حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)0%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 363

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الصفحات: 363
المشاهدات: 139951
تحميل: 6656


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139951 / تحميل: 6656
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء 1

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فقالا: يا موسى ليكونن لك من هذه الجارية خير أهل الأرض بعدك، ثم أمرني أبي إذا ولد لي ولد أن أسميه عليا، وقالا: إن الله عز وجل سيظهر به العدل والرحمة، طوبى لمن صدقه، وويل لمن عاداه وجحده(1) .

هذه بعض الروايات التي قيلت في كيفية زواج الإمام موسىعليه‌السلام بهذه السيّدة الكريمة، وقد حباها بخالص الحب، وأصفاه، وكانت تنعم بالإكبار والتقدير في بيته.

اسمها:

أمّا اسم هذه السيدة الزكية فقد اختلفت فيه أقوال الرواة، وهذه بعضها:

1 - تكتم: وذهب كثير من المؤرّخين إلى أنّ اسمها تكتم، وفي ذلك يقول الشاعر في مدحه للإمامعليه‌السلام :

ألا إنّ خير الناس نفساً ووالداً

ورهطاً وأجداداً علي المعظّمُ

أتتنا به للعلم والحلم ثامناً

إماماً يؤدّي حجّة الله تكتمُ(2)

وهذا الاسم عربي تسمّى به السيدات من نساء العرب، وفيه يقول الشاعر:

طافَ الخَيالانِ فَهاجا سَقَما

خَيالُ تُكنى وَخَيالُ تَكتَما(3)

2 - الخيزران(4) .

3 - أروى(5) .

4 - نجمة(6) .

5 - أُمّ البنين(7) ، والظاهر أنّه كنية لها.

هذه بعض الأقوال التي قيلت في اسمها، وليس في تحقيق ما هو الصحيح منها

____________________

(1) الدر النظيم في مناقب الأئمّة ليوسف بن حاتم الشافعي من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين تسلسل 2879 ورقة 210.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 15 وجاء فيه أنّه نسب قوم هذا الشعر إلى عمّ أبي إبراهيم بن العباس، ولم أروه، وما لم يقع به رواية ولا سماع فإنّي لا أحقّقه ولا أُبطله.

(3) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 80.

(4) تذكرة الخواص (ص 361) بحر الأنساب (ص 28) البحار 12 / 2.

(5) الصراط السوي للشيخاني القادري ورقة 169 مصور، نور الأبصار ص 138.

(6) كشف الغمّة 3 / 102.

(7) الإرشاد (ص 342).

٢١

بذي فائدة على القراء.

تقواها:

وكانت هذه السيدة الزكية من العابدات، فقد أقبلت على طاعة الله إقبالاً شديداً، فقد تأثّرت بسلوك زوجها الإمام الكاظمعليه‌السلام إمام المتقين والمنيبين إلى الله تعالى، وكان من مظاهر عبادتها أنّها لمّا ولدت الإمام الرضاعليه‌السلام قالت: أعينوني بمرضعة، فقيل لها: أنقص الدر؟ قالت: ما أكذب: ما نقص الدر، ولكن علي ورد من صلاتي وتسبيحي(1). أرأيتم هذه النفس الملائكية التي هامت بحب الله، وانقطعت إليه فقد طلبت أن يعاونوها على إرضاع ولدها؛ لأنّه يشغلها عن أورادها من الصلاة والتسبيح.

الوليد العظيم:

وأشرقت الأرض بمولد الإمام الرضاعليه‌السلام ، فقد ولد خير أهل الأرض، وأكثرهم عائدة على الإسلام، وسرت موجات من السرور والفرح عند آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد استقبل الإمام الكاظم النبأ بهذا المولود المبارك بمزيد من الابتهاج، وسارع إلى السيدة زوجته يهنّيها بوليدها قائلاً:

( هنيئاً لك يا نجمة كرامة لك من ربّك... )

وأخذ وليده المبارك، وقد لُفّ في خرقة بيضاء، وأجرى عليه المراسم الشرعية، فأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات فحنّكه به، ثم ردّه إلى أُمّه، وقال لها: ( خذيه فإنّه بقيّة الله في أرضه... )(2) .

لقد استقبل سليل النبوّة أوّل صورة في دنيا الوجود، صورة أبيه إمام المتقين، وزعيم الموحّدين، وأوّل صوت قرع سمعه هو:

( الله أكبر ).

( لا إله إلاّ الله ).

وهذه الكلمات المشرقة هي سر الوجود، وأُنشودة المتقين.

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 80.

(2) كشف الغمّة 3 / 88، عيون أخبار الرضا 1 / 18.

٢٢

وسمّى الإمام الكاظمعليه‌السلام وليده المبارك باسم جدّه الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، تبرّكاً وتيمّناً بهذا الاسم الذي يرمز لأعظم شخصية خُلقت في دنيا الإسلام، والتي تحلّت بجميع فضائل الدنيا.

ألقابه:

وُلقّب الإمام الرضاعليه‌السلام بكوكبة من الألقاب الكريمة، وكل لقبٍ منها يرمز إلى صفة من صفاته الكريمة، وهذه بعضها:

1 - الرضا:

واختلف المؤرّخون والرواة في الشخص الذي أضفى على الإمامعليه‌السلام هذا اللقب الرفيع، حتى غلب عليه، وصار اسماً يُعرف به، وهذه بعض الأقوال:

أ - المأمون:

وذهب فريق من المؤرّخين إلى أنّ المأمون هو الذي منحه هذا اللقب(1) ؛ لأنّه رضي به، وجعله ولي عهده(2) ، وقد فنّد الإمام الجوادعليه‌السلام ذلك أمام جماعة من أصحابه وقال:

( إنّ الله تبارك وتعالى سمّى ما ترضاه، لأنّه كان رضىً لله عزّ وجل في سمائه، ورضىً لرسوله، والأئمّة من بعده صلوات الله عليهم... ).

فقال له البزنطي: ( ألم يكن كل واحد من آبائك الماضينعليهم‌السلام رضىً لله عزّ وجل ولرسوله، والأئمّة بعده؟ )

( بلى... ).

( لم سُمّي أبوك من بينهم بالرضا؟... ).

( لأنّه رضي به المخالفون من أعدائه، كما رضي به الموافقون من أوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه؛ فلذلك سُمّي من بينهم بالرضا... )(3) .

____________________

(1) تاريخ أبي الفداء 2 / 24، تأريخ ابن الأثير 5 / 183.

(2) البحار 12 / 4.

(3) علل الشرايع، إعلام الورى، البحار 12 / 2.

٢٣

ب - الإمام موسى:

وذهب بعض الرواة إلى أنّ الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام هو الذي أضفى على ولده هذا اللقب، فقد روى سليمان بن حفص قال: كان موسى بن جعفر سمّى ولده عليّاً الرضا، وكان يقول: ادعو لي ولدي الرضا، وقلت: لولدي الرضا، وقال لي: ولدي الرضا، وإذا خاطبه قال: يا أبا الحسن(1) .

هذه بعض الأقوال في منحه بهذا اللقب الكريم، وقد علّل أحمد البزنطي السبب الذي من أجله لُقّب بالرضا قال:

( إنّما سُمّي الرضا لأنّه كان رضىً لله تعالى في سمائه، ورضىً لرسوله والأئمّة بعده في أرضه )(2) .

2 - الصابر(3) :

وإنّما لُقّب بذلك لأنّه صبر على المحن والخطوب التي تلقّاها من خصومه وأعدائه.

3 - الزكي(4) :

لقد كان الإمام الرضاعليه‌السلام من أزكياء البشر، ومن نبلائهم وأشرافهم.

4 - الوفي(5) :

أمّا الوفاء فهو عنصر من عناصر الإمام، وذاتي من ذاتيّاته، فقد كان وفيّاً لأُمّته ووطنه.

5 - سراج الله(6) :

لقد كان الإمام سراجاً لله يهدي الضال، ويرشد الحائر.

6 - قرّة عين المؤمنين(7) :

ومن ألقابه الكريمة أنّه كان قرّة عين المؤمنين: فقد كان زيناً وفخراً لهم،

____________________

(1) البحار 12 / 3.

(2) البحار 12 / 3.

(3) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام (ص 143).

(4) الصراط السوي، ورقة 199.

(5) تذكرة الخواص (ص 361) الدر النظيم، ورقة 210.

(6) الدر النظيم، ورقة 210.

(7) الدر النظيم، ورقة 210.

٢٤

وكهفاً وحصناً لهم.

7 - مكيدة الملحدين(1) :

وإنّما لُقّب بذلك لأنّه أبطل شُبَه الملحدين، وفنّد أوهامهم؛ وذلك في مناظراته التي أُقيمت في البلد العباسي، والتي أثبت فيها أصالة القيم والمبادئ الإسلامية.

8 - الصدّيق(2) :

فقد كانعليه‌السلام كيوسف الصدّيق الذي ملك مصر، فقد تزعّم جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكانت له الولاية المطلقة عليه.

9 - الفاضل(3) :

وهو أفضل إنسان، وأكملهم في عصره، ولهذه الظاهرة لُقّب بالفاضل.

هذه بعض الألقاب الكريمة التي لُقّب بها، وهي تنم عن سمو شخصيته وعظيم شأنه.

كُنيته:

واعتاد أئمة أهل البيتعليهم‌السلام بتكنية أبنائهم منذ صغرهم وهذا من محاسن التربية الإسلامية الهادفة إلى ازدهار الشخصية، وإشعار الطفل بأنّ له مكانة عند أهله، وقد كُنّي الإمام الرضاعليه‌السلام بما يلي:

1 - أبو الحسن:

كنّاه بذلك أبوه الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام (4) فقد قالعليه‌السلام لعلي بن يقطين: يا علي هذا ابني - وأشار إلى الإمام الرضا - سيّد ولدي، وقد نحلته كنيتي(5). لقد كان الإمام الكاظم يُكنّى بأبي الحسن، ولمّا كانت هذه الكنية مشتركة بينهما قيل للإمام الكاظم أبي الحسن الماضي، وللإمام الرضا أبي الحسن الثاني؛ وذلك للتفرقة بين الكنيتين.

2 - أبو بكر:

وهذه الكنية نادرة، ولم يعرف بها إلاّ نادراً، فقد روى أبو الصلت الهروي قال:

____________________

(1) بحار الأنوار 12 / 4.

(2) بحار الأنوار 12 / 4.

(3) بحار الأنوار 12 / 4.

(4) بحار الأنوار 12 / 3.

(5) بحار الأنوار.

٢٥

سألني المأمون يوماً عن مسألة، فقلت: قال فيها أبو بكر: كذا وكذا، فقال المأمون: مَن هو أبو بكر؟ أبو بكرنا، أو أبو بكر العامة؟ قلت، أبو بكرنا. قال عيسى: قلت لابن الصلت مَن هو أبو بكركم؟ فقال: علي بن موسى، كان يكنّى بها(1) .

سنة ولادته:

واختلف المؤرّخون اختلافاً كثيراً في السنة التي وُلد فيها الإمام الرضاعليه‌السلام ، وكذلك اختلفوا في الشهر الذي وُلد فيه، وهذه بعض ما أثر عنهم:

1 - أنّه وُلد سنة 147 هـ(2) .

2 - وُلد سنة 148 هـ(3) وهذا هو المشهور بين الرواة.

3 - وُلد سنة 150 هـ(4) .

4 - وُلد سنة 151 هـ(5) .

5 - وُلد سنة 153 هـ(6) وهي السنة التي توفّي فيها جدّه الصادق(7) .

هذه بعض الأقوال في سنة ولادته، وقد اختلف المؤرّخون أيضاً في الشهر الذي وُلد فيه، وهذه بعض أقوالهم:

1 - أنّه وُلد يوم الخميس أو ليلة الخميس لأحد عشر ليلة خلت من ربيع الأول(8) .

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 561).

(2) نور الأبصار (ص 138).

(3) غاية الاختصار (ص 148)، بحر الأنساب (ص 28)، أصول الكافي 1 / 486، الإرشاد (ص 341)، الدر المسلوك ورقة 139 مصور، أخبار الدول (ص 114)، جوهرة الكلام (ص 143)، مصباح الكفعمي، روضة الواعظين، مرآة الجنان 2 / 11.

(4) المجدّدون في الإسلام (ص 87).

(5) سر السلسة العلوية (ص 38).

(6) الدر النظيم ورقة 153، كشف الغمّة، دائرة معارف القرن العشرين 6 / 665.

(7) أعيان الشيعة 4 / ق / 77 - 78، وفي الإرشاد أنّه وُلد بعد وفاة جدّه الإمام الصادقعليه‌السلام بخمس سنين، وكذلك جاء في الدر النظيم ورقة 210.

(8) كشف الغمّة 3 / 87.

٢٦

2 - وُلد في ذي القعدة(1) في الحادي عشر منه يوم الخميس(2) .

3 - وُلد في شوّال في السابع منه وقيل ثامنه، وقيل سادسه(3) .

هذه بعض الأقوال التي أدلى بها المؤرّخون والرواة

صفته:

وذهب كثير من المؤرّخين إلى أنّ الإمامعليه‌السلام كان أسمر شديد السمرة(4) ، وقيل إنّه كان ابيض معتدل القامة(5) ، وإنّه كان شديد الشبه بجدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (6) .

وكما شابه جدّه في ملامحه، فقد شابهه في مكارم أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيين.

هيبته:

أمّا هيبة الإمام أبي محمد، فكانت تعنو لها الجباه، فقد بدت عليه هيبة الأنبياء والأوصياء الذين كساهم الله بنوره، وما رآه أحد إلاّ هابه، وكان من هيبته أنّه إذا جلس للناس أو ركب لم يقدر أحد أن يرفع صوته من عظيم هيبته(7) .

ويقول الرواة: إنّه إذا جاء إلى المأمون بادره الحجّاب والخدم بين يديه، ورفعوا له الستر، ولمّا بلغهم أنّ المأمون يريد أن يبايع له بولاية العهد تواصوا على أنّه إذا جاء لا يصنعون له الحفاوة والتكريم الذي كانوا يصنعونه، وجاء الإمام على عادته فأخذتهم هيبته وبادروا إلى تكريمه كما كانوا يصنعون، وتلاوموا فيما بينهم وأقسموا أنّه إذا عاد لا يقابلوه بذلك التكريم ولمّا جاءعليه‌السلام في اليوم الثاني قاموا إليه وسلّموا عليه إلاّ أنّهم لم يرفعوا له الستر، فجاءت ريح فرفعته كعادته، ولمّا أراد الخروج أيضاً رفعت الريح الستر، فقال بعضهم لبعض: إنّ لهذا الرجل شأناً ولله به عناية ارجعوا إلى خدمتكم(8) .

____________________

(1) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 77.

(2) الدر المسلوك، ورقة 139.

(3) مرآة الجنان 2 / 12.

(4) أخبار الدول (ص 114).

(5) الصراط السوي في مناقب آل النبي للشيخاني القادري، ورقة 199.

(6) الدر النظيم، ورقة 210.

(7) حياة الإمام الجواد.

(8) أخبار الدول (ص 114)، جوهرة الكلام (ص 145)، الإتحاف بحب الأشراف (ص 58).

٢٧

إنّ لائمّة أهل البيتعليهم‌السلام شأناً ومكانةً عند الله تعالى، فهو يؤيّدهم، ويسددهم بما يسدد به أنبياءه ورسله.

نقش خاتمه:

أمّا النقش على الخاتم وما رسم عليه من كلمات فإنّه - على الأكثر - يمثّل اتجاهات الشخص وميوله، وقد وسم على خاتم الإمام الرضاعليه‌السلام ما يلي:

( ولي الله )(1) .

وله خاتم آخر قد نقش عليه:

( العِزّة لله )(2) .

وهذه النقوش تمثّل مدى انقطاعه إلى الله تعالى، وتمسّكه به.

نشأته:

نشأ الإمام الرضاعليه‌السلام في بيت من أجلّ البيوت وأرفعها في الإسلام، إنّه بيت الإمامة، ومركز الوحي ذلك البيت الذي إذن الله أن يرفع، ويُذكر فيه اسمه، في هذا البيت العريق ترعرع الإمام الرضا ونشأ، وقد سادت فيه أرقى وأسمى ألوان التربية الإسلامية الرفيعة، فكان الصغير يحترم ويبجّل الكبير، والكبير يعطف على الصغير، كما سادت فيه الآداب الرفيعة، والأخلاق الكريمة ولا تسمع فيه إلاّ تلاوة كتاب الله، والحث على العمل الصالح وما يقرّب الإنسان من ربّه.

وقد أكّد علماء التربية على أنّ البيت من أهم العوامل في تكوين الشخص، وبناء سلوكه، فإن كان البيت تسوده المحبّة والأُلفة، والعادات الرفيعة والتقاليد الحسنة، ويجتنب فيه هجر الكلام ومره، فإنّ الطفل ينشأ نشأة سليمة وبعيدة عن التعقيد، وازدواج الشخصية، وإن كان البيت مصاباً بالانحراف والشذوذ، وتنتشر فيه البغضاء والكراهية، فإنّ الطفل حتماً يمنى بالتعقيد، والجنوح، والانحراف.

أمّا البيت الذي نشأ فيه الرضاعليه‌السلام فهو من أعزّ البيوت وأمنعها في دنيا الإسلام، فقد كان مركزا من مراكز الفضيلة، ومنبعاً للأخلاق الكريمة، وقد أنجب خيرة البشر وأئمّة الحق والعدل في الإسلام، ويضاف إلى البيت في تكوين

____________________

(1) الدر المسلوك ورقة 139، البحار 12 / 4.

(2) الدر النظيم، ورقة 210.

٢٨

الشخص البيئة التي نشأ فيها الشخص، وكانت البيئة التي عاش فيها الإمام الرضاعليه‌السلام تضم خيرة الرجال، وخيرة العلماء الذين ينتهلون من خير علوم أبيه الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

إنّ جميع عوامل التربية الرفيعة، ومكوّناتها الفكرية توفّرت للإمام الرضاًعليه‌السلام ، فنشأ في إطارها كما نشأ آباؤه العظام الذين هم من ذخائر الإسلام.

سلوكه:

أمّا سلوك الإمام الرضاعليه‌السلام فقد كان أنموذجاً رائعاً لسلوك آبائه الذين عرفوا بنكران الذات، والتجرّد عن كل نزعة لا تمت إلى الحق والواقع بصلة. لقد تميّز سلوك الإمام الرضاعليه‌السلام بالصلابة للحق، ومناهضة الباطل، فقد كان يأمر المأمون العباسي بتقوى الله تعالى، وينعي عليه تصرفاته التي لا تتفق مع واقع الدين، وقد ورم أنف المأمون من ذلك وضاق منه ذرعاً فقدم على اقتراف أفظع جريمة وهي اغتيال الإمامعليه‌السلام كما سنوضح ذلك في غضون هذا الكتاب.

وكان سلوكه مع أهل بيته وإخوانه مثالاً آخر للصرامة في الحق، فمَن شذّ منهم في تصرّفاته عن أحكام الله تعالى جافاه وابتعد عنه، وقد حلف أن لا يكلّم أخاه زيداً حتى يلقى الله تعالى حينما اقترف ما خالف شريعة الله.

أمّا سلوكه مع أبنائه فقد تميّز بأروع ألوان التربية الإسلامية خصوصاً مع ولده الإمام الجوادعليه‌السلام ، فكان لا يذكره باسمه، وإنّما كان يكنيه، يقول: كتب إلي جعفر، كنت كتبت إلى أبي جعفر(1) كل ذلك لتنمية روح العِزّة والكرامة في نفسه.

____________________

(1) معجم رجال الحديث 14 / 283.

٢٩

٣٠

عناصره النفسيّة

أمّا عناصر الإمام الرضاعليه‌السلام ومكوّناته النفسية فكانت ملتقى للفضيلة بجميع أبعادها وصورها، فلم تبق صفة شريفة يسمو بها الإنسان إلاّ وهي من ذاتيّاته، ومن نزعاته، فقد وهبه الله كما وهب آباءه العظام بكل مكرمة، وحباه بكل شرف وجعله علما لامة جده، يهتدي به الحائر، ويرشد به الضال، وتستنير به العقول... وهذه بعض خصاله، وعناصر مكارم أخلاقه:

أمّا أخلاق الإمام الرضاعليه‌السلام ، فإنّها نفحة من أخلاق جده الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي امتاز على سائر النبيين بهذه الظاهرة الكريمة، فقد استطاعصلى‌الله‌عليه‌وآله بسمو أخلاقه أن يطوّر حياة الإنسان، وينقذه من أوحال الجاهلية الرعناء، وقد حمل الإمام الرضاعليه‌السلام أخلاق جده، فكانت من أهم عناصره، انظروا ما يقوله إبراهيم بن العباس عن مكارم أخلاقه يقول:

( ما رأيت، ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، ما جفا أحداً قط، ولا قطع على أحد كلامه، ولا ردّ أحداً عن حاجة، وما مد رجليه بين جليسه، ولا اتكأ قبله، ولا شتم مواليه، ومماليكه، ولا قهقه في ضحكة، وكان يجلس على مائدته ومماليكه ومواليه قليل النوم بالليل، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى آخرها كثير المعروف والصدقة وأكثر ذلك في الليالي المظلمة )(1) .

وحكمت هذه الكلمات ما اتصف به الإمام من مكارم الأخلاق وهي:

أ - أنّه لم يجفو أيّ أحدٍ من الناس سواء أكانوا من أحبّائه أم من أعدائه، وإنّما كان يقابلهم ببسمات فيّاضة بالبِشر.

____________________

(1) حياة الإمام محمد الجواد (ص 37).

٣١

ب - أنّه لم يقطع على أي أحدٍ كلامه، وإنّما يتركه حتى يستوفي حديثه.

ج - من معالي أخلاقه أنّه لم يمدّ رجليه بين جليسه وإنّما يجلس متأدّباً.

د - أنّه لم يتكئ قبل جليسه، وإنّما يتكئ بعده، مراعاة له.

هـ‍ - أنّه لم يشتم أي أحدٍ من مماليكه ومواليه، وإن أساءوا له.

و - أنّه لم يترفّع على مواليه ومماليكه، وكان يجلس معهم على مائدة الطعام.

ز - أنّه كان كثير العبادة، وكان ينفق لياليه بالصلاة وتلاوة كتاب الله.

ح - أنّه كان كثير المعروف والصدقة، على الفقراء وكان أكثر ما يتصدّق عليهم في الليالي المظلمة؛ لئلاّ يعرفه أحد.

هذه بعض مكارم أخلاقه التي شاهدها إبراهيم بن العباس، ومن معالي أخلاقه أنّه كما تقلّد ولاية العهد، التي هي أرقى منصب في الدولة الإسلامية، لم يأمر أحد من مواليه وخدمه في الكثير من شؤونه وإنّما كان يقوم بذاته في خدمة نفسه، ويقول الرواة: إنّه احتاج إلى الحمّام فكره أن يأمر أحداً بتهيئته له، ومضى إلى حمّامٍ في البلد لم يكن صاحبه يظن أنّ ولي العهد يأتي إلى الحمّام في السوق فيشغل فيه، وإنّما حمامات الملوك في قصورهم.

ولمّا دخل الإمام الحمّام كان فيه جندي، فأزال الإمام عن موضعه، وأمره أن يصب الماء على رأسه، ففعل الإمام ذلك، ودخل الحمّام رجل كان يعرف الإمام فصاح بالجندي هلكت، أتستخدم ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فذعر الجندي، ووقع على الإمام يقبّل أقدامه، ويقول له متضرّعاً: ( يا بن رسول الله! هلاّ عصيتني إذ أمرتك؟ ).

فتبسّم الإمام في وجهه وقال له، برفق ولطف: ( إنّها لمثوبة وما أردت أن أعصيك فيما أثاب عليه )(1) .

ومن سمو أخلاقه أنّه إذا جلس على مائدة أجلس عليها مماليكه حتى السايس والبوّاب، وقد أعطى بذلك درساً لهم، لقاء التمايز بين الناس وأنّهم جميعاً على صعيد واحد، ويقول إبراهيم بن العباس: سمعت علي بن موسى الرضا يقول: حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلاّ أعتقت رقبة، وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان

____________________

(1) نور الأبصار (ص 138)، عيون التواريخ 3 / 227 مصوّر.

٣٢

يرى أنّه خير من هذا، وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه، إذا كان ذلك بقرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أن يكون له عمل صالح فأكون أفضل به منه(1) .

وقال له رجل: والله ما على وجه الأرض أشرف منك أبا.

فقالعليه‌السلام : التقوى شرّفتهم، وطاعة الله أحفظتهم.

وقال له شخص آخر: ( أنت والله خير الناس... )

فرد عليه قائلاً: لا تحلف يا هذا خير منّي مَن كان أتقى الله عزّ وجل، وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية:

( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) (2) .

وأُثر عنه من الشعر في ذلك قوله:

لبست بالعفّة ثوب الغنى

وصرت أمشي شامخ الراسِ

لست إلى النسناس مستأنساً

لكنّني آنس بالناسِ(3)

إذا رأيت التيه من ذي الغنى

تهت على التائه بالياسِ(4)

ما إن تفاخرت على معدمٍ

ولا تضعفت لإفلاس(5)

ودلّل هذا الشعر على سمو مكارم الإمامعليه‌السلام التي هي ملء فم الدنيا، والتي هي موضع الاعتزاز والفخر للمسلمين.

زهده:

ومن ذاتيات الإمام الرضاعليه‌السلام وعناصره الزهد في الدنيا، والإعراض عن مباهجها وزينتها، وقد تحدّث عن زهده محمد بن عباد قال: كان جلوس الرضا على حصيرة في الصيف، وعلى مسح(6) في الشتاء، ولباسه الغليظ من

____________________

(1) البحار 12 / 28.

(2) البحار 12 / 28.

(3) النسناس: دابة وهمية على شكل الإنسان.

(4) التيه: الكبر.

(5) المناقب 4 / 361.

(6) المسح: الكساء من الشعر.

٣٣

الثياب حتى إذا برز الناس تزيأ(1) .

ويقول الرواة: إنّه التقى به سفيان الثوري، وكان الإمام قد لبس ثوباً من خز، فأنكر عليه ذلك وقال له: لو لبست ثوباً أدنى من هذا؟

فأخذ الإمامعليه‌السلام يده برفق، وأدخلها في كمّه فإذا تحت ذلك الثوب مسح، وقالعليه‌السلام له: ( يا سفيان الخز للخلق، والمسح للحق... )(2) .

لقد كان الزهد من أبرز الذاتيات في خلق الإمام الرضاعليه‌السلام ومن أظهر مكوّناته النفسية، ويجمع الرواة أنّه حينما تقلّد ولاية العهد لم يحفل بأيّ مظهرٍ من مظاهر السلطة، ولم يقم لها أي وزن ولم يرغب في أي موكب رسمي، وكره مظاهر العظمة التي يقيمها الناس لملوكهم.

سخاؤه:

ولم يكن شيء في الدنيا أحب إلى الإمام الرضاعليه‌السلام من الإحسان إلى الناس والبر بالفقراء، وقد ذكر المؤرّخون بوادر كثيرة من جوده وإحسانه كان منها ما يلي:

1 - إنّه أنفق جميع ما عنده على الفقراء حينما كان في خراسان، وذلك في يوم عرفة فأنكر عليه الفضل بن سهل، وقال له: ( إنّ هذا المغرم... )

فأجابه الإمام: ( بل هو المغنم لا تحدث مغرماً، ما ابتغيت به أجراً وكرماً )(3) .

إنّه ليس من المغرم في شيء صلة الفقراء والإحسان إلى الضعفاء ابتغاء مرضاة الله تعالى، وإنّما المغرم هو الإنفاق بغير وجه مشروع كإنفاق الملوك والوزراء الأموال الطائلة على المغنّيين والعابثين.

2 - ووفد عليه رجل فسلم عليه، وقال له:

أنا رجل من محبّيك ومحبي آبائك، ومصدري من الحج، وقد نفذت نفقتي، وما معي ما أبلغ مرحلة، فإن رأيت أن

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 178، المناقب 4 / 361.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 39).

(3) حياة الإمام محمد الجواد (ص 40).

٣٤

ترجعني إلى بلدي، فإذا بلغت تصدقت بالذي تعطيني عنك، فقال له: اجلس رحمك الله واقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا، وبقي هو وسليمان الجعفري، وحيثمة، فاستأذن الإمام منهم ودخل الدار ثم خرج ورد الباب وخرج من أعلى الباب، وقال: أين الخراساني، فقام إليه فقالعليه‌السلام له: خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤونتك ونفقتك، ولا تتصدق بها عنّي، وانصرف الرجل مسروراً قد غمرته نعمة الإمام، والتفت إليه سليمان فقال له: ( جُعلت فداك لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه... ).

فأجابهعليه‌السلام : إنّما صنعت ذلك ( مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجّة، والمذيع بالسيئة مخذول... ) أما سمعت قول الشاعر:

متى آته يوماً لأطلب حاجة

رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه(1)

3 - ومن سخائه أنّه إذا أتي بصفحة؟ طعام عمد إلى أطيب ما فيها من طعام، ووضعه في تلك الصفحة، ثم يأمر بها إلى المساكين، ويتلو هذه الآية( فلا اقتحم العقبة ) ثم يقول: علم الله عزّ وجل أن ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل له السبيل إلى الجنّة(2) .

4 - ومن بوادر جوده وكرمه أنّ فقيراً قال له:

( أعطني على قدر مروتك... )

فأجابه الإمام: ( لا يسعني ذلك... )

والتفت الفقير إلى خطأ كلامه فقال ثانياً: ( اعطني على قدر مروتي... ).

وقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبِشر قائلاً: ( إذن نعم... ) وأمر له بمائتي دينار(3) إنّ مروءة الإمام لا تُعد، فلو أعطاه جميع ما عنده فإنّ ذلك

____________________

(1) البحار 12 / 28.

(2) البحار 12 / 28.

(3) المناقب 4 / 361.

٣٥

ليس على قدر مروءته ورحمته التي هي امتداد لمروءة جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

5 - ومن معالي كرمه ما رواه أحمد بن عبيد الله عن الغفاري، قال: كان لرجل من آل أبي رافع، مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عليّ حق فتقاضاني، وألحّ عليّ، فلمّا رأيت ذلك صلّيت الصبح في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم توجّهت نحو الإمام الرضاعليه‌السلام وكان في العريض، فلمّا قربت من بابه خرج وعليه قميص ورداء فلمّا نظرت إليه، استحييت منه، ووقف لمّا رآني فسلّمت عليه، وكان ذلك في شهر رمضان، فقلت له: جُعلت فداك، لمولاك علي - فلان - عليّ حق، شهرني، فأمرني بالجلوس حتى يرجع فلم أزل في ذلك المكان حتى صلّيت المغرب، وأنا صائم، وقد مضى بعض الوقت فهممت بالانصراف، فإذا الإمام قد طلع وقد أحاط به الناس، وهو يتصدّق على الفقراء والمحوجين، ومضيت معه حتى دخل بيته، ثم خرج فدعاني فقمت إليه، وأمرني بالدخول إلى منزله فدخلت، وأخذت أحدّثه عن أمير المدينة فلمّا فرغت من حديثي قال لي: ما أظنّك أفطرت بعد، قلت: لا فدعاني بطعام، وأمر غلامه أن يتناول معي الطعام ولمّا فرغت من الإفطار أمرني أن أرفع الوسادة، وآخذ ما تحتها فرفعتها فإذا دنانير فوضعتها في كمّي، وأمر بعض غلمانه أن يبلغوني إلى منزلي، فمضوا معي، ولمّا صرت إلى منزلي دعوت السراج ونظرت إلى الدنانير فإذا هي ثمانية وأربعون ديناراً، وكان حق الرجل عليّ ثمانية وعشرين ديناراً، وقد كتب على دينار منها أنّ حق الرجل عليك ثمانية وعشرين ديناراً، وما بقي فهو لك(1) .

هذه بعض بوادر كرمه، وهي تنمّ عن نفس خُلقت للإحسان والبر والمعروف.

تكريمه للضيوف:

كانعليه‌السلام يكرم الضيوف، ويغدق عليهم بنعمه وإحسانه، وكان يبادر بنفسه لخدمتهم، وقد استضافه شخص، وكان الإمام يحدّثه في بعض الليل فتغيّر السراج فبادر الضيف لإصلاحه فوثب الإمام، وأصلحه بنفسه، وقال لضيفه: إنّا قوم لا نستخدم أضيافنا(2) .

____________________

(1) البحار 12 / 28.

(2) البحار 12 / 18.

٣٦

عتقه للعبيد:

ومن أحب الأمور إلى الإمام الرضاعليه‌السلام عتقه للعبيد، وتحريرهم من العبودية، ويقول الرواة: إنّه أعتق ألف مملوك(1) .

إحسانه إلى العبيد:

وكان الإمامعليه‌السلام كثير البر والإحسان إلى العبيد، وقد روى عبد الله بن الصلت عن رجل من أهل (بلخ)، قال: كنت مع الإمام الرضاعليه‌السلام في سفره إلى خراسان فدعا يوماً بمائدة فجمع عليها مواليه، من السودان وغيرهم، فقلت: جُعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة فأنكر عليه ذلك وقال له: ( إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد، والأُمّ واحدة، والجزاء بالأعمال... )(2) .

إنّ سيرة أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كانت تهدف إلى إلغاء التمايز: بالتقوى والعمل الصالح.

علمه:

والشيء البارز في شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام هو إحاطته التامة بجميع أنواع العلوم والمعارف، فقد كان بإجماع المؤرّخين والرواة أعلم أهل زمانه، وأفضلهم وأدراهم بأحكام الدين، وعلوم الفلسفة والطب وغيرها من سائر العلوم، وقد تحدّث عبد السلام الهروي عن سعة علومه، وكان مرافقا له يقول: ( ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ما رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له عدداً من علماء الأديان، وفقهاء الشريعة، والمتكلّمين فغلبهم عن آخرهم حتى ما بقي منهم أحد إلاّ أقرّ له بالفضل، وأقرّ له على نفسه بالقصور، ولقد سمعته يقول: كنت أجلس في ( الروضة ) والعلماء بالمدينة متوافرون فإذا عي الواحد منهم عن مسألة أشاروا إليّ بأجمعهم، وبعثوا إلي المسألة فأجيب عنها... )(3) .

____________________

(1) الإتحاف بحب الأشراف (ص 58).

(2) البحار 12 / 18.

(3) كشف الغمّة 3 / 107.

٣٧

لقد كان الإمام أعلم أهل زمانه، كما كان المرجع الأعلى في العالم الإسلامي الذي يرجع إليه العلماء والفقهاء فيما خفي عليهم من أحكام الشريعة، والفروع الفقهية.

ويقول إبراهيم بن العباس:

( ما رأيت الرضا يسأل عن شيء قط إلاّ علم، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول، إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شئ فيجيب... )(1).

لقد كان الإمام الرضاعليه‌السلام من عمالقة الفكر في الإسلام، وهو ممّن صنع للمسلمين حياتهم العلمية والثقافية.

وقال المأمون: ( ما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل ( يعني الإمام الرضا ) على وجه الأرض... )(2).

وقد دلّلت مناظراته في خراسان والبصرة والكوفة حيث سُئل عن أعقد المسائل، فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتخصّص، وقد أذعنت له جميع علماء الدنيا - في عصره - وأقرّوا له بالفضل والتفوّق عليهم.

معرفته بجميع اللغات:

وظاهرة أُخرى من علومه ومعرفته التامة، وإحاطته الشاملة بجميع اللغات، ويدلّل على ذلك ما رواه أبو إسماعيل السندي، قال: سمعت بالهند أنّ لله في العرب حجّة، فخرجت في طلبه، فدللت على الرضاعليه‌السلام فقصدته وأنا لا أُحسن العربية، فسلّمت عليه بالسندية، فرد عليّ بلغتي، فجعلت أكلّمه بالسندية، وهو يرد علي بها، وقلت له: إنّي سمعت أنّ لله حجّة في العرب، فخرجت في طلبه، فقالعليه‌السلام : أنا هو، ثم قال لي: سل عمّا أردته فسألته عن مسائل فأجابني عنها بلغتي(3) عليه‌السلام وقد أكّد هذه الظاهرة الكثيرون ممّن اتصلوا بالإمام، يقول أبو الصلت الهروي: كان الرضاعليه‌السلام يكلّم الناس بلغاتهم، فقلت له: في ذلك فقال:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 180، الإمام الجواد (ص 42)، الإتحاف بحب الأشراف.

(2) أعيان الشيعة 4 / ق 2.

(3) البحار 12 / 15.

٣٨

( يا أبا الصلت أنا حجّة الله على خلقه، وما أنّ الله ليتخذ حجّة على قوم، وهو لا يعرف لغاتهم، أو ما بلغك قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : أوتينا فصل الخطاب، وهل هو إلاّ معرفته اللغات )(1) .

وروى ياسر الخادم قال: كان لأبي الحسنعليه‌السلام في البيت صقالبة، وروم، وكان أبو الحسن قريباً منهم فسمعهم يتكلّمون بالصقلبية والرومية، ويقولون: إنّا كنّا نقصد كل سنة في بلادنا، ولا نقصد ها هنا، ولمّا كان من الغد بعث إليهم مَن يقصدهم(2) .

ونظم هذه الظاهرة الشيخ محمد بن الحسن الحر في أُرجوزته يقول:

وعلمه بجملة اللغات

من أوضح الإعجاز والآيات(3)

الملاحم والأحداث:

وأخبر الإمام الرضاعليه‌السلام عن كثير من الملاحم والأحداث قبل وقوعها، وتحقّقت بعد ذلك على الوجه الأكمل الذي أخبر به، وهي تؤكّد - بصورة واضحة - أصالة ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الله تعالى قد منح أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام المزيد من الفضل والعلم، كما منح رسله، ومن بين ما أخبر به ما يلي:

1 - روى الحسن بن بشار قال:

قال الرضا: إنّ عبد الله - يعني المأمون - يقتل محمداً - يعني الأمين - فقلت له: عبد الله بن هارون يقتل محمد بن هارون، قال نعم: عبد الله الذي بخراسان يقتل محمد بن زبيدة الذي هو ببغداد... وكان يتمثّل بهذا البيت:

وإنّ الضغن بعد الضغن يفشو

عليك، ويخرج الداء الدفينا(4)

ولم تمض الأيام حتى قتل المأمون أخاه الأمين... وسنعرض لذلك في بحوث هذا الكتاب.

2 - ومن بين الأحداث التي أخبر عنها: إنّه لمّا خرج محمد بن الإمام الصادق بمكة، ودعا الناس إلى نفسه، وخلع بيعة المأمون، قصده الإمام الرضا، وقال له: يا عمّ

____________________

(1) المناقب 4 / 333.

(2) المناقب 4 / 334.

(3) نزهة الجليس 2 / 107.

(4) المناقب 4 / 335، جوهرة الكلام (ص 146).

٣٩

لا تكذب أباك، ولا أخاك - يعني الإمام الكاظمعليه‌السلام - فإنّ هذا الأمر لا يتم، ثم خرج، ولم يلبث محمد إلاّ قليلاً حتى لاحقته جيوش المأمون بقيادة الجلودي، فانهزم محمد ومَن معه، وطلب الأمان، فآمنه الجلودي، وصعد المنبر وخلع نفسه، وقال: إنّ هذا الأمر للمأمون وليس لي فيه حق(1) .

3 - روى الحسين نجل الإمام موسىعليه‌السلام قال: كنّا حول أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، ونحن شبّان من بني هاشم، إذ مرّ علينا جعفر بن عمر العلوي وهو رثّ الهيئة فنظر بعضنا إلى بعض وضحكنا من هيئته، فقال الرضا: لترونه عن قريب كثير المال، كثير التبع، فما مضى إلا شهر ونحوه، حتى ولي المدينة وحسنت حاله(2) .

4 - روى محول السجستاني قال: لمّا جاء البريد بأشخاص الإمام الرضاعليه‌السلام ، إلى خراسان كنت أنا بالمدينة فدخل المسجد ليودّع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فودّعه مراراً كل ذلك يرجع إلى القبر، ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدّمت إليه، وسلّمت عليه، فرد السلام، وهنّأته، فقال: ذرني فإنّي أخرج من جوار جدّي، فأموت في غربة، وأدفن في جنب هارون، قال: فخرجت متبعاً طريقه، حتى وافى خراسان فأقام فيها وقتاً ثم دُفن بجنب هارون(3) .

وتحقّق ما أخبر به فقد مضى إلى خراسان، ولم يعد منها واغتاله المأمون العباسي، ودُفن إلى جانب هارون.

5 - روى صفوان بن يحيى قال: لما مضى أبو إبراهيم - يعني الإمام الكاظمعليه‌السلام - وتكلّم أبو الحسن الرضاعليه‌السلام خفنا عليه فقيل له: إنّك قد أظهرت أمرا عظيما، وإنّا نخاف عليك هذا الطاغية - يعني هارون - فقالعليه‌السلام ليجهد جهده فلا سبيل له علي(4) .

وتحقيق ذلك: فإنّ هارون لم يعرض له بسوء، وقد اكد الامام هذا المعنى لبعض أصحابه، فقد روى محمد بن سنان قال: قلت: لأبي الحسن الرضا في أيام هارون

____________________

(1) البحار 12 / 13.

(2) الفصول المهمّة (ص 229)، بحار الأنوار 12 / 13.

(3) الإتحاف بحب الأشراف (ص 59)، أخبار الدول (ص 114).

(4) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 97.

٤٠