حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 363

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156069 / تحميل: 8639
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).

وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.

ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).

فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.

( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(١) .

لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.

نصّه على إمامة الرضا:

ونصب الإمام موسىعليه‌السلام ولده الإمام الرضاعليه‌السلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(٢) .

وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:

١ - محمد بن إسماعيل:

روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).

قالعليه‌السلام :

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٩ - ٤٧١.

(٢) نفس المصدر.

٨١

( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(١) .

٢ - علي بن يقطين:

روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(٢) .

٣ - نعيم بن قابوس:

روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(٣) .

٤ - داود بن كثير:

روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟

فأشارعليه‌السلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(٤) .

٥ - سليمان بن حفص:

روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(٥) .

____________________

(١) كشف الغمّة ٣ / ٨٨.

(٢) كشف الغمّة ٣ / ٨٨.

(٣) كشف الغمّة ٣ / ٨٨.

(٤) الفصول المهمّة (ص ٢٢٥).

(٥) عيون أخبار الرضا ١ / ٢٦.

٨٢

٦ - عبد الله الهاشمي:

قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!

قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(١).

٧ - عبد الله بن مرحوم:

روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(٢).

٨ - عبد الله بن الحرث:

روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!

قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(٣)

٩ - حيدر بن أيوب:

روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ / ٢٦ - ٢٧.

(٢) عيون أخبار الرضا.

(٣) عيون أخبار الرضا.

٨٣

بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟

يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(١).

١٠ - الحسين بن بشير:

قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(٢) .

١١ - جعفر بن خلف:

روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(٣).

١٢ - نصر بن قابوس:

روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(٤) .

١٣ - محمد بن سنان:

روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟

قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا.

(٢) عيون أخبار الرضا.

(٣) عيون أخبار الرضا ١ / ٣٠.

(٤) عيون أخبار الرضا ١ / ٣١.

٨٤

والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(١) حرام على النار أن تمسّك أبداً(٢) .

هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليه‌السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.

وصيّة الإمام:

وأقام الإمام موسىعليه‌السلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.

أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليه‌السلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.

سجن السندي:

وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.

____________________

(١) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ / ٣٢ - ٣٣.

٨٥

وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

كتابه إلى هارون:

وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(١) .

وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

اغتيال الإمام:

وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..

فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(٢) .

وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.

إلى الرفيق الأعلى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليه‌السلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى

____________________

(١) البداية والنهاية ١٠ / ١٨٣.

(٢) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ٤٩٩ - ٥٠٠.

٨٦

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(١) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.

ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(٢) .

لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.

سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.

سيّدي أبا الرضا:

____________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٥٠٤).

(٢) حياة الإمام موسى ٢ / ٥١٤ - ٥١٥.

٨٧

لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.

تحقيق الشرطة في الحادث:

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).

( نعم )...

( ليس هنا إلاّ الخير... ).

( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).

( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..

( لا ).

( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).

( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).

هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).

( نعم ).

ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،

٨٨

أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:

( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).

( نعم ).

ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(١) .

كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(٢). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.

وضعه على الجسر:

ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:

مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقىً على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً

لم يشيّعه للقبور موحّد

حملوه وللحديد برجليه هزيج

له الأهاضيب تنهد(٣)

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٥١٩.

(٢) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٥١٩.

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٥٢١.

٨٩

النداء الفظيع:

يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(١) .

قيام سليمان بتجهيز الإمام:

وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).

فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).

وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:

( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(٢) .

وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.

وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:

( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر.

(٢) حياة الإمام موسى بن جعفر.

٩٠

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(١) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:

قد قلت للرجل المولّى غسله

هلاّ أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسّله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحّها

عنه وحنّطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله

كرماً ألست تراهم بإزائه

لا توه أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه(٢)

وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.

وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

تقلّد الإمام الرضا للزعامة الكبرى:

وتقلّد الإمام الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.

____________________

(١) الأنوار البهية (ص ٩٩).

(٢) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٥٧).

٩١

سفره إلى البصرة:

وبعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام سافر الإمام الرضاعليه‌السلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).

وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).

سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).

فقالعليه‌السلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).

وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).

( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).

وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك

٩٢

الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.

وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).

وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).

فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.

والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).

ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).

ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).

وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة عيسى

٩٣

بمحمد؟... ).

وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).

فأخذ الإمامعليه‌السلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).

قال الجاثليق: ( صفه ).

وأخذ الإمامعليه‌السلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).

وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).

وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليه‌السلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطفقا قائلين:

٩٤

( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).

وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).

وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).

( بل صدق وعدل... ).

وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).

قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).

وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).

( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).

٩٥

وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).

ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).

وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليه‌السلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).

فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).

والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).

وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).

والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليه‌السلام بالإمامة، وطلبعليه‌السلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه

٩٦

ومضى إلى المدينة المنوّرة(١) .

سفره إلى الكوفة:

وغادر الإمامعليه‌السلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).

فقالوا جميعاً: ( نعم ).

فقالعليه‌السلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).

وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )

فقالعليه‌السلام :

( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(٢) .

وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام

____________________

(١) البحار ١٢ / ٢١ - ٢٣، بتصرف نقلنا الخبر.

(٢) البحار ١٢ / ٢٣، نقلنا الحديث بتصرف.

٩٧

عليه‌السلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.

٩٨

٩٩

مناظراته واحتجاجاته

واتسم عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.

ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.

ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وهو على مصر، ويقال عبد العزيز، أن يبعث بموسى بن نصر إلى افريقية، وكان أبوه نصير من حرس معاوية، ولمّا سار معاوية إلى صفّين لم يسر معه ؛ فقال له: ما يمنعك عن المسير معي إلى قتال عليّ ويدي عندك معروفة.

فقال: لا أُشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك وهو الله عزّ وجلّ، فسكت عنه معاوية. فبعث عبد الله موسى بن نصير وقدم القيروان سنة ٨٩ وبها صالح خليفة حسان، فعقد له، ورأى البربر قد طمعوا في البلاد، فوجّه البعوث في النواحي، وبعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة، فغنم بها وسبى وعاد.

ثمّ بعثه إلى ناحية أُخرى وابنه مروان كذلك، وتوجّه هو إلى ناحيةٍ فغنم منها وسبى وعاد، وبلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من السبي.

ثمّ غزا طنجة وافتتح درعة وصحراء فيلالت وأرسل ابنه إلى السوس، وأذعن البربر لسلطانه ودولته، وأخذ رهائن المصامدة وأنزلهم بطنجة وولى عليها طارق بن زياد الليثي، ثمّ أجاز طارق إلى الأندلس.

فكان فتحها سنة تسعين، وتعاقب عليها ولاة المسلمين إلى أن انتهى أمرها إلى الأغالبة، وجدّهم إبراهيم بن الأغلب وهو الذي تولاّها من قِبَل الرشيد مع الأندلس.

وفي سنة ٢١٩ هـ فتح أسد بن الفرات صقلية وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى صاحب قسطنطينية، وولّى عليها سنة إحدى عشر ومئتين بطريقاً اسمه قسنطيل، واستعمل على الأسطول قائداً من الروم حازماً شجاعاً فغزا سواحل افريقية وانتهبها.

ثمّ بعد مدّةٍ كتب ملك الروم إلى قسنطيل يأمره بالقبض على مقدّم الأسطول وقتله، ونُميَ الخبر إليه بذلك فانتقض وتعصّب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة من بلاد صقلية فملكها، وقاتله قسنطيل فهزمه القائد ودخل مدينة تطانية، فأتبعه جيشاً أخذوه وقتلوه.

واستولى القائد على صقلية فملكها وخُوطب بالملك، وولّى على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة.

وكان ميخائيل ابن عمّ بلاطة على مدينة بليرم، فانتقض هو وابن عمّه على القائد واستولى بلاطة على مدينة سرقوسة.

وركب القائد في أساطيله إلى إفريقية مستنجداً بزيادة الله فبعث معهم العساكر، واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان، فخرجوا في ربيع سنة اثنتي عشرة فنزلوا بمدينة مازر، وساروا إلى بلاطة، ولقيهم القائد وجميع الروم الذين بها استمدّهم فهزموا

٣٢١

بلاطة والروم الذين معه وغنموا أموالهم. وهرب بلاطة إلى فلونرة، فقتل واستولى المسلمون على عدّة حصون من الجزيرة، ووصلوا إلى قلعة الكرات وقد اجتمع بها خلقٌ كثير، فخادعوا القاضي أسد بن الفرات في المراودة على الصلح وأداء الجزية حتّى استعدّوا للحصار، ثمّ امتنعوا عليه فحاصرهم وبعث السرايا في كلّ ناحيةٍ وكثرت الغنائم.

ثمّ حاصروا سرقوسة برّاً وبحراً، وجاء المدد من افريقية وحاصروا بليرم.

وزحف الروم إلى المسلمين وهم يحاصرون سرقوسة، قد بعثوهم واشتدّ حصار المسلمين لسرقوسة، ثمّ أصاب معسكرهم الفناء، وهلك كثيرٌ منهم ومات أسد بن الفرات أميرهم ودُفن بمدينة قَصريانَّة. ومعهم القائد الذي جاء يستنجدهم فخادعه أهل قصريانة وقتلوه.

وجاء المدد من القسطنطينية فتصافوا مع المسلمين، وهزموهم ودخل فلّهم إلى قصريانة.

ثمّ توفّي محمد بن الحواري أمير المسلمين وولي بعده زهير بن عوف.

ثمّ محّص الله المسلمين فهزمهم الروم مرّات، وحصروهم في معسكرهم حتّى جهدهم الحصار وخرج مَن كان في كبركيب من المسلمين بعد أن هدموها وساروا إلى مازر، وتعذّر عليهم الوصول إلى إخوانهم، وأقاموا كذلك إلى سنة أربع عشرة إلى أن اشرفوا على الهلاك. فوصلت مراكب إفريقية مدداً وأسطول من الأندلس، خرجوا للجهاد واجتمع منهم ثلاثمئة مركب فنزلوا الجزيرة، وأفرج الروم عن حصار المسلمين وفتح المسلمون مدينة بليرم بالأمان سنة سبع عشرة. ثمّ ساروا سنة تسع عشرة إلى مدينة قصريانة وهزموا الروم عليها سنة عشرين.

ثمّ بعثوا إلى طرميس، ثمّ بعث زيادة الله الفضل بن يعقوب في سريّة إلى سرقوسة فغنموا، ثمّ سارت سريّةٌ أُخرى واعترضها بطريق صقلية فامتنعوا منه في وعر وخمل من الشعراء، حتّى يئس منهم وانصرف على غير طائل. فحمل عليهم أهل السريّة وانهزموا، وسقط البطريق عن فرسه فطُعن وجرح.

وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودوابّ ومتاع، ثمّ جهّز زيادة الله إلى صقلية إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب في العساكر وولاّه أميراً عليها، فخرج منتصف رمضان وبعث أسطولاً، فلقي أسطولاً للروم فغنمه، وقتل مَن كان فيه وبعث أسطولاً آخر إلى قصوره فلقي أسطولاً فغنمه، وسارت سريّةٌ إلى جبل النار والحصون التي في نواحيها، وكثر

٣٢٢

السبي بأيدي المسلمين، وبعث الأغلب سنة (٢١) أسطولاً نحو الجزائر فغنموا وعادوا، وبعث سريّةً إلى قطلبانة وأُخرى إلى قصريانة كان فيهما التمحيص على المسلمين.

ثمّ كانت وقعة أُخرى كان فيها الظفر للمسلمين، وغنم المسلمون من أسطولهم تسع مراكب.

ثمّ عثر بعض المسلمين على عورة من قصريانة فدلّ المسلمين عليها ودخلوا منها البلد، وتحصّن المشركون بحصنه حتّى استأمنوا، وفتحه الله، وغنم المسلمون غنائمه وعادوا إلى بليرم، إلى أن وصلهم الخبر بوفاة زيادة الله، فوهنوا أوّلاً، ثمّ أنشطوا وعادوا إلى الصبر والجهاد. وكانت وفاة زيادة الله منتصف سنة ثلاث وعشرين ومئتين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ولايته، وولي مكانه أخوه أبو عقال الأغلب.وبعث سنة أربع وعشرين ومئتين سريّةً إلى صقلية، فغنموا وعادوا ظافرين.

وفي سنة خمس وعشرين ومئتين استأمن للمسلمين عدّة حصون من صقلية، فأمنوهم وفتحوها صلحاً.

وسار أسطول المسلمين إلى قلورية، ففتحوها ولقوا أسطول القسطنطينية فهزموهم.

وفي سنة ستّ وعشرين ومئتين سارت سرايا المسلمين بصقلية إلى قصريانة، ثمّ حصن القيروان وأثخنوا في نواحيها.

ثمّ توفّي الأغلب بن إبراهيم في ربيع من سنة ستّ وعشرين ومئتين لسنتين وسبعة أشهر من إمارته، وولي مكانه ابنه أبو العبّاس محمد بن الإغلب، وتوفّي سنة اثنتين وأربعين ومئتين، فولي مكانه ابنه أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب.

وفي أيّامه افتتحت قصريانة من مدن صقلية في شوال سنة تسع وأربعين ومئتين لثمان سنين من ولايته.

وفي أيّام ولاية أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب تغلّب الروم على مواضع من جزيرة صقلية.

بقيّة أخبار صقلية

وفي سنة ثمان وعشرين ومئتين سار الفضل بن جعفر الهمداني في البحر، ونزل مرسى مسينة وحاصرها ؛ فامتنعت عليه، وبثّ السرايا في نواحيها فغنموا.

ثمّ بعث طائفةً من عسكره وجاؤوا إلى البلد من وراء جبلٍ مطلٍّ عليه وهم مشغولون بقتاله، فانهزموا وأعطوا باليد ففتحها.

ثمّ حاصر سنة ثنتين وثلاثين ومئتين مدينة لسى.

وكاتب أهلها بطريق صقلية

٣٢٣

يستمدّونه ؛ فأجابهم وأعطاهم العلامة بإيقاد النار على الجبل. وبلغ ذلك الفضل بن جعفر فأوقد النار على الجبل، وأكمن لهم من ناحيةٍ فخرجوا، واستطرد لهم حتّى جاوزوا الكمين فخرجوا عليهم فلم ينج منهم إلاّ القليل، وسلّموا البلد على الأمان.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين أجاز المسلمون إلى أرض انكبردة من البرّ الكبير، وملكوا منها مدينةً وسكنوها.

وفي سنة أربع وثلاثين ومئتين صالح أهل رغوس وسلّموا المدينة للمسلمين، فهدموها بعد أن حملوا جميع ما فيها.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين توفّي أمير صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، واجتمع المسلمون بعده على ولاية العبّاس بن الفضل بن يعقوب بعد موت أميرهم.

وكتب له محمد بن الأغلب، بعهده على صقلية، وكان من قبل يغزو ويبعث السرايا وتأته الغنائم، ولمّا جاءه كتاب الولاية خرج بنفسه وعلى مقدّمته عمّه رياح، فعاث في نواحي صقلية وردّد البعوث والسرايا إلى قطانية وسرقوسة وبوطيف ورغوس، فغنموا وخربّوا وحرقوا، وافتتح حصوناً جمّة، وهزم أهل قصريانة وهي مدينة ملك صقلية، وكان الملك قبله يسكن سرقوسة فلمّا فتحها المسلمون انتقل الملك إلى قصريانة.

وخبر فتحها أنّ العبّاس كان يردّد الغزو إلى نواحي سرقوسة وقصريانة شاتية وصائفة، فيصيب منهم ويرجع بالغنائم والأسارى. فلما كان في شاتية منها أصاب منهم أسارى وقدّمهم للقتل، فقال له بعضهم - وكان له قدر وهيبة - استبقني وأنا أملك قصريانة، ودلّهم على عورة البلد ؛ فجاؤوها ليلاً ووقفهم على بابٍ صغيرٍ فدخلوا منه، فلمّا توسّطوا البلد وضعوا السيف وفتحوا الأبواب ودخل العبّاس في العسكر فقتل المقاتلة وسبى بنات البطارقة وأصاب فيها ما يعجز الوصف عنه.

وذل الروم بصقلية من يومئذٍ، وبعث ملك الروم عسكراً عظيماً مع بعض بطارقته، وركبوا البحر إلى مرسى سرقوسة، فجاءهم العبّاس من بليرم، فقاتلهم وهزمهم وأقلع فلّهم إلى بلادهم، بعد أن غنم المسلمون من أسطولهم ثلاثة أو أكثر، وذلك سنة سبع وثلاثين ومئتين.

وافتتح بعدها كثيراً من قلاع صقلية، وجاء مدد الروم من القسطنطينية وهو يحاصر قلعة الروم فنزلوا سرقوسة ورجف إليهم العبّاس من مكانه وهزمهم.

ورجع إلى قصريانة فحصنها وأنزل بها الحامية، ثمّ سار سنة سبع وأربعين

٣٢٤

ومئتين إلى سرقوسة فغنم، ورجع فاعتلّ في طريقه، فهلك منتصف سنته ودُفن في نواحي سرقوسة، وأحرق النصارى شلوه وذلك إحدى عشرة سنة من إمارته.

واتّصل الجهاد بصقلية والفتح، وأجاز المسلمون إلى عدوة الروم في الشمال، وغزوا أرض قلورية وانكبردة، وفتحوا فيها حصوناً وسكن بها المسلمون.

ولمّا توفّي العبّاس اجتمع الناس على ابنه عبد الله، وكتبوا إلى صاحب افريقية.

وبعث عبد الله السرايا ففتح القلاع، وبعد خمسة أشهر من ولايته وصل خفاجة بن سفيان من افريقية على صقلية في منتصف ثمان وأربعين ومئتين، وأخرج ابنه محموداً في سريّةٍ إلى سرقوسة، فعاث في نواحيها وخرج إليهم الروم فقاتلهم وظفر ورجع، ثمّ فتح مدينة نوطوس سنة خمس وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وجبل النار، واستأمن إليه أهل طرميس. ثمّ غدروا فسرّح ابنه محمداً في العساكر، وسبى أهلها ثمّ سار خفاجة إلى رغوس، وافتتحها وأصابه المرض، فعاد إلى بليرم، ثمّ سار سنة ثلاث وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وقطانية فخرب نواحيها، وأفسد زرعها، وبعث سراياه في أرض صقلية فامتلأت أدهم من الغنائم.

وفي سنة أربع وخمسين ومئتين وصل بطريق من القسطنطينية لأهل صقلية، فقاتله جمع من المسلمين وهزموه، وعاث خفاجة في نواحي سرقوسة ورجع إلى بليرم، وبعث سنة خمس وخمسين ومئتين ابنه محمداً في العساكر إلى طرميس، وقد دلّه بعض العيون على بعض عوراتها فدخلوها وشرعوا في النهب.

وجاء محمد بن خفاجة من ناحيةٍ أُخرى فظنوه مدداً للعدو فأجفلوا ورآهم محمد مجفلين فرجع.

ثمّ سار خفاجة إلى سرقوسة في حرّها وعاث في نواحيها، ورجع فاغتاله بعض عسكره في طريقه وقتله، وذلك سنة خمس وخمسين ومئتين.

وولّى الناس عليهم ابنه محمداً، وكتبوا إلى محمد بن أحمد أمير افريقية فأقرّه على الولاية، وبعث إليه بعهده.

وفي سنة سبع وثمانين ومئتين بعث إبراهيم بن أحمد أخي أبي الغرانيق ابنه أبا العبّاس عبد الله على صقلية، فوصل إليها في مئة وستّين مركباً وحصر طلاية، وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت وكانت بينهم فتنة، فأغراه كلّ واحدٍ منهم بالآخرين، ثمّ اجتمعوا لحربه وزحف إليه أهل بليرم في البحر فهزمهم واستباحهم.

وبثّ جماعةٌ من وجوهها إلى أبيه وفرّ

٣٢٥

آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية، وآخرون إلى طرميس فاتّبعهم وعاث في نواحيها.

ثمّ حاصر أهل قطانية فامتنعوا عليه فأعرض عن قتال المسلمين، وتجهّز سنة ثمان وثمانين للغزو، فغزا ميسنى ثمّ مسينة، ثمّ جاء في البحر إلى ريو ففتحها عنوةً، وشحن مراكبه بغنائمها.

ورجع إلى مسينة فهدم سورها، وجاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم وأخذ له ثلاثين مركباً.

ثمّ أجاز إلى عدوة الروم وأوقع بأمم الفرنجة من وراء البحر ورجع إلى صقلية.

وجاء في هذه السنة رسول المعتضد بعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به، فاستقدم ابنه أبا العبّاس من صقلية وارتحل هو إليها.

وذكر ابن الأثير أنّ فتح سرقوسة كان في أيّامه على يد جعفر بن محمد أمير صقلية، وأنّه حاصرها تسعة أشهر، وجاءهم المدد من قسطنطينية في البحر فهزمهم، ثمّ فتح البلد واستباحها.

واتفقوا كلّهم على أنّه ركب البحر من افريقية إلى صقلية، فنزل طرانية ثمّ تحوّل عنها إلى بليرم، ونزل على دمشق وحاصرها سبعة عشر يوماً، ثمّ فتح مسينة وهدم سورها، ثمّ فتح طرميس آخر شعبان من سنة تسع وثمانين، ووصل ملك الروم بالقسطنطينية ففتحها.

ثمّ بعث حافده زيادة الله ابن ابنه أبي العبّاس عبد الله إلى قلعة بيقض فافتتحها، وابنه أبو محرز إلى رمطة فأعطوه الجزية، ثمّ عبر إلى عدوة البحر وسار في برّ الفرنج ودخل قلورية عنوة، فقتل وسبى ورهب منه الفرنجة.

ثمّ رجع إلى صقلية ورغب منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك.

ثمّ سار إلى كنسة في حرّها، واستأمنوا إليه فلم يقبل ثمّ هلك وهو محاصر لها آخر تسع وثمانين لثمان وعشرين سنة من إمارته، فولّى أهل العسكر عليهم حافده أبا مضر ليحفظ العساكر والأمور، إلى أن يصل ابنه أبو العبّاس وهو يومئذٍ بافريقية. فأمن أهل كنسة قبل أن يعلموا بموت جدّه، وقبل منهم الجزية، وأقام قليلاً حتّى تلاحقت به السرايا من النواحي، ثمّ ارتحل وحمل جدّه إبراهيم فدفنه في بليرم، وقال ابن الأثير حمله إلى القيروان فدفنه بها.

وفي أيّامه ظهر أبو عبد الله الشيعي بكتامة يدعو للرضا من آل محمد ويبطن الدعوة لعبيد الله المهدي من أبناء إسماعيل الإمام، واتبعه كتامة وهو من الأسباب التي دعته للتوبة والإقلاع والخروج إلى صقلية. وبعث إليه موسى بن عياش صاحب صلته بالخبر، وبعث إبراهيم رسوله إلى الشيعي بانكجان يهدّده ويحذّره فلم يقبل، وأجابه بما يكره. فلمّا

٣٢٦

قربت أُمور أبي عبد الله وجاء كتاب المعتضد لإبراهيم أظهر التوبة ومضى إلى صقلية، وكانت بعده بإفريقية حروب أبي عبد الله الشيعي مع قبائل كتامة حتّى استولى عليهم واتّبعوه.

وكان إبراهيم قد أسرّ لابنه أبي العبّاس في شأن الشيعي، ونهاه عن محاربته وأن يلحق به إلى صقلية إن ظهر عليه.

ولمّا هلك إبراهيم سنة تسع وثمانين وولي مكانه ولده أبو العبّاس عبد الله، ولأُمورٍ بلغته عن ولده زيادة الله من اعتكافه على اللّذات واللهو، وعزمه على التوثّب عليه ؛ اعتقله وولّى على صقلية مكانه محمد بن السرقوسي، ثمّ ولي زيادة الله أبو مضر بعد مقتل أبيه أبي العبّاس.

وجرت حروب بينه وبين أبي عبد الله الشيعي، كان فيها الظهور للشيعي واستيلاؤه على بلاده فخروج زيادة الله من المغرب إلى المشرق سنة ستّ وتسعين.

ثمّ تفرّق بنو الأغلب وانقطعت أيّامهم، وأصبحت افريقية وصقلية في حكم عبيد الله المهدي ودانت له، وبعث العمّال في نواحيها وأصبحت صقلية في ولاية الكلبيّين ؛ فكان أول والٍ عليها من قبل المهدي الحسن بن محمد بن أبي خنزير(١) من رجالات كتامة، فوصل إلى مازر سنة سبع وتسعين في العساكر، فولّى أخاه على كبركيت، وولّى على القضاء بصقلية اسحق بن المنهال.

ثمّ سار سنة ثمان وتسعين في العساكر إلى دمشق فعاث في نواحيها ورجع، ثمّ شكى أهل صقلية سوء سيرته وثاروا به وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم وولّى عليهم أحمد بن قهرب، وبعث سريّةً إلى أرض قلورية فدوّخوها ورجعوا بالغنائم والسبي.

ثّم أرسل سنة ثلاثمئة ابنه عليّاً إلى قلعة طرمن المحدثة ليتخذها حصناً لحاشيته وأمواله حذراً من ثورة أهل صقلية. فحصرها ابنه ستّة أشهر، ثمّ اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامه وأرادوا قتله فمنعه العرب، ودعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه.

وقطع خطبة المهدي وبعث الأسطول إلى افريقية، ولقوا أسطول المهدي وقائده الحسن ابن أبي خنزير فقتلوه وأحرقوا الأسطول.

وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخرّبوها، وانتهوا إلى طرابلس، وانتهى الخبر إلى القائم بن المهدي، ثمّ وصلت الخِلَع

____________________

(١) وفي تاريخ أبي الفداء ابن أبي حفترير.

٣٢٧

والألوية من المقتدر إلى ابن قهرب، ثمّ بعث الجيش في الأسطول إلى قلوية، فعاثوا في نواحيها ورجعوا، ثمّ بعث ثانيةً أسطولاً إلى افريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره وعصى عليه أهل كبركيت، وكاتبوا المهدي، ثمّ ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمئة وحبسوه وأرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر خنزير في جماعةٍ من خاصّته.

وولّى على صقلية أبا سعيد بن أحمد، وبعث معه العساكر من كتامة، فركب إليها البحر فنزل في طرانية، وعصى عليه أهل صقلية بمَن معه من العساكر فامتنعوا عليه وقاتله أهل كبركيت وأهل طرانية، فهزمهم وقتلهم، ثمّ استأمن إليه أهل طرانية فأمنهم وهدم أبوابها.

وأمره المهدي بالعفو عنهم، ثمّ ولّى المهدي على صقلية سالم بن راشد، وأمدّه سنة ثلاث عشرة بالعساكر، فعبر البحر إلى أرض انكبردة فدوّخها، وفتحوا فيها حصوناً ورجعوا، ثمّ عادوا إليها ثانية وحاصروا مدينة أدرنت أيّاماً، ورحلوا عنها، ولم يزل أهل صقلية يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلية وقلورية ويعيثون في نواحيها.

وبعثّ المهدي سنة ثنتين وعشرين جيشاً في البحر مع يعقوب بن إسحاق فعاث في نواحي جنوة. ولمّا كانت سنة خمس وعشرين انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد، وقاتلوا جيشه، وخرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم وحصرهم ببلدهم واستمدّ القائم فأمده بالعساكر مع خليل بن اسحاق، فلمّا وصل إلى صقلية شكا إليه أهلها من سالم بن راشد، واسترحمته النساء والصبيان، وجاءه أهل كبركيت وغيرها من أهل صقلية بمثل ذلك، فرقّ لشكواهم ودسّ إليهم سالمٌ بأنّ خليلاً إنّما جاء للانتقام منهم بمَن قتلوا من العسكر. فعاودوا الخلاف واختطّ خليل مدينةً على مرسى المدينة وسمّاها الخالصة.

وتحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم، واستعدّوا للحرب، فسار إليهم خليل منتصف ستّ وعشرين وحصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال ويراوحهم. حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة واجتمع أهل صقلية على الخلاف، واستمدّوا ملك القسطنطينية فأمدّهم بالمقاتلة والطعام، واستمدّ خليل القائم فأمدّه بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور وقلعة البلّوط وحاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع وعشرين ؛ فارتحل عنها وحاصر كبركيت ثمّ حبس عليها عسكراً للحصار مع أبي خلف بن هارون، ورحل عنها وطال حصارها إلى سنة

٣٢٨

تسع وعشرين. فهرب كثيرٌ من أهل البلد إلى بلد الروم واستأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة، ثمّ غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع وأطاعوا.

ورجع خليل إلى أفريقية آخر سنة تسع وعشرين، وحمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة، وأمر بخرقها في لجّة البحر فغرقوا أجمعين.

ثمّ ولّى على صقلية عطاف الأزدي.

ثمّ كانت فتنة أبي يزيد، وشُغل القائم والمنصور بأمره، فلمّا انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلية للحسن بن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم ووجوه قوّاده، وكنيته أبو الغنائم، وكان له في الدولة محلٌّ كبير في مدافعة أبي يزيد عناء عظيم.

وكان سبب ولايته أنّ أهل بليرم كانوا قد استضعفوا عطافاً، واستضعفهم العدو لعجزه ؛ فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس وثلاثين.

وتولّى كبروبك بنو الطير منهم، ونجا عطاف إلى الحصن وبعث للمنصور يعلمه ويستمدّه، فولّى الحسن بن علي على صقلية، وركب البحر إلى مازر وأرسى بها فلم يلقه أحدٌ منهم، وأتاه في الليل جماعة من كتامة واعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير، وبعث بنو الطير عيونهم عليه واستضعفوه وواعدوه أن يعودوا إليه، فسبق ميعادهم ودخل المدينة ولقيه حاكم البلد وأصحاب الدواوين.

واضطرّ بنو الطير إلى لقائه وخرج إليهم كبيرهم إسماعيل، ولحق به من انحرف عن بني الطير فكثر جمعه، ودسّ إسماعيل بعض غلمانه فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنّه أكره امرأته على الفاحشة، يعتقد أنّ الحسن لا يعاقب مملوكه فتخشن قلوب أهل البلد عليه. وفطن الحسن لذلك فدعا الرجل واستحلفه على دعواه وقتل عبده. فسرّ الناس بذلك ومالوا عن الطير وأصحابه وافترق جمعهم. وضبط الحسن أمره وخشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين، وبعث ملك الروم بطريقاً في البحر في عسكرٍ كبيرٍ إلى صقلية واجتمع هو والسردغرس.

واستمدّ الحسن بن علي المنصور فأمدّه بسبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمئة راجل، وجمع الحسن مَن كان عنده وسار برّاً وبحراً وبعث السرايا في أرض قلورية، ونزل على أبراجه فحاصرها. وزحف إليه الروم، فصالحه على مالٍ أخذه، وزحف إلى الروم ففرّوا من غير حرب.

ونزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهراً وصالحهم على مال، ورجع بالأسطول إلى مسينة فشتى بها.

وجاءه أمر

٣٢٩

المنصور بالرجوع إلى قلورية، فعبر إلى خراجة فلقي الروم والسردغرس، فهزمهم وامتلأ من غنائمهم، وذلك يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمئة.

ثمّ سار إلى خراجة في حرّها حتّى هادنه ملك الروم قسطنطين.

ثمّ عاد إلى ربو وبنى بها مسجداً وسط المدينة، وشرط على الروم أن لا يعرضوا له، وأنّ مَن دخله من الأسرى أمن.

ولمّا توفّي المنصور وملك ابنه المعز سار إليه الحسن واستخلف على صقلية ابنه أحمد، وأمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية، فغزاها وفتح طرمين وغيرها سنة إحدى وخمسين، وأعيته رمطة فحاصرها، فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفاً مدداً.

وبعث أحمد يستمدّ المعز، فبعث إليه المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن، وجاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة ورجفوا إلى رومطة، ومقدّم الجيش على حصارها الحسن بن عمّار وأبن أخي الحسن بن علي. فأحاط الروم بهم وخرج أهل البلد إليهم، وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه، وقُتل جماعة من البطارقة معه، وانهزم الروم وتتبّعهم المسلمون بالقتل، وامتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى والسبي.

ثم فتحو رمطة عنوة وغنموا ما فيها، وركب فلّ الروم من صقلية وجزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم، فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب، فحرقوا مراكبهم وقتل كثير منهم، وتُعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز وكانت سنة أربع وخمسين، وأسر فيها ألف من عظمائهم ومئة بطريق، وجاءت الغنائم والأُسارى إلى مدينة بليرم حضرة صقلية، وخرج الحسن للقائهم فأصابته الحمّى من الفرح فمات وحزن الناس عليه، وولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلية بعد أن ولّى المعزّ عليهم يعيش مولى الحسن، فلم ينهض بالأمر ووقعت الفتنة بين كتامة والقبائل وعجز عن تسكينها. وبلغ الخبر إلى المعزّ فولّى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابةً عن أخيه أحمد، ثمّ توفّي أحمد بطرابلس سنة تسع وخمسين، واستبدّ بالإمارة أخوه أبو القاسم علي، وكان مدلاًّ محيّاً.

وسار إليه سنة إحدى وسبعين ملك الفرنج في جموع عظيمة، وحصر قلعة رمطة وملكها وأصاب سرايا المسلمين. وسار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم فلمّا قاربهم خام عن اللقاء ورجع.

وكان الإفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في أتباعه وأدركه، فاقتتلوا وقُتل

٣٣٠

أبو القاسم في الحرب، وأهمّ المسلمين أمرهم فاستماتوا وقاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة. ونجا ردويل إلى خيامه برأسه وركب البحر إلى رومة. وولّى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم ابنه جابراً فرحل بالمسلمين لوقته راجعاً ولم يعرّج على الغنائم.

وكانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة ونصفاً، وكان عادلاً حسن السيرة، ولمّا ولي ابن عمّه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن، وكان من وزراء العزيز وندمائه استقامت الأمور وحسنت الأحوال، وكان يحب أهل العلم ويجزل الهبات لهم. وتوفّي سنة خمس وسبعين، ووُلِّي أخوه عبد الله فاتّبع سيرة أخيه إلى أن توفّي سنة تسع وسبعين.

ووُلِّي ابنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن فأنسى بجلائله وفضائله مَن كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج وعطّل نصفه الأيسر سنة ثمان وثمانين.

وولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف، فضبط الأمور وقام بأحسن قيام وخالف عليه أخوه علي سنة خمس وأربعمئة أنّه مع البربر والعبيد ؛ فزحف إليه جعفر فظفر به وقتله ونفى البربر والعبيد واستقامت أحواله. ثمّ انقلبت حاله واختلت على يد كاتبه ووزيره حسن بن محمد الباغاني، فثار عليه الناس بسببها وجاؤوا حول القصر، وأخرج إليهم أبو الفتوح في محفّة، فتلطّف بالناس وسلّم إليهم الباغاني فقتلوه وقتلوا حافده أبا رافع، وخلع ابنه ابن جعفر ورحل إلى مصر وولّى ابنه ابن جعفر سنة عشرة، ولقبّه بأسد الدولة بن تاج الدولة ويُعرف بالأكحل ؛ فسكن الاضطراب واستقامت الأحوال وفوّض الأمور إلى ابنه ابن جعفر وجعل مقاليد الأمور بيده، فأساء ابن جعفر السيرة وتحامل على صقلية ومال إلى أهل افريقية، وضجّ الناس وشكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان وأظهروا دعوته ؛ فبعث الأسطول فيه ثلاثمئة فارس مع ولديه عبد الله وأيّوب.

واجتمع أهل صقلية وحصروا أميرهم الأكحل، وقُتل وحُمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة وأربعمئة.

ثمّ ندم أهل صقلية على ما فعلوه، وثاروا بأهل افريقية وقتلوا منهم نحواً من ثلاثمئة وأخرجوهم، وولّوا الصمصام أخا الأكحل. فاضطربت الأمور وغلب السفلة على الأشراف.

ثمّ ثار أهل بليرم على الصمصام وأخرجوه، وقدّموا عليهم ابن الثمنة من رؤوس الأجناد، وتلقّب القادر بالله واستبدّ بمازر... ابنه عبد الله قبل

٣٣١

الصمصام، وغلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله واستقلّ بملك الجزيرة إلى أن أُخذت من يده. ولمّا استبدّ ابن الثمنة بصقلية تزوّج ميمونة بنت الجراس، فتخيّل له منها شيء فسقاها السمّ، ثمّ تلافاها وأحضر الأطباء فأنعشوها وأفاقت، فندم واعتذر، فأظهرت له القبول، واستأذنته في زيارة أخيها بقصريانة، وأخبرت أخاها فحلف أن لا يردّها.

ووقعت الفتنة وحشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس، فانتصر ابن الثمنة بالروم وجاء القمص، وجاء ابن ينقر بن خبرة ومعه سبعة من أخوته وجمع من الفرنج ووعدهم بملك صقلية، وقصد قصريانة وحكموا على مروا من المنازل، وخرج ابن جراس فهزمه ورجع إلى افريقية عُمر بن خلف بن مكّي فنزل تونس ووُلِّي قضاؤها، ولم يزل الروم يملكونها حتّى لم يبق إلاّ المعاقل.

وخرج ابن الجراس بأهله وماله صلحاً سنة أربع وستين وأربعمئة. وتملّكها رجار كلّها وانقطعت كلمة الإسلام منها، ودولة الكلبيين وهم عشرة ومدتهم خمس وتسعون سنة.

ومات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع وتسعين، وولي ابنه رجار الثاني وطالت أيامه، وله ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب: نزهة المشارق(١) في أخبار الآفاق.

وممّن شارك من الكتاميين في تأسيس الدولة الفاطميّة ومَن ساهم في أعمالها

١ - كان الكتاميّون أوّل من لبّى الدعوة الفاطميّة وأيّدوا داعيها أبا عبد الله الشيعي، وقد عرفت في تضاعيف البحث عنهم وفيما سبق في تاريخ الدولة الفاطميّة، ما كان لهم من المكانة والمنزلة في بلاد المغرب، وبنصرتهم مهدّ أبو عبد الله الأمر لأوّل خلفائهم أبي عبيد الله الملقّب بالمهدي، وبهم انتصر المهديُّ على بني الأغلب وبني مدرار، واستولى على سلطانهم الذي طوى قروناً وقد عرف لهم بلاءهم وقسّم على وجوههم الأعمال سنة ٢٩٧.

وفي خطط المقريزي:

وما زالت كتامة هي أهل الدولة مدّة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة معدّ بن

____________________

(١) المعروف المشتاق بدل المشارق.

٣٣٢

المنصور، وبهم أخذ ديار مصر لمّا سيّرهم إليها مع القائد جوهر في سنة ٣٥٨ وهم أيضاً كانوا أكابر من قَدِم معه من الغرب في سنة ٣٦٢، فلمّا كان في أيّام ولده العزيز بالله نزار اصطنع الديلم والأتراك وقدمهم وجعلهم خاصّته، فتنافسوا وصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز بالله، وقام من بعده أبو علي المنصور الملقّب بالحاكم بأمر الله فقدّم ابن عمّار الكتامي وولاّه الوساطة ج ٣ ص ١٨.

ولمّا انحرف أبو عبد الله وأخوه أبو الفضل أحمد عن المهدي لاستبداده دونهما بالأمر، وحاولا الانتقاض عليه وائتمرا على قتله، وأرسلا شيخ مشايخ كتامة لامتحان المهدي وتوهين أمره بزعمهما، بعد أن هبّت ريحه واشتدّت عصبته وقويت بالكتاميين أنفسهم شوكته، فخدعا ذلك الكتاميّ الذي جُوزي بالقتل، أعادا المؤامرة على المهدي وكان من الكتاميّين في المؤتمرين أبو زاكي تمّام بن معارك، ولكنّ المهدي تعجّل تنفيذ المؤامرة بقتلهما، ولمّا علم بمداخلة أبي زاكي في المؤامرة بعثه والياً على طرابلس وأمر واليها بقتله فقتله.

وظهرت فتنة سكنها المهدي، ورجعت كتامة إلى بلادها بعد أن استقرّ له الأمر.

٢ و ٣ - عروبة وأخوه حباسة:

لمّا قوي أمر الشيعي والتقى جيشه وجيش زيادة الله وقد بلغ عدده مئة ألف، وقد زحف لقتال الشيعي وكتامة إبراهيم بن جيش من صنائع زيادة الله وقد تلقّته كتامة بإجانة فانهزمت عساكره وتقهقر إلى باغاية ثمّ إلى القيروان.

وكان ممّن توجّه لقتال زيادة الله عروبة بن يوسف من أمراء كتامة وأوقع بباغاية.

ولمّا فرّ زيادة الله إلى الشرق حضر الشيعي وفي مقدّمته عروبة بن يوسف وحسن بن أبي جفترير (خنزير) وهما اللذان أمرهما المهديُّ بقتل الشيعي وأخيه سنة ٢٩٧، وبعد قتلهما ولّى حباسة على برقة وعلى المغرب عروبة، وأنزله باغاية إلى تاهرت وافتتحها.

وفي سنة ٣٠٠ هـ لمّا أغزى المهدي ابنه أبا القاسم الإسكندرية بعث أسطولاً مؤلّفاً من مئتي مركب، عقد لواءه على حباسة، فملكوا برقة ثمّ الاسكندرية والفيّوم، ثمّ عاد حباسة بعد أن بعث المقتدر العبّاسي سبكتكين ومؤنساً الخادم سنة ٣٠٢.

وقد قتل المهدي حباسة فشقّ ذلك على أخيه عروبة فانتقض عليه، وتبعه جموع من كتامة والبربر،

٣٣٣

فأرسل إليهم المهدي مولاه غالباً فهزمهم وقتل عروبة وبني عمّه وكثيراً من أشياعهم.

٤ - يعقوب الكتامي:

لما جهّز المهدي سنة ٣٠٧ ابنه أبا القاسم على مصر ثالثةً فملك الإسكندرية والجزيرة والأشمونين، فأرسل المقتدر مؤنساً، وبعد عدّة مواقع انتصرت مراكب الخليفة القادمة من طرسوس وكانت خمسة وعشرين مركباً على أسطول افريقية المؤلّف من ثمانين مركباً، وقد سيّر نجدةً لأبي القاسم يقوده سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وقد أُسرا، أمّا سليمان فقد مات في السجن، ويعقوب فقد هرب من حبس بغداد وكان قد سيّر إليها.

٥ - الحسن بن هارون الكتامي:

جمع هذا الرجل كلمة قبيلة كتامة لتأييد دعوة أبي عبد الله الشيعي، وذلك أنّه لمّا بلغ ابن الأغلب خبره كتب إلى عامله على ميلة يسأله عنه فصغّره، وذكر أنّه يلبس الخشن ويأمر بالخير والعبادة فسكت عنه.

ثمّ قال الشيعي للكتاميين: أنا صاحب البذر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلواني، فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لأمره، وتفرقت كلمة البربر وكتامة بسببه، فأراد بعضهم قتله فاختفى ووقع بينهم قتال شديد، واتصل الخبر بالحسن بن هارون وهو من أكابر كتامة فأخذ أبا عبد الله إليه ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون فأتته القبائل من كلّ مكانٍ وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون، وسلّم إليه أبو عبد الله أعنّة الخيل، وظهر من الاستتار وشهر الحروب فكان له الظفر فيها، وغنم الأموال وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها، فزحفت قبائل البربر إليها واقتتلوا ثمّ اصطلحوا ثمّ أعادوا القتال، وكان بينهم وقائع كثيرة ظفر بهم وصارت إليه أمولهم، فاستقام له أمر البربر وكتامة.

٦ - ريحان الكتامي:

ولاّه موسى بن أبي العافية على فاس سنة ٣٠٩ هـ.

وفي سنة ٣١٣ ثار عليه الحسن بن محمد بن القاسم الإدريسي الملقّب بالحجام ونفاه عن فاس.

٧ - عبد الله بن يخلف الكتامي:

ولاّه المعزّ على طرابلس سنة ٣٦١ هـ. وهي السنة التي عزم على المسير فيها إلى مصر، وقد مهّد له

٣٣٤

جوهر ملكها، وأبقى صقلية في يد ابن الكلبي أبي القاسم علي بن الحسن بن علي بن أبي الحسين.

وفي سنة ٣٦٥ أقرّه العزيز نزار على طرابلس وأضاف إلى ولايته سرت وجرابية.

٨ و ٩ - من رؤساء كتامة الذين رافقوا أبا عبد الله الشيعي من مكّة إلى مصر فافريقية وأيّدوا دعوته: حريث الجميلي وموسى بن مكاد.

١٠ - جعفر بن فلاح الكتامي:

كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصريّة، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فتغلّب على الرملة سنة ٣٥٨، ثمّ غلب على دمشق وملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ٣٦٠، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق، فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل فظفر به القرمطي، وقتله وقتل خلقاً كثيراً من أصحابه سنة ٣٦١.

وقد ترجم له القاضي ابن خلّكان في وفياته ؛ فقال: كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي صاحب افريقية، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصرية، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فغلب على الرملة في ذي الحجّة سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة، ثمّ غلب على دمشق فملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ستّين، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل، فظفر به القرمطي فقتله وقتل من أصحابه خلقاً كثيراً، وذلك في يوم الخميس لستّ خلون من ذي القعدة سنة ٣٦٠ (ره).

وقال بعضهم: قرأت على باب قصر القائد جعفر بن فلاح المذكور بعد قتله مكتوباً:

يا منزلاً عبث الزمانُ بأهله فـأبادهم بـتفرّقٍ لا يجمعُ

أيـن الذين عهدتهم بك مرّةً كان الزمان بهم يضر وينفعُ

٣٣٥

وكان جعفر المذكور رئيساً جليل القدر ممدوحاً، وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هاني الأندلسي:

كـانت مساءلة الركبان تخبرني عن جعفر بن فلاح أطيب الخبرِ

حـتّى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري

١١ - سليمان بن جعفر بن فلاح:

قال القلانسي:

(وكان هذا القائد مشهوراً بالكفاية والغناء وتوقّد اليقظة في أحواله والمضاء، ويكنّى بأبي تميم، بعثه العزيز بالله والياً على دمشق سنة ٣٦٩ فنزل بظاهرها، ولم يمكّنه قسّام الحارثي من دخولها وقوتل وأزعج من مكانه).

وفي سنة ٣٨٦ جهّزه الحاكم بأمر الله إلى الشام لقتال برجوان، وقد انتقض عليه بسبب تغلّب ابن عمّار وكتامة على الشام، فبعث سليمان هذا أخاه عليّاً إلى دمشق، فامتنع أهلها عليه فكاتبهم وتهددهم وأذعنوا ودخل البلد ففتك بهم، ثمّ قدم أبو تميم فأمن وأحسن. وبعث أخاه عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة، فسار إلى مصر. وبعد قتل ابن عمّار وإظهار برجوان الحاكم وتجديد البيعة له انتقض برجوان على أبي تميم بن فلاح.

قال المقريزي في خططه:

(وفي سنة ٣٨٦ هـ ندب الحسن بن عمّار أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح وقدّمه وجعله اسفهلاّر الجيش، وأمره بالمسير إلى الشام، فسار من مصر ورحل منجوتكين إلى الرملة فملكها وأخذ أموالها.

وجرى بينه وبين سليمان حرب في عسقلان انتهت بهزيمة منجوتكين، ولمّا انجلت فتنة ابن عمّار بتجديد البيعة للحاكم بأمر الله، وكتب بذلك إلى دمشق وفيه ما يبعث على الوثوب على سليمان، ولمّا كان مع ما عُرف به من الكفاية واليقظة والمضاء، مستهتراً بشرب الراح واستماع الغناء والتوفّر على اللذة، ولمّا وردت المطلقات المصريّة بما اشتملت عليه في حقّه وهو منهمك في القهوة، لم يشعر إلاّ بزحف العامّة والمشارقة إلى قصره وهجومهم عليه، فخرج هارباً على ظهر فرسه. (انتهى ملخّصاً عن تاريخ ابن القلانسي).

٣٣٦

وكان برجوان ألدّ أعداء ابن عمّار وهو الذي عمل على إسقاطه والاستئثار دونه بأمر الخلافة. وفي هذه السنة اصطنع جيش بن محمد بن الصمصامة، وقدّمه وجهّز معه ألف رجلٍ وسيّره إلى دمشق وأعمالها، وبسط يده في الأموال وردّ إليه تدبير الأعمال، فسار جيش ونزل على الرملة، والوالي عليها وحيد الهلالي، ومعه خمسة آلاف رجل، ووافاه ولاة البلد وخدموه. وصادف القائد أبا تميم سليمان بن فلاح فقبضه قبضاً جميلاً.

وسار جيش بن الصمصامة على مقدّمته بدر بن ربيعة لقصد المفرج بن دغفل بن الجراح وطلبه، فهرب بين يديه حتّى لحق بجبلي طيئ وتبعه حتّى كاد يأخذه، ثمّ عفى عنه واستحلفه على ما قرّره معه وعاد إلى الرملة. وستجد أخباره في غير هذا المكان.

وفي خطط المقريزي ج ٤ ص ٦٨:

وفي سنة ٣٨٦ هـ ولي الحاكم بأمر الله الخلافة بعد أبيه العزيز بالله نزار، وجعل أبا محمد الحسن بن عمّار وساطة ولقّب بأمين الدولة وقلّد سليمان بن فلاح الشام. فخرج بنجوتكين من دمشق وسار منها لمدافعته، فبلغ الرملة وانضمّ إليه ابن الجراح الطائي في كثيرٍ من العرب، وواقع ابن فلاح فانهزم وفرّ ثمّ أُسر فحمل إلى القاهرة.

وفي سنة ٣٨٧ صرف عن ولاية الشام بجيش بن الصمصامة.

١٢ - علي بن جعفر بن فلاح الكتامي:

الملقّب بقطب الدولة كذا في خطط الشام، تقدّم شيء من خبره في أخبار أخيه سليمان، فقد ولي دمشق من قبل أخيه ثمّ طرابلس.

وفي سنة ٣٩٠ ولي(١) دمشق بعد وفاة واليها فحل بشهور.

وفي سنة ٣٩٢ في شهر رمضان قلد ولايتها تموصلت (طرفلة) عوضاً عن ابن فلاح.

وفي سنة ٣٩٨ مات منجوتكين وولّي علي بن فلاح دمشق. وفي هذه السنة ولّي ولاية طرابلس.

وفي سنة ٣٩٩ ولّي دمشق القائد حامد بن ملهم لست بقين من رجب، وكان القائد علي بن جعفر بن فلاح مستولياً على الجند نافذ الأمر

____________________

(١) وفي سنة ٣٩٧ كان من قوّاد الجيش الشامي الحاكمي لقتال أبي ركوة الذي خرج على الحاكم واستفحل أمره، وانضمّ إليه بنو قرّة وبعض كتامة لمّا نالهم جميعاً من اضطهاد الحاكم وسوء سياسته، وانتهى أمر أبي ركوة بالانكسار والقتل، ولم يذكر في الكامل خروجه لحرب أبي ركوة.

٣٣٧

في البلد، فورد كتاب عزله في يوم الجمعة النصف من شهر رمضان.

وكانت مدّة مقامه في الولاية إلى انصرافه ومسيره سنة واحدة وأربعة أشهر ونصف شهر.

وفي سنة ٤٠٩ جاء في الخطط ج ٤ ص ٧٤:

وأقام (الحاكم) ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن علي بن جعفر بن فلاح في الوساطة والسفارة.

١٣ - القائد أبو محمود بن إبراهيم بن جعفر:

هكذا نسبه في ذيل تاريخ دمشق (ابن القلانسي).

وفي خطط الشام: أبو محمود بن جعفر بن فلاح.

وفي تاريخ ابن خلدون: أبو محمود بن إبراهيم.

وفي الخطط في مكان آخر: وجيش بن محمد بن الصمصامة أبو الفتوح القائد المغربي هو ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام المتوفّى سنة ٣٩١.

وفي خطط المقريزي: أبو محمود إبراهيم بن جعفر.

وأبو محمود من شيوخ كتامة كان من قوّاد المعز وابنه العزيز، ففي سنة ٣٦٣ جرّد في خمسة عشر ألف رجل في طلب القرمطي، وقد فرّ من مصر مغلولاً، فاتبعه وتثاقل في سيره خوفاً من رجوعه عليه. ولمّا علم أبو محمود ارتحاله من أذرعات إلى الأحساء رحل ونزل بها مكانه. وفي هذه السنة وصل بجيشه إلى دمشق، وكان والياً عليها ظالم بن موهوب العقيلي، فخرج لتلقّيه ولمّا نزل على دمشق في جيشه اضطرب الناس وجرت أمورٌ عظام بين الجيش والدمشقيين لم تنفرج إلاّ بعد شهرين ونصف شهر. وتقرّرت الموادعة والمصالحة إلى أن ولي جيش بن الصمصامة البلد من قبل خاله أبي محمود. ولمّا استقرّ الصلح والموادعة بين أهل دمشق وأبي محمود، وخمدت نار الفتنة بعض الخمود، وركدت ريحها بعض الركود، وسكنت نفوس أهل البلد واطمأنت القلوب بين الفريقين، اعتمد أبو محمود على ابن أخته جيش في ولاية دمشق وحمايتها. ولكن لم يطل الأمر حتّى عادت الفتنة، ممّا حدا بالمعز أن يولّي ريّان الخادم عقيب هذه الفتنة والياً عليها، ويستقدمه من طرابلس فيصرف أبو محمود عن دمشق. ولكن أهل دمشق لم تطب نفوسهم لحكم المغاربة والفاطميّين وصادف أن كان قد نزل ضاحية دمشق الفتكين المغربي، فحملوه على ولاية حكم بلدهم. وقد جرت حروب بين جيوش المعز والفتكين. وقد استنجد بالقرمطي، استدعت أخيراً أن يتولّى المعز

٣٣٨

بنفسه القيادة العامّة للجيوش المصرية، وينتهي الأمر بفوزها على الفتكين والقبض عليه، ثمّ العفو عنه وحمله إلى مصر معزّزاً مكرّماً.

ثمّ غلب قسام الحارثي من قرية تلفيت ومن خواص أصحاب الفتكين على دمشق سنة ٣٦١ بعد أن كانت في ولاية حميدان.

ووليها بعده القائد أبو محمود في نفرٍ يسير، وهو ضميمة لقسام وما زال على هذه الحال إلى سنة ٣٧٠ حيث هلك فيها.

١٤ - أبو الفتوح جيش بن محمد بن صمصامة:

القائد المغربي ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام. تولّى نيابة دمشق غير مرّة وكان ظالماً سفّاكاً للدماء.

قالوا: وعمّ الناس في ولايته البلاء من القتل وأخذ المال، حتّى لم يبق بيت في دمشق ولا بظاهرها إلاّ امتلأ من جوره. توفي سنة ٣٩١.

ولي دمشق سنة ٣٦٤ بعد إخراج ظالم منها، وسكن الناس إليه بعد فتنة. ولمّا عاد المغاربة إلى الجيش وعاد العامّة إلى الثورة وقصدوا القصر الذي فيه جيش، هرب ولحق بالعسكر.

وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي، وقطع الماء عن البلد، فضاقت الأحوال وبطلت الأسواق وبلغ الخبر إلى المعز فنكر ذلك على أبي محمود واستعظمه، وبعث إلى ريان الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فصرفه إلى الرملة وبعث إلى المعز بالخبر، وأقام بدمشق إلى أن وصل افتكين (هفتكين) والياً عليها.

وبعد وفاة المعز سنة ٣٦٥ وولاية ابنه العزيز والظفر بافتكين والقبض عليه وولاية قسام الحارثي، كان مع قسام جيش وأقام بعده في ولايته، وقد زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسام أنّه جاء لإصلاح البلد، فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول في ظاهر البلد هو وأصحابه.

واستوحش قسام وتجهّز للحرب ثمّ قاتل وانهزم أصحابه، ودخل بلتكين أطراف البلد فنهبوا وأحرقوا، واعتزم أهل البلد على الاستئمان إلى بلتكين وشافهوه بذلك فأذن لهم.

وسمع قسام فاضطرب وألقى ما بيده واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسام فأمن الجميع.

وولّي على البلد أمير اسمه خطلج، فدخل البلد في المحرم سنة اثنتين وستّين، ثمّ اختفى قسام بعد يومين فانتهبت دوره ودور أصحابه، وجاء ملقياً بنفسه على بلتكين فقبله وحمله إلى مصر فأمنه العزيز.

٣٣٩

ولمّا توفّي العزيز سنة ٣٨٦ هـ. وولي بعده ولده الحاكم بأمر الله، وكان برجوان الخادم قد استولى على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك، وكان مدبّر دولة، وكان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمّار، ولُقّب بأمين الدولة. وقد تغلّب ابن عمّار وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم.

ونكر منجوتكين تقديم ابن عمّار في الدولة وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك، فأظهر الانتقاض.

وجهّز ابن عمّار العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح، فلقيهم بعسقلان وانهزم منجوتكين وأصحابه، وسيق أسيراً إلى مصر فأبقى عليه ابن عمّار واستماله للمشارقة.

وعقد على الشام لسليمان بن فلاح، فبعث من طبرية أخاه عليّاً على دمشق. ولمّا جرى منه فيها أُمور لم ترضه وقدم إليها بعث عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش ابن الصمصامة، فسار إلى مصر وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمّار وأعيان كتامة وكان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة. نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة ونكبة أخيه شرف الدولة إياه، فخلص إلى العزيز فقرّبه وحظي عنده فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامة.

وثارت الفتنة واقتتل المشارقة والمغاربة، فانهزمت المغاربة واختفى ابن عمّار، وأظهر برجوان الحاكم وجدّد له البيعة، وكتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح.

ولمّا زحف الدوقش ملك الروم على حصن افامية محاصراً لها، جهّز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان وأسطولاً في البحر.

ثمّ سار جيش إلى المفرج ابن دغفل، فهرب أمامه ووصل إلى دمشق وتلقّاه أهلها مذعنين فأحسن إليهم وسكنهم ورفع أيدي العدوان عنهم.

ثمّ سار إلى افامية وصافّ الروم عندها فانهزم أوّلاً هو وأصحابه، وثبت بشارة اخشيدي بن قرارة في خمس عشرة فارساً، ووقف الدوقش ملك الروم على رابيةٍ في ولده وعدّة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين، فقصد كردي من مصاف الاخشيدي وبيده عصا من حديد يسمّى الخشت، وظنّه الملك مستأمناً، فلمّا دنا منه ضربه بالخشت فقتله وانهزم الروم، واتبعهم جيش بن الصمصامة إلى انطاكية يغنم ويسبي ويحرق.

ثمّ عاد مظفّراً إلى دمشق، فنزل بظاهرها ولم يدخل، واستخلص رؤساء الأحداث واستحجبهم، وأقيم له الطعام في كلّ يوم، وأقام على ذلك برهة ثمّ أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363