الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة30%

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 183

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة
  • البداية
  • السابق
  • 183 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99680 / تحميل: 7451
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).

وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.

ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).

فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.

( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(1) .

لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.

نصّه على إمامة الرضا:

ونصب الإمام موسىعليه‌السلام ولده الإمام الرضاعليه‌السلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(2) .

وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:

1 - محمد بن إسماعيل:

روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).

قالعليه‌السلام :

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 - 471.

(2) نفس المصدر.

٨١

( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(1) .

2 - علي بن يقطين:

روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(2) .

3 - نعيم بن قابوس:

روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(3) .

4 - داود بن كثير:

روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟

فأشارعليه‌السلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(4) .

5 - سليمان بن حفص:

روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(5) .

____________________

(1) كشف الغمّة 3 / 88.

(2) كشف الغمّة 3 / 88.

(3) كشف الغمّة 3 / 88.

(4) الفصول المهمّة (ص 225).

(5) عيون أخبار الرضا 1 / 26.

٨٢

6 - عبد الله الهاشمي:

قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!

قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(1).

7 - عبد الله بن مرحوم:

روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(2).

8 - عبد الله بن الحرث:

روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!

قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(3)

9 - حيدر بن أيوب:

روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 26 - 27.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا.

٨٣

بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟

يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(1).

10 - الحسين بن بشير:

قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(2) .

11 - جعفر بن خلف:

روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(3).

12 - نصر بن قابوس:

روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4) .

13 - محمد بن سنان:

روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟

قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا 1 / 30.

(4) عيون أخبار الرضا 1 / 31.

٨٤

والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(1) حرام على النار أن تمسّك أبداً(2) .

هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليه‌السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.

وصيّة الإمام:

وأقام الإمام موسىعليه‌السلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.

أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليه‌السلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.

سجن السندي:

وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.

____________________

(1) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 32 - 33.

٨٥

وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

كتابه إلى هارون:

وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(1) .

وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

اغتيال الإمام:

وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..

فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(2) .

وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.

إلى الرفيق الأعلى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليه‌السلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى

____________________

(1) البداية والنهاية 10 / 183.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 - 500.

٨٦

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(1) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.

ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(2) .

لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.

سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.

سيّدي أبا الرضا:

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 504).

(2) حياة الإمام موسى 2 / 514 - 515.

٨٧

لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.

تحقيق الشرطة في الحادث:

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).

( نعم )...

( ليس هنا إلاّ الخير... ).

( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).

( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..

( لا ).

( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).

( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).

هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).

( نعم ).

ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،

٨٨

أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:

( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).

( نعم ).

ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(1) .

كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(2). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.

وضعه على الجسر:

ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:

مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقىً على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً

لم يشيّعه للقبور موحّد

حملوه وللحديد برجليه هزيج

له الأهاضيب تنهد(3)

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521.

٨٩

النداء الفظيع:

يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(1) .

قيام سليمان بتجهيز الإمام:

وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).

فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).

وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:

( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(2) .

وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.

وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:

( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر.

٩٠

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(1) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:

قد قلت للرجل المولّى غسله

هلاّ أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسّله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحّها

عنه وحنّطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله

كرماً ألست تراهم بإزائه

لا توه أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه(2)

وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.

وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

تقلّد الإمام الرضا للزعامة الكبرى:

وتقلّد الإمام الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.

____________________

(1) الأنوار البهية (ص 99).

(2) الإتحاف بحب الأشراف (ص 57).

٩١

سفره إلى البصرة:

وبعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام سافر الإمام الرضاعليه‌السلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).

وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).

سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).

فقالعليه‌السلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).

وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).

( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).

وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك

٩٢

الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.

وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).

وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).

فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.

والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).

ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).

ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).

وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة عيسى

٩٣

بمحمد؟... ).

وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).

فأخذ الإمامعليه‌السلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).

قال الجاثليق: ( صفه ).

وأخذ الإمامعليه‌السلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).

وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).

وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليه‌السلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطفقا قائلين:

٩٤

( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).

وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).

وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).

( بل صدق وعدل... ).

وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).

قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).

وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).

( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).

٩٥

وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).

ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).

وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليه‌السلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).

فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).

والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).

وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).

والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليه‌السلام بالإمامة، وطلبعليه‌السلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه

٩٦

ومضى إلى المدينة المنوّرة(1) .

سفره إلى الكوفة:

وغادر الإمامعليه‌السلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).

فقالوا جميعاً: ( نعم ).

فقالعليه‌السلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).

وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )

فقالعليه‌السلام :

( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(2) .

وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام

____________________

(1) البحار 12 / 21 - 23، بتصرف نقلنا الخبر.

(2) البحار 12 / 23، نقلنا الحديث بتصرف.

٩٧

عليه‌السلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.

٩٨

٩٩

مناظراته واحتجاجاته

واتسم عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.

ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.

ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إن حصول مَلَكة الصّدق تتمّ عبر اتّباع التعاليم التالية:

١. الاتّباع لأئمّة الصّدق والسنة: وهم النبي وأهل بيته ( عليه السلام ) هذا الاتّباع شامل لكلّ حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم، لأنّهم؛

( هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَلا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَصَامِتٌ نَاطِقٌ ) (١) .

فينبغي الاتّباع التّام للأئمة الّذين هم ورثة النبيّ لأنّهم( إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا ) (٢) .

٢. معرفة القيمة المعنويّة للصدق: والنتائج الّتي تترتّب عليه( ولسان الصّدق يجعله الله للمرء في الناس خيرٌ له من المال يرثه غيره ) (٣) .

٣. أن يفعل الإنسان الخير فهو يؤدّي إلى الصّدق وترسيخه في نفسه: فكلّما كان فعله للخير كثيراً، كان ذلك باعثاً للصّدق وتوطيده( قدر الرّجل على قدر همّته، وصدقه على قدر مروءته ) (٤) .

٤. التقّرب والالتصاق بالصّالحين وأهل التقوى والصّدق ( وأَلصق بأهل الورع والصّدق ) (٥) .

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٤٧.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٥٤.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ٢٣.

(٤) نفس المصدر: الحكمة ٤٣.

(٥) نفس المصدر: الكتاب ٥٣.

١٤١

٥. الابتعاد عن أهل الكذب: ينبغي للرّجل المسلم أن يتجنّب مؤاخاة الكذّاب، لأنّه( لا يزال يكذب حتى يجيء بالصّدق فلا يُصدّق ) (١) .

أمّا بالنسبة إلى الوضوح فإنّ السّبيل إليه يتسنّى من خلال استعمال العلم والعمل به، حالة الغموض التي تطرأ أو تستولي على الأفراد ناتجة من تخلّف العمل عن العلم، وقد أوضح ( عليه السلام ) إنّ عدم الوضوح لا يوصل إلى هدف وحاجة.

( فإنّ العامل بغير علمٍ كالسّائر ( السّابل - السّابك ) على غير طريق، فلا يزيده بُعده عن الطّريق الواضح إلاّ بُعداً عن حاجته، والعامل بالعلم كالسّائر على الطرّيق الواضح ) (٢) .

٢. الشموليّة والاستيعاب

إنّ الشّموليّة التي أضفاها علي ( عليه السلام ) بين أهل الكوفة هي نفس الشمولية التي نزل بها القرآن؛ لأنّ علياً والقرآن صنوان متلازمان لا يفترقان( وإنّ الكتاب لمعي، ما فارقته مذ صحبته ) (٣) .

لذا عندما نقول: إنّ من الصّفات الثّقافية الّتي نشرها علي ( عليه السلام ) الشّمولية والاستيعاب، فإنّ ذلك يعني أنّ من صفات القرآن الشمولية والاستيعاب؛ لأنّ علياً هو القرآن الناطق، والكتاب الكريم هو القرآن الصادق.

____________________

(١) إرشاد القلوب: ١/٣٣٨.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١٥٤.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ١٢٢.

١٤٢

قد يُستدرك بالسؤال من أين لعلي أن يكون رفيع الغاية وشامل الحَلَبة؟

لقد رضع علي التقوى، وزُقّ العلم من لدن أن كان صبياً( وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ) (١) .

نعم يُرفع له ( عليه السلام ) كل يومٍ من أخلاق النّبي علماً، وأفصح عن نوع هذه العلوم وتمامها وشمولها بقوله:( تَاللَّهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالاتِ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ وَتَمَامَ الْكَلِمَاتِ، وَعِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَ ضِيَاءُ الأَمْرِ ) (٢) .

تكميلاً لِما تقدّم يظهر رأس العلّة في قول الإمام ( عليه السلام ):

( سَلوني قبل أن تفقدوني، فو الله ما من أرض مخصبة ولا مجدبة، ولا فئة تضلّ مِئة أو تهدي مِئة، إلاّ وأنا أعلم قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة ) (٣) .

هذه الصفة في التسلّط العلمي تفرّد بها الإمام دون غيره، ما أحد قال على المنبر سَلوني غير عليّ(٤) .

الإمام ( عليه السلام ) بقوله: سلوني خلق نوعاً من التحدّي في الإجابة على أي سؤال يخطر في أذهانهم، وحرّضهم على السؤال قبل أن يفقدوه، وقبل فوات الفرصة ومرورها، وحرّك فيهم دواعي الاطّلاع والمعرفة( والله لو شئت أن

____________________

(١) نفس المصدر الخطبة ١٩٢.

(٢) نفس المصدر الخطبة ١١٩.

(٣) أمالي الطوسي: ٥٨.

(٤) مناقب آل أبي طالب: ٢/٤٨.

١٤٣

أخبر كلّ رجلٍ منكم بمخرجه وموْلِجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، أَلا وإنّي مفضيه إلى الخاصّة ممّن يُؤمن ذلك منه ) (١) .

( ولو تعلمون ما أعلم ممّا طُوي عنكم غيبُه ) (٢) .

بعد هذا العرض المقتضب لمصدر ومنبع الشّمولية والاستيعاب والتسلّط العلمي عند الإمام، نريد أن نعرف مدى العمل بهذه الصفة.

إنّ الرّوحية الإسلامية الواسعة الّتي تسع حتى غير المسلم وتستوعبه، قد عمل بها الإمام ( عليه السلام ) وأوصى بها( وأحسن إلى جميع النّاس كما تحّبّ أن يُحسن إليك، وارضَ لهم ما ترضاه لنفسك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وحسّن مع جميع النّاس خلقك ) (٣) .

( فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق ) (٤) .

في هذه الفقرات يوصي الإمام بأن يكون التعامل حسناً وطيباً وشاملاً لجميع الناس، ويأمر بتحسين الأخلاق مع كلّ النّاس، وأن يكون هناك في المحبّة لهم واللّطف بهم، وهذه الأخلاق الّتي يوصي بها الإمام تشمل حتى مَن كان لديه انتماء ديني آخر، عن محمد بن أبي حمزة عن رجل بلغ به أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال: مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام )( ما هذا؟

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٧٥.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١١٦.

(٣) نفس المصدر: الكتاب: ٣١، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٣١٢.

(٤) نفس المصدر: الكتاب: ٥٣.

١٤٤

فقالوا: يا أمير المؤمنين نصراني قال: فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ):استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه! أنفقوا عليه من بيت المال ) (١) .

يكرّر الإمام ( عليه السلام ) التذكير لمَن يتصدى المسؤولية، أن يتجاوز الحدود والأُطر الضيّقة في المحبّة والكره من حدود نفسه وأسرته إلى عامّة الرعية( وأحبّ لعامّة رعيتك ما تحبّ لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، فإنّ ذلك أوجب للحجّة وأصلح للرعيّة ) (٢) .

٣. القدرة والنفوذ

القدرة على ماذا والنفوذ في أي شيء؟

إنّ القدرة على التّأثير في الآخرين من الصّفات التي تحلّت بها شخصية أمير المؤمنين، الخطبة المسّماة الغرّاء شاهد على القدرة في التّأثير على النفوس، فبعد أن تناول الإمام فيها صفات الله تعالى، ووصّى الناس بالتّقوى ووصف لهم الدّنيا، الموت والقيامة، وطريق الاتّعاظ وعجائب صنع الله، أنصت النّاس إلى خطبة الإمام بكلّ وجودهم، وهو ما يكشف عن قدرته وتأثيره فيهم، وفي الخبر أنّه لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود وبكت العيون ورجفت القلوب(٣) .

قوة كلمات الإمام جعلت من النّاس يتفاعلون معها وينغمسون في بطونها، ممّا جعلهم من شدّة الاستغراق فيها، أن تفيض عيونهم وترجف

____________________

(١) تهذيب الأحكام: ٦/٢٩٢.

(٢) أمالي الطوسي: ٣٠.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة ٨٣.

١٤٥

قلوبهم، وهو ما يدلّ على مدى نفوذ كلماته ( عليه السلام ) في مسامع ضمائرهم( ربّ قولٍ أنفذ من صَولٍ ) (١) .

إنّ النّفوذ في الخير وفي نفوس المؤمنين هو النفوذ الحقيقي( أَلا وإنّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفه ) (٢) .

قد نفذ أمير المؤمنين إلى معدن الخير والسّعادة، حيث اليقين المبين( لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً ) (٣) .

ترتّب عليه أنّ تنفذ كلمات الإمام إلى أعماق الصّدور لإحيائها.

٤. الاعتدال والوسطية

ورد ذكر مفهوم الوسطيّة في القرآن في بعض الآيات الشريفة.

( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً ) (٤) .

شبيه هذا المفاد القرآني في مراعاة الاعتدال قول علي ( عليه السلام ):

( وإن جَهَده الجوع قعد به الضّعف، وإن أَفَرط به الشّبع كظّته البِطنة، فكلّ تقصيرٍ به مضرٌّ وكلّ إفراطٍ له مفسد ) (٥) .

____________________

(١) نفس المصدر: الحكمة: ٣٩٤.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٠٥.

(٣) كشف الغمة في معرفة الأئمة: ١/٢٢٧.

(٤) الإسراء: ٢٩.

(٥) نهج البلاغة: الحكمة ١٠٨.

١٤٦

ذكر أيضاً مفهوم الاعتدال والالتزام به في القرآن زمن القرون الأُولى الّتي سبقت الإسلام.

( قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلّوا كَثِيراً وَضَلّوا عَن سَوَاءِ السّبِيلِ ) (١) .

جاء ذكر الوسطية كذلك في الآية الكريمة.

( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٢) .

فالآيات الكريمة تأمر بالاعتدال والوسطية والاتزان؛ خروجاً من فكّي الإفراط والتفريط اللّذين يعود سببهما إلى الجهل( لا ترى الجاهل إلاّ مُفرطاً أو مفرّطاً ) (٣) .

أفشى الإمام صفة الاعتدال والوسطية في غير واحد من أقواله.

( الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَإِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ ) (٤) .

إنّ الإمام ( عليه السلام ) عمّم ثقافة الاعتدال وكرّرها كثيراً.

ليجعل النّاس على بصيرة في اختيار الطرّيق الوسط، وقد حدّد الإمام

____________________

(١) المائدة: ٧٧.

(٢) البقرة: ١٤٣.

(٣) نهج البلاغة: الحكمة: ٧٠/٦٣٨.

(٤) نفس المصدر: الخطبة ١٦.

١٤٧

لشيعته بعض الصّفات؛ تجنيباً لهم من حالتي الإفراط والتّفريط.

( شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الّذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركةٌ على مَن جاوروا، سِلمٌ لمَن خالطوا ) (١) .

بيّن الإمام صفة الوسيطة لأحد أصحابه، دخل الحارث الهمداني على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) في نفرٍ من الشيعة وكنت فيهم، فجعل الحارث يتأوّد(٢) في مشيته ويخبط(٣) الأرض بمِحجَنه،(٤) وكان مريضاً، فأقبل عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) - وكان له منه منزلة - فقال:( كيف تجدك يا حارث؟ فقال: نال الدّهر يا أمير المؤمنين منّي، وزادني أواراً وغليلاً اختصام أصحابك ببابك، قال:وفيمَ خصومتهم؟ قال: فيك وفي الثلاثة من قبلك، فمن مفرطٍ منهم غالٍ، ومقتصدٍ تال ومن متردّدٍ مرتاب، لا يدري أَيقدم أَم يحجم؟ فقال:حسبك يا أخا همدان، أَلا إنّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي وبهم يلحق التالي ) (٥) .

كذا حذّر ( عليه السلام ) الناس من المبالغة في حدّي الإفراط والتفريط والوقوع في

____________________

(١) الأصول من الكافي: ٢/٢٣٦.

(٢) يتعوّج ويتثنّى.

(٣) يضرب.

(٤) عصا معقفة.

(٥) أمالي الطوسي: ٦٢٥، كشف الغمة في معرفة الأئمة: ١/٥٤٤، مناقب الإمام علي بن أبي طالب: ٢/٢٧١ - ٢٨٣.

١٤٨

الهلاك والضلال.

( سيهلك فيّ صنفان محبٌّ مفرطٌ يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ، وخير النّاس فيّ حالاً النّمط الأوسط فالزموه ) (١) .

وقد يخامر العقل السؤال عن سبب التعبير بالنّمط الأوسط؟

لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعوار، والأوساط محميّة محوّطة.

منه قول الطائي:

كانت هي الوسطى المحمّي فاكتنفت

بها الحوادثُ حتى أصبحت طرفاً(٢)

٥. الواقعيّة والمثاليّة

المقصود من الواقعيّة هي أن يكون تفكير الإنسان وأعماله التي ينشدها متناسبةً مع إمكاناته وطاقته وعمره القصير.

إنّ الواقعية قد أوضحها الإمام ببيان بليغ( وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ، وَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ، وَلا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ وَإِيَّاكَ وَالاتِّكَالَ

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٧.

(٢) الأمثال والحكم المستخرجة من نهج البلاغة: ٢٤٧.

١٤٩

عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى ) (١) ( ليس كلّ طالبٍ يُصيب ليس كلّ مَن رمى أصاب ) (٢) .

فالطلّب الواقعي يراعى فيه جانب العقل والموضوعية حتى يكون سبيل إلى الحياة الطبيعيّة، والطلب غير الواقعي لا يراعى فيه ذلك، وعندها يجرّ الإنسان إلى دروب الحيرة والاضطراب( ربّ طلبٍ قد جرّ إلى حرب ) .

أمّا المثالية فهي إحياء الحقّ عبر العمل به، وإماتة الباطل من خلال رفضه.

ففي الوقت الّذي يعيش الإنسان بحياةٍ طيبة، يكون همّه أيضاً إقامة دعائم الحقّ وأركانه، وهدم قواعد الباطل وبنيانه( فَلا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ، بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ، وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ ) (٣) .

إنّ الواقعية والمثالية التي جاء بها علي ( عليه السلام ) تتماشى مع المتطّلبات الصّحيحة والفطرة الإنسانية، وتحدو بالمسلم إلى مسالك الخير والصّلاح.

____________________

(١) الحمقى.

(٢) نهج البلاغة: الكتاب ٣١.

(٣) نفس المصدر: الكتاب ٦٦.

١٥٠

الفصل الحادي عشر: الإمام علي ( عليه السلام ) والحلول الثقافية

هناك بعض الأحداث الّتي وقعت في زمان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وارتضى لها حلاًّ أناخ فيها حكماً.

اختلفت الحلول الثقافية في عصر الإمام ( عليه السلام ) بحسب ما يقتضيه العلاج المناسب والسليم، وربّما كانت هناك بعض الحلول الّتي ارتآها الآخرين في مقابل الحلّ الإسلامي الصّحيح.

والحلول الثقافية هي:

١. الحل الاستئصالي

حينما تنفذ الحلول والحجج في إعادة الحقّ إلى نصابه وموضعه، عند ذلك يختار الإمام ( عليه السلام ) الحلّ الاستئصالي؛ إزهاقاً للباطل، واجتثاثاً لجذوره( فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ، وَكَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ الْبَاطِلِ وَنَاصِراً لِلْحَقِّ ) (١) .

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٢٢.

١٥١

طبّق الإمام هذا الحلّ بعد أن نفذت الخيارات السلمية بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين، وطبّقه أيضاً مع الغلاة الّذين لم يرجعوا إلى التّوبة، ومع النصارى الّذين أعلنوا الحرب، ووقفوا بوجه الإسلام.

أتاه صلوات الله عليه قومٌ غَلوا فيه، ممّن قدّمنا وصفهم واستزلال الشيطان إيّاهم، فقالوا:

أنت إلهنا وخالقنا ورازقنا، ومنك مبدؤنا وإليك معادنا، فتغيّر وجهه ( عليه السلام ) وارفضّ عرقاً، وارتعد كالسّعفة؛ تعظيماً لجلال الله ( عز جلاله ) وخوفاً منه، وثار مغضباً ونادى بمَن حوله وأمرهم بحفير فحُفر وقال:لأشبعنّكم اليوم لحماً وشحماً ، فلمّا علموا أنّه قاتلهم، قالوا:

لئن قتلتنا فأنت تحيينا، فاستتابهم فأصّروا على ما هم عليه، فأمر بضرب أعناقهم، وأضرم ناراً في ذلك الحفير فأحرقهم فيه، وقال ( عليه السلام ):

لما رأيتُ الأمرَ أمراً منكرا

أَضرمتُ ناري ودعوتُ قنبرا(١)

قريب من هذه الرواية ما نقله ابن شهر آشوب في مناقبه في سبعين من الزط(٢) الذين يدعونه إلهاً(٣) .

الإمام ( عليه السلام ) تبرّأ من الغلاة؛ لأنّهم فئة منحرفة( اللّهمّ إنّي بريء من الغلاة

____________________

(١) دعائم الإسلام: ١/٨٧.

(٢) الزط - جيل أسود من السند إليهم تنسب الثياب الزطية.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ١/٣٢٥.

١٥٢

كبراءة عيسى بن مريم من النّصارى، اللّهمّ اخذلهم أبداً ولا تنصر منهم أحداً ) (١) .

كذا نفّذ الإمام الحلّ الاستئصالي في أحد النّصارى ممّن وقفوا بوجه الإسلام، وأمر - علياً - بإحراق نصرانيّ ارتدّ فبذل أولياء النّصرانيّ في جثّته مِئة ألف درهم فأبى عليهم، فأمر به فأُحرق بالنّار، وقال:( ما كنت لأكون عوناً للشيطان عليهم ولا ممّن يبيع جثّة كافرٍ ) (٢) .

ممّا سبق نعرف أنّ الإمام لجأ إلى الحلّ الاستئصالي من أجل؛ قلع جذور الانحراف أو الكفر.

٢. الحلّ الإبقائي

تجلّى هذا الحلّ بعد مجيء الإمام ( عليه السلام ) إلى الكوفة في ١٣ رجب سنة ٣٦هـ، حيث صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووصّى النّاس بملازمة التقوى، وطاعة الله ورسوله وأهل بيته - الذي هم أولى بالطاعة من المنتحلين المدّعين - ثمّ صوّب الإمام حديثه نحو القوم الذي قعدوا عن نصرته وتخلّفوا عن دعوته، مستعتباً لهم وموضّحاً الحلّ معهم( إنّه قد قعد عن نصرتي رجال منكم فأنا عليهم عاتب زارٍ، فاهجروهم وأَسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا أو نرى منهم ما نرضى ) .

____________________

(١) نفس المصدر: ١/٣٢٤.

(٢) دعائم الإسلام: ٢/٤٠٥.

١٥٣

فقام إليه مالك بن حبيب التميميّ اليربوعيّ - وكان صاحب شرطته - فقال: والله! إنّي لأرى الهجر وإسماع المكروه لهم قليلاً، والله لئن أمرتنا لنقتلنّهم، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ):( يا مالك، جزت المدى وعدوت الحدّ، وأغرقت في النّزع ) (١) .

لقد اختار الإمام الحلّ الإبقائي، بهجرهم وإسماعهم ما يكرهون بهدف إصلاحهم وعودتهم إلى الطّاعة.

رغم أنّ رئيس شرطته اختار حلاًّ حاسماً باستئصالهم، إلاّ أنّ الإمام قد حلّ الأمر حسب المدى الشّرعي المتاح تطبيقه.

مرّة أخرى في وقعة صفين أراد أمير المؤمنين تطبيق الحلّ الإبقائي - بدعوة معاوية إلى الطّاعة والجماعة - قبل اللّجوء إلى الحلّ الاستئصالي، إلاّ أنّ معاوية رفض ذلك، ثمّ إنّ علياً دعا بشير بن عمرو بن مخصن الأنصاريّ وسعيد بن قيس الهمدانيّ وشبث بن ربعيّ التميميّ، فقال:( ائتوا هذا الرّجل فادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة، فقال له شبث بن ربعيّ: يا أمير المؤمنين! أَلا تُطمعه في سلطان تولّيه إيّاه، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال عليّ:ائتوه فالقوه فاحتجّوا عليه وانظروا ما رأيه ) (٢) .

إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يختار هذا الحلّ عندما يكون في البين أملاً في الإصلاح ومنفعة تعود للإسلام.

____________________

(١) المعيار والموازنة: ٩٧، الفتوح: ٢/٣٤٨، أمالي المفيد / ١٢٧.

(٢) تاريخ الطبري: ٣/٧٦.

١٥٤

٣. الحلّ الانتقائي

اتخذ الّذين اتّبعوا أهوائهم حلاًّ انتقائياً في علاج ما ينزل بهم من مهمّات ومبهمات، فمالوا بالحقّ إلى آرائهم، وأخذوا من كلٍّ ضِغث.

( فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ) (١) .

قد عمل بهذا الحلّ الانتقائي فريق ممّن نصّبوا أنفسهم للقضاء بين النّاس.

( جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ ) (٢) .

إنّ الحلّ الانتقائي يورد الإنسان موارد الشّبهات؛ لأنّه يعني العمل بفنون الاستدراك،( يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ ) .

٤. الحلّ التبعي

في عصر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يوجد نوعان من الحلول التبعيّة:الأوّل: اتّباع الإمام ( عليه السلام ) وما صدع به من الحقّ.

عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( عليهما السلام ) إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال للبراء

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٥٠، المعيار والموازنة: ٢٩١.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٧.

١٥٥

بن عازب:كيف وجدت هذا الدّين؟ قال: كنّا بمنزلة اليهود قبل أن نتّبعك، تخفّ علينا العبادة، فلمّا اتبعناك ووقع حقايق الإيمان في قلوبنا، وجدنا العبادة قد تثاقلت في أجسادنا(١) .

إنّ اتّباع الإمام ( عليه السلام ) يعني اتّباع الله ورسوله، ويترتب عليه أن يقود الإنسان إلى الصّراط المستقيم.

الثاني: اتّباع الشيطان والآباء والأسلاف ،( إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ ) (٢) .

قد زجّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بكثير من المفاهيم في سبيل الحؤول دون اتّباع خطوات الشّيطان، عندما تعرّض لذكر طائفة من النّاس في اتّباعهم الأعمى، راجياً حجزهم عن ذلك.

( اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لأَمْرِهِمْ مِلاكاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وَ زَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ، وَنَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ ) (٣) ( أَو َلَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَالآبَاءَ وَإِخْوَانَهُمْ وَالأَقْرِبَاءَ، تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ وَتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَتَطَؤونَ جَادَّتَهُمْ؟ ) (٤) .

هذه التّبعيّة أَلهت القوم عن رشدهم وأبعدتهم عن حظّهم.

____________________

(١) سفينة البحار: ١/٢٥٢.

(٢) الزخرف: ٢٣.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة ٧.

(٤) نفس المصدر: الخطبة ٨٣.

١٥٦

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (١) ، قالوا( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا ) (٢) .

هذا الحلّ قد أنس به معاوية: مستفيداً من تجربة أسلافه في الادّعاء والتّضليل؛ ولذا وعظه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أن ينتفع بالنّظر الفاحص في شواهد الأمور.

( أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِنْ عِيَانِ الأُمُورِ، فَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلافِكَ بِادِّعَائِكَ الأَبَاطِيلَ وَاقْتِحَامِكَ غُرُورَ الْمَيْنِ وَالأَكَاذِيبِ ) (٣) .

نصح الإمام المسلمين من وطئ جادة الآباء، ولم يبخل بالوعظ - كما عرفنا آنفاً - لأعدائه عن امتطاء سبيل الأسلاف.

٥. الحل التّأصيلي

هذا الحلّ يكون بإقامة السنّة، حيث إنّ إرجاع الأحكام - في مختلف القضايا - إلى القرآن والسنّة الّتي عمل بها النّبي وأهل بيته كفيلان بحلّ جميع القضايا المستحدثة.

من هنا كان الإمام يحكم ويعمل بالسنّة، معيداً لها اعتبارها وتأصيلها، لا تجد علياً ( عليه السلام ) يقضي بقضاء إلاّ وجدت له أصلاً في السُنّة. قال: كان

____________________

(١) البقرة: ١٧٠.

(٢) المائدة: ١٠٤.

(٣) نهج البلاغة: الكتاب: ٦٥.

١٥٧

عليّ ( عليه السلام ) يقول:( لو اختصم إليّ رجلان فقضيت بينهما قضاءً واحداً؛ لأنّ القضاء لا يحول ولا يزول ) (١) .

إنّ إعادة تأصيل السُنّة - من قبل الإمام - شملت حتى أبسط الأوضاع والحركات العادية الّتي قد يكرّرها الإنسان في ركوبه أو سيره من دون أن يستند إلى السُنّة، لكن علي ( عليه السلام ) بأفعاله علّمنا بأنّ سنّة النّبي موجودة وقائمة في كلّ وضع يتّخذه الإنسان، حتى في حال ركوبه الدّابة أو وسيلة معيّنة، وهو ما يعني أنّ السّنّة النبويّة الّتي خلّفها النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وورّثها أهل بيته ( عليهم السلام ) تشمل كلّ مفردات وتفاصيل الحياة اليومية.

عن عليّ بن ربيعة الأسدي، قال: ركب عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) فلمّا وضع رجله في الركاب قال:( بسم الله، فلمّا استوى على الدابّة قال:الحمد لله الّذي أكرمنا وحملنا في البرّ والبحر، ورزقنا من الطيبات وفضّلنا على كثير ممّن خلق تفضيلاً، ( سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) (٢) ثمّ سبّح الله ثلاثاً، وكبّر الله ثلاثاً ثمّ قال:ربّ اغفر لي، فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت. ثمّ قال:فعل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) هذا وأنا رديفه ) (٣) .

إنّ الاستناد إلى السُنة يعتبر أفضل حلّ في التعامل مع الأحداث اليومية.

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٦٤.

(٢) الزمر: ١٣.

(٣) أمالي الطوسي: ٥١٥.

١٥٨

الفصل الثاني عشر: الإمام علي ( عليه السلام ) والنتائج الثقافية

أفلحت جهود الإمام العظيمة في إحراز عدة نتائج، وعلى أعداد قليلة من النّاس، مضوا من الدّنيا إلى الفوز الأكبر، وانقلبوا إلى رضوان الله ونعيمه، فيما يلي النتائج الثقافية الّتي خلّفها جهاد علي ( عليه السلام ):

١. تحديد الحقوق والواجبات

وضع أمير المؤمنين العلامات الفارقة في تحديد ومعرفة الحقوق، ونصبها أمام أعين النّاس، ممّا سهّل للنّاس معرفة ما لهم وما عليهم، فوزّع الحقوق كالآتي:

أ. حق الله تعالى: هذا هو الحقّ الأوّل الّذي على النّاس أن يعرفوه والّذي بصلاحه، تصلح غيره من الحقوق المترشّحة عنه( جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ ) (١) .

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة: ٢١٦.

١٥٩

ب. حق الوالي: يعتبر هذا الحقّ من أعظم ما افترض الله سبحانه لبعض النّاس على بعض( وأمّا حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطّاعة حين آمركم ) (١) .

ج. حق الرّعية: أوضح الإمام حق الرّعية عليه( فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيما تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا ) (٢) .

إنّ أداء حقّ الرّعية وأداء حقّ الوالي - لكلّ على كلٍّ - هو في حقيقته يعود بالنفع على النّاس.

( فجعلها نظاماً لألفتهم وعزّاً لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة، فإذا أدّت الرّعية إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم الدّولة، ويئست مطامع الأعداء ) (٣) .

إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أدّى حتى أبسط وأدقّ الحقوق إلى النّاس، خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على أصحابه وهو راكب، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم، فقال:( لكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين ولكنّا نحبّ أن نمشي معك. فقال لهم:انصرفوا: فإنّ مشي الماشي مع الرّاكب مفسدة للرّاكب ومذلّة للماشي ) (٤) .

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة: ٣٤، سفينة البحار: ١/١٣٢.

(٢) نفس المصدر: الخطبة: ٣٤.

(٣) نفس المصدر: الخطبة: ٢١٦.

(٤) مناقب آل أبي طالب: ٢/١٢٠.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183