حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)21%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 363

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156077 / تحميل: 8640
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

العلوي... وكان سيد بني هاشم في زمانه، وأحلمهم، وأنبلهم، وكان المأمون يعظمه، ويخضع له ويتغالى فيه، حتى أنّه جعله ولي عهده... )(١) .

والذهبي الذي عرف بالبغض والعداء لأهل البيتعليهم‌السلام لم يسعه إلاّ الاعتراف بالواقع والإقرار بفضل الإمام الرضاعليه‌السلام .

١٧ - محمود بن وهيب:

قال محمود بن وهيب البغدادي: ( وكراماته - أي الرضا - كثيرة رضي الله عنه، إذ هو فريد زمانه... )(٢) . لقد كان الإمام الرضا فريد زمانه في علمه وتقواه وورعه وحلمه، وسخائه، ولا يشبهه أحد في فضائله ومواهبه.

١٨ - عارف تامر:

قال عارف تامر: ( يعتبر - أي الإمام الرضا - من الأئمّة الذين لعبوا دوراً كبيراً على مسرح الأحداث الإسلامية في عصره... )(٣) . لقد استطاع الإمام في الفترة القصيرة التي تقلد فيها ولاية العهد أن يبرز القيم الأصيلة في السياسة الإسلامية، فقد أمر المأمون بإقامة العدل وتحقيق المساواة بين المسلمين، ونهاه عن التبذير بأموال الدولة إلى غير ذلك من الأمور التي سنذكرها في بحوث هذا الكتاب التي تدعم ما ذكره السيد عارف تامر من أنّ الإمام شأنه شأن آبائه الذين لعبوا دوراً كبيراً على مسرح الأحداث الإسلامية.

١٩ - محمد بن شاكر الكتبي:

قال محمد بن شاكر الكتبي: ( وهو - أي الإمام الرضاعليه‌السلام - أحد الأئمّة الاثني عشر، كان سيد بني هاشم في زمانه... ).

٢٠ - عبد المتعال:

قال عبد المتعال الصعيدي: ( كان - أي الإمام الرضا - على جانب عظيم من العلم والورع، وقد قيل لأبي نواس: علام تركت مدح علي بن موسى والخصال التي تجمعن فيه؟ فقال: لا أستطيع مدح إمام كان جبريل خادماً لأبيه، والله ما تركت ذلك

____________________

(١) تاريخ الإسلام ٨ / ورقة ٣٤، وصور في مكتبة الإمام الحكيم تسلسل ٣٢٣.

(٢) جواهر الكلام (ص ١٤٣).

(٣) عيون التواريخ ٣ / ورقة ٢٢٦ مصوّر في مكتبة السيد الحكيم.

٦١

- أي المدح - إلاّ إعظاماً له، وليس يقدر مثلي أن يقول في مثله )(١) .

لقد كان الإمام مجموعة من الفضائل التي لا تحد، فالعلم والورع من بعض صفاته التي تميز بها على غيره.

٢١ - يوسف النبهاني:

قال يوسف النبهاني: ( علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادقعليهم‌السلام أحد أكابر الأئمّة، ومصابيح الأمّة من أهل بيت النبوّة، ومعادن العلم والعرفان والكرم والفتوّة، كان عظيم القدر، مشهور الذكر، وله كرامات كثيرة، منها أنّه أخبر أنّه يأكل عنباً ورمّاناً فيموت فكان كذلك... )(٢) .

إنّ الإمامعليه‌السلام فرع زاكٍ من الأسرة النبوية التي أعزّ الله بها العرب والمسلمين، وبالإضافة لنسبه الوضّاح فقد كان من دعائم الفضل، ومن أعمدة الشرف، وله الكرمات المشهورة كما يقول النبهاني.

٢٢ - عبد القادر أحمد:

قال عبد القادر أحمد اليوسف: ( تأريخ الإمام حافل بجلائل الأعمال، فمن علم لا يدرك مداه، وعصمة متوارثة، وقدسية لا تضارعها قدسية في عصره ومن بعده، إلاّ مَن انحدر من صلبه من الأئمّة المعصومين، فهو علم هدى زمانه، ومثل أعلى في التقوى، والورع والحلم، والأخلاق، وما عساني أن أذكر في حياة وصي من أوصياء الله، وما عسى قلمي أن يكتب في تعريفه، أو لم يكن ذكر اسمه هو التعريف الكامل، فذكره قبس من نور الله يهدي المستجير به نحو السبيل الأقوم المؤدّي للصالح العام.

إنّ حياة الإمام مكرّسة لإعلاء شأن المسلمين، فما من عمل صدر منه إلاّ كان منطلقاً من عقيدة الإيمان، مستهدفاً صلاح الناس، ومنتهياً لما فيه رضى ربّ العالمين )(٣) .

لقد حفل تاريخ الإمام بجميع الفضائل التي يعتز بها الإنسان، والتي كان من

____________________

(١) المجدّدون في الإسلام (ص ٨٧).

(٢) جامع كرامات الأولياء ٢ / ١٥٦.

(٣) الإمام علي الرضا ولي عهد المأمون (ص ١).

٦٢

أبرزها العلم، والتقوى، والورع والحلم وسمو الأخلاق والآداب كما يقول عبد القادر، فالإمام هو المثل الأعلى لجميع القيم الإنسانية، ولا يضارعه في صفاته وخصائصه إلاّ السادة من آبائه وأبنائه.

٢٣ - يوسف بن أوغلى:

قال يوسف بن أوغلى سبط ابن الجوزي: ( كان علي بن موسى - كما سمي - رضاً جواداً عدلاً، عابداً، معرضاً عن الدنيا، ولولا خوفه من المأمون لما أجاب إلى ولاية العهد )(١) .

وتوفّرت في شخصية الإمام أبي محمد الرضاعليه‌السلام جميع الصفات الكريمة من الجود والعدالة، والعبادة والإعراض عن الدنيا ممّا جعلته في قمّة الشرف والمجد في دنيا الإسلام.

٢٤ - الزركلي:

قال خير الدين الزركلي: ( علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق أبو الحسن، الملقب بالرضي، ثامن الأئمّة الاثني عشر عند الإمامية ومن أجلاّء السادة عند أهل البيت وفضلائهم... )(٢) .

٢٥ - محمد جواد فضل الله:

قال العلاّمة محمد جواد فضل الله: ( الإمام الرضا قاعدة من قواعد الفكر الإسلامي، وأحد منطلقاتها الغنية بالمعرفة، انتهت إليه بعد أبيه الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام أسرار الرسالة، ومفاتيح كنوزها، فكان منهله منها، وعطاؤه من فيضها.

وهو أحد الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت الذين أغنوا الفكر الإسلامي بشتّى صنوف المعرفة ممّا أملوه على تلامذتهم أو أجابوا به مَن سألهم، أو ما نقله لنا التاريخ من محاوراتهم العلمية والعقائدية مع أصحاب المذاهب الأخرى... )(٣) .

الإمام الرضا كنز من كنوز الإسلام، وثمرة مشرقة من ثمرات الرسول الأعظم

____________________

(١) مرآة الزمان ٦ / ورقة ٤١ من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين، تسلسل ٢٨٦٤.

(٢) الأعلام ٥ / ١٧٨.

(٣) حياة الإمام الرضا.

٦٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيض من فيوضاته التي استوعبت جميع لغات الأرض، قد أغنى الله به الفكر وأوضح به القصد، وجعله علماً في بلاده يهدي الحائر، ويسترد به الضال.

٢٦ - أحمد الخزرجي:

قال أحمد الخزرجي: ( علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي، أبو الحسن الرضا، روى عن أبيه وعنه عبد السلام بن صالح وجماعة عدة نسخ، وكان سيد بني هاشم، وكان المأمون يعظّمه، ويبجّله، وعهد له بالخلافة وأخذ له العهد، مات مسموماً بطوس )(١) .

وحكى الخزرجي في هذا الكلام أنّ جماعة من تلاميذ الإمامعليه‌السلام رووا عنه عدة نسخ، ومن المؤكّد أنّها تتعلّق بأحكام الشريعة وآداب الإسلام، وسننه، كما حكى أنّه مات مسموماً، وهو ما نذهب إليه أنّ المأمون سقاه السم ليتخلّص منه، بعدما رأى إجماع المسلمين على تعظيمه وتبجيله، وسوف نعرض لهذا في البحوث الآتية.

٢٧ - بعض أحبّته:

قال بعض أحبّته والمعجبين به: ( علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادقعليهم‌السلام فاق أهل البيت شأنه، وارتفع فيهم مكانه، وظهر برهانه حتى أحلّه الخليفة المأمون محلّ مهجته، وأشركه في خلافته، وفوّض إليه أمر مملكته، وعقد على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته، فكانت مناقبه عليه، وصفاته سنية، ونفسه الشريفة هاشمية، وأرومته الكريمة نبوية، كراماته أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر... )(٢) .

٢٨ - الشبراوي:

قال الشبراوي: كان (رضي الله عنه) كريماً جليلاً، مهاباً موقراً وكان أبوه موسى الكاظمعليه‌السلام يحبّه حبّاً شديداً، ووهب له ضيعة البسرية التي اشتراها بثلاثين؟ ألف دينار(٣).

____________________

(١) خلاصة تهذيب الكمال (ص ٦٧٨).

(٢) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٨٨).

(٣) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٨٨).

٦٤

كان الإمام موسىعليه‌السلام يخلص لولده الإمام كأعظم ما يكون الإخلاص، فقدمه على بقية أبنائه، وجعله القائم من بعده، وأوصى له بهذه القطعة من الأرض - كما يقول الشبراوي - ولم يكن الإمام مدفوعاً بدافع الحب المنبعث عن العواطف والأهواء وإنّما كان من أجل أنّ ولده قاعدة من قواعد الإسلام، وأنّه أحد أوصياء الرسول الأعظم الذين نصّ عليهم حسبما تواترت الأخبار بذلك.

٢٩ - أبو النواس:

وكان ممّن مدح الإمامعليه‌السلام أبو نواس الشاعر المشهور، وقد قال الشعر فيه مرّتين وأجاد فيهما، وهما:

١ - إنّ الشعراء المعاصرين للإمام قالوا فيه الشعر ومدحوه سوى أبي نواس فعُوتب على ذلك(١) فقال هذه الأبيات الرائعة:

قيل لي أنت أوحد الناس طرّاً

في فنون من المقال النبيه

لك من جوهر الكلام نظام

يثمر الدر في يدي مجتنيه

فلماذا تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمّعن فيه

قلت: لا أهتدي لمدح إمامٍ

كان جبريل خادماً لأبيه

وهذه الأبيات الشائعة الذكر قد حفظها الناس جيلاً بعد جيل، واعتبروها من روائع الشعر العربي؛ لأنّها عبّرت عن أحاسيسهم تجاه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وما يحملون لهم من إكبار وتعظيم، ومن الطريف أنّ الذهبي الذي عرف بالحقد على أهل البيت قد علق على البيت الأخير من هذه الأبيات بقوله: ( قلت: هذا لا يجوز إطلاقه من أنّ جبريل خادم لأبيه والنص معدوم فيه... وقد كذبت الرافضة على علي الرضا... )(٢) .

إنّ لأهل البيتعليهم‌السلام منزلة كريمة عند الله تعالى، فقد ناهضوا الضالين من حكّام أمية وبني العباس، وجاهدوا في الله كأعظم ما يكون الجهاد حتى

____________________

(١) ذكر ابن طولون في كتابه ( الأئمّة الاثنى عشر ) ص ٩٨ - ٩٩ إنّ أبا نواس عُوتب على ترك مدح الإمام، فقال له بعض أصحابه: ما رأيت أوقح منك، ما تركت خمراً ولا طوداً ولا مغنّي إلاّ قلت فيه شيئاً، وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئاً، فقال: والله ما تركت ذلك إلاّ إعظاماً له، وليس يقدر مثلي أن يقول في مثله، ثم أنشد بعد ساعة هذه الأبيات.

(٢) تأريخ الإسلام ٨ / ورقة ٣٥.

٦٥

تقطّعت أوصالهم وسبيت نساؤهم، وعانوا من الاضطهاد والتنكيل ما لا يوصف، لمرارته وقسوته كل ذلك في سبيل إعلاء كلمة دين الله ونشر العدل بين الناس، ولكن الذهبي وأمثاله من المنحرفين عن الحق لا يعقلون ذلك.

٢ - خرج الإمام الرضاعليه‌السلام يوماً على بغلة فارهة، فدنا منه أبو نواس، وسلّم عليه وقال له: ( يا بن رسول الله قلت: فيك أبياتاً أحبّ أن تسمعها منّي؟ ). وبادر الإمام قائلاً:

( قل: )

فانبرى أبو نواس قائلاً:

مطهّرون نقيّات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم كلّما ذكروا

مَن لم يكن علويّاً حين ننسبه

فما له في قديم الدهر مفتخرُ

أُولئك القوم أهل البيت عندهم

علم الكتاب وما جاءت به السورُ(١)

وهذه الأبيات من أصدق الشعر وأروعها قد اقتبس الشطر الأوّل من القرآن الكريم، قال تعالى:

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)

لقد طهّرهم الله من الزيغ، وأذهب عنهم الرجس، وجعلهم قدوة لعباده يهتدي بهم الحائر.

وأعجب الإمام بهذه الأبيات فقال لأبي نواس: ( قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد... )، ثم التفت إلى غلامه فقال له: ما معك من فاضل نفقتنا؟

فقال: ثلاث مائة دينار، قال: ارفعها له، ثمّ لمّا ذهب إلى بيته، قال لغلامه: لعلّه استقلها، سق إليه البغلة(٢) (٣)

٣٠ - دعبل الخزاعي:

وأكثر دعبل في مدح الإمام الرضاعليه‌السلام ، وفي رثائه، وممّا قاله فيه:

____________________

(١) خلاصة الذهب المسبوك (ص ٢٠٠).

(٢) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٦٠)، نزهة المجلس ٢ / ١٠٥.

(٣) كشف الغمّة ٣ / ١٠٧.

٦٦

لقد رحل ابن موسى بالمعالي

وسار بيسره العلم الشريفُ

وتابعه الهدى والدين طرّاً

كما يتتبّع الإلف الأليفُ(١)

ومعنى هذا الشعر أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام قد حوى جميع صنوف الشرف والمعالي، كما تابعه العلم والهدى والدين، وقد تميّز بهذه الصفات الكريمة التي كانت من ذاتيّاته.

٣١ - الصاحب بن عباد:

أمّا الصاحب بن عبّاد الوزير، فقد هام بحب الإمام الرضاعليه‌السلام وقد أهدى تحياته العطرة إلى الإمام بهذه الأبيات.

يا سايراً زائراً إلى طوس

مشهد طهر وأرض تقديس

أبلغ سلامي الرضا وحط على

أكرم رمسٍ لخير مرموس

والله والله حلفة صدرت

من مخلص في الولاء مغموس

إنّي لو كنت مالكاً أربي

كان بطوس الغناء تعريسي

لمشهد بالزكاء ملتحف

وبالسنا والثناء مأنوس

إلى أن يقول:

يا بن النبي الذي به قمع الله

ظهور الجبابر الشوس(٢)

وابن الوصي الذي تقدّم في

الفضل على البزل القناعيس(٣)

وحائز الفخر غير منتقص

ولابس المجد غير تلبيس(٤)

ويقول في مقطوعة أخرى:

يا زائراً قد نهضا

مبتدراً قد ركضا

ومَن قد مضى كأنّه

البرق إذا ما أومضا

أبلغ سلامي زاكياً

بطوس مولاي الرضا

سبط النبي المصطفى

وابن الوصي المرتضى

____________________

(١) ديوان دعبل (ص ١٠٨).

(٢) الشوس: جمع أشوس، وهو الرافع رأسه تكبّراً.

(٣) البزل جمع بازل وهو البعير الذي انشق وهو في التاسعة، والقناعيس جمع قنعاس وهو الإبل العظيم ويوصف به الرجل الشديد.

(٤) عيون أخبار الرضا ١ / ٤.

٦٧

مَن حاز عزّاً أقعساً(١)

وشاد مجداً أبيضا

وقل له: من مخلصٍ

يرى الولا مفترضا(٢)

٣٢ - ابن الحجّاج:

وأثر ابن الحجّاج الشعر الكثير في مدح الإمام الرضاعليه‌السلام كان منه هذان البيتان:

يا ابن من تؤثر المكارم عنه

ومعالي الآداب تمتار منه

من سمى الرضا علي بن موسى

رضي الله عن أبيه وعنه (٣)

٣٣ - عبد الله بن المبارك: قال عبد الله بن المبارك في مدح الإمام هذا البيت:

هذا علي والهدى يقوده

من خير فتيان قريشٍ عوده (٤)

٣٤ - الصولي:

قال الصولي في مدح الإمام:

إلا إنّ خير الناس نفساً ووالدا

ورهطاً وأجداداً علي المعظم

أتتنا به للحلم والعلم ثامناً

إماماً يؤدّي حجّة الله تكتم (٥)

٣٥ - ابن حماد: قال الشاعر ابن حماد في مدح الإمام الرضاعليه‌السلام :

ساقها شوقي إلى طوس

ومن تحويه طوس

مشهد فيه الرضا

العالم والحبر النفيس

ذاك بحر العلم

والحكمة إن قاس مقيس

ذاك نور الله لا يطفى

له قط طميس (٦)

٣٦ - الإربلي: قال علي بن عيسى الإربلي في قصيدة يمدح بها الإمام ويتشوّق لزيارة مرقده:

____________________

(١) الأقعس: الشيء الثابت.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ / ٦.

(٣) المناقب ٤ / ٣٤٣.

(٤) المناقب ٤ / ٣٦٢.

(٥) عيون أخبار الرضا ١ / ١٥.

(٦) المناقب ٤ / ٣٥٠.

٦٨

أيّها الراكب المجد قف العيس

إذا ما حللت في أرض طوسا

لا تخف من كلالها ودع التأديب

دون الوقوف والتعريسا

وألثم الأرض إن رأيت ثرى

مشهد خير الورى علي بن موسى

وأبلغنه تحية وسلاماً

كشذى المسك من علي بن عيسى

قل سلام الإله في كل وقتٍ

يتلقّى ذاك المحلّ النفيسا

منزل لم يزل به ذاكر لله

يتلوا التسبيح والتقديسا

دار عزٍّ ما انفك قاصدها

يزجى إليها آماله والعيسا

بيت مجدٍ ما زال وقفاً عليه

الحمد والمدح والثناء حبيسا

ما عسى أن يقال في مدح قومٍ

أسس الله مجدهم تأسيسا

ما عسى أن أقول في مدح قومٍ

قدّس الله ذكرهم تقديسا

هم هداة الورى وهم أكرم

الناس أُصولاً شريفة ونفوسا

إن عرت أزمة تندوا غيوثاً

أو دجت شبهة تبدّوا شموسا

شرفوا الخيل والمنابر لمّا

افترعوها والناقة العنتريسا(١)

معشر حبّهم يجلي هموماً

ومزاياهم تجلي طروسا

كرموا مولداً وطابوا أصولاً

وزكوا محتداً وطالوا غروسا

ليس يشقى بهم جليس ومَن كان

ابن شوري إذا أرادوا جليسا

قمت في نصرهم بمدحي لمّا

فاتني أن أجرّ فيه خميسا

ملأوا بالولاء قلبي رجاءً

وبمدحي لهم ملأت الطروسا

فتراني لهم مطيعاً حنيناً

وعلى غيرهم أبيّاً شموسا

يا علي الرضا أبثّك ودّاً

غادر القلب بالغرام وطيسا

مذهبي فيك مذهبي وبقلبي

لك حب أبقى جوىً ورسيسا

لا أرى داءه بغيرك يشفى

لا ولا جرحه بغيرك يوسى

أتمنّى لو زرت مشهدك

العالي وقبّلت ربعك المأنوسا

وإذا عزّ أن أزورك يقظان

فزرني في النوم واشف السيسا

____________________

(١) العنتريس: الناقة الغليظة الوثيقة.

٦٩

في ظلال أبيه

عاش الإمام الرضاعليه‌السلام تسعاً وعشرين سنة وأشهراً في كنف أبيه الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ، وقد شاهد ضروباً قاسية من المحن والخطوب التي حلّت بأبيه الذي كان مثار قلق وخوف للحكم العبّاسي؛ لأنّه كان محط أنظار المسلمين، وموضع آمالهم في إنقاذهم من الطغمة العبّاسية الحاكمة التي تمادت في ظلم الناس وإرغامهم على ما يكرهون.

وبالإضافة إلى ذلك فقد دان شطر كبير من المسلمين بإمامة الإمام الكاظم، وأنّه الخليفة الشرعي للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحق بمركزه ومقامه من هارون وغيره من ملوك بني العباس الذين عاصرهم الإمامعليه‌السلام ، وقد اقضّ ذلك مضاجع العبّاسيين وورمت أنوفهم، فاتخذوا جميع الوسائل لاضطهاد الإمام والتنكيل به.

وعلى أيّ حال فإنّا نعرض - بصورة مجملة - إلى شخصية الإمامعليه‌السلام ، وما يتصل بذلك من بعض الشؤون التي ترتبط بحياة الإمام الرضاعليه‌السلام .

أمّا معالم شخصية الإمام الكاظمعليه‌السلام فهي ملء فم الدنيا شرفاً وفضلاً، فقد توفّرت في شخصيته الكريمة جميع عناصر الفضيلة ومقوّمات الحكمة والآداب، والتي منها:

١ - مواهبه العلمية:

والشيء الذي لا شك فيه أنّ الإمام موسىعليه‌السلام كان أعلم أهل عصره، وأدراهم بجميع العلوم، أمّا علم الفقه والحديث فكان من أساطينه، وقد احتف به العلماء والرواة وهم يسجّلون ما يفتي به، وما يقوله من روائع الحكم

٧٠

والآداب، وقد شهد الإمام الصادقعليه‌السلام عملاق هذه الأمّة ورائد نهضتها الفكرية، بوفرة علم ولده، فقد قال لعيسى: ( إنّ ابني هذا - وأشار إلى الإمام موسى - لو سألته عمّا بين دفّتي المصحف لأجابك فيه بعلم... )(١) .

وقال في فضله: ( وعنده علم الحكمة والفهم والسخاء، والمعرفة بما يحتاج إليه الناس فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم... ).

وقد روى العلماء عنه جميع أنواع العلوم ممّا ملأوا به الكتب، وقد عرف بين الرواة بالعالم، وقال الشيخ المفيد: ( وقد روى الناس عن أبي الحسن فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه )(٢) .

لقد قام الإمام موسىعليه‌السلام بتطوير الحياة العلمية، ونموّها، وكان من ألمع أئمّة المسلمين في نشره للثقافة الإسلامية.

٢ - عبادته وتقواه:

وأجمع الرواة على أنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام كان من أعظم الناس طاعة لله، ومن أكثرهم عبادة له، وكانت له ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود لله، كما كانت لجدّه الإمام زين العابدينعليه‌السلام حتى لُقّب بذي الثفنات، وكان من مظاهر عبادته أنّه إذا وقف مصلّياً بين يدي الخالق العظيم أرسل ما في عينيه من دموع وخفق قلبه، وكذلك إذا ناجى ربّه أو دعاه(٣) ، ويقول الرواة: إنّه كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقّب حتى تطلع الشمس، ويخر لله ساجداً، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد لله حتى يقرب زوال الشمس(٤) .

وكان من مظاهر طاعته أنّه دخل مسجد جدّه رسول الله (ص) في أوّل الليل فسجد سجدة واحدة، وهو يقول بنبرات تقطر خوفاً من الله:

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٣٨.

(٢) الإرشاد (ص ٢٧٢).

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٣٩.

(٤) كشف الغمّة.

٧١

( عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة... ).

وجعل يردد هذا الدعاء بإنابة وإخلاص وبكاء حتى أصبح الصبح(١).

وحينما أودعه الطاغية الظالم هارون الرشيد العبّاسي في ظلمات السجون؛ تفرّغ للعبادة، وشكر الله على ذلك قائلا: ( اللّهمّ إنّي طالما كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، وقد استجبت لي فلك الحمد على ذلك )(٢) .

وكان الطاغية هارون يشرف من أعلى قصره على السجن فيبصر ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغيّر عن موضعه، وعجب من ذلك، وراح يقول للربيع:

( ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟ ) فأجابه الربيع قائلاً: ( يا أمير المؤمنين، ما ذاك بثوب، وإنّما هو موسى بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال... )

وبهر الطاغية، وقال: ( أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم... ).

وسارع الربيع طالباً منه أن يطلق سراح الإمام ولا يضيق عليه في سجنه قائلاً: ( يا أمير المؤمنين، مالك قد ضيّقت عليه في الحبس؟ )

وسارع هارون قائلاً: ( هيهات: لا بد من ذلك... )(٣) .

وقد عرضنا بصورة شاملة إلى عبادته، وطاعته لله، وما صدر عنه من صنوف العبادة التي تدل على أنّه كان إمام المتقين وسيد العابدين والموحّدين في عصره.

٣ - زهده:

وزهد الإمام الكاظمعليه‌السلام في الدنيا، وأعرض عن مباهجها، وزينتها

____________________

(١) وفيات الأعيان ٤ / ٢٩٣ كنز اللغة (ص ٧٦٦).

(٢) وفيات الأعيان ٤ / ٢٩٣.

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٤٢.

٧٢

وآثر طاعة الله تعالى على كل شيء، وكان بيته خالياً من جميع أمتعة الحياة، وقد تحدث عنه إبراهيم بن عبد الحميد فقال: دخلت عليه في بيته الذي كان يصلّي فيه، فإذا ليس فيه شيء سوى خصفة، وسيف معلّق، ومصحف(١) .

وكان كثيراً ما يتلو على أصحابه سيرة الصحابي الثائر العظيم أبي ذر الغفاري الذي طلّق الدنيا، ولم يحفل بأي شيء من زينتها قائلاً: ( رحم الله أبا ذر، فلقد كان يقول: جزى الله الدنيا عنّي مذمّة بعد رغيفين من الشعير: أتغذى بأحدهما، وأتعشى بالآخر، وبعد شملتي الصوف ائتزر بأحدهما وأتردى بالأخرى )(٢) .

لقد وضع الإمام موسىعليه‌السلام نصب عينيه سيرة العظماء الخالدين من صحابة جدّه سيد المرسلين يشيد بسيرتهم، ويتلو مآثرهم على أصحابه وتلاميذه لتكون لهم قدوة حسنة في حياتهم.

٤ - حلمه:

أمّا الحلم فهو من أبرز صفات سيدنا الكاظمعليه‌السلام ، فقد كان مضرب المثل في حلمه وكظمه للغيظ، ويقول الرواة: إنّه كان يعفو عمّن أساء إليه، ويصفح عمّن اعتدى عليه، وذكر الرواة بوادر كثيرة من حلمه كان منها:

١ - أنّ شخصاً من أحفاد عمر بن الخطاب كان يسئ للإمام موسى ويسب جدّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فأراد بعض شيعة الإمام اغتياله فنهاهم عن ذلك، ورأى أن يعالجه بغير ذلك فسأل عن مكانه، فقيل له: إنّ له ضيعة في بعض نواحي يثرب وهو يزرع فيها فركب الإمام بغلته، ومضى متنكراً إليه، فأقبل نحوه فصاح به العمري لا تطأ زرعنا فلم يحفل به الإمام إذ لم يجد طريقاً يسلكه غير ذلك، ولمّا انتهى إليه قابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً له:

( كم غرمت في زرعك هذا!... )

( مائة دينار... ).

( كم ترجو أن تصيب منه؟ )

( أنا لا أعلم الغيب... ).

____________________

(١) البحار ١١ / ٢٦٥.

(٢) أصول الكافي ٢ / ١٣٤.

٧٣

( إنّما قلت: لك كم ترجو أن يجيئك منه! )

( أرجو أن يجيئني منه مائتا دينار ).

فأعطاه سليل النبوّة ثلاث مائة دينار، وقال: هذه لك وزرعك على حاله، فانقلب العمري رأساً على عقب وخجل على ما فرط في حق الإمام، وانصرف الإمام عنه وقصد الجامع النبوي، فوجد العمري قد سبقه فلمّا رأى الإمام قام إليه، وهو يهتف بين الناس:

( الله أعلم حيث يجعل رسالته فيمَن يشاء... ).

وبادر أصحابه منكرين عليه هذا التغيير فأخذ يخاصمهم ويذكر مناقب الإمام ومآثره، والتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً: ( أيّما كان خيراً؟ ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار )(١)

لقد عامل الإمام مبغضيه ومناوئيه بالإحسان واللطف فاقتلع من نفوسهم النزعات الشريرة، وغسل أدمغتهم التي كانت مترعة بالجهل والنقص، وقد وضع أمامه قوله تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

٢ - ومن آيات حلمه أنّه اجتاز على جماعة من أعدائه كان فيهم ابن هياج فأمر بعض أتباعه أن يتعلّق بلجام بغلة الإمام ويدّعي أنّها له، ففعل ذلك، وعرف الإمام غايته فنزل عن البغلة وأعطاها له(٢).

وقد أعطى الإمام بذلك مثلاً أعلى للحلم وسعة النفس، وكانعليه‌السلام يوصي أبناءه بالتحلّي بهذه الصفة الكريمة فقد قال لهم:

( يا بنى أوصيكم بوصية مَن حفظها انتفع بها، إذا أتاكم آت، فأسمع أحدكم في الأُذن اليمنى مكروهاً، ثم تحوّل إلى اليسرى فاعتذر لكم، وقال: إنّي لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره )(٣).

وبهذه الوصية نقف على مدى حلمه وسعة أخلاقه، وعدم مقابلة المسيء بالمثل , وهذه الظاهرة من أهم الوسائل الداعية إلى التآلف وجمع الكلمة بين الناس

____________________

(١) تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨ - ٢٩.

(٢) البحار ١١ / ٢٧٧.

(٣) الفصول المهمّة (ص ٢٢).

٧٤

٥ - جوده:

وكان الإمام موسىعليه‌السلام من أندى الناس كفّاً، ومن أكثرهم عطاءً للبائسين والمحرومين، ومن الجدير بالذكر أنّه كان يتطلّب الكتمان وعدم ذيوع ما يعطيه؛ مبتغياً بذلك الأجر عند الله تعالى، ويقول الرواة:

إنّه كان يخرج في غلس الليل البهيم فيوصل البؤساء والضعفاء وهم لا يعلمون من أي جهة تصلهم هذه المبرّة، وكانت صلاته لهم تتراوح ما بين المائتين دينار إلى الأربعمائة دينار(١) وكان أهله يقولون: ( عجباً لـمَن جاءته صرار موسى وهو يشتكي القلّة والفقر )(٢) .

وقد حفلت كتب التأريخ ببوادر كثيرة من الحاجة والسؤال، ويجمع المترجمون له أنّه كان يرى أنّ أحسن صرف للمال هو ما يرد به جوع جائع، أو يكسو به عارياً، وقد ذكرنا بوادر وأمثلة كثيرة من جوده في كتابنا حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

٦ - إغاثته للملهوفين:

من أبرز ذاتيات الإمام موسىعليه‌السلام إغاثته للملهوفين وإنقاذهم ممّا ألمّ بهم من محن الأيام وخطوبها، وكانت هذه الظاهرة من أحبّ الأمور إليه، وقد أفتى شيعته بجواز الدخول في حكومة هارون بشرط الإحسان إلى الناس، وقد شاعت عنه هذه الفتوى ( كفّارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان ).

ويقول الرواة: إنّ شخصاً من أهالي الري كانت عليه أموال طائلة لحكومة الري، وقد عجز عن تسديدها وخاف من الحكومة أن تصادر أمواله، وتنزل به العقوبة الصارمة، فسأل عن الحاكم فأخبروه أنّه من شيعة الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فسافر إلى يثرب فلمّا انتهى إليها تشرّف بمقابلة الإمام وشكا إليه حاله، وضيق مجاله، فاستجابعليه‌السلام بالوقت له، وكتب إلى حاكم الري رسالة جاء فيها بعد البسملة:

( اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلاًّ لا يسكنه إلاّ مَن أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام... ).

____________________

(١) تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨.

(٢) عمدة الطالب (ص ١٨٥).

٧٥

وأخذ الرسالة، وبعد أدائه لفريضة الحج اتجه صوب وطنه فلمّا انتهى إليه، مضى إلى الحاكم ليلاً فطرق باب بيته فخرج غلامه فقال له: ( مَن أنت؟ ).

( رسول الصابر موسى بن جعفر... ).

فهرع إلى مولاه فأخبره بذلك فخرج حافي القدمين مستقبلاً له فعانقه وقبّل ما بين عينيه، وطفق يسأله بلهفة عن حال الإمام وهو يجيبه، ثم ناوله رسالة الإمام، فأخذها بإكبار وقبّلها فلمّا قرأها استدعى بأمواله وثيابه فقاسمه في جميعها، وأعطاه قيمة ما لا يقبل القسمة، وهو يقول له: ( يا أخي هل سررتك؟... ) وسارع الرجل قائلاً: ( أي والله وزدت على ذلك... ) ثم استدعى الحاكم السجل فشطب على جميع الديون التي على الرجل، وأعطاه براءة منها، فخرج وقد غمرته موجات من الفرح والسرور، ورأى أن يجازي إحسانه بإحسان فيمضي إلى بيت الله الحرام ويدعوا له، ويخبر الإمام بما أسداه عليه من المعروف، ولمّا أقبل موسم الحج سافر إلى بيت الله الحرام، ولمّا انتهى إليه دعا للرجل بإخلاص، وأخبره بما أسداه حاكم الري من الإحسان إليه فسرّ الإمام بذلك سروراً بالغاً، والتفت إليه الرجل قائلاً: ( يا مولاي هل سرّك ذلك؟ ).

( أي والله لقد سرّني، وسرّ أمير المؤمنين، والله لقد سرّ جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقد سرّ الله تعالى )(١) .

وهذه المبادرة تمثّل مدى اهتمامه بإغاثة الملهوفين، وبها نطوي الحديث عن بعض خصائصه وصفاته.

الإمام مع هارون:

وعانى الإمام الكاظمعليه‌السلام ألواناً قاسية من المحن والخطوب في عهد الطاغية هارون الذي جهد على ظلمه والتنكيل به، فقد قضى زهرة حياته في ظلمات

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٦١ - ١٦٢.

٧٦

سجونه، محجوباً عن أهله وشيعته، ونقدّم عرضاً سريعاً إلى ما لاقاه في عهد هارون.

إلقاء القبض على الإمام:

وثقل الإمام على هارون، وورم أنفه منه؛ وذلك لأنّه أعظم شخصية في العالم الإسلامي يكنّ له المسلمون المودّة والاحترام، في حين أنّه لم يحظ بذلك.

ويقول الرواة: إنّ من الأسباب التي أدّت هارون لسجنه للإمام أنّه لمّا زار قبر النبي (ص) وقد احتف به الأشراف والوجوه والوزراء، وكبار رجال الدولة، وأقبل على الضريح المقدّس، ووجّه له التحية قائلاً: ( السلام عليك يا بن العم... ).

ولقد أفتخر على مَن سواه برحمه الماسة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه إنّما نال الخلافة بهذا السبب، وكان الإمام موسىعليه‌السلام إلى جانبه فسلّم على النبي العظيم قائلاً:

( السلام عليك يا أبت... ). وفقد الرشيد صوابه، وورم أنفه وانتفخت أوداجه، فإنّ الإمامعليه‌السلام أقرب منه إلى النبي، وألصق به من غيره فاندفع الطاغية بنبرات تقطر غضباً قائلاً: ( لم قلت: إنّك أقرب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منّا؟... ). فأدلى الإمام بالحجّة القاطعة التي لا يمكن إنكارها قائلاً:

( لو بُعث رسول الله حيّاً، وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ ).

وسارع هارون قائلا: ( سبحان الله!! وإنّي لأفتخر بذلك على العرب والعجم... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام يقيم عليه الدليل أنّه أقرب إلى النبي (ص) منه قائلاً:

( ولكنّه لا يخطب منّي، ولا أزوجه لأنّه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم ).

وأقام الإمام دليلاً آخر على قوله، فقال لهارون:

( هل يجوز لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدخل على حرمك وهن كاشفات؟ ).

٧٧

فقال هارون: لا. وقال الإمام: ( لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، فلذلك نحن أقرب إليه منكم ).(١) .

وثار الرشيد، ولم يجد مسلكاً ينفذ منه لتفنيد حجّة الإمامعليه‌السلام ، وانطوت نفسه على الشر فجاء إلى قبر النبي (ص) وقال له: ( بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله إنّي أعتذر إليك من أمر عزمت عليه إنّي أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأنّي قد خشيت أن يلقي بين أمّتك حرباً يسفك فيها دماءهم... ). لقد حسب أنّ اعتذاره إلى النبي (ص) من ارتكاب الجريمة يجديه وينفي عنه المسؤولية في يوم يخسر فيه المبطلون.

وفي اليوم الثاني أصدر أوامره بإلقاء القبض على الإمام، فألقت الشرطة القبض عليه وهو قائم يصلّي عند رأس جدّه النبي (ص) فقطعوا عليه صلاته، ولم يمهلوه لإتمامها، فحمل من ذلك المكان الشريف، وقُيّد وهو يذرف أحر الدموع، ويبث شكواه إلى جدّه قائلاً: ( إليك أشكو يا رسول الله... ). وحُمل الإمام وهو يرسف في القيود، فمثل أمام الطاغية هارون فجفاه، وأغلظ له في القول(٢) .

سجنه في البصرة:

وحُمل الإمام مقيّداً إلى البصرة، وقد وكل حسان السري بحراسته، والمحافظة عليه، وفي الطريق التقى به عبد الله بن مرحوم الأزدي، فدفع له الإمام كتباً، وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وعرّفه بأنّه الإمام من بعده(٣) .

وسارت القافلة تطوي البيداء حتى انتهت إلى البصرة وذلك قبل التروية بيوم(٤) فسلّم حسان الإمام إلى عيسى بن جعفر فحبسه في بيت من بيوت المحبس

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٥٦ - ٤٥٧.

(٢) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٥.

(٣) تنقيح المقال.

(٤) منتخب التواريخ (ص ٥١٨).

٧٨

وأقفل عليه أبواب السجن، فكان لا يفتحها إلاّ في حالتين: إحداهما خروجه إلى الطهور والأخرى لإدخال الطعام إليه.

واقبل الإمام على العبادة والطاعة فكان يصوم في النهار ويقوم في الليل، ويقضي عامة وقته في الصلاة والسجود والدعاء وقراءة القرآن، واعتبر تفرّغه للعبادة من نعم الله تعالى عليه، فكما يقول: ( اللّهمّ إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت فلك الحمد )(١) .

الإيعاز لعيسى باغتياله:

وأوعز هارون إلى عيسى عامله على البصرة باغتيال الإمامعليه‌السلام وثقل الأمر على عيسى فاستشار خواصه بذلك فمنعوه وخوفوه من عاقبة الأمر، فاستجاب لهم، ورفع رسالة إلى هارون، جاء فيها: ( يا أمير المؤمنين كتب إلي في هذا الرجل، وقد اختبرته طول مقامه بمَن حبسته معه عيناً عليه، لينظروا حيلته وأمره وطويّته ممّن له المعرفة والدراية، ويجري من الإنسان مجرى الدم، فلم يكن منه سوء قط، ولم يذكر أمير المؤمنين إلاّ بخير، ولم يكن عنده تطلع إلى ولدية، ولا خروج، ولا شيء من أمر الدنيا، ولا دعا قط على أمير المؤمنين، ولا على أحد من الناس، ولا يدعو إلاّ بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين من ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ مَن يتسلّمه منّي، وإلاّ سرحت سبيله، فإنّي منه في غاية الحرج )(٢) .

ودلّت هذه الرسالة على خوف عيسى من الإقدام على اغتيال الإمام، وقد بقي في سجنه سنة كاملة(٣) .

سجنه في بغداد:

واستجاب الرشيد لطلب عامله عيسى، فأمره بحمل الإمام إلى بغداد، فحمل إليها، تحفّ به الشرطة والحرس، ولمّا انتهى إليها أمر الرشيد بحبسه عند الفضل بن الربيع، فأخذ الفضل، وحبسه في بيته، ولم يحبسه في السجون العامة؛ وذلك لسمو

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٦.

(٢) الفصول المهمّة.

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٨.

٧٩

مكانة الإمام، وعظم شخصيته، فخاف من حدوث الفتنة واضطراب الرأي العام.

واقبل الإمامعليه‌السلام على العبادة والطاعة، وقد بهر الفضل بعبادته فقد روى عبد الله القزويني قال: دخلت على الفضل بن الربيع، وهو جالس على سطح داره فقال لي: ادن منّي فدنوت حتى حاذيته، ثم قال لي: ( أشرف على الدار... ). وأشرف عبد الله على الدار، فقال له الفضل:

- ما ترى في البيت؟

- أرى ثوباً مطروحاً.

- انظر حسناً.

فتأمّل عبد الله، ونظر مليّاً فقال:

- رجل ساجد.

- هل تعرفه؟

- لا.

- هذا مولاك.

- مَن مولاي؟

- تتجاهل عَلَيّ؟

- ما أتجاهل، ولكن لا أعرف لي مولى.

- هذا أبو الحسن موسى بن جعفر.

وكان عبد الله ممّن يدين بإمامته، وأخذ الفضل يحدثه عن عبادته قائلاً: ( إنّي أتفقّده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على الحال التي أخبرك بها، إنّه يصلّي الفجر، فيعقّب ساعة في دبر صلاته، إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكل مَن يترصد له الزوال فلست أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس؟ إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدّد الوضوء، فاعلم أنّه لم ينم في سجوده، ولا أغفى فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلّى العصر سجد سجدة فلا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة، فإذا صلّى العتمة أفطر على شوى يؤتى به، ثم يجدّد الوضوء ثم يسجد، ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة، ثم

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أرض مربعة حمراء من أدم

ما بين إلفين موصوفين بالكرمِ

تذاكرا الحرب فاحتلاّ لها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دمِ

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنمِ

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركةٍ

في عسكرين بلا طبلٍ ولا علمِ(1)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، وفيما أحسب أنّه أسبق من نظم فيه، وأحاط بأوصافه ودقائقه وقد تعلم هذه اللعبة من أبيه الرشيد الذي كان من الماهرين فيها، وقد أهدى إلى ملك (فرنسا) أدوات الشطرنج، ولم تكن معروفة فيها، وتوجد حاليا تلك الأدوات التي أهداها الرشيد في متاحف (فرنسا)(2) .

ب - ولعه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، ويقول المؤرّخون أنّه كان معجباً كأشد ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي وقال فيه: (كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان)(3) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود كأبيه الرشيد الذي لم يمر على قصره اسم الله تعالى، وإنّما كانت لياليه الليالي الحمراء.

ج - شربه للخمر:

وعكف المأمون على الإدمان على الخمر، فكان يشربها في وضح النهار وفي غلس الليل، ولم يتأثّم في اقتراف هذا المحرَّم الذي هو من أفحش المحرّمات في الإسلام.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته.

التحف الثمينة التي أهديت للمأمون:

وقام الأُمراء والأشراف بتقديم الهدايا القيّمة والتحف الثمينة للمأمون تقرّباً إليه، وكان من بعض ما أُهدي إليه ما يلي:

____________________

(1) المستطرف 2 / 306.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 233).

(3) الحضارة العربية لجاك س. ريسلر (ص 108).

٢٢١

1 - أهدى أحمد بن يوسف للمأمون سفطاً من الذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه، وكتب فيه هذا يوم جرت فيه العادة بإتحاف العبيد للسادة، وقد قلت:

على العبد حق وهو لا شك فاعله

وإن عظم المولى وجلّت فواضله

ألم ترنا نهدي إلى الله ماله

وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله

ولو كان يهدي للجليل بقدره

لقصّر عنه البحر يوماً وساحله

ولكنّنا نهدي إلى مَن نجلّه

وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله(1)

2 - أهدى أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي إلى المأمون في يوم مهرجان مائة حمل زعفران قد وضعت في أكياس من الإبريسم، وقد حملتها أتان شهب وحشية، فجاءت الهدايا والمأمون عند حرمه، فأخبر بالهدية، فسارع إلى النظر إليه، فلمّا رآها عجب بها وسأل عن الحمر التي حملت الزعفران هل هن ذكور أم إناث؟ فقيل له إنّها إناث فسُرّ بذلك، وقال: قد علمت أنّ الرجل أعقل من أن يوجه على غير أتن(2).

3 - أهدى ملك الهند جملة من الهدايا، وفيها جام ياقوت أحمر، ومعها رسالة جاء فيها: نحن نسألك أيّها الأخ أن تنعم في ذلك بالقبول، وتوسع عذراً في التقصير(3) .

هذه بعض الهدايا التي قدّمت للمأمون تقرّباً له، وطمعاً في الظفر ببعض الوظائف منه.

تظاهره بالتشيّع:

وذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن المأمون قد اعتنق مذهب التشيع، وقد استندوا إلى ما يلي:

من علمه التشيع:

إنّه أعلن أمام حاشيته وأصحابه أنّه اعتنق مذهب التشيّع وذلك في الحديث التالي: روى سفيان بن نزار، قال: كنت يوماً على رأس المأمون، فقال لأصحابه: (أتدرون مَن علّمني التشيّع؟).

____________________

(1) صبح الأعشى 2 / 420.

(2) التحف والهدايا (ص 109).

(3) نفس المصدر.

٢٢٢

فقالوا جميعاً: لا والله ما نعلم؟.

فقال: علمنيه الرشيد فانبروا قائلين:

(كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل البيت؟).

قال: كان يقتلهم على الملك لان الملك عقيم، لقد حججت معه سنة، فلمّا صار إلى المدينة تقدم إلى حجاجه، وقال لهم: (لا يدخلن على رجل من أهل المدينة ومكة، ولا من المهاجرين والأنصار وبني هاشم، وسائر بطون قريش إلا نسب نفسه... وأمتثل الحجاب ذلك، فكان الرجل إذا أراد الدخول عليه عرف نفسه إلى الحجاب، فإذا دخل فيصله بحسب مكانته ونسبه، وكانت صلته خمسة آلاف دينار إلى مائتي دينار، يقول المأمون وبينما أنا واقف إذ دخل الفضل بن الربيع، فقال: (يا أمير المؤمنين، على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب).

فاقبل الرشيد على أبنائه، وعلى سائر القواد، وقال لهم: احفظوا على أنفسكم، ثم قال للفضل ائذن له، ولا ينزل إلاّ على بساطي، يقول المأمون: ودخل شيخ مسخد(1) قد أنهكته العبادة كأنّه شنّ بال(2) قد كلم(3) السجود وجهه وأنفه فلمّا رأى الرشيد أنّه أراد أن ينزل من دابته، فصاح لا والله إلاّ

على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظر إليه الجميع بإجلال وإكبار وتعظيم ووصل الإمام إلى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به، فنزل عن راحلته فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط، وقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه، وأقبل عليه يحدثه، ويسأله عن أحواله، ثم قال له: (يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟).

قال هارون: أولاد كلهم؟ قال الإمام: لا، أكثرهم موالي وحشم، أمّا الولد فلي نيف وثلاثون، وذكر عدد الذكور، وعدد الإناث، والتفت إليه هارون فقال له:

____________________

(1) المسخد: مصفر الوجه.

(2) الشن البالي: القربة البالية.

(3) كلم: أي جرح.

٢٢٣

- لم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟

- اليد تقصر عن ذلك.

- ما حال الضيعة؟

تعطي في وقت وتمنع في آخر!.

- هل عليك دين؟

- نعم.

- كم هو؟

- عشرة آلاف دينار.

- يا بن العم أنا أعطيك من المال ما تزوّج به الذكران والنسوان، وتقضي به الدين، وتعمر به الضياع.

فشكره الإمام على ذلك وقال له: (وصلتك رحم يا بن العم، وشكر الله هذه النية الجميلة والرحم ماسة، والقرابة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنو أبيه، وعمّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك وأعلى محتدك(1)) .

فقال هارون: أفعل ذلك وكرامة.

وأخذ الإمامعليه‌السلام يوصيه بالبر والإحسان إلى عموم الفقراء قائلاً:

(يا أمير المؤمنين إنّ الله قد فرض على ولاة العهد، أن ينعشوا فقراء الأمّة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني(2) ، فأنت أولى مَن يفعل ذلك...).

فانبرى هارون قائلاً: افعل ذلك يا أبا الحسن، ثم قام الإمامعليه‌السلام فقام الرشيد تكريما له، وقبل عينيه ووجهه ثم اقبل على أولاده فقال لهم: (يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم امشوا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله).

وانصرف الإمامعليه‌السلام ، وفي نفس الطريق أسرّ إلى المأمون فبشره

____________________

(1) المحتد: الأصل.

(2) العاني: الغفير.

٢٢٤

بالخلافة، وقال له:

(إذا ملك هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).

ومضى الإمام مشيَّعاً من قبل أبناء هارون إلى منزله، ورجع المأمون إلى منزله، فلما خلا المجلس من الناس التفت إلى أبيه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته، وأجللته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟).

فقال هارون:

(هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده...).

وبهر المأمون فقال لأبيه: (يا أمير المؤمنين أليست هذه الصفات لك وفيك؟).

فأجابه هارون بالواقع قائلاً: (أنا أمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنّه لاحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منى ومن الخلق جميعاً، ووالله إن نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم).

ولـمّا أراد الرشيد الانصراف من المدينة إلى بغداد أمر بصرة فيها مائتا دينار، وقال للفضل بن الربيع اذهب بها إلى موسى بن جعفر، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين: نحن في ضيقة، وسيأتيك برنا بعد الوقت، فقام المأمون، وقال لأبيه: (تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر، وقد عظمته، وجللته مائتي دينار أخسّ عطية أعطيتها أحدا من الناس).

فزجره هارون، وقال له:

(اسكت لا أُمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم).

وأعرب هارون عن خشيته من الإمامعليه‌السلام ، وقضت سياسته في

٢٢٥

محاربته اقتصاديا لئلا يقوى على مناهضته وكان في المجلس مخارق المغني فتألم وانبرى إلى هارون قائلاً: (يا أمير المؤمنين، قد دخلت المدينة، وأكثر أهلها يطلبون مني شيئا، وإن خرجت ولم أقسم فيهم شيئا لم يتبيّن لهم فضل أمير المؤمنين علي، ومنزلتي عنده).

فأمر له هارون بعشرة آلاف دينار، فقال له مخارق: (يا أمير المؤمنين هذا لأهل المدينة، وعلى دين احتاج أن أقضيه).

فأمر له بعشرة آلاف دينار، ثم قال له: بناتي أريد أن أزوجهن فأمر له بعشرة آلاف دينار، وقال له: لا بد من غلّة تعطينيها ترد علي وعلى عيالي وبناتي فأمر له باقطاع(1) تبلغ وارداتها في السنة عشرة آلاف دينار، وأمر أن يعجل ذلك له، وقام مخارق مسرعا إلى بيت الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إليه استأذن على الإمام فأذن له فقال له: (قد وقفت على ما عاملك هذا الطاغية، وما أمر لك به، وقد احتلت عليه لك، وأخذت منه صلات ثلاثين ألف دينار وأقطاعا تغل في السنة عشرة آلاف دينار، ولا والله يا سيدي ما احتاج إلى شيء من ذلك، ما أخذته إلاّ لك وأنا اشهد لك بهذه القطاع، وقد حملت المال لك).

فشكره الإمامعليه‌السلام على ذلك، وقال له: (بارك الله لك في مالك، وأحسن جزاءك، ما كنت لآخذ منه درهماً واحداً، ولا من هذه الأقطاع شيئاً، وقد قبلت صلتك وبرّك، فانصرف راشداً ولا تراجعني في ذلك).

وقبل مخارق يد الإمامعليه‌السلام ، وانصرف عنه(2) .

وحكت هذه الرواية ما يلي:

1 - احتفاء الرشيد بالإمام الكاظمعليه‌السلام في حين أنّه لم يحفل بأي إنسان كان، فقد سيطر على أغلب أنحاء الأرض وسرى اسمه في الشرق والغرب.

2 - اعتراف هارون بأنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام هو حجّة الله على

____________________

(1) الأقطاع: القطعة من الأرض الزراعية.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 88 - 93.

٢٢٦

العالمين وأنّه إمام هذه الأمة، وقائد مسيرتها الزمنية والروحية، وأنّ هارون زعيم هذه الأمة بالقهر والغلبة لا بالاستحقاق.

3 - حرمان الإمام الكاظم من العطاء الذي يستحقه؛ وذلك من أجل أن لا يقوى على مناهضة هارون والخروج على سلطانه.

4 - إعطاء المغني (مخارق) الأموال الطائلة، وحرمان أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من حقوقهم التي نهبها هؤلاء البغاة... هذه بعض المعالم في هذه الرواية:

رد فدك للعلويين:

من الأمور التي يستند القائلون إلى تشيّع هارون ردّه لـ‍ (فدك) للعلويين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة منهم، وكان الغرض من مصادرتها إشاعة الفقر والحرمان بين العلويين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم كي لا يتمكّنوا من مناهضة أولئك الحكّام، وقد قام المأمون بردّها عليهم، وقد رفع عنهم الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، وقد مدحه شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي على هذه المكرمة التي أسداها على العلويين بقوله:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

واعتبر الكثيرون من الباحثين هذا الإجراء دليلاً على تشيّع المأمون.

إشادته بالإمام أمير المؤمنين:

وأشاد المأمون بالإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الإسلام، فقد كتب إلى جميع الآفاق بان علي بن أبي طالبعليه‌السلام أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، وقد روى الصولي أشعاراً له في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه كان منها ما يلي:

لا تقبل التوبة من تائب

إلاّ بحب ابن أبي طالب

أخو رسول الله حلف المهدي

والأخ فوق الخل والصاحب

إن جمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

فقدم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

ومن شعره الذي يرد به على مَن عابه في قربه لأبناء النبي (ص) يقول:

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٧

ومن غاو يغص عليّ غيظاً

إذا أدنيت أولاد الوصي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبان لك الرشيد من الغوي

وعرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر القوي

بأيّة خلّة وبأيّ معنى

تفضّل ملحدين على علي

علي أعظم الثقلين حقّاً

وأفضلهم سوى حق النبي(1)

ومن شعره قاله في أهل البيتعليهم‌السلام هذه الأبيات:

إن مال ذو النصب إلى جانب

ملت مع الشيعي في جانبِ

أكون في آل بني الهدى

خير بني من بني غالبِ

حبهم فرض نؤدّي به

كمثل حج لازم واجب(2)

وهذا الشعر صريح في ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام وتقديمه بالفضل على غيرهم.

وروى له الصولي هذه الأبيات في الإمام عليعليه‌السلام :

ألام على حب الوصي أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

ولولاه ما عدت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تقضي وتمتهن

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

ومن منه أولى بالتكرّم والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جوداً على اليمن

وقسم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن(3)

وحكى هذا الشعر الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الأسرة العباسية حينما ولي الخلافة فقد قلد ولاية (البصرة) إلى عبد الله بن العباس، وكان وزيره ومستشاره الخاص، كما قلد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، ولكن الأسرة العباسية قد تنكرت لهذا المعروف فقابلت أبناء الإمام بالقتل والتنكيل وارتكبت معهم ما لم ترتكبه معهم الأسرة الأموية وقد أوضحنا في

____________________

(1) المحاسن والمساوئ 1 / 105 للبيهقي.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

(3) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٨

هذا الكتاب جوانب كثيرة من اضطهادهم للسادة العلويين، فلم يرعوا فيهم أنّهم أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم وديعته في أمته، فعمدوا إلى قتلهم تحت كل حجر ومدر.

ونسب إلى المأمون هذان البيتان:

إذا المرجّى سرّك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدّد عنده ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآل بيته

فردّ عليه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرّك أن يبوح بذات نفسه

فصلّ على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه(1)

ومن الطريف ما ذكره الصولي أنّه كان مكتوباً على سارية من سواري جامع البصرة:

(رحم الله عليّا

إنّه كان تقيّا)

وكان يجلس إلى تلك السارية حفص أبو عمر الخطابي وكان أعور فعمد إلى محو ذلك، وكتب بعض المجاورين إلى الجامع إلى المأمون يخبره بمحو الخطابي للكتابة، فشقّ على المأمون ذلك، وأمر بإشخاصه إليه، فلمّا مثل عنده قال له:

(لم محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟).

فقال الخطابي: (وما كان عليها؟).

قال المأمون: كان عليها:

(رحم الله عليّا

انه كان تقيّا)

فقال: إنّ المكتوب رحم الله عليا إنّه كان نبيّا، فقال المأمون كذبت، بل كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدبتك، ثم أمر بإخراجه(2) .

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 329.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

٢٢٩

انتقاصه لمعاوية:

واستدلّ القائلون بتشيّع المأمون إلى أنّه أمر بسب معاوية بن هند وانتقاصه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد أمر أن ينادي المنادي (أن برئت الذمّة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

وهذا لا يصلح دليلاً على تشيّع المأمون؛ لأنّ معاوية قد انكشف، وظهر واقعه، فقد تسالمت على قدحه جميع الأوساط، وأنّه الخصم اللدود للإسلام، وأنّه صاحب الأحداث والموبقات.

استدلاله على إمامة الإمام علي:

ومن أهم ما استدل به القائلون على تشيّع المأمون عقده للمؤتمرات العلمية، واستدلاله ببالغ الحجة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانه القائد الأول للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أولى بمقامه، وأحق بمركزه من غيره.

ومن أروع المؤتمرات التي أقامها المأمون في بلاطه، ومن أكثرها أهمية هذا المؤتمر الذي حضره أربعون من علماء الحديث، وعلماء الكلام انتخبهم يحيى بن أكثم من بين علماء بغداد، وقد أدلوا بحججهم على ما يذهبون إليه من تفضيل الخلفاء على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ أنّ المأمون فنّد حججهم بأدلة حاسمة دلّت على براعته واطلاعه الواسع في البحوث الكلامية، ونحن ننقل النص الكامل لهذه المناظرة الرائعة لما لها من الأهمية البالغة، وفيما يلي ذلك:

المأمون:

ولـمّا مثل العلماء أمام المأمون، التفت إليهم بعد ترحيبه بهم، فقال لهم: (إنّي أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي حجّة، فمن كان حاقناً(2) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا، وسلوا خفافكم، وضعوا أرديتكم).

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 361.

(2) الحاقن: الذي يضايقه البول.

٢٣٠

ففعلوا ما أمرهم به، والتفت المأمون لهم قائلاً: (أيّها القوم إنّما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم، وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي، ومكاني من قول الحق حيث كان، ورد الباطل، على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقرّبوا إلى الله تعالى، برضوانه، وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق، إلاّ سلّطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.

إنّي رجل أزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام خير البشر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي، وإن كنت مخطئاً فردّوا عليّ وهلمّوا، فإن شئتم سألتكم، وإن شئتم سألتموني...).

وليس في هذا الكلام أي التواء، أو خروج عن المنطق، وإنّما صاحبه يريد الحقيقة الناصعة.

علماء الحديث:

وسارع علماء الحديث قائلين: (بل نحن نسألك...).

وانبرى المأمون فأرشدهم إلى طريق الحوار قائلاً: (هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزده وإن أتى بخلل فسدّدوه...)

الدليل الأوّل:

وأدلى عالم من علماء الحديث بحجّته على أنّ أبا بكر هو خير هذه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً:

(نحن نزعم أنّ خير الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر، من قبل الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول (ص) قال: (اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلاّ بخير الناس...).

جواب المأمون:

وناقش موضوع الحديث المنسوب إلى النبي (ص) نقاشاً موضوعياً فقال: (الروايات كثيرة، ولا بد من أن تكون كلها حقاً، أو كلها باطلاً، أو بعضها

٢٣١

حقاً، وبعضها باطلاً، فلو كانت كلها حقاً، كانت كلها باطلاً من قبل أن بعضها ينقض بعضها، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين، ودرس الشريعة(1) فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار، وهو أنّ بعضها حق، وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلا بد من دليل على ما يحق منها، ليعتقد، أو ينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً كان أولى ما اعتقده، وأخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء، وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الأمر بالمحال، وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.

وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر، والدليل على اختلافهما، أنّ أبا بكر سبى أهل الردة، وردّهم عمر أحراراً، وأشار عمر بعزل خالد لقتله مالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر، ووضع عمر ديوان العطية، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر، ولهذا نظائر كثيرة...).

وردّ المأمون وثيق للغاية، فقد زيف الحديث، وأثبت أنّه من الموضوعات، ولا نصيب له من الصحّة.

الدليل الثاني:

وانبرى عالم آخر من علماء الحديث فاستدل على أفضلية الشيخين وتقدّمهما على الإمام أمير المؤمنين بالحديث المنسوب إلى النبي (ص).

قال: (إنّ النبي (ص) قال: لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً...).

جواب المأمون:

وزيف المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل من قبل أنّ رواياتكم قد صرّحت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى بين أصحابه، وأخّر عليّاً

____________________

(1) أي إماتة الشريعة.

٢٣٢

عليه‌السلام ، فقال له: في ذلك فقال: وما أخرّتك إلاّ لنفسي، فأيّ الروايتين ثبتت بطلت الأخرى...).

إنّ مناقشة المأمون للحديث مناقشة موضوعية ليس فيها أي تحيّز، وإنّما كانت خاضعة للدليل الحاسم.

الدليل الثالث:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ عليّاًعليه‌السلام قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر...).

مناقشة المأمون:

وناقش المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل لأنّ النبي (ص) لو علم أنّهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد، وممّا يكذب هذه الرواية قول علي لـمّا قبض النبي (ص): وأنا أولى بمجلسه منّي بقميصي، ولكن أشفقت أن يرجع الناس كفّاراً، وقولهعليه‌السلام : أنّى يكونان خيراً مني؟ وقد عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما، وأبطل المأمون الحديث، وبين زيفه، فلم يصلح لأن يكون دليلاً للخصم.

الدليل الرابع:

وقال عالم من علماء الحديث: إنّ أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله، فقالعليه‌السلام : قدّمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن ذا يؤخرك؟).

ردّ المأمون للحديث:

ورد المأمون الحديث قائلاً: هذا باطل لأنّ عليّاًعليه‌السلام قعد عن بيعة أبي بكر، ورويتم أنّه قعد عنها حتى قبضت فاطمةعليها‌السلام ، وأنّها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها.

ووجه آخر وهو أنّ النبي (ص) لو كان استخلفه فكيف كان له أن يستقيل، وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر...).

الدليل الخامس:

وقال عالم آخر: إنّ عمرو بن العاص قال: يا نبي الله مَن أحب الناس إليك

٢٣٣

من النساء؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها...).

ردّ المأمون:

ورد المأمون هذا الحديث فقال: هذا باطل لأنّكم رويتم أن النبي (ص) وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ايتني بأحبّ خلقك إليك، فكان عليّاً، فأي رواياتكم تقبل؟).

إنّ حديث الطائر المشوي مجمع عليه، وهو يدل بوضوح على أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق عند الله، وأقربهم إليه.

الدليل السادس:

وانبرى عالم آخر فقال: (إنّ عليّاً قال: مَن فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري...).

جواب المأمون:

وأجاب المأمون عن هذا الحديث المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:

(كيف يجوز أن يقول علي: أجلد الحد على مَن لا يجب حد عليه، فيكون متعدّياً لحدود الله، عاملاً بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية، وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال: وليتكم ولست بخيركم، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي على أبي بكر، مع تناقض الحديث في نفسه، ولا بد له من أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً فأنّى عرف ذلك بوحي؟ فالوحي منقطع أو بالتظنين فالمتظنّي متحيّر، أو بالنظر، فالنظر بحث وإن كان غير صادق، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين، ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب...).

الدليل السابع:

وقال عالم آخر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا الحديث محال لأنّه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن (أشحمية) كانت عند النبي (ص) فقال: لا يدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها

٢٣٤

النبي (ص): إنّ الله تعالى يقول:( أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَاباً ) (1) فإن زعمتم أنّ أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة، فقد رويتم أنّ النبي (ص) قال للحسن والحسين: إنّهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين وأبوهما خير منهما).

ومناقشة المأمون للحديث مناقشة منطقية غير خاضعة للأهواء والتيارات المذهبية.

الدليل الثامن:

وقال عالم آخر من علماء الحديث: (إنّ النبي (ص) قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر...).

جواب المأمون:

قال المأمون في تفنيد هذا الحديث: هذا محال لأنّ الله تعالى يقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (2) ، وقال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (3) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوّة مبعوثاً؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوّة مؤخراً؟...).

إنّ مناقشة المأمون لهذه الأحاديث مبنيّة على الفكر والمنطق وليس فيها ما يشذ عنهما.

الدليل التاسع:

وانبرى عالم آخر فأدلى بحجّته قائلاً: (إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة، وبعمر خاصة...).

جواب المأمون:

وقال المأمون في ردّه على هذا الحديث: هذا مستحيل لأنّ الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة.

وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أنّ النبي (ص) قال: دخلت الجنة

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 35 - 37.

(2) سورة النساء: آية 163.

(3) سورة الأحزاب آية 7.

٢٣٥

فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة، فقلتم: عبد أبي بكر خير من الرسول (ص) لأنّ السابق أفضل من المسبوق...).

الدليل العاشر:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ النبي (ص) قال: لو نزل العذاب ما نجا إلاّ عمر بن الخطاب...).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (1) فجعلتم عمر مثل الرسول (ص)!!...).

الدليل الحادي عشر:

وقال محدث آخر: لقد شهد النبي (ص) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة.

مناقشة المأمون:

قال المأمون: لو كان كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله أمن المنافقين أنا؟ فإن كان قد قال له النبي: أنت من أهل الجنة، ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة، فصدق حذيفة، ولم يصدق النبي (ص) فهذا على غير الإسلام، وإن كان قد صدق النبي (ص) فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما).

الدليل الثاني عشر:

وقال عالم آخر: قال النبي (ص): (وضعت في كفّة الميزان ووضعت أمّتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم ثم رُفع الميزان).

جواب المأمون:

وفنّد المأمون هذا الحديث فقال: هذا محال لأنّه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال؛ لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد فكيف بما ليس؟.

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم:

____________________

(1) سورة الأنفال: آية 33.

٢٣٦

(أخبروني بماذا يتفاضل الناس؟).

وانبرى بعض العلماء فقال: (يتفاضلون بالأعمال الصالحة).

وعلّق المأمون على هذا الكلام قائلاً: (أخبروني ممّن فضل صاحبه على عهد النبي (ص)، ثم إنّ المفضول عمل بعد وفاة الرسول (ص) بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي (ص) ثم أيلحق به؟ فإن قلتم: نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً، وحجّاً، وصوماً، وصلاة، وصدقة من أحدهم...).

فانبروا جميعاً قائلين: (صدقت لا يلحق فاضل دهرنا بفاضل عصر النبي (ص)).

فقال لهم المأمون: (انظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل عليعليه‌السلام وقيسوا إليها ما ورد في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل عليعليه‌السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تتعدّوه...).

وحار القوم في الجواب، فقد سدّ عليهم المأمون كل ثغرة يسلكون فيها للدفاع عمّا يذهبون إليه، والتفت إليهم المأمون قائلاً:

(ما لكم سكتّم؟...).

فقالوا: (قد استقصينا)، إذ لم تبق عندهم حجّة يتمسّكون بها، فقال لهم المأمون: (إنّي سائلكم، أخبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...).

فقالوا جميعاً: (السبق إلى الإسلام؛ لأنّ الله تعالى يقول:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ...).

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

٢٣٧

وسارع المأمون قائلاً: (فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام؟...).

وارتفعت أصواتهم قائلين: (إنّه - أي علي - سبق حدثاً لم يجر عليه حكم، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم - أي التكليف - وبين هاتين الحالتين فرق...).

وأجاب المأمون قائلاً: (خبروني عن إسلام علي بالهام من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي (ص)؟ فإن قلتم: بإلهام فقد فضلتموه على النبي (ص)؛ لأنّ النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً، ومعرفاً، وإن قلتم بدعاء النبي (ص) فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر الله تعالى، فإن قلتم: من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيّه في قوله:( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1) وفي قوله تعالى:( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ، وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيّه (ص) بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم، فدعاه ثقة به، وعلماً بتأييد الله تعالى.

وخلّة أخرى: خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلّف خلقه ما لا يطيقون، فإن قلتم: نعم فقد كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيف يجوز أن يأمر نبيه (ص) بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنّه، وضعفه عن القبول.

وعلّة أخرى هل رأيتم النبي (ص) دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة مع علي، فإن زعمتم أنّه لم يدع أحداً غيره، فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس).

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم: (أي الأعمال بعد السبق إلى الإيمان؟...).

فقالوا جميعاً: (الجهاد في سبيل الله...).

وانبرى المأمون يقيم عليهم الحجّة في تقديم الإمام علي غيره بالفضل قائلاً:

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

(2) سورة ص: آية 3 - 4.

٢٣٨

هل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعليعليه‌السلام في جميع مواقف النبي (ص) من الأثر؟ هذه (بدر) قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً، قتل علي منهم نيفاً وعشرين، وأربعون لسائر الناس...).

وانبرى عالم من علماء الحديث فقال: (كان أبو بكر مع النبي (ص) في عريشه يدبّرها).

فردّ عليه المأمون قائلاً: (لقد جئت بهذا عجيبة!! كان يدبّر دون النبي (ص) أو معه فيشركه، أو لحاجة النبي (ص) إلى رأي أبي بكر؟ أي الثلاث أحب إليك؟).

وأجاب العالم: (أعوذ بالله من أن أزعم أنّه يدبّر دون النبي (ص) أو يشركه أو بافتقار من النبي إليه).

(وردّ عليه المأمون قائلاً: فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلّفه عن الحرب، فيجب أن يكون كل متخلّف فاضلاً أفضل من المجاهدين والله عزّ وجل يقول:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

ووجّه المأمون خطابه إلى إسحاق بن حماد بن زيد، وهو من كبار علماء الحديث فقال له: (اقرأ سورة هل أتى).

وأخذ إسحاق في قراءة السورة فلمّا انتهى إلى قوله تعالى:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إلى قوله:وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) (2) .

قال له المأمون:

____________________

(1) سورة النساء: آية 95.

٢٣٩

(فيمَن نزلت هذه الآيات؟).

(في علي...).

وانبرى المأمون قائلاً: (هل بلغك أنّ عليّاًعليه‌السلام قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ) (1) على ما وصف الله تعالى في كتابه.

(لا...).

(إنّ الله تعالى عرف سريرة علي ونيّته فاظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره...

هل علمت أنّ الله تعالى وصف في شيء ممّا وصف في الجنة، ما في هذه السورة:( قوارير من فضة... ) .

(لا...).

(فهذه فضيلة أخرى، كيف تكون القوارير من فضة؟).

(لا أدري).

(يريد كأنّها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها، وهذا مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا إسحاق رويدا شوقك بالقوارير) وعنى به نساء كأنّها القوارير رقّة، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحراً) أي كأنّه بحر من كثرة جريه وعدوه، وكقول الله تعالى:( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (2) أي كأنّه يأتيه الموت، ولو أتاه من مكان

واحد مات.

يا إسحاق ألست ممّن يشهد أنّ العشرة في الجنة؟).

(بلى...).

(أرأيت لو أنّ رجلاً قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك

____________________

(1) سورة الدهر: آية 9.

(2) سورة إبراهيم: آية 17.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363