حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 363

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156088 / تحميل: 8640
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

إلى توحيد الله فيما تقدم، وما تأخّر لأنّ مشركي مكة أسلم بعضهم، وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد، عليه، إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عند ذلك مغفورا بظهوره عليهم... ).

س ١٣ - لله درك يا أبا الحسن!! اخبرني عن قول الله عزّ وجل:( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) (١) .

ج ١٣ - هذا ممّا نزل، بإياك أعني واسمعي يا جارة - خاطب الله عزّ وجل بذلك نبيه، وأراد به أمّته، وكذلك قوله تعالى:( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) (٢) وقوله عزّ وجل:( لولا أن ثبتناك لقد كنت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) (٣) .

س ١٤ - إنّ رسول الله (ص) قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها: سبحان الذي خلقك وإنّما أراد بذلك تنزيه الباري عزّ وجل عن قول: من زعم أنّ الملائكة بنات الله فقال الله عزّ وجل:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ) (٤) فلمّا عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيء رسول الله (ص) وقوله لها: سبحان الذي خلقك فلم يعلم زيد ما أراد بذلك وظن أنّه قال ذلك لما أعجبته من حسنها فجاء إلى النبي (ص) وقال له: يا رسول الله إن امرأتي في خلقها وإنّي أريد طلاقها فقال له النبي: أمسك عليك زوجك واتق الله وقد كان الله عرفه عدد أزواجه وان تلك المرأة منهن فأخفى ذلك في نفسه، ولم يبده لزيد، وخشي الناس أن يقولوا: إنّ محمّداً يقول لمولاه:

____________________

(١) سورة التوبة / آية ٤٣.

(٢) سورة الزمر / آية ٦٥.

(٣) سورة الإسراء / آية ٧٤.

(٥) سورة الإسراء / آية ٤٠.

١٦١

 إنّ امرأتك ستكون لي زوجة، يعيبونه بذلك، فأنزل الله عزّ وجل:( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ - يعني بالإسلام -وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ - يعني بالعتق -أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) ثم إنّ زيد بن حارثة طلقها واعتدت منه، فزوجها الله عزّ وجل من نبيه محمد (ص) وأنزل بذلك قرآنا، فقال عزّ وجل:( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ) .

ثم علم الله عزّ وجل ان المنافقين سيعيبونه بتزويجها، فأنزل الله تعالى( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ) (١) .

وانتهت بذلك هذه المناظرة التي دللت على مدى ثروات الإمام العلمية، وإحاطته الشاملة بكتاب الله العظيم فقد نزه الإمام أنبياء الله العظام عن اقتراف المعصية وأثبت لهم العصمة بهذا المدعم بالأدلة والبراهين الحاسمة.

إشادة المأمون بمواهب الإمام:

وأشاد المأمون بمواهب الإمام، وراح يقول:

شفيت صدري يا بن رسول الله، وأوضحت ما كان ملتبساً علي، فجزاك الله عن أنبيائه، وعن الإسلام خيراً. وانصرف المأمون عن المجلس، وأخذ بيد عم الإمام محمد بن جعفر فقال له: ( كيف رأيت ابن أخيك؟ ).

وانبرى محمد يبدي إعجابه البالغ بالإمام قائلاً: ( إنّه عالم، ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم!! ).

وأوقفه المأمون على حقيقة الأمر قائلاً: ( إنّ ابن أخيك من أهل بيت النبي (ص) الذين قال لهم النبي: ( إلاّ أنّ أبرار عترتي، وأطائب أرومتي، أحلم الناس صغاراً، وأعلم الناس كباراً، فلا تعلموهم، فإنّهم أعلم منكم، لا يخرجونكم عن هدى، ولا يدخلونكم في باب ضلالة ).

ونقل علي بن الجهم ثناء المأمون وإطرائه على الإمام، وما قاله فيه محمد بن

____________________

(١) سورة الأحزاب / آية ٣٨.

١٦٢

جعفر فتبسّم الإمام وقال: ( لا يغرنّك ما سمعته منه، فإنّه سيغتالني، والله تعالى ينتقم لي منه )(١) .

وتحقق تنبؤ الإمامعليه‌السلام فقد أترعت نفس المأمون بالكراهية والحسد للإمام على ما وهبه الله من الفضل والعلم، فقدم على اقتراف أفظع جريمة في الإسلام، فدسّ السم له، واغتاله وبذلك فقد قضى على سليل النبوّة، ومعدن العلم والحكمة في الأرض.

مسائل ابن السكيت:

ووفد أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي المعروف بـ ( ابن السكيت )، وهو من أجلاّء علماء عصره على الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقدم له السؤال التالي: ( لماذا بعث الله موسى بن عمران باليد البيضاء، وبعث عيسى بآية الطب، وبعث محمداً بالكلام والخطب؟ ).

فأجابه الإمام بحكمة ذلك قائلاً: إنّ الله لمّا بعث موسى كان الغالب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله بعث عيسى في وقت قد ظهرت فيه الزمانات، واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام(٢) ، فأتاهم من عند الله من مواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجّة عليهم.

وبهر ابن السكيت بعلم الإمام وراح يقول: ( والله ما رأيت مثلك قط، فما الحجة على الخلق اليوم؟ )

فأجابه الإمام: ( العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه ).

وطفق ابن السكيت قائلاً:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا / ١٩٥ - ٢٠٤.

(٢) قال الراوي لهذا الحديث: وأظنّه كان الشعر.

١٦٣

( هذا هو والله الجواب )(١) .

لقد خلق الله العقل فجعله الحجة على الإنسان فإذا ما أطاعه جلب الرحمة له، وإذا عصاه جلب الشقاء له، وبه يعرف الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، فهو الحجة من الله على عباده.

احتجاجه على رجل:

ودخل عليه رجل لم يذكر المؤرخون اسمه، فلمّا استقر به المجلس التفت إلى الإمامعليه‌السلام فقال له: ( يا بن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم؟ ) فأجابه الإمام بالدليل الحاسم: ( إنّك لم تكن، ثم كنت وقد علمت أنك لم تكون نفسك ولا كونك من هو مثلك )(٢) .

احتجاجه على اصطفاء العترة:

ومن بين احتجاجات الإمام الرضاعليه‌السلام هذا الاحتجاج الذي دلل فيه على اصطفاء العترة الطاهرة، وأقام على ذلك أوثق الأدلة، وكان ذلك بحضور المأمون وجماعة من علماء العراق وخراسان فقد سأل المأمون العلماء عن معنى هذه الآية:( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) (٣) .

وبادر العلماء فقالوا: إنّ الذين اصطفاهم الله هم المسلمون كلهم، والتفت المأمون إلى الإمام فقال له: ما تقول: يا أبا الحسن؟.

( لا أقول: كما قالوا: ولكن أقول: أراد الله تبارك وتعالى العترة الطاهرةعليهم‌السلام ).

وسارع المأمون، وقد استفزّه قول الإمام، فقال: ( كيف عنى العترة دون الأمة؟ ).

____________________

(١) الاحتجاج ٢ / ٢٢٤ - ٢٢٥.

(٢) الاحتجاج (٢ / ١٧٠ - ١٧١).

(٣) سورة فاطر / آية ٣٢.

١٦٤

وانبرى الإمام فأقام الدليل القاطع على ما ذهب إليه قائلاً: ( لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة، والله تعالى يقول:( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (١) .

وأضاف الإمام يقول: فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم... هم الذين وصفهم الله في كتابه، فقال:( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) وهم الذين قال رسول الله (ص): ( إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا على الحوض، انظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم )(٢) .

وسارع العلماء قائلين بصوت واحد: ( أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة هم الآل، أو غير الآل؟ ).

فقالعليه‌السلام : ( هم الآل... ). واعترضوا على الإمام قائلين: ( هذا رسول الله (ص) يؤثر عنه أنّه قال: أمّتي آلي، وهؤلاء أصحابه يقولون: بالخبر المستفيض الذي لا يمكن دفعه آل محمد أمته... ).

وأخذ الإمام يرد على افتعال الحديث وعدم صحته قائلاً: ( أخبروني هل تحرم الصدقة على آل محمد... ).

( نعم... ).

( هل تحرم - أي الصدقة - على الأمة؟ ).

( لا... ).

وسارع الإمام بعد إقامة الحجة عليهم قائلاً: ( هذا فرق بين الآل، وبين الأمة، ويحكم أين يذهب بكم!! ( أصرفتم عن الذكر صفحا، أم أنتم قوم مسرفون )؟ أما علمتم إنّما وقعت الرواية في الظاهر على المصطفين المهتدين دون سائرهم ).

____________________

(١) سورة فاطر / آية ٢٩.

(٢) حديث الثقلين: متواتر، قطعي الصدور روته الصحاح والسنن.

١٦٥

وقالوا جميعاً: ( من أين قلت: يا أبا الحسن؟... ).

وأخذ الإمام يتلو عليهم فضل العترة الطاهرة قائلاً: ( من قول الله:( لقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) (١)، فصارت وراثة النبوّة والكتاب في المهتدين دون الفاسقين، أما علمتم أنّ نوحاً سأل ربّه فقال:( رب إنّ ابني من أهلي وان وعدك الحق ) (٢)؛ وذلك أنّ الله وعده أن ينجيه وأهله، فقال له تبارك وتعالى:( إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) (٣)

وتميز المأمون غضباً وغيظا قائلاً: ( هل فضل الله العترة على سائر الناس؟... ).

وبادر الإمام قائلاً: ( إنّ الله العزيز الجبّار فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه... ).

وراح المأمون يقول: ( أين ذلك من كتاب الله ).

وانبرى الإمام يتلو عليه كوكبة من الآيات الكريمة التي أشادت بفضل أهل البيتعليهم‌السلام قائلاً:( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض ) (٤) .

وقال الله في موضع آخر:( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ) (٥) .

ثم رد المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المسلمين فقال:( يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (٦) يعني الذين أورثهم الكتاب والحكمة،

____________________

(١) سورة الحديد / آية ٢٦.

(٢) سورة هود / آية ٤٠.

(٣) سورة هود / آية ٤٦.

(٤) سورة آل عمران / آية ٣٢.

(٥) سورة النساء / آية ٥٧.

(٦) سورة النساء / ٥٩.

١٦٦

وحسدوا عليهما بقوله:( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين، والملك ها هنا الطاعة لهم... ).

وانبرى العلماء قائلين: ( هل فسّر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب؟... ).

وأجابهم الإمام: فسّر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً:

فأوّل ذلك قول الله: ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (١) - ورهطك المخلصين - هكذا في قراءة أبي بن كعب، وهي ثابتة في مصحف عبد الله بن مسعود، فلما أمر عثمان زيد بن ثابت أن يجمع القرآن خنس هذه الآية(٢) وهذه منزلة رفيعة، وفضل عظيم وشرف عال حين عنى الله عز وجل بذلك الآل فهذه واحدة.

والآية الثانية: في الاصطفاء قول الله:( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) وهذا الفضل الذي لا يجحده معاند لأنه فضل بين.

الآية الثالثة: حين ميز الله الطاهرين من خلقه أمر نبيه في آية الابتهال فقال:( قل - يا محمد -تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (٣) فأبرز النبي (ص) عليّاً والحسن والحسين وفاطمةعليهم‌السلام فقرن أنفسهم بنفسه.

ثم التفت الإمام إلى العلماء فقال لهم: ( هل تدرون ما معنى قوله:( وأنفسنا وأنفسكم ) ؟ ).

وأجاب العلماء: ( عنى به نفسه ). فقالعليه‌السلام : ( غلطتم إنّما عنى به عليّاً(٤) وممّا يدل على ذلك قول النبي (ص): حين قال:

____________________

(١) سورة الشعراء / آية ٢١٤.

(٢) خنس: اي ستر.

(٣) سورة آل عمران / آية ٥٨ وليس في القرآن كلمة يا محمد، وإنّما هو توضيح منه.

(٤) وبالإضافة إلى ما ذكره الإمامعليه‌السلام من الدليل فإنّه لا معنى لأن يدعو الإنسان نفسه فلا بد أن يكون المراد به عليّاًعليه‌السلام .

١٦٧

لينتهي؟؟ بنو وليعة(١) لأبعثن إليهم رجلاً كنفسي يعني عليّاًعليه‌السلام (٢) فهذه خصوصية لا يتقدمها أحد، فضل لا يختلف فيه بشر، وشرف لا يسبقه إليه خلق، إذ جعل نفس علي كنفسه، فهذه الثالثة:

وأمّا الرابعة: فإخراجه الناس من مسجده ما خلا العترة، حين تكلّم الناس في ذلك، وتكلّم العباس فقال: يا رسول الله تركت عليّاً، وأخرجتنا، فقال رسول الله (ص): ما أنا تركته وأخرجتكم، ولكنّ الله تركه، وأخرجكم وفي هذا بيان قوله لعليعليه‌السلام : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ).

وقال العلماء: ( فأين هذا من القرآن؟ ).

فأجابهم الإمام: إنّ ذلك موجود في القرآن الكريم، فقالوا له: هات، فتلا عليهم قول الله تعالى:( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة ) (٣) ، ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى، وفيها أيضاً منزلة عليعليه‌السلام من رسول الله (ص) ومع هذا دليل ظاهر في قول رسول الله (ص): ( إنّ هذا المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض إلاّ لمحمد وآل محمد ).

وأنكرت العلماء معرفة ذلك، وقالوا للإمام: ( هذا الشرح، وهذا البيان لا يوجد، أعندكم معشر أهل بيت رسول الله (ص)؟ ).

فأجابهم الإمام: ( ومَن ينكر لنا ذلك؟ ورسول الله (ص) يقول: ( أنتَ مدينة العلم وعلي بابها، فمَن أراد مدينة العلم فليأتها من بابها ) ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلاّ معاند، ولله عزّ وجل الحمد على ذلك، فهذه الرابعة.

____________________

(١) بنو وليعة: حي من كنده.

(٢) في العيون: عنى بأنفسنا عليّاً وعنى بالأبناء الحسن والحسين وعنى بالنساء فاطمةعليهم‌السلام ، وقد اتفق جمهور المفسّرين على ذلك.

(٣) سورة يونس / آية ٨٧.

١٦٨

وأمّا الخامسة: فقول الله عز وجل:( وآت ذا القربى حقّه ) (١) ، خصوصية خصّهم الله العزيز الجبار بها، واصطفاهم على الأمّة، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أدعو لي فاطمة، فدعوها له، فقال: يا فاطمة، فقالت: لبيك يا رسول الله، فقال: إن فدكا لم يوجف عليها بخيل، ولا ركاب، وهي لي خاصة دون المسلمين، وقد جعلتها لك، لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك. فهذه الخامسة.

وأمّا السادسة: فقول الله عزّ وجل:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) (٢) .

فهذه خصوصية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دون الأنبياء، وخصوصية للآل دون غيرهم، وذلك أنّ الله حكى عن الأنبياء، في ذكر نوحعليه‌السلام : ( ويا قوم! لا أسألكم عليه مالا، إن أجرى إلا على الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا، إنّهم ملاقو ربهم، ولكنّي أراكم قوماً تجهلون )(٣) .

وحكى عن هود، قال: ( لا أسألكم عليه أجرا، إن أجري إلا على الذي فطرني، أفلا تعقلون )(٤) .

وقال لنبيه:( قل لا أسألكم عليه أجرا، إلا المودة في القربى ) ، ولم يفرض الله مودّتهم، إلاّ وقد علم أنّهم لا يرتدون عن الدين أبداً، ولا يرجعون إلى ضلالة أبداً.

وأخرى: أن يكون الرجل وادّاً للرجل، فيكون بعض أهل بيته عدواً له، فلا يسلم قلب، فأحب الله أن لا يكون في قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على المؤمنين شيء، إذ فرض عليهم مودة ذوي القربى، فمَن أخذ بها، وأحب رسول الله (ص) وأحب أهل بيتهعليهم‌السلام لم يستطع رسول الله (ص) أن يبغضه.

ومَن تركها، ولم يأخذ بها، وأبغض أهل بيت نبيه (ص)، فعلى رسول الله (ص) أن يبغضه؛ لأنّه قد ترك فريضة من فرائض الله، وأي فضيلة، وأي شرف يتقدم هذا؟

ولمّا أنزل الله على نبيّه (ص):( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) قام رسول الله (ص) في أصحابه، فحمد الله، وأثنى عليه وقال: ( أيها الناس إنّ الله قد فرض عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدوه؟ فلم يجبه أحد فقام فيهم

____________________

(١) سورة الإسراء / آية ٢٨.

(٢) سورة الشورى / آية ٢٢.

(٣) سورة هود / آية ٣١.

(٤) سورة هود / آية ٥٣.

١٦٩

يوماً ثانياً، فقال مثل ذلك، فلم يجبه أحد فقام فيهم اليوم الثالث، فقال: ( أيّها الناس! إنّ الله قد فرض عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدّوه؟ فلم يجبه أحد. فقال: ( أيّها الناس إنّه ليس ذهباً ولا فضة، ولا مأكولاً ولا مشروباً، قالوا: فهات إذاً؛ فتلا عليهم هذه الآية فقالوا: أمّا هذا فنعم، فما وفى به أكثرهم.

وأضاف الإمام قائلاً: حدثني أبي عن جدّي عن آبائه عن الحسين بن عليعليهم‌السلام قال: اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول الله (ص) قالوا: إنّ لك يا رسول الله مؤونة في نفقتك، وفيمَن يأتيك من الوفود، وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارّاً مأجورا، اعط ما شئت، وامسك ما شئت من غير حرج، فأنزل الله عزّ وجل عليه الروح الأمين، فقال: يا محمد( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) لا تؤذوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال أناس منهم: ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحثنا على قرابته من بعده، إن هو إلاّ شيء افتراه في مجلسه، وكان ذلك من قولهم عظيماً، فأنزل الله هذه الآية( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم ) (١) فبعث إليهم النبي (ص) فقال: هل من حدث؟ فقالوا: أي والله يا رسول الله، لقد تكلّم بعضنا كلاماً عظيماً فكرهناه، فتلا عليهم رسول الله (ص) فبكوا واشتد بكاؤهم فأنزل الله تعالى:( وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) (٢) . فهذه السادسة.

وأمّا السابعة: فيقول الله:( إنّ الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً ) (٣) وقد علم المعاندون منهم أنّه لمّا نزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك؟

فقال: تقولون: اللّهمّ صلِّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد. والتفت الإمام إلى العلماء فقال لهم: ( هل في هذا اختلاف؟ ).

فقالوا جميعاً بصوت واحد.

____________________

(١) سورة الأحقاف / آية ٧.

(٢) سورة الشورى / آية ٢٤.

(٣) سورة الأحزاب / آية ٥٦.

١٧٠

( لا... ).

وانبرى المأمون، فقال: ( هذا ما لا اختلاف فيه، وعليه الإجماع، فهل عندك في الآل شيء أوضح من هذا في القرآن ).

وأخذ الإمام يدلي بمزيد من الأدلة الحاسمة على فضل آل البيتعليهم‌السلام قائلاً: ( أخبروني عن قول الله:( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فمَن عنى بقوله:( يس ) ؟ ).

فقالت العلماء: ( عنى بذلك محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما في ذلك شك ).

والتفت الإمام للحاضرين فقال لهم: ( أعطى الله محمداً وآل محمد من ذلك فضلاً لم يبلغ أحد كنه وصفه، لمن عقله؛ وذلك أنّ الله لم يسلّم على أحد إلاّ على الأنبياء صلوات الله عليهم فقال تبارك وتعالى:( سلام على نوح في العالمين ) (١)، وقال:( سلام على إبراهيم ) (٢)، وقال:( سلام على موسى وهارون ) (٣) ولم يقل: سلام على آل نوح، ولم يقل: سلام على آل إبراهيم، ولا قال: سلام على آل موسى وهارون، وقال عزّ وجل:( سلام على آل يس ) (٤) . يعني آل محمد.

والتفت المأمون إلى الإمام فقال له: ( لقد علمت أنّ في معدن النبوّة شرح هذا وبيانه ).

وأمّا الثامنة: فقول الله عزّ وجل:( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٥) فقرن سهم ذي القربى مع سهمه وسهم رسول الله (ص) فهذا فصل بين الآل والأمّة؛ لأنّ الله جعلهم في حيّز وجعل الناس كلّهم في حيّز

____________________

(١) سورة الصافات / آية ٧٧.

(٢) سورة الصافات / آية ١٠٩.

(٣) سورة الصافات / آية ١٢٠.

(٤) سورة الصافات / آية ١٣٠.

(٥) سورة الأنفال / آية ٤٢.

١٧١

دون ذلك، ورضي لهم ما رضي لنفسه، واصطفاهم فيه وابتدأ بنفسه، ثم ثنى برسوله، ثم بذي القربى في كل ما كان من الفيء والغنيمة، وغير ذلك ممّا رضيه عزّ وجل لنفسه، ورضيه لهم، فقال: - وقوله الحق -( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) فهذا توكيد مؤكّد وأمر دائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب الله الناطق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وأمّا قوله:( واليتامى والمساكين ) فإنّ اليتيم إذا انقطع يتمه خرج من المغانم، ولم يكن له نصيب في المغنم، ولا يحل له أخذه، وسهم ذي القربى إلى يوم القيامة قائم، للغني والفقير؛ لأنّه لا أحد أغنى من الله، ولا من رسوله (ص) فجعل لنفسه منها سهماً، ولرسوله سهماً، فما رضي له ولرسوله رضيه لهم وكذلك الفيء ما رضيه لنفسه ولنبيّه (ص) رضيه لذي القربى، كما جاز لهم في الغنيمة فبدأ بنفسه، ثم برسوله (ص) ثم بهم وقرن سهمهم بسهم الله وسهم رسوله (ص) وكذلك في الطاعة قال عزّ وجل:( يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم ) (١) فبدأ بنفسه ثم برسوله ثم بأهل بيته وكذلك آية الولاية( إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) (٢) فجعل ولايتهم مع طاعة الرسول مقرونة بطاعته، كما جعل سهمه مع سهم الرسول مقروناً بأسهمهم في هذا البيت، فلمّا جاءت قصة الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله )(٣). فهل تجد في شيء من ذلك أنّه جعل لنفسه سهماً أو لرسوله (ص) أو لذي القربى لأنّه لمّا نزّههم عن الصدقة نزّه نفسه، ونزّه رسوله، ونزّه أهل بيته لا بل حرّم عليهم؛ لأنّ الصدقة محرمة على محمد وأهل بيته، وهي أوساخ الناس لا تحل لهم؛ لأنّهم طُهّروا من كل دنس ووسخ، فلمّا طهّرهم واصطفاهم رضي لهم ما رضي لنفسه، وكره لهم ما كره لنفسه.

وأمّا التاسعة: فنحن أهل الذكر الذين قال الله في محكم كتابه:( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (٤) .

____________________

(١) سورة النساء / آية ٦٤.

(٢) سورة المائدة / آية ٦٠.

(٣) سورة التوبة / آية ٦٠.

(٤) سورة النحل / آية ٤٥.

١٧٢

واعترض العلماء على الإمام فقالوا له: ( إنّما عنى بذلك اليهود والنصارى ).

وأبطل الإمام ما ذهبوا إليه فقال: ( وهل يجوز ذلك إذا يدعونا إلى دينهم؟ ويقولون: إنّه أفضل من دين الإسلام؟ ).

والتفت المأمون إلى الإمام يطلب منه المزيد من الإيضاح فيما قاله قائلاً: ( هل عندك في ذلك شرح يخالف ما قالوا؟ ) ونعم: الذكر رسول الله (ص) ونحن أهله، وذلك يبين في سورة الطلاق. ( فاتَّقُوا اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ )

فالذكر رسول الله ونحن أهله، فهذه التاسعة.

وأمّا العاشرة: فقول الله عزّ وجل في آية التحريم:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ) (١) .

وخاطب الإمام العلماء فقال لهم: ( أخبروني هل تصلح ابنتي أو ابنة ابني أو ما تناسل من صلبي لرسول الله (ص) أن يتزوجها لو كان حيّاً؟ ).

فقالوا مجمعين: ( لا... ).

وسألهم الإمام ثانيا فقال لهم: ( أخبروني هل كانت ابنة أحدكم تصلح له أن يتزوجها؟ ).

( بلى... ).

( ففي هذا بيان أنّا من آله، ولستم من آله، ولو كنتم من آله لحرمت عليه بناتكم، كما حرمت عليه بناتي؛ لأنّا من آله، وأنتم من أمّته فهذا فرق بين الآل والأمّة؛ لأنّ الآل منه، والأمّة إذا لم تكن الآل فليست منه، فهذه العاشرة.

وأمّا الحادية عشرة: فقوله في سورة المؤمن حكاية عن قول رجل:( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً يقول ربّي الله وقد جاءكم بالبينات من ربّكم ) (٢) وكان ابن خال فرعون فنسبه إلى فرعون بنسبه، ولم يضيفه إليه بدينه،

____________________

(١) سورة النساء / آية ٢٢.

(٢) سورة المؤمن / آية ٢٨.

١٧٣

وكذلك خصصنا نحن إذ كنا من آل رسول الله (ص) بولادتنا منه، وعممنا الناس بدينه، فهذا فرق بين الآل والأمّة، فهذه الحادية عشرة.

وأمّا الثانية عشرة فقوله: ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) (١) فخصّنا بهذه الخصوصية إذ أمرنا مع أمره، ثم خصنا دون الأمّة، فكان رسول الله (ص) يجئ إلى باب علي وفاطمةعليهما‌السلام بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات: فيقول: الصلاة يرحمكم الله، وما أكرم الله أحداً من ذراري الأنبياء بهذه الكرامة التي أكرمنا بها وخصّنا من جميع أهل بيته، فهذا فرق ما بين الآل والأمّة، والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد نبيّه )(٢) .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض احتجاجات الإمام الرضاعليه‌السلام وهي تمثّل جانباً من حياته العلمية، ونضاله في الدفاع عن الإسلام.

____________________

(١) سورة طه / آية ١٣٢.

(٢) تحف العقول ٤٢٥ - ٤٣٦، عيون أخبار الرضا، المجالس.

١٧٤

١٧٥

مؤلّفاته

ونقل المؤرّخون والرواة أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام ألّف مجموعة من الكتب كان بعضها بطلب من المأمون، وقد خاض في بعضها في بيان أحكام الشريعة، ومهمّات مسائل الفقه، كما دون في بعضها ما أثر عن جدّه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من الأحاديث، وقد سُمّي هذا بمسند الإمام الرضاعليه‌السلام ، ومن بين مؤلّفاته الرسالة الذهبية في الطب ذكر فيها الإمامعليه‌السلام ما يصلح بدن الإنسان ومزاجه، وما يفسده، وهي من أمّهات الكتب الموجزة في هذا الفن...

ونعرض فيما يلي لبعض مؤلفاته:

١ - رسالته في جوامع الشريعة:

وأوعز المأمون إلى وزيره الفضل بن سهل أن يتشرّف بمقابلة الإمام الرضاعليه‌السلام ، ويقول له: إنّي أحب أن تجمع لي من الحلال والحرام والفرائض والسنن، فإنّك حجّة الله على خلقه، ومعدن العلم، وأجاب الإمام طلب المأمون، وأمر بدواة وقرطاس فأحضرتا له، وأمر الفضل أن يكتب فأملى عليه بعد البسملة هذه الرسالة الجامعة لغرر أحكام الشريعة، وفيما يلي نصّها:

( حسبنا شهادة أن لا إله إلاّ الله، أحداً، صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، قيوماً، سميعاً، بصيراً، قوياً، قائماً، باقياً، نوراً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنياً لا يحتاج، عدلاً لا يجور خلق كل شيء، ليس كمثله شيء، لا شبه له، ولا ضد، ولا ند، ولا كفو... إنّ محمداً عبده ورسوله، وأمينه وصفوته من خلقه، سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وأفضل العالمين، لا نبي بعده، ولا تبديل لمثله، ولا تغيير، وأنّ جميع ما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه هو الحق المبين، نصدّق به وبجميع من مضى قبله من رسل الله وأنبيائه وحججه،

١٧٦

ونصدق بكتابه الصادق،( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وأنّه كتابه المهيمن على الكتب كلّها، وأنّه حق من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه، وأخباره لا يقدر واحد من المخلوقين أن يأتي بمثله، وأنّ الدليل والحجة من بعده أمير المؤمنين والقائم بأمور المسلمين، والناطق عن القرآن، والعالم بأحكامه أخوه، وخليفته ووصيّه، والذي كان منه بمنزلة هارون من موسى، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجّلين، يعسوب المؤمنين، وأفضل الوصيين بعد النبيين، وبعده الحسن والحسينعليهما‌السلام ، واحداً بعد واحد إلى يومنا هذا، عترة الرسول، وأعلمهم بالكتاب والسنّة، وأعدلهم بالقضية، وأولاهم بالإمامة في كل عصر وزمان، وأنّهم العروة الوثقى، وأئمة الهدى والحجّة على أهل الدنيا حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين، وأنّ كل من خالفهم ضال مضل، تارك للحق والهدى وأنّهم المعبرون عن القرآن، الناطقون عن الرسول بالبيان من مات لا يعرفهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم مات ميتة جاهلية وان من دينهم الورع والعفة، والصدق والصلاح، والاجتهاد وأداء الأمانة إلى البر والفاجر، وطول السجود والقيام بالليل واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسن الصحبة، وحسن الجوار، وبذل المعروف، وكفّ الأذى، وبسط الوجه والنصيحة والرحمة للمؤمنين ).

وحكى هذا المقطع الثناء على الله تعالى وتمجيده، وذكر بعض صفاته، كما حفل بالثناء على الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه الملهم الأول لفكر الإنسان بالخير والفضل، وأنّه هو الذي اختاره الله تعالى لرسالته، وإنقاذ عباده من حضيض الجهل، وقد أتحفه تعالى بالمعجزة الخالدة، وهي القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الدستور لإصلاح الإنسان، ومعالجة جميع قضاياه ومشاكله.

كما عرض الإمامعليه‌السلام إلى رائد الحق والعدالة في الإسلام وصي الرسول وخليفته من بعده الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وإمام المتقين وأفضل الوصيين، وأشادعليه‌السلام بالأئمّة الطاهرين الذين هم على الخير أدلة هذه الأمة إلى الجنة ومسالكها، الناطقون عن الرسول (ص) والمعبرون عن القرآن فقد أدوا أمانة الله وأوضحوا أحكامه وبلغوا رسالته...

وبعد هذا العرض شرع الإمامعليه‌السلام في بيان جوامع الشريعة الغراء قال:

١٧٧

( الوضوء كما أمر الله في كتابه غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس والرجلين، واحد فريضة، واثنان إسباغ، ومَن زاد أثم، ولم يؤجر، ولا ينقض الوضوء إلاّ الريح والبول والغائط، والنوم، والجنابة.

ومَن مسح على الخفين فقد خالف الله ورسوله وكتابه، ولم يجز عنه وضوءه، وذلك أن عليّاًعليه‌السلام خالف في المسح على الخفّين فقال له عمر: رأيت النبي (ص) يمسح، فقال علي: قبل نزول سورة المائدة أو بعدها؟ قال: لا أدري، قال علي: ولكنّي أدري أنّ رسول الله (ص) لم يمسح على خفّيه مذ نزلت سورة المائدة ).

إنّ أوّل ما عرض له الإمامعليه‌السلام من مناهج الشريعة الغراء هو الوضوء الذي هو نور وطهارة للإنسان، وهو من ألمع مقدمات الصلاة التي يسمو بها الإنسان، ويتشرف بالاتصال بخالقه العظيم... وقد تناول عرض الإمام للوضوء ما يلي:

١ - أفعال الوضوء:

أما أفعال الوضوء فهي كما يلي:

أ - غسل الوجه من قصاص شعر الرأس إلى طرف الذقن طولا وما دارت عليه الابهام والوسطى عرضا.

ب - غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع.

ج - مسح الرأس، وهو مقدمه مما يلي الجبهة، ولا بد أن يكون المسح على البشرة أو على الشعر المختص بالمقدم بشرط أن يخرج بمده عن حده.

د - مسح ظاهر القدمين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين، وهما قبّتا القدمين، ويجب أن يكون المسح على البشرة، ولا يجوز المسح على الحائل كالخف والجورب، ومن مسح عليهما فقد خالف كتاب الله، وسنّة رسوله ولم يجز عنه وضوءه حسب ما أعلن الإمامعليه‌السلام ، وتواترت بذلك النصوص عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

٢ - نواقض الوضوء:

وذكر الإمامعليه‌السلام نواقضاً للوضوء، ومبطلاته وهي:

١ - الريح الذي يخرج من الدبر.

٢ - البول.

٣ - الغائط.

١٧٨

٤ - النوم الغالب على العقل.

٥ - الجنابة.

هذه الأمور من نواقض الوضوء، ومن مبطلاته قالعليه‌السلام :

( والاغتسال من الجنابة، والاحتلام، والحيض، والغسل من غسل الميت فرض.

والغسل يوم الجمعة، والعيدين، ودخول مكة والمدينة، وغسل الزيارة، وغسل الإحرام، ويوم عرفة، وأول ليلة من شهر رمضان وليلة تسع عشرة منه، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين منه سنة ).

من روائع التشريع الإسلامي وبدائع حكمه وسننه تشريعه للغسل الذي يقي الأبدان من الإصابة بكثير من الأمراض، وفي نفس الوقت فإنّه موجب لنظافة البدن، وإزالة الأوساخ عنه، وهو على قسمين واجب ومندوب، وقد عرض الإمامعليه‌السلام إلى كل منهما.

١ - الأغسال الواجبة:

ويجب الغسل في الأمور التالية وهي:

أ - غسل الجنابة:

أمّا سبب الجنابة فأمران: الأول: خروج المادة المنوية، التي تتوفّر فيها الشهوة، والدفق، وفتور الجسد، فمَن احتلم وخرجت منه هذه المادة، فهو جنب ويجب عليه الغسل. (الثاني) الجماع، ولو لم ينزل، ويتحقق بإدخال الحشفة في القبل أو الدبر من غير فرق بين الواطئ والموطوء.

ب - غسل الحيض:

الحيض دم تعتاده النساء خلقه الله تعالى في الرحم لمصالح، وهو في الغالب دم أسود أو أحمر له دفع وحدة وحرقة، فإذا عرض للمرأة، وانتهت منه وجب عليها الغسل، ويحرم عليها في أثناء الحيض مسّ اسم الله تعالى وأسماء الأنبياء والأئمة الطاهرين ومسّ كتابة القرآن، واللبث في المساجد، والدخول فيها بغير الاجتياز وغير ذلك.

ج - غسل مسّ الميت:

يجب الغسل بمسّ بدن الإنسان الميت بعد برده، وقبل غسله، أمّا غير الإنسان من الحيوانات فإنّ مسها بعد الموت لا يجب فيه الغسل.

١٧٩

هذه بعض الأغسال الواجبة التي أدلى بها الإمامعليه‌السلام وبقي منها غسل الأموات وغسل المستحاضة، وقد ذكرها الفقهاء بالتفصيل. الأغسال المندوبة:

أمّا الأغسال المندوبة فهي أنواع ثلاثة: زمانية، ومكانية، وفعلية.

أمّا الزمانية فهي:

أ - غسل الجمعة: وهو من أهمّها، ووقته من طلوع الفجر الثاني من يوم الجمعة إلى الزوال.

ب - غسل يوم العيدين: عيد الأضحى، وعيد الفطر، ويستحب أيضاً الغسل يوم الغدير وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو اليوم الخالد الذي نصب فيه النبي (ص) سيد عترته، وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام خليفة من بعده.

ج - غسل يوم عرفة.

د - الغسل لأوّل ليلة من شهر رمضان المبارك.

ه‍ـ - الغسل لليلة التاسع عشر من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين منه، وهي الليالي المباركة التي يظن أن تكون فيها ليلة القدر.

وأمّا الأغسال المكانية فهي:

أ - الغسل لدخول مكة المكرّمة.

ب - الغسل لدخول المدينة المنورة.

ج - الغسل لزيارة الأضرحة المقدسة.

وأمّا الأغسال الفعلية فهي:

كالغسل للإحرام، أو الطواف، وغير ذلك حسبما ذكره الفقهاء.

قالعليه‌السلام : ( وصلاة الفريضة: الظهر أربع ركعات، والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء الآخرة أربع ركعات، والفجر ركعتان، فذلك سبع عشرة ركعة ).

( والسنة أربع وثلاثون ركعة: منها ثمان قبل الظهر، وثمان بعدها، وأربع بعد المغرب، وركعتان من جلوس بعد العشاء الآخرة، تعد بواحدة، وثمان في السحر،

١٨٠

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363