى مَن كان لديه انتماء ديني آخر، عن محمد بن أبي حمزة عن رجل بلغ به أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال: مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام )( ما هذا؟

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٧٥.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١١٦.

(٣) نفس المصدر: الكتاب: ٣١، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٣١٢.

(٤) نفس المصدر: الكتاب: ٥٣.

١٤٤

فقالوا: يا أمير المؤمنين نصراني قال: فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ):استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه! أنفقوا عليه من بيت المال ) (١) .

يكرّر الإمام ( عليه السلام ) التذكير لمَن يتصدى المسؤولية، أن يتجاوز الحدود والأُطر الضيّقة في المحبّة والكره من حدود نفسه وأسرته إلى عامّة الرعية( وأحبّ لعامّة رعيتك ما تحبّ لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، فإنّ ذلك أوجب للحجّة وأصلح للرعيّة ) (٢) .

٣. القدرة والنفوذ

القدرة على ماذا والنفوذ في أي شيء؟

إنّ القدرة على التّأثير في الآخرين من الصّفات التي تحلّت بها شخصية أمير المؤمنين، الخطبة المسّماة الغرّاء شاهد على القدرة في التّأثير على النفوس، فبعد أن تناول الإمام فيها صفات الله تعالى، ووصّى الناس بالتّقوى ووصف لهم الدّنيا، الموت والقيامة، وطريق الاتّعاظ وعجائب صنع الله، أنصت النّاس إلى خطبة الإمام بكلّ وجودهم، وهو ما يكشف عن قدرته وتأثيره فيهم، وفي الخبر أنّه لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود وبكت العيون ورجفت القلوب(٣) .

قوة كلمات الإمام جعلت من النّاس يتفاعلون معها وينغمسون في بطونها، ممّا جعلهم من شدّة الاستغراق فيها، أن تفيض عيونهم وترجف

____________________

(١) تهذيب الأحكام: ٦/٢٩٢.

(٢) أمالي الطوسي: ٣٠.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة ٨٣.

١٤٥

قلوبهم، وهو ما يدلّ على مدى نفوذ كلماته ( عليه السلام ) في مسامع ضمائرهم( ربّ قولٍ أنفذ من صَولٍ ) (١) .

إنّ النّفوذ في الخير وفي نفوس المؤمنين هو النفوذ الحقيقي( أَلا وإنّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفه ) (٢) .

قد نفذ أمير المؤمنين إلى معدن الخير والسّعادة، حيث اليقين المبين( لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً ) (٣) .

ترتّب عليه أنّ تنفذ كلمات الإمام إلى أعماق الصّدور لإحيائها.

٤. الاعتدال والوسطية

ورد ذكر مفهوم الوسطيّة في القرآن في بعض الآيات الشريفة.

( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً ) (٤) .

شبيه هذا المفاد القرآني في مراعاة الاعتدال قول علي ( عليه السلام ):

( وإن جَهَده الجوع قعد به الضّعف، وإن أَفَرط به الشّبع كظّته البِطنة، فكلّ تقصيرٍ به مضرٌّ وكلّ إفراطٍ له مفسد ) (٥) .

____________________

(١) نفس المصدر: الحكمة: ٣٩٤.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٠٥.

(٣) كشف الغمة في معرفة الأئمة: ١/٢٢٧.

(٤) الإسراء: ٢٩.

(٥) نهج البلاغة: الحكمة ١٠٨.

١٤٦

ذكر أيضاً مفهوم الاعتدال والالتزام به في القرآن زمن القرون الأُولى الّتي سبقت الإسلام.

( قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلّوا كَثِيراً وَضَلّوا عَن سَوَاءِ السّبِيلِ ) (١) .

جاء ذكر الوسطية كذلك في الآية الكريمة.

( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٢) .

فالآيات الكريمة تأمر بالاعتدال والوسطية والاتزان؛ خروجاً من فكّي الإفراط والتفريط اللّذين يعود سببهما إلى الجهل( لا ترى الجاهل إلاّ مُفرطاً أو مفرّطاً ) (٣) .

أفشى الإمام صفة الاعتدال والوسطية في غير واحد من أقواله.

( الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَإِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ ) (٤) .

إنّ الإمام ( عليه السلام ) عمّم ثقافة الاعتدال وكرّرها كثيراً.

ليجعل النّاس على بصيرة في اختيار الطرّيق الوسط، وقد حدّد الإمام

____________________

(١) المائدة: ٧٧.

(٢) البقرة: ١٤٣.

(٣) نهج البلاغة: الحكمة: ٧٠/٦٣٨.

(٤) نفس المصدر: الخطبة ١٦.

١٤٧

لشيعته بعض الصّفات؛ تجنيباً لهم من حالتي الإفراط والتّفريط.

( شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الّذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركةٌ على مَن جاوروا، سِلمٌ لمَن خالطوا ) (١) .

بيّن الإمام صفة الوسيطة لأحد أصحابه، دخل الحارث الهمداني على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) في نفرٍ من الشيعة وكنت فيهم، فجعل الحارث يتأوّد(٢) في مشيته ويخبط(٣) الأرض بمِحجَنه،(٤) وكان مريضاً، فأقبل عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) - وكان له منه منزلة - فقال:( كيف تجدك يا حارث؟ فقال: نال الدّهر يا أمير المؤمنين منّي، وزادني أواراً وغليلاً اختصام أصحابك ببابك، قال:وفيمَ خصومتهم؟ قال: فيك وفي الثلاثة من قبلك، فمن مفرطٍ منهم غالٍ، ومقتصدٍ تال ومن متردّدٍ مرتاب، لا يدري أَيقدم أَم يحجم؟ فقال:حسبك يا أخا همدان، أَلا إنّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي وبهم يلحق التالي ) (٥) .

كذا حذّر ( عليه السلام ) الناس من المبالغة في حدّي الإفراط والتفريط والوقوع في

____________________

(١) الأصول من الكافي: ٢/٢٣٦.

(٢) يتعوّج ويتثنّى.

(٣) يضرب.

(٤) عصا معقفة.

(٥) أمالي الطوسي: ٦٢٥، كشف الغمة في معرفة الأئمة: ١/٥٤٤، مناقب الإمام علي بن أبي طالب: ٢/٢٧١ - ٢٨٣.

١٤٨

الهلاك والضلال.

( سيهلك فيّ صنفان محبٌّ مفرطٌ يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ، وخير النّاس فيّ حالاً النّمط الأوسط فالزموه ) (١) .

وقد يخامر العقل السؤال عن سبب التعبير بالنّمط الأوسط؟

لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعوار، والأوساط محميّة محوّطة.

منه قول الطائي:

كانت هي الوسطى المحمّي فاكتنفت

بها الحوادثُ حتى أصبحت طرفاً(٢)

٥. الواقعيّة والمثاليّة

المقصود من الواقعيّة هي أن يكون تفكير الإنسان وأعماله التي ينشدها متناسبةً مع إمكاناته وطاقته وعمره القصير.

إنّ الواقعية قد أوضحها الإمام ببيان بليغ( وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ، وَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ، وَلا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ وَإِيَّاكَ وَالاتِّكَالَ

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٧.

(٢) الأمثال والحكم المستخرجة من نهج البلاغة: ٢٤٧.

١٤٩

عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى ) (١) ( ليس كلّ طالبٍ يُصيب ليس كلّ مَن رمى أصاب ) (٢) .

فالطلّب الواقعي يراعى فيه جانب العقل والموضوعية حتى يكون سبيل إلى الحياة الطبيعيّة، والطلب غير الواقعي لا يراعى فيه ذلك، وعندها يجرّ الإنسان إلى دروب الحيرة والاضطراب( ربّ طلبٍ قد جرّ إلى حرب ) .

أمّا المثالية فهي إحياء الحقّ عبر العمل به، وإماتة الباطل من خلال رفضه.

ففي الوقت الّذي يعيش الإنسان بحياةٍ طيبة، يكون همّه أيضاً إقامة دعائم الحقّ وأركانه، وهدم قواعد الباطل وبنيانه( فَلا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ، بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ، وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ ) (٣) .

إنّ الواقعية والمثالية التي جاء بها علي ( عليه السلام ) تتماشى مع المتطّلبات الصّحيحة والفطرة الإنسانية، وتحدو بالمسلم إلى مسالك الخير والصّلاح.

____________________

(١) الحمقى.

(٢) نهج البلاغة: الكتاب ٣١.

(٣) نفس المصدر: الكتاب ٦٦.

١٥٠

الفصل الحادي عشر: الإمام علي ( عليه السلام ) والحلول الثقافية

هناك بعض الأحداث الّتي وقعت في زمان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وارتضى لها حلاًّ أناخ فيها حكماً.

اختلفت الحلول الثقافية في عصر الإمام ( عليه السلام ) بحسب ما يقتضيه العلاج المناسب والسليم، وربّما كانت هناك بعض الحلول الّتي ارتآها الآخرين في مقابل الحلّ الإسلامي الصّحيح.

والحلول الثقافية هي:

١. الحل الاستئصالي

حينما تنفذ الحلول والحجج في إعادة الحقّ إلى نصابه وموضعه، عند ذلك يختار الإمام ( عليه السلام ) الحلّ الاستئصالي؛ إزهاقاً للباطل، واجتثاثاً لجذوره( فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ، وَكَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ الْبَاطِلِ وَنَاصِراً لِلْحَقِّ ) (١) .

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٢٢.

١٥١

طبّق الإمام هذا الحلّ بعد أن نفذت الخيارات السلمية بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين، وطبّقه أيضاً مع الغلاة الّذين لم يرجعوا إلى التّوبة، ومع النصارى الّذين أعلنوا الحرب، ووقفوا بوجه الإسلام.

أتاه صلوات الله عليه قومٌ غَلوا فيه، ممّن قدّمنا وصفهم واستزلال الشيطان إيّاهم، فقالوا:

أنت إلهنا وخالقنا ورازقنا، ومنك مبدؤنا وإليك معادنا، فتغيّر وجهه ( عليه السلام ) وارفضّ عرقاً، وارتعد كالسّعفة؛ تعظيماً لجلال الله ( عز جلاله ) وخوفاً منه، وثار مغضباً ونادى بمَن حوله وأمرهم بحفير فحُفر وقال:لأشبعنّكم اليوم لحماً وشحماً ، فلمّا علموا أنّه قاتلهم، قالوا:

لئن قتلتنا فأنت تحيينا، فاستتابهم فأصّروا على ما هم عليه، فأمر بضرب أعناقهم، وأضرم ناراً في ذلك الحفير فأحرقهم فيه، وقال ( عليه السلام ):

لما رأيتُ الأمرَ أمراً منكرا

أَضرمتُ ناري ودعوتُ قنبرا(١)

قريب من هذه الرواية ما نقله ابن شهر آشوب في مناقبه في سبعين من الزط(٢) الذين يدعونه إلهاً(٣) .

الإمام ( عليه السلام ) تبرّأ من الغلاة؛ لأنّهم فئة منحرفة( اللّهمّ إنّي بريء من الغلاة

____________________

(١) دعائم الإسلام: ١/٨٧.

(٢) الزط - جيل أسود من السند إليهم تنسب الثياب الزطية.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ١/٣٢٥.

١٥٢

كبراءة عيسى بن مريم من النّصارى، اللّهمّ اخذلهم أبداً ولا تنصر منهم أحداً ) (١) .

كذا نفّذ الإمام الحلّ الاستئصالي في أحد النّصارى ممّن وقفوا بوجه الإسلام، وأمر - علياً - بإحراق نصرانيّ ارتدّ فبذل أولياء النّصرانيّ في جثّته مِئة ألف درهم فأبى عليهم، فأمر به فأُحرق بالنّار، وقال:( ما كنت لأكون عوناً للشيطان عليهم ولا ممّن يبيع جثّة كافرٍ ) (٢) .

ممّا سبق نعرف أنّ الإمام لجأ إلى الحلّ الاستئصالي من أجل؛ قلع جذور الانحراف أو الكفر.

٢. الحلّ الإبقائي

تجلّى هذا الحلّ بعد مجيء الإمام ( عليه السلام ) إلى الكوفة في ١٣ رجب سنة ٣٦هـ، حيث صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووصّى النّاس بملازمة التقوى، وطاعة الله ورسوله وأهل بيته - الذي هم أولى بالطاعة من المنتحلين المدّعين - ثمّ صوّب الإمام حديثه نحو القوم الذي قعدوا عن نصرته وتخلّفوا عن دعوته، مستعتباً لهم وموضّحاً الحلّ معهم( إنّه قد قعد عن نصرتي رجال منكم فأنا عليهم عاتب زارٍ، فاهجروهم وأَسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا أو نرى منهم ما نرضى ) .

____________________

(١) نفس المصدر: ١/٣٢٤.

(٢) دعائم الإسلام: ٢/٤٠٥.

١٥٣

فقام إليه مالك بن حبيب التميميّ اليربوعيّ - وكان صاحب شرطته - فقال: والله! إنّي لأرى الهجر وإسماع المكروه لهم قليلاً، والله لئن أمرتنا لنقتلنّهم، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ):( يا مالك، جزت المدى وعدوت الحدّ، وأغرقت في النّزع ) (١) .

لقد اختار الإمام الحلّ الإبقائي، بهجرهم وإسماعهم ما يكرهون بهدف إصلاحهم وعودتهم إلى الطّاعة.

رغم أنّ رئيس شرطته اختار حلاًّ حاسماً باستئصالهم، إلاّ أنّ الإمام قد حلّ الأمر حسب المدى الشّرعي المتاح تطبيقه.

مرّة أخرى في وقعة صفين أراد أمير المؤمنين تطبيق الحلّ الإبقائي - بدعوة معاوية إلى الطّاعة والجماعة - قبل اللّجوء إلى الحلّ الاستئصالي، إلاّ أنّ معاوية رفض ذلك، ثمّ إنّ علياً دعا بشير بن عمرو بن مخصن الأنصاريّ وسعيد بن قيس الهمدانيّ وشبث بن ربعيّ التميميّ، فقال:( ائتوا هذا الرّجل فادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة، فقال له شبث بن ربعيّ: يا أمير المؤمنين! أَلا تُطمعه في سلطان تولّيه إيّاه، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال عليّ:ائتوه فالقوه فاحتجّوا عليه وانظروا ما رأيه ) (٢) .

إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يختار هذا الحلّ عندما يكون في البين أملاً في الإصلاح ومنفعة تعود للإسلام.

____________________

(١) المعيار والموازنة: ٩٧، الفتوح: ٢/٣٤٨، أمالي المفيد / ١٢٧.

(٢) تاريخ الطبري: ٣/٧٦.

١٥٤

٣. الحلّ الانتقائي

اتخذ الّذين اتّبعوا أهوائهم حلاًّ انتقائياً في علاج ما ينزل بهم من مهمّات ومبهمات، فمالوا بالحقّ إلى آرائهم، وأخذوا من كلٍّ ضِغث.

( فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ) (١) .

قد عمل بهذا الحلّ الانتقائي فريق ممّن نصّبوا أنفسهم للقضاء بين النّاس.

( جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ ) (٢) .

إنّ الحلّ الانتقائي يورد الإنسان موارد الشّبهات؛ لأنّه يعني العمل بفنون الاستدراك،( يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ ) .

٤. الحلّ التبعي

في عصر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يوجد نوعان من الحلول التبعيّة:الأوّل: اتّباع الإمام ( عليه السلام ) وما صدع به من الحقّ.

عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( عليهما السلام ) إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال للبراء

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٥٠، المعيار والموازنة: ٢٩١.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٧.

١٥٥

بن عازب:كيف وجدت هذا الدّين؟ قال: كنّا بمنزلة اليهود قبل أن نتّبعك، تخفّ علينا العبادة، فلمّا اتبعناك ووقع حقايق الإيمان في قلوبنا، وجدنا العبادة قد تثاقلت في أجسادنا(١) .

إنّ اتّباع الإمام ( عليه السلام ) يعني اتّباع الله ورسوله، ويترتب عليه أن يقود الإنسان إلى الصّراط المستقيم.

الثاني: اتّباع الشيطان والآباء والأسلاف ،( إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ ) (٢) .

قد زجّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بكثير من المفاهيم في سبيل الحؤول دون اتّباع خطوات الشّيطان، عندما تعرّض لذكر طائفة من النّاس في اتّباعهم الأعمى، راجياً حجزهم عن ذلك.

( اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لأَمْرِهِمْ مِلاكاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وَ زَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ، وَنَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ ) (٣) ( أَو َلَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَالآبَاءَ وَإِخْوَانَهُمْ وَالأَقْرِبَاءَ، تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ وَتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَتَطَؤونَ جَادَّتَهُمْ؟ ) (٤) .

هذه التّبعيّة أَلهت القوم عن رشدهم وأبعدتهم عن حظّهم.

____________________

(١) سفينة البحار: ١/٢٥٢.

(٢) الزخرف: ٢٣.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة ٧.

(٤) نفس المصدر: الخطبة ٨٣.

١٥٦

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (١) ، قالوا( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا ) (٢) .

هذا الحلّ قد أنس به معاوية: مستفيداً من تجربة أسلافه في الادّعاء والتّضليل؛ ولذا وعظه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أن ينتفع بالنّظر الفاحص في شواهد الأمور.

( أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِنْ عِيَانِ الأُمُورِ، فَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلافِكَ بِادِّعَائِكَ الأَبَاطِيلَ وَاقْتِحَامِكَ غُرُورَ الْمَيْنِ وَالأَكَاذِيبِ ) (٣) .

نصح الإمام المسلمين من وطئ جادة الآباء، ولم يبخل بالوعظ - كما عرفنا آنفاً - لأعدائه عن امتطاء سبيل الأسلاف.

٥. الحل التّأصيلي

هذا الحلّ يكون بإقامة السنّة، حيث إنّ إرجاع الأحكام - في مختلف القضايا - إلى القرآن والسنّة الّتي عمل بها النّبي وأهل بيته كفيلان بحلّ جميع القضايا المستحدثة.

من هنا كان الإمام يحكم ويعمل بالسنّة، معيداً لها اعتبارها وتأصيلها، لا تجد علياً ( عليه السلام ) يقضي بقضاء إلاّ وجدت له أصلاً في السُنّة. قال: كان

____________________

(١) البقرة: ١٧٠.

(٢) المائدة: ١٠٤.

(٣) نهج البلاغة: الكتاب: ٦٥.

١٥٧

عليّ ( عليه السلام ) يقول:( لو اختصم إليّ رجلان فقضيت بينهما قضاءً واحداً؛ لأنّ القضاء لا يحول ولا يزول ) (١) .

إنّ إعادة تأصيل السُنّة - من قبل الإمام - شملت حتى أبسط الأوضاع والحركات العادية الّتي قد يكرّرها الإنسان في ركوبه أو سيره من دون أن يستند إلى السُنّة، لكن علي ( عليه السلام ) بأفعاله علّمنا بأنّ سنّة النّبي موجودة وقائمة في كلّ وضع يتّخذه الإنسان، حتى في حال ركوبه الدّابة أو وسيلة معيّنة، وهو ما يعني أنّ السّنّة النبويّة الّتي خلّفها النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وورّثها أهل بيته ( عليهم السلام ) تشمل كلّ مفردات وتفاصيل الحياة اليومية.

عن عليّ بن ربيعة الأسدي، قال: ركب عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) فلمّا وضع رجله في الركاب قال:( بسم الله، فلمّا استوى على الدابّة قال:الحمد لله الّذي أكرمنا وحملنا في البرّ والبحر، ورزقنا من الطيبات وفضّلنا على كثير ممّن خلق تفضيلاً، ( سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) (٢) ثمّ سبّح الله ثلاثاً، وكبّر الله ثلاثاً ثمّ قال:ربّ اغفر لي، فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت. ثمّ قال:فعل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) هذا وأنا رديفه ) (٣) .

إنّ الاستناد إلى السُنة يعتبر أفضل حلّ في التعامل مع الأحداث اليومية.

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٦٤.

(٢) الزمر: ١٣.

(٣) أمالي الطوسي: ٥١٥.

١٥٨

الفصل الثاني عشر: الإمام علي ( عليه السلام ) والنتائج الثقافية

أفلحت جهود الإمام العظيمة في إحراز عدة نتائج، وعلى أعداد قليلة من النّاس، مضوا من الدّنيا إلى الفوز الأكبر، وانقلبوا إلى رضوان الله ونعيمه، فيما يلي النتائج الثقافية الّتي خلّفها جهاد علي ( عليه السلام ):

١. تحديد الحقوق والواجبات

وضع أمير المؤمنين العلامات الفارقة في تحديد ومعرفة الحقوق، ونصبها أمام أعين النّاس، ممّا سهّل للنّاس معرفة ما لهم وما عليهم، فوزّع الحقوق كالآتي:

أ. حق الله تعالى: هذا هو الحقّ الأوّل الّذي على النّاس أن يعرفوه والّذي بصلاحه، تصلح غيره من الحقوق المترشّحة عنه( جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ ) (١) .

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة: ٢١٦.

١٥٩

ب. حق الوالي: يعتبر هذا الحقّ من أعظم ما افترض الله سبحانه لبعض النّاس على بعض( وأمّا حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطّاعة حين آمركم ) (١) .

ج. حق الرّعية: أوضح الإمام حق الرّعية عليه( فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيما تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا ) (٢) .

إنّ أداء حقّ الرّعية وأداء حقّ الوالي - لكلّ على كلٍّ - هو في حقيقته يعود بالنفع على النّاس.

( فجعلها نظاماً لألفتهم وعزّاً لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة، فإذا أدّت الرّعية إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم الدّولة، ويئست مطامع الأعداء ) (٣) .

إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أدّى حتى أبسط وأدقّ الحقوق إلى النّاس، خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على أصحابه وهو راكب، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم، فقال:( لكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين ولكنّا نحبّ أن نمشي معك. فقال لهم:انصرفوا: فإنّ مشي الماشي مع الرّاكب مفسدة للرّاكب ومذلّة للماشي ) (٤) .

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة: ٣٤، سفينة البحار: ١/١٣٢.

(٢) نفس المصدر: الخطبة: ٣٤.

(٣) نفس المصدر: الخطبة: ٢١٦.

(٤) مناقب آل أبي طالب: ٢/١٢٠.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183