حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 363

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156073 / تحميل: 8639
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

العلوي... وكان سيد بني هاشم في زمانه، وأحلمهم، وأنبلهم، وكان المأمون يعظمه، ويخضع له ويتغالى فيه، حتى أنّه جعله ولي عهده... )(١) .

والذهبي الذي عرف بالبغض والعداء لأهل البيتعليهم‌السلام لم يسعه إلاّ الاعتراف بالواقع والإقرار بفضل الإمام الرضاعليه‌السلام .

١٧ - محمود بن وهيب:

قال محمود بن وهيب البغدادي: ( وكراماته - أي الرضا - كثيرة رضي الله عنه، إذ هو فريد زمانه... )(٢) . لقد كان الإمام الرضا فريد زمانه في علمه وتقواه وورعه وحلمه، وسخائه، ولا يشبهه أحد في فضائله ومواهبه.

١٨ - عارف تامر:

قال عارف تامر: ( يعتبر - أي الإمام الرضا - من الأئمّة الذين لعبوا دوراً كبيراً على مسرح الأحداث الإسلامية في عصره... )(٣) . لقد استطاع الإمام في الفترة القصيرة التي تقلد فيها ولاية العهد أن يبرز القيم الأصيلة في السياسة الإسلامية، فقد أمر المأمون بإقامة العدل وتحقيق المساواة بين المسلمين، ونهاه عن التبذير بأموال الدولة إلى غير ذلك من الأمور التي سنذكرها في بحوث هذا الكتاب التي تدعم ما ذكره السيد عارف تامر من أنّ الإمام شأنه شأن آبائه الذين لعبوا دوراً كبيراً على مسرح الأحداث الإسلامية.

١٩ - محمد بن شاكر الكتبي:

قال محمد بن شاكر الكتبي: ( وهو - أي الإمام الرضاعليه‌السلام - أحد الأئمّة الاثني عشر، كان سيد بني هاشم في زمانه... ).

٢٠ - عبد المتعال:

قال عبد المتعال الصعيدي: ( كان - أي الإمام الرضا - على جانب عظيم من العلم والورع، وقد قيل لأبي نواس: علام تركت مدح علي بن موسى والخصال التي تجمعن فيه؟ فقال: لا أستطيع مدح إمام كان جبريل خادماً لأبيه، والله ما تركت ذلك

____________________

(١) تاريخ الإسلام ٨ / ورقة ٣٤، وصور في مكتبة الإمام الحكيم تسلسل ٣٢٣.

(٢) جواهر الكلام (ص ١٤٣).

(٣) عيون التواريخ ٣ / ورقة ٢٢٦ مصوّر في مكتبة السيد الحكيم.

٦١

- أي المدح - إلاّ إعظاماً له، وليس يقدر مثلي أن يقول في مثله )(١) .

لقد كان الإمام مجموعة من الفضائل التي لا تحد، فالعلم والورع من بعض صفاته التي تميز بها على غيره.

٢١ - يوسف النبهاني:

قال يوسف النبهاني: ( علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادقعليهم‌السلام أحد أكابر الأئمّة، ومصابيح الأمّة من أهل بيت النبوّة، ومعادن العلم والعرفان والكرم والفتوّة، كان عظيم القدر، مشهور الذكر، وله كرامات كثيرة، منها أنّه أخبر أنّه يأكل عنباً ورمّاناً فيموت فكان كذلك... )(٢) .

إنّ الإمامعليه‌السلام فرع زاكٍ من الأسرة النبوية التي أعزّ الله بها العرب والمسلمين، وبالإضافة لنسبه الوضّاح فقد كان من دعائم الفضل، ومن أعمدة الشرف، وله الكرمات المشهورة كما يقول النبهاني.

٢٢ - عبد القادر أحمد:

قال عبد القادر أحمد اليوسف: ( تأريخ الإمام حافل بجلائل الأعمال، فمن علم لا يدرك مداه، وعصمة متوارثة، وقدسية لا تضارعها قدسية في عصره ومن بعده، إلاّ مَن انحدر من صلبه من الأئمّة المعصومين، فهو علم هدى زمانه، ومثل أعلى في التقوى، والورع والحلم، والأخلاق، وما عساني أن أذكر في حياة وصي من أوصياء الله، وما عسى قلمي أن يكتب في تعريفه، أو لم يكن ذكر اسمه هو التعريف الكامل، فذكره قبس من نور الله يهدي المستجير به نحو السبيل الأقوم المؤدّي للصالح العام.

إنّ حياة الإمام مكرّسة لإعلاء شأن المسلمين، فما من عمل صدر منه إلاّ كان منطلقاً من عقيدة الإيمان، مستهدفاً صلاح الناس، ومنتهياً لما فيه رضى ربّ العالمين )(٣) .

لقد حفل تاريخ الإمام بجميع الفضائل التي يعتز بها الإنسان، والتي كان من

____________________

(١) المجدّدون في الإسلام (ص ٨٧).

(٢) جامع كرامات الأولياء ٢ / ١٥٦.

(٣) الإمام علي الرضا ولي عهد المأمون (ص ١).

٦٢

أبرزها العلم، والتقوى، والورع والحلم وسمو الأخلاق والآداب كما يقول عبد القادر، فالإمام هو المثل الأعلى لجميع القيم الإنسانية، ولا يضارعه في صفاته وخصائصه إلاّ السادة من آبائه وأبنائه.

٢٣ - يوسف بن أوغلى:

قال يوسف بن أوغلى سبط ابن الجوزي: ( كان علي بن موسى - كما سمي - رضاً جواداً عدلاً، عابداً، معرضاً عن الدنيا، ولولا خوفه من المأمون لما أجاب إلى ولاية العهد )(١) .

وتوفّرت في شخصية الإمام أبي محمد الرضاعليه‌السلام جميع الصفات الكريمة من الجود والعدالة، والعبادة والإعراض عن الدنيا ممّا جعلته في قمّة الشرف والمجد في دنيا الإسلام.

٢٤ - الزركلي:

قال خير الدين الزركلي: ( علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق أبو الحسن، الملقب بالرضي، ثامن الأئمّة الاثني عشر عند الإمامية ومن أجلاّء السادة عند أهل البيت وفضلائهم... )(٢) .

٢٥ - محمد جواد فضل الله:

قال العلاّمة محمد جواد فضل الله: ( الإمام الرضا قاعدة من قواعد الفكر الإسلامي، وأحد منطلقاتها الغنية بالمعرفة، انتهت إليه بعد أبيه الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام أسرار الرسالة، ومفاتيح كنوزها، فكان منهله منها، وعطاؤه من فيضها.

وهو أحد الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت الذين أغنوا الفكر الإسلامي بشتّى صنوف المعرفة ممّا أملوه على تلامذتهم أو أجابوا به مَن سألهم، أو ما نقله لنا التاريخ من محاوراتهم العلمية والعقائدية مع أصحاب المذاهب الأخرى... )(٣) .

الإمام الرضا كنز من كنوز الإسلام، وثمرة مشرقة من ثمرات الرسول الأعظم

____________________

(١) مرآة الزمان ٦ / ورقة ٤١ من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين، تسلسل ٢٨٦٤.

(٢) الأعلام ٥ / ١٧٨.

(٣) حياة الإمام الرضا.

٦٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيض من فيوضاته التي استوعبت جميع لغات الأرض، قد أغنى الله به الفكر وأوضح به القصد، وجعله علماً في بلاده يهدي الحائر، ويسترد به الضال.

٢٦ - أحمد الخزرجي:

قال أحمد الخزرجي: ( علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي، أبو الحسن الرضا، روى عن أبيه وعنه عبد السلام بن صالح وجماعة عدة نسخ، وكان سيد بني هاشم، وكان المأمون يعظّمه، ويبجّله، وعهد له بالخلافة وأخذ له العهد، مات مسموماً بطوس )(١) .

وحكى الخزرجي في هذا الكلام أنّ جماعة من تلاميذ الإمامعليه‌السلام رووا عنه عدة نسخ، ومن المؤكّد أنّها تتعلّق بأحكام الشريعة وآداب الإسلام، وسننه، كما حكى أنّه مات مسموماً، وهو ما نذهب إليه أنّ المأمون سقاه السم ليتخلّص منه، بعدما رأى إجماع المسلمين على تعظيمه وتبجيله، وسوف نعرض لهذا في البحوث الآتية.

٢٧ - بعض أحبّته:

قال بعض أحبّته والمعجبين به: ( علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادقعليهم‌السلام فاق أهل البيت شأنه، وارتفع فيهم مكانه، وظهر برهانه حتى أحلّه الخليفة المأمون محلّ مهجته، وأشركه في خلافته، وفوّض إليه أمر مملكته، وعقد على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته، فكانت مناقبه عليه، وصفاته سنية، ونفسه الشريفة هاشمية، وأرومته الكريمة نبوية، كراماته أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر... )(٢) .

٢٨ - الشبراوي:

قال الشبراوي: كان (رضي الله عنه) كريماً جليلاً، مهاباً موقراً وكان أبوه موسى الكاظمعليه‌السلام يحبّه حبّاً شديداً، ووهب له ضيعة البسرية التي اشتراها بثلاثين؟ ألف دينار(٣).

____________________

(١) خلاصة تهذيب الكمال (ص ٦٧٨).

(٢) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٨٨).

(٣) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٨٨).

٦٤

كان الإمام موسىعليه‌السلام يخلص لولده الإمام كأعظم ما يكون الإخلاص، فقدمه على بقية أبنائه، وجعله القائم من بعده، وأوصى له بهذه القطعة من الأرض - كما يقول الشبراوي - ولم يكن الإمام مدفوعاً بدافع الحب المنبعث عن العواطف والأهواء وإنّما كان من أجل أنّ ولده قاعدة من قواعد الإسلام، وأنّه أحد أوصياء الرسول الأعظم الذين نصّ عليهم حسبما تواترت الأخبار بذلك.

٢٩ - أبو النواس:

وكان ممّن مدح الإمامعليه‌السلام أبو نواس الشاعر المشهور، وقد قال الشعر فيه مرّتين وأجاد فيهما، وهما:

١ - إنّ الشعراء المعاصرين للإمام قالوا فيه الشعر ومدحوه سوى أبي نواس فعُوتب على ذلك(١) فقال هذه الأبيات الرائعة:

قيل لي أنت أوحد الناس طرّاً

في فنون من المقال النبيه

لك من جوهر الكلام نظام

يثمر الدر في يدي مجتنيه

فلماذا تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمّعن فيه

قلت: لا أهتدي لمدح إمامٍ

كان جبريل خادماً لأبيه

وهذه الأبيات الشائعة الذكر قد حفظها الناس جيلاً بعد جيل، واعتبروها من روائع الشعر العربي؛ لأنّها عبّرت عن أحاسيسهم تجاه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وما يحملون لهم من إكبار وتعظيم، ومن الطريف أنّ الذهبي الذي عرف بالحقد على أهل البيت قد علق على البيت الأخير من هذه الأبيات بقوله: ( قلت: هذا لا يجوز إطلاقه من أنّ جبريل خادم لأبيه والنص معدوم فيه... وقد كذبت الرافضة على علي الرضا... )(٢) .

إنّ لأهل البيتعليهم‌السلام منزلة كريمة عند الله تعالى، فقد ناهضوا الضالين من حكّام أمية وبني العباس، وجاهدوا في الله كأعظم ما يكون الجهاد حتى

____________________

(١) ذكر ابن طولون في كتابه ( الأئمّة الاثنى عشر ) ص ٩٨ - ٩٩ إنّ أبا نواس عُوتب على ترك مدح الإمام، فقال له بعض أصحابه: ما رأيت أوقح منك، ما تركت خمراً ولا طوداً ولا مغنّي إلاّ قلت فيه شيئاً، وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئاً، فقال: والله ما تركت ذلك إلاّ إعظاماً له، وليس يقدر مثلي أن يقول في مثله، ثم أنشد بعد ساعة هذه الأبيات.

(٢) تأريخ الإسلام ٨ / ورقة ٣٥.

٦٥

تقطّعت أوصالهم وسبيت نساؤهم، وعانوا من الاضطهاد والتنكيل ما لا يوصف، لمرارته وقسوته كل ذلك في سبيل إعلاء كلمة دين الله ونشر العدل بين الناس، ولكن الذهبي وأمثاله من المنحرفين عن الحق لا يعقلون ذلك.

٢ - خرج الإمام الرضاعليه‌السلام يوماً على بغلة فارهة، فدنا منه أبو نواس، وسلّم عليه وقال له: ( يا بن رسول الله قلت: فيك أبياتاً أحبّ أن تسمعها منّي؟ ). وبادر الإمام قائلاً:

( قل: )

فانبرى أبو نواس قائلاً:

مطهّرون نقيّات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم كلّما ذكروا

مَن لم يكن علويّاً حين ننسبه

فما له في قديم الدهر مفتخرُ

أُولئك القوم أهل البيت عندهم

علم الكتاب وما جاءت به السورُ(١)

وهذه الأبيات من أصدق الشعر وأروعها قد اقتبس الشطر الأوّل من القرآن الكريم، قال تعالى:

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)

لقد طهّرهم الله من الزيغ، وأذهب عنهم الرجس، وجعلهم قدوة لعباده يهتدي بهم الحائر.

وأعجب الإمام بهذه الأبيات فقال لأبي نواس: ( قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد... )، ثم التفت إلى غلامه فقال له: ما معك من فاضل نفقتنا؟

فقال: ثلاث مائة دينار، قال: ارفعها له، ثمّ لمّا ذهب إلى بيته، قال لغلامه: لعلّه استقلها، سق إليه البغلة(٢) (٣)

٣٠ - دعبل الخزاعي:

وأكثر دعبل في مدح الإمام الرضاعليه‌السلام ، وفي رثائه، وممّا قاله فيه:

____________________

(١) خلاصة الذهب المسبوك (ص ٢٠٠).

(٢) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٦٠)، نزهة المجلس ٢ / ١٠٥.

(٣) كشف الغمّة ٣ / ١٠٧.

٦٦

لقد رحل ابن موسى بالمعالي

وسار بيسره العلم الشريفُ

وتابعه الهدى والدين طرّاً

كما يتتبّع الإلف الأليفُ(١)

ومعنى هذا الشعر أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام قد حوى جميع صنوف الشرف والمعالي، كما تابعه العلم والهدى والدين، وقد تميّز بهذه الصفات الكريمة التي كانت من ذاتيّاته.

٣١ - الصاحب بن عباد:

أمّا الصاحب بن عبّاد الوزير، فقد هام بحب الإمام الرضاعليه‌السلام وقد أهدى تحياته العطرة إلى الإمام بهذه الأبيات.

يا سايراً زائراً إلى طوس

مشهد طهر وأرض تقديس

أبلغ سلامي الرضا وحط على

أكرم رمسٍ لخير مرموس

والله والله حلفة صدرت

من مخلص في الولاء مغموس

إنّي لو كنت مالكاً أربي

كان بطوس الغناء تعريسي

لمشهد بالزكاء ملتحف

وبالسنا والثناء مأنوس

إلى أن يقول:

يا بن النبي الذي به قمع الله

ظهور الجبابر الشوس(٢)

وابن الوصي الذي تقدّم في

الفضل على البزل القناعيس(٣)

وحائز الفخر غير منتقص

ولابس المجد غير تلبيس(٤)

ويقول في مقطوعة أخرى:

يا زائراً قد نهضا

مبتدراً قد ركضا

ومَن قد مضى كأنّه

البرق إذا ما أومضا

أبلغ سلامي زاكياً

بطوس مولاي الرضا

سبط النبي المصطفى

وابن الوصي المرتضى

____________________

(١) ديوان دعبل (ص ١٠٨).

(٢) الشوس: جمع أشوس، وهو الرافع رأسه تكبّراً.

(٣) البزل جمع بازل وهو البعير الذي انشق وهو في التاسعة، والقناعيس جمع قنعاس وهو الإبل العظيم ويوصف به الرجل الشديد.

(٤) عيون أخبار الرضا ١ / ٤.

٦٧

مَن حاز عزّاً أقعساً(١)

وشاد مجداً أبيضا

وقل له: من مخلصٍ

يرى الولا مفترضا(٢)

٣٢ - ابن الحجّاج:

وأثر ابن الحجّاج الشعر الكثير في مدح الإمام الرضاعليه‌السلام كان منه هذان البيتان:

يا ابن من تؤثر المكارم عنه

ومعالي الآداب تمتار منه

من سمى الرضا علي بن موسى

رضي الله عن أبيه وعنه (٣)

٣٣ - عبد الله بن المبارك: قال عبد الله بن المبارك في مدح الإمام هذا البيت:

هذا علي والهدى يقوده

من خير فتيان قريشٍ عوده (٤)

٣٤ - الصولي:

قال الصولي في مدح الإمام:

إلا إنّ خير الناس نفساً ووالدا

ورهطاً وأجداداً علي المعظم

أتتنا به للحلم والعلم ثامناً

إماماً يؤدّي حجّة الله تكتم (٥)

٣٥ - ابن حماد: قال الشاعر ابن حماد في مدح الإمام الرضاعليه‌السلام :

ساقها شوقي إلى طوس

ومن تحويه طوس

مشهد فيه الرضا

العالم والحبر النفيس

ذاك بحر العلم

والحكمة إن قاس مقيس

ذاك نور الله لا يطفى

له قط طميس (٦)

٣٦ - الإربلي: قال علي بن عيسى الإربلي في قصيدة يمدح بها الإمام ويتشوّق لزيارة مرقده:

____________________

(١) الأقعس: الشيء الثابت.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ / ٦.

(٣) المناقب ٤ / ٣٤٣.

(٤) المناقب ٤ / ٣٦٢.

(٥) عيون أخبار الرضا ١ / ١٥.

(٦) المناقب ٤ / ٣٥٠.

٦٨

أيّها الراكب المجد قف العيس

إذا ما حللت في أرض طوسا

لا تخف من كلالها ودع التأديب

دون الوقوف والتعريسا

وألثم الأرض إن رأيت ثرى

مشهد خير الورى علي بن موسى

وأبلغنه تحية وسلاماً

كشذى المسك من علي بن عيسى

قل سلام الإله في كل وقتٍ

يتلقّى ذاك المحلّ النفيسا

منزل لم يزل به ذاكر لله

يتلوا التسبيح والتقديسا

دار عزٍّ ما انفك قاصدها

يزجى إليها آماله والعيسا

بيت مجدٍ ما زال وقفاً عليه

الحمد والمدح والثناء حبيسا

ما عسى أن يقال في مدح قومٍ

أسس الله مجدهم تأسيسا

ما عسى أن أقول في مدح قومٍ

قدّس الله ذكرهم تقديسا

هم هداة الورى وهم أكرم

الناس أُصولاً شريفة ونفوسا

إن عرت أزمة تندوا غيوثاً

أو دجت شبهة تبدّوا شموسا

شرفوا الخيل والمنابر لمّا

افترعوها والناقة العنتريسا(١)

معشر حبّهم يجلي هموماً

ومزاياهم تجلي طروسا

كرموا مولداً وطابوا أصولاً

وزكوا محتداً وطالوا غروسا

ليس يشقى بهم جليس ومَن كان

ابن شوري إذا أرادوا جليسا

قمت في نصرهم بمدحي لمّا

فاتني أن أجرّ فيه خميسا

ملأوا بالولاء قلبي رجاءً

وبمدحي لهم ملأت الطروسا

فتراني لهم مطيعاً حنيناً

وعلى غيرهم أبيّاً شموسا

يا علي الرضا أبثّك ودّاً

غادر القلب بالغرام وطيسا

مذهبي فيك مذهبي وبقلبي

لك حب أبقى جوىً ورسيسا

لا أرى داءه بغيرك يشفى

لا ولا جرحه بغيرك يوسى

أتمنّى لو زرت مشهدك

العالي وقبّلت ربعك المأنوسا

وإذا عزّ أن أزورك يقظان

فزرني في النوم واشف السيسا

____________________

(١) العنتريس: الناقة الغليظة الوثيقة.

٦٩

في ظلال أبيه

عاش الإمام الرضاعليه‌السلام تسعاً وعشرين سنة وأشهراً في كنف أبيه الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ، وقد شاهد ضروباً قاسية من المحن والخطوب التي حلّت بأبيه الذي كان مثار قلق وخوف للحكم العبّاسي؛ لأنّه كان محط أنظار المسلمين، وموضع آمالهم في إنقاذهم من الطغمة العبّاسية الحاكمة التي تمادت في ظلم الناس وإرغامهم على ما يكرهون.

وبالإضافة إلى ذلك فقد دان شطر كبير من المسلمين بإمامة الإمام الكاظم، وأنّه الخليفة الشرعي للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحق بمركزه ومقامه من هارون وغيره من ملوك بني العباس الذين عاصرهم الإمامعليه‌السلام ، وقد اقضّ ذلك مضاجع العبّاسيين وورمت أنوفهم، فاتخذوا جميع الوسائل لاضطهاد الإمام والتنكيل به.

وعلى أيّ حال فإنّا نعرض - بصورة مجملة - إلى شخصية الإمامعليه‌السلام ، وما يتصل بذلك من بعض الشؤون التي ترتبط بحياة الإمام الرضاعليه‌السلام .

أمّا معالم شخصية الإمام الكاظمعليه‌السلام فهي ملء فم الدنيا شرفاً وفضلاً، فقد توفّرت في شخصيته الكريمة جميع عناصر الفضيلة ومقوّمات الحكمة والآداب، والتي منها:

١ - مواهبه العلمية:

والشيء الذي لا شك فيه أنّ الإمام موسىعليه‌السلام كان أعلم أهل عصره، وأدراهم بجميع العلوم، أمّا علم الفقه والحديث فكان من أساطينه، وقد احتف به العلماء والرواة وهم يسجّلون ما يفتي به، وما يقوله من روائع الحكم

٧٠

والآداب، وقد شهد الإمام الصادقعليه‌السلام عملاق هذه الأمّة ورائد نهضتها الفكرية، بوفرة علم ولده، فقد قال لعيسى: ( إنّ ابني هذا - وأشار إلى الإمام موسى - لو سألته عمّا بين دفّتي المصحف لأجابك فيه بعلم... )(١) .

وقال في فضله: ( وعنده علم الحكمة والفهم والسخاء، والمعرفة بما يحتاج إليه الناس فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم... ).

وقد روى العلماء عنه جميع أنواع العلوم ممّا ملأوا به الكتب، وقد عرف بين الرواة بالعالم، وقال الشيخ المفيد: ( وقد روى الناس عن أبي الحسن فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه )(٢) .

لقد قام الإمام موسىعليه‌السلام بتطوير الحياة العلمية، ونموّها، وكان من ألمع أئمّة المسلمين في نشره للثقافة الإسلامية.

٢ - عبادته وتقواه:

وأجمع الرواة على أنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام كان من أعظم الناس طاعة لله، ومن أكثرهم عبادة له، وكانت له ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود لله، كما كانت لجدّه الإمام زين العابدينعليه‌السلام حتى لُقّب بذي الثفنات، وكان من مظاهر عبادته أنّه إذا وقف مصلّياً بين يدي الخالق العظيم أرسل ما في عينيه من دموع وخفق قلبه، وكذلك إذا ناجى ربّه أو دعاه(٣) ، ويقول الرواة: إنّه كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقّب حتى تطلع الشمس، ويخر لله ساجداً، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد لله حتى يقرب زوال الشمس(٤) .

وكان من مظاهر طاعته أنّه دخل مسجد جدّه رسول الله (ص) في أوّل الليل فسجد سجدة واحدة، وهو يقول بنبرات تقطر خوفاً من الله:

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٣٨.

(٢) الإرشاد (ص ٢٧٢).

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٣٩.

(٤) كشف الغمّة.

٧١

( عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة... ).

وجعل يردد هذا الدعاء بإنابة وإخلاص وبكاء حتى أصبح الصبح(١).

وحينما أودعه الطاغية الظالم هارون الرشيد العبّاسي في ظلمات السجون؛ تفرّغ للعبادة، وشكر الله على ذلك قائلا: ( اللّهمّ إنّي طالما كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، وقد استجبت لي فلك الحمد على ذلك )(٢) .

وكان الطاغية هارون يشرف من أعلى قصره على السجن فيبصر ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغيّر عن موضعه، وعجب من ذلك، وراح يقول للربيع:

( ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟ ) فأجابه الربيع قائلاً: ( يا أمير المؤمنين، ما ذاك بثوب، وإنّما هو موسى بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال... )

وبهر الطاغية، وقال: ( أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم... ).

وسارع الربيع طالباً منه أن يطلق سراح الإمام ولا يضيق عليه في سجنه قائلاً: ( يا أمير المؤمنين، مالك قد ضيّقت عليه في الحبس؟ )

وسارع هارون قائلاً: ( هيهات: لا بد من ذلك... )(٣) .

وقد عرضنا بصورة شاملة إلى عبادته، وطاعته لله، وما صدر عنه من صنوف العبادة التي تدل على أنّه كان إمام المتقين وسيد العابدين والموحّدين في عصره.

٣ - زهده:

وزهد الإمام الكاظمعليه‌السلام في الدنيا، وأعرض عن مباهجها، وزينتها

____________________

(١) وفيات الأعيان ٤ / ٢٩٣ كنز اللغة (ص ٧٦٦).

(٢) وفيات الأعيان ٤ / ٢٩٣.

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٤٢.

٧٢

وآثر طاعة الله تعالى على كل شيء، وكان بيته خالياً من جميع أمتعة الحياة، وقد تحدث عنه إبراهيم بن عبد الحميد فقال: دخلت عليه في بيته الذي كان يصلّي فيه، فإذا ليس فيه شيء سوى خصفة، وسيف معلّق، ومصحف(١) .

وكان كثيراً ما يتلو على أصحابه سيرة الصحابي الثائر العظيم أبي ذر الغفاري الذي طلّق الدنيا، ولم يحفل بأي شيء من زينتها قائلاً: ( رحم الله أبا ذر، فلقد كان يقول: جزى الله الدنيا عنّي مذمّة بعد رغيفين من الشعير: أتغذى بأحدهما، وأتعشى بالآخر، وبعد شملتي الصوف ائتزر بأحدهما وأتردى بالأخرى )(٢) .

لقد وضع الإمام موسىعليه‌السلام نصب عينيه سيرة العظماء الخالدين من صحابة جدّه سيد المرسلين يشيد بسيرتهم، ويتلو مآثرهم على أصحابه وتلاميذه لتكون لهم قدوة حسنة في حياتهم.

٤ - حلمه:

أمّا الحلم فهو من أبرز صفات سيدنا الكاظمعليه‌السلام ، فقد كان مضرب المثل في حلمه وكظمه للغيظ، ويقول الرواة: إنّه كان يعفو عمّن أساء إليه، ويصفح عمّن اعتدى عليه، وذكر الرواة بوادر كثيرة من حلمه كان منها:

١ - أنّ شخصاً من أحفاد عمر بن الخطاب كان يسئ للإمام موسى ويسب جدّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فأراد بعض شيعة الإمام اغتياله فنهاهم عن ذلك، ورأى أن يعالجه بغير ذلك فسأل عن مكانه، فقيل له: إنّ له ضيعة في بعض نواحي يثرب وهو يزرع فيها فركب الإمام بغلته، ومضى متنكراً إليه، فأقبل نحوه فصاح به العمري لا تطأ زرعنا فلم يحفل به الإمام إذ لم يجد طريقاً يسلكه غير ذلك، ولمّا انتهى إليه قابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً له:

( كم غرمت في زرعك هذا!... )

( مائة دينار... ).

( كم ترجو أن تصيب منه؟ )

( أنا لا أعلم الغيب... ).

____________________

(١) البحار ١١ / ٢٦٥.

(٢) أصول الكافي ٢ / ١٣٤.

٧٣

( إنّما قلت: لك كم ترجو أن يجيئك منه! )

( أرجو أن يجيئني منه مائتا دينار ).

فأعطاه سليل النبوّة ثلاث مائة دينار، وقال: هذه لك وزرعك على حاله، فانقلب العمري رأساً على عقب وخجل على ما فرط في حق الإمام، وانصرف الإمام عنه وقصد الجامع النبوي، فوجد العمري قد سبقه فلمّا رأى الإمام قام إليه، وهو يهتف بين الناس:

( الله أعلم حيث يجعل رسالته فيمَن يشاء... ).

وبادر أصحابه منكرين عليه هذا التغيير فأخذ يخاصمهم ويذكر مناقب الإمام ومآثره، والتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً: ( أيّما كان خيراً؟ ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار )(١)

لقد عامل الإمام مبغضيه ومناوئيه بالإحسان واللطف فاقتلع من نفوسهم النزعات الشريرة، وغسل أدمغتهم التي كانت مترعة بالجهل والنقص، وقد وضع أمامه قوله تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

٢ - ومن آيات حلمه أنّه اجتاز على جماعة من أعدائه كان فيهم ابن هياج فأمر بعض أتباعه أن يتعلّق بلجام بغلة الإمام ويدّعي أنّها له، ففعل ذلك، وعرف الإمام غايته فنزل عن البغلة وأعطاها له(٢).

وقد أعطى الإمام بذلك مثلاً أعلى للحلم وسعة النفس، وكانعليه‌السلام يوصي أبناءه بالتحلّي بهذه الصفة الكريمة فقد قال لهم:

( يا بنى أوصيكم بوصية مَن حفظها انتفع بها، إذا أتاكم آت، فأسمع أحدكم في الأُذن اليمنى مكروهاً، ثم تحوّل إلى اليسرى فاعتذر لكم، وقال: إنّي لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره )(٣).

وبهذه الوصية نقف على مدى حلمه وسعة أخلاقه، وعدم مقابلة المسيء بالمثل , وهذه الظاهرة من أهم الوسائل الداعية إلى التآلف وجمع الكلمة بين الناس

____________________

(١) تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨ - ٢٩.

(٢) البحار ١١ / ٢٧٧.

(٣) الفصول المهمّة (ص ٢٢).

٧٤

٥ - جوده:

وكان الإمام موسىعليه‌السلام من أندى الناس كفّاً، ومن أكثرهم عطاءً للبائسين والمحرومين، ومن الجدير بالذكر أنّه كان يتطلّب الكتمان وعدم ذيوع ما يعطيه؛ مبتغياً بذلك الأجر عند الله تعالى، ويقول الرواة:

إنّه كان يخرج في غلس الليل البهيم فيوصل البؤساء والضعفاء وهم لا يعلمون من أي جهة تصلهم هذه المبرّة، وكانت صلاته لهم تتراوح ما بين المائتين دينار إلى الأربعمائة دينار(١) وكان أهله يقولون: ( عجباً لـمَن جاءته صرار موسى وهو يشتكي القلّة والفقر )(٢) .

وقد حفلت كتب التأريخ ببوادر كثيرة من الحاجة والسؤال، ويجمع المترجمون له أنّه كان يرى أنّ أحسن صرف للمال هو ما يرد به جوع جائع، أو يكسو به عارياً، وقد ذكرنا بوادر وأمثلة كثيرة من جوده في كتابنا حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

٦ - إغاثته للملهوفين:

من أبرز ذاتيات الإمام موسىعليه‌السلام إغاثته للملهوفين وإنقاذهم ممّا ألمّ بهم من محن الأيام وخطوبها، وكانت هذه الظاهرة من أحبّ الأمور إليه، وقد أفتى شيعته بجواز الدخول في حكومة هارون بشرط الإحسان إلى الناس، وقد شاعت عنه هذه الفتوى ( كفّارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان ).

ويقول الرواة: إنّ شخصاً من أهالي الري كانت عليه أموال طائلة لحكومة الري، وقد عجز عن تسديدها وخاف من الحكومة أن تصادر أمواله، وتنزل به العقوبة الصارمة، فسأل عن الحاكم فأخبروه أنّه من شيعة الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فسافر إلى يثرب فلمّا انتهى إليها تشرّف بمقابلة الإمام وشكا إليه حاله، وضيق مجاله، فاستجابعليه‌السلام بالوقت له، وكتب إلى حاكم الري رسالة جاء فيها بعد البسملة:

( اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلاًّ لا يسكنه إلاّ مَن أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام... ).

____________________

(١) تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨.

(٢) عمدة الطالب (ص ١٨٥).

٧٥

وأخذ الرسالة، وبعد أدائه لفريضة الحج اتجه صوب وطنه فلمّا انتهى إليه، مضى إلى الحاكم ليلاً فطرق باب بيته فخرج غلامه فقال له: ( مَن أنت؟ ).

( رسول الصابر موسى بن جعفر... ).

فهرع إلى مولاه فأخبره بذلك فخرج حافي القدمين مستقبلاً له فعانقه وقبّل ما بين عينيه، وطفق يسأله بلهفة عن حال الإمام وهو يجيبه، ثم ناوله رسالة الإمام، فأخذها بإكبار وقبّلها فلمّا قرأها استدعى بأمواله وثيابه فقاسمه في جميعها، وأعطاه قيمة ما لا يقبل القسمة، وهو يقول له: ( يا أخي هل سررتك؟... ) وسارع الرجل قائلاً: ( أي والله وزدت على ذلك... ) ثم استدعى الحاكم السجل فشطب على جميع الديون التي على الرجل، وأعطاه براءة منها، فخرج وقد غمرته موجات من الفرح والسرور، ورأى أن يجازي إحسانه بإحسان فيمضي إلى بيت الله الحرام ويدعوا له، ويخبر الإمام بما أسداه عليه من المعروف، ولمّا أقبل موسم الحج سافر إلى بيت الله الحرام، ولمّا انتهى إليه دعا للرجل بإخلاص، وأخبره بما أسداه حاكم الري من الإحسان إليه فسرّ الإمام بذلك سروراً بالغاً، والتفت إليه الرجل قائلاً: ( يا مولاي هل سرّك ذلك؟ ).

( أي والله لقد سرّني، وسرّ أمير المؤمنين، والله لقد سرّ جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقد سرّ الله تعالى )(١) .

وهذه المبادرة تمثّل مدى اهتمامه بإغاثة الملهوفين، وبها نطوي الحديث عن بعض خصائصه وصفاته.

الإمام مع هارون:

وعانى الإمام الكاظمعليه‌السلام ألواناً قاسية من المحن والخطوب في عهد الطاغية هارون الذي جهد على ظلمه والتنكيل به، فقد قضى زهرة حياته في ظلمات

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٦١ - ١٦٢.

٧٦

سجونه، محجوباً عن أهله وشيعته، ونقدّم عرضاً سريعاً إلى ما لاقاه في عهد هارون.

إلقاء القبض على الإمام:

وثقل الإمام على هارون، وورم أنفه منه؛ وذلك لأنّه أعظم شخصية في العالم الإسلامي يكنّ له المسلمون المودّة والاحترام، في حين أنّه لم يحظ بذلك.

ويقول الرواة: إنّ من الأسباب التي أدّت هارون لسجنه للإمام أنّه لمّا زار قبر النبي (ص) وقد احتف به الأشراف والوجوه والوزراء، وكبار رجال الدولة، وأقبل على الضريح المقدّس، ووجّه له التحية قائلاً: ( السلام عليك يا بن العم... ).

ولقد أفتخر على مَن سواه برحمه الماسة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه إنّما نال الخلافة بهذا السبب، وكان الإمام موسىعليه‌السلام إلى جانبه فسلّم على النبي العظيم قائلاً:

( السلام عليك يا أبت... ). وفقد الرشيد صوابه، وورم أنفه وانتفخت أوداجه، فإنّ الإمامعليه‌السلام أقرب منه إلى النبي، وألصق به من غيره فاندفع الطاغية بنبرات تقطر غضباً قائلاً: ( لم قلت: إنّك أقرب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منّا؟... ). فأدلى الإمام بالحجّة القاطعة التي لا يمكن إنكارها قائلاً:

( لو بُعث رسول الله حيّاً، وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ ).

وسارع هارون قائلا: ( سبحان الله!! وإنّي لأفتخر بذلك على العرب والعجم... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام يقيم عليه الدليل أنّه أقرب إلى النبي (ص) منه قائلاً:

( ولكنّه لا يخطب منّي، ولا أزوجه لأنّه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم ).

وأقام الإمام دليلاً آخر على قوله، فقال لهارون:

( هل يجوز لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدخل على حرمك وهن كاشفات؟ ).

٧٧

فقال هارون: لا. وقال الإمام: ( لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، فلذلك نحن أقرب إليه منكم ).(١) .

وثار الرشيد، ولم يجد مسلكاً ينفذ منه لتفنيد حجّة الإمامعليه‌السلام ، وانطوت نفسه على الشر فجاء إلى قبر النبي (ص) وقال له: ( بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله إنّي أعتذر إليك من أمر عزمت عليه إنّي أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأنّي قد خشيت أن يلقي بين أمّتك حرباً يسفك فيها دماءهم... ). لقد حسب أنّ اعتذاره إلى النبي (ص) من ارتكاب الجريمة يجديه وينفي عنه المسؤولية في يوم يخسر فيه المبطلون.

وفي اليوم الثاني أصدر أوامره بإلقاء القبض على الإمام، فألقت الشرطة القبض عليه وهو قائم يصلّي عند رأس جدّه النبي (ص) فقطعوا عليه صلاته، ولم يمهلوه لإتمامها، فحمل من ذلك المكان الشريف، وقُيّد وهو يذرف أحر الدموع، ويبث شكواه إلى جدّه قائلاً: ( إليك أشكو يا رسول الله... ). وحُمل الإمام وهو يرسف في القيود، فمثل أمام الطاغية هارون فجفاه، وأغلظ له في القول(٢) .

سجنه في البصرة:

وحُمل الإمام مقيّداً إلى البصرة، وقد وكل حسان السري بحراسته، والمحافظة عليه، وفي الطريق التقى به عبد الله بن مرحوم الأزدي، فدفع له الإمام كتباً، وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وعرّفه بأنّه الإمام من بعده(٣) .

وسارت القافلة تطوي البيداء حتى انتهت إلى البصرة وذلك قبل التروية بيوم(٤) فسلّم حسان الإمام إلى عيسى بن جعفر فحبسه في بيت من بيوت المحبس

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٥٦ - ٤٥٧.

(٢) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٥.

(٣) تنقيح المقال.

(٤) منتخب التواريخ (ص ٥١٨).

٧٨

وأقفل عليه أبواب السجن، فكان لا يفتحها إلاّ في حالتين: إحداهما خروجه إلى الطهور والأخرى لإدخال الطعام إليه.

واقبل الإمام على العبادة والطاعة فكان يصوم في النهار ويقوم في الليل، ويقضي عامة وقته في الصلاة والسجود والدعاء وقراءة القرآن، واعتبر تفرّغه للعبادة من نعم الله تعالى عليه، فكما يقول: ( اللّهمّ إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت فلك الحمد )(١) .

الإيعاز لعيسى باغتياله:

وأوعز هارون إلى عيسى عامله على البصرة باغتيال الإمامعليه‌السلام وثقل الأمر على عيسى فاستشار خواصه بذلك فمنعوه وخوفوه من عاقبة الأمر، فاستجاب لهم، ورفع رسالة إلى هارون، جاء فيها: ( يا أمير المؤمنين كتب إلي في هذا الرجل، وقد اختبرته طول مقامه بمَن حبسته معه عيناً عليه، لينظروا حيلته وأمره وطويّته ممّن له المعرفة والدراية، ويجري من الإنسان مجرى الدم، فلم يكن منه سوء قط، ولم يذكر أمير المؤمنين إلاّ بخير، ولم يكن عنده تطلع إلى ولدية، ولا خروج، ولا شيء من أمر الدنيا، ولا دعا قط على أمير المؤمنين، ولا على أحد من الناس، ولا يدعو إلاّ بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين من ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ مَن يتسلّمه منّي، وإلاّ سرحت سبيله، فإنّي منه في غاية الحرج )(٢) .

ودلّت هذه الرسالة على خوف عيسى من الإقدام على اغتيال الإمام، وقد بقي في سجنه سنة كاملة(٣) .

سجنه في بغداد:

واستجاب الرشيد لطلب عامله عيسى، فأمره بحمل الإمام إلى بغداد، فحمل إليها، تحفّ به الشرطة والحرس، ولمّا انتهى إليها أمر الرشيد بحبسه عند الفضل بن الربيع، فأخذ الفضل، وحبسه في بيته، ولم يحبسه في السجون العامة؛ وذلك لسمو

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٦.

(٢) الفصول المهمّة.

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٨.

٧٩

مكانة الإمام، وعظم شخصيته، فخاف من حدوث الفتنة واضطراب الرأي العام.

واقبل الإمامعليه‌السلام على العبادة والطاعة، وقد بهر الفضل بعبادته فقد روى عبد الله القزويني قال: دخلت على الفضل بن الربيع، وهو جالس على سطح داره فقال لي: ادن منّي فدنوت حتى حاذيته، ثم قال لي: ( أشرف على الدار... ). وأشرف عبد الله على الدار، فقال له الفضل:

- ما ترى في البيت؟

- أرى ثوباً مطروحاً.

- انظر حسناً.

فتأمّل عبد الله، ونظر مليّاً فقال:

- رجل ساجد.

- هل تعرفه؟

- لا.

- هذا مولاك.

- مَن مولاي؟

- تتجاهل عَلَيّ؟

- ما أتجاهل، ولكن لا أعرف لي مولى.

- هذا أبو الحسن موسى بن جعفر.

وكان عبد الله ممّن يدين بإمامته، وأخذ الفضل يحدثه عن عبادته قائلاً: ( إنّي أتفقّده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على الحال التي أخبرك بها، إنّه يصلّي الفجر، فيعقّب ساعة في دبر صلاته، إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكل مَن يترصد له الزوال فلست أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس؟ إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدّد الوضوء، فاعلم أنّه لم ينم في سجوده، ولا أغفى فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلّى العصر سجد سجدة فلا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة، فإذا صلّى العتمة أفطر على شوى يؤتى به، ثم يجدّد الوضوء ثم يسجد، ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة، ثم

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وحيث إنّ البحث هنا هو حول التوحيد الذاتي، فنرجئ البحث عن التوحيد في العبادة مطلقاً وبطلان معبودية المسيح خصوصاً إلى الفصل التاسع.

غير أنّ التدبر في هذه الآية والآيات المشابهة لها يوضح لنا نقطة مهمة وهي: أنّ الدافع الأساسي لاتخاذ شخص أو شيء معبوداً إنّما هو لأجل الاعتقاد بمالكية ذلك المعبود لضرهم ونفعهم.

وعلى هذا فكل خضوع وخشوع ينبع من هذه النقطة المهمة يمكن أن يكون مصداقاً للشرك في العبادة.

وأمّا إذا خضع أحد أمام إنسان آخر دون هذا الدافع فإنّ عمله لا يكون حينئذ إلّا احتراماً، وتكريماً وليس عبادة.

وسوف يأتي مفصل هذا القسم في الفصل التاسع إن شاء الله.

وبالتالي فإنّ القرآن الكريم يبدي نظره حول « السيد المسيح » وهو ـ في الحقيقة ـ الرأي الصحيح البعيد عن أية مبالغة أو غمط حق، وهو قوله سبحانه :

( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَىٰ اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) (١) .

فلقد وصفت هذه الآية السيد المسيح بأفضل ما يمكن أن يكون مبيناً لحقيقة شخصية رفيعة الشأن جليلة المقام، وكان هذا الوصف والتعريف رفيعاً ومؤثراً جداً بحيث جعل النجاشي ( ملك الحبشة ) الذي سأل جعفر بن أبي طالب أن يبين له رأي القرآن في المسيح فقرأ عليه هذه الآية.

__________________

(١) النساء: ١٧١.

٣٠١

أقول: جعل النجاشي يعمد ـ بعد سماعه الآية ـ إلى عود من الأرض، ويقول :

« ما عدا [ أي ما تجاوز ] عيسى عما قلت هذا العود »(١) .

إنّ الأوصاف التي وصف بها عيسى في هذه الآية هي :

١.( إِنَّما المَسِيحُ ) ، وتعني لفظة المسيح: المبارك وقد وصف عيسى في آية أُخرى بهذا النحو :

( وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ ) (٢) .

٢.( عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ ) ، فقد وصف في هذا المقطع بكونه « ابناً لمريم » ومع هذا كيف يجوز أن يعتبره النصارى إلهاً، أو ابناً لله ؟

٣.( رَسُولُ اللهِ ) حيث وصف بالرسالة والنبوة، فلا هو إله ولا هو رب كما ادّعى النصارى.

٤.( كَلِمَتُهُ ) ، وهنا لا بد أن نقول: إنّ الكون بأجمعه وإن كان كلمة لله وإنّ النظام البديع وإن كان يحكي عن علمه ويخبر عن حكمته ويعبَّر عن قداسته كما تعبر الألفاظ والكلمات عن معانيها، ولكن حيث إنّ هذه الكلمة ( أعني: المسيح ) خلق دون توسط أسباب وعلل، لذلك أطلقت عليه لفظة الكلمة بخصوصه لإبراز أهميته الخاصة من بين كلمات الله الأُخرى.

٥.( وَرُوحٌ مِنْهُ ) ، أي من جانب الله.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير: ٢ / ٥٥.

(٢) آل عمران: ٤٥.

٣٠٢

التثليث في نظر العقل

بعد أن فرغنا من البحث حول التثليث من وجهة نظر القرآن، يتعين علينا أن نعرضه على المعايير العقلية لنرى مدى انطباقه على تلك المعايير.

تحكي كلمات المسيحيين ـ في كتبهم الكلامية ـ عن أنّ الاعتقاد بالتثليث ـ عندهم ـ من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، لأنّ التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهم هذا المطلب، كما أنّ المقايسات التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث لأنّ حقيقته ـ حسب زعمهم ـ فوق القياسات المادية.

ثمّ يقولون: حيث إنّ تجارب البشر مقصورة بالمحدود، فإذا قال الله بأنّ طبيعته غير المحدودة تتألف من ثلاثة أشخاص، لزم قبول ذلك، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك، وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه، بل يكفي في ذلك ورود الوحي على أنّ هؤلاء الثلاثة يؤلِّفون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » !! وانّهم رغم تشخص كل واحد منهم وتميّزه عن الآخرين ليس بمنفصل ولا متميز عن الآخر رغم انّه ليست بينهم أية شركة في الالوهية، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الالوهية !!!(١) .

فالأب مالك ـ بانفراده ـ لتمام الالوهية وكاملها متحقق فيه دون نقصان.

والابن كذلك مالك ـ بانفراده ـ لتمام الالوهية وكامل الالوهية متحقق فيه دون نقصان.

__________________

(١) انظر إلى التناقض الواضح بين تشخص كل واحد من جانب وعدم تميز كل واحد عن الآخر، ولأجل ذلك جعلوا منطقة التثليث منطقة محرمة على العقل.

٣٠٣

وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده ـ لكامل الالوهية وانّ الالوهية بتمامها متحققة فيه دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها من التوجيهات للتثليث المسيحي توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال والبرهنة العقلية، وأنّها بالتالي « منطقة محرمة » على العقل، فلا يمكن الاستدلال الصحيح عليها، بل مستند ذلك هو الوحي والنقل ليس غير.

ولهذا ينبغي ـ قبل أي شيء ـ أن نبحث أوّلاً في الأدلة النقلية، وهم وان كانوا يستندون في هذه الفكرة إلى النقل ولكن ليس للتثليث أي مستند نقلي معتبر.

وأمّا « الأناجيل » الأربعة الفعلية فليست بمعتبرة إطلاقاً، إذ لا تشبه الوحي بل تدل طريقة كتابتها على أنّها من بقايا أدب القرن الأوّل والثاني الميلاديين، وهذا يعني عدم كونها متعلقة بفجر المسيحية حقيقة.

ثمّ إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يمكن أن يقاس بالأُمور المادية المألوفة ولكنّه ليس بمعنى أنّ ذلك العالم فوضى وخلو من المعايير، بل لكل مقياسه الخاص، والدليل على ذلك انّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل تحكم في عالم المادة، وعالم ما وراء المادة سواء كمسألة احتياج كل معلول إلى علة وكمسألة ( امتناع اجتماع النقيضين ).

إلى غير ذلك من القواعد العامة الحاكمة في عالمي المادة والمعنى.

وعلى ذلك إذا أبطلت البراهين العقلية مسألة التثليث لم يعد مجال للاستناد بالأدلة النقلية، بل يتعين أن نعترف ببطلان النصوص هذه، ونذعن بأنّها ليست من كلام الله ووحيه إذ كيف يجوز للوحي أن يخالف ما هو مسلم عقلاً.

إذا عرفت هذا، حان الوقت لأن نعرف حقيقة الأمر من وجهة نظر العقل.

٣٠٤

هل يمكن واحد وثلاثة في آن واحد ؟

يتعين علينا أن نعرف أوّلاً ما هو المقصود من التثليث الذي ربما يعبرون عن الموصوف به ب‍ « الثالوث المقدس » وهم يقولون في تفسير فكرة « التثليث » :

إنّ الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر أي الأب والابن وروح القدس.

والأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن، والابن هو الفادي، وروح القدس هو المطهر وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة، وعمل واحد(١) .

والأقنوم ـ لغة ـ يعني: الأصل، والشخص، فإذن يصرح المسيحيون بأنّ هذه الآلهة الثلاثة ذات رتبة واحدة، وعمل واحد وإرادة واحدة، بموجب هذا النقل.

ونحن نتساءل ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة ؟ والواقع إنّ للتثليث صورتين لا يناسب أي واحد منهما المقام الربوبي :

١. أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخص ووجود خاص، فكما أنّ لكل فرد من أفراد البشر وجوداً خاصاً، كذلك يكون لكل واحد من هذه الأقانيم، أصل مستقل، وشخصية خاصة، متميزة عما سواها.

غير أنّ هذا هو نظر « الشرك » الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية في

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس.

٣٠٥

صورة تعدد الآلهة، وقد تجلّى في النصرانية في صورة التثليث !

ولكن دلائل « التوحيد » قد أبطلت أي نوع من أنواع « الشرك » من الثنوية والتثليث في المقام الالوهي والربوبي.

وقد وافتك تلك الأدلة حول التوحيد في الذات وسيأتي ما يدل على التوحيد في الربوبية في الفصل الثامن، والعجيب ـ حقاً ـ أنّ مخترعي هذه البدعة من رجال الكنيسة يصرون ـ بشدة ـ على أن يوفقوا بين هذا « التثليث » و « التوحيد » بالقول بأنّ الإله في كونه ثلاثة، واحد، وفي كونه واحداً ثلاثة، وهل هذا إلّا تناقض فاضح ؟! إذ لا يساوي الواحد مع الثلاثة في منطق أي بشر !! وليس لهذا التأويل من سبب غير أنّ ـ هم لما واجهوا ـ من جانب ـ أدلة التوحيد اضطروا إلى الإذعان بوحدانية الله تعالى.

ولكنهم من جانب آخر لما خضعوا للعقيدة الموروثة ( أي عقيدة التثليث ) التي ترسخت في قلوبهم أيما رسوخ، حتى أنّهم أصبحوا غير قادرين من التخلص منها، والتملص من حبائلها، التجأوا إلى الجمع بين التوحيد وألتثليث وقالوا: إنّ الإله واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد !!

أقانيم ثلاثة أم شركة مساهمة ؟!

هناك تفسير آخر للتثليث وهو: أنّ يقال انّ الأقانيم الثلاثة ليست بذات لكل منها وجود مستقل، بل هي بمجموعها تؤلف ذات إله الكون الواحد، فلا يكون أي واحد من هذه الأجزاء والأقانيم بإله بمفرده، بل الإله هو المركب من هذه الأجزاء الثلاثة.

٣٠٦

ويرد على هذا النوع من التفسير أنّ معنى هذه المقالة هو كون الله « مركباً » محتاجاً في تحقّقه وتشخصه إلى أجزاء ذاته ( أي هذه الأقانيم الثلاثة ) بحيث ما لم تجتمع لم يتحقق وجود الله.

وفي هذه الصورة سيواجه أرباب الكنيسة والنصارى إشكالات أكثر وأكبر من ذي قبل :

ألف. أن يكون إله الكون محتاجاً في تحقّق وجوده إلى الغير ( وهو كل واحد من هذه الأقانيم باعتبار أنّ الجزء غير الكل ) في حين أنّ المحتاج إلى الغير لا يمكن أن يكون إلهاً واجب الوجود، بل يكون حينئذ ممكناً مخلوقاً محتاجاً إلى من يرفع حاجته كغيره من الممكنات.

بل يلزم كون الأجزاء الممكنة مخلوقة لله سبحانه من جانب ويلزم أن يكون الإله المتكون منها مخلوقاً لها من جانب آخر.

ب. إمّا أن تكون هذه الأجزاء ممكنة الوجود أو واجبة، فعلى الأوّل يلزم احتياج الواجب ( أعني: الكل ) إلى الأجزاء الممكنة، وعلى الثاني يلزم تعدد واجب الوجود، وهو محض الشرك، وعندئد فلا مناص من أن يكون ذلك الإله الخالق بسيطاً غير مركب من أجزاء وأقانيم.

ج. انّ القول: بأنّ في الطبيعة الإلهية أشخاصاً ثلاثة، وأنّ كل واحد منها يملك تمام الالوهية، معناه أن يكون لكل واحد من هذه الثلاثة وجوداً مستقلاً مع أنّهم يقولون: إنّ طبيعة الثالوث لا تقبل التجزئة.

وبتعبير آخر، إنّ بين هذين الكلامين، أي استقلال كل اقنوم بالطبيعة الالوهية وعدم قبول طبيعة الثالوث للتجزئة، تناقضاً صريحاً.

٣٠٧

د. إذا كانت شخصية الابن إلهاً ( أي أحد الآلهة ) فلماذا كان يعبد الابن أباه ؟ وهل يعقل أن يعبد إله إلهاً آخر مساوياً له، وأن يمد إليه يد الحاجة، أو يخضع أحدهما للآخر ويخفض له جناح التذلل والعبودية وكلاهما إلهان كاملا الالوهية ؟!

هذا حق المقال حول التثليث ومن العجب أنّ أحد القسيسين القدامى وهو « أوغسطين » قال: أؤمن بالتثليث لأنّه محال(١) .

__________________

(١) راجع مقارنة الأديان المسيحية للكاتب أحمد شلبي.

٣٠٨

الفصل السادس

الله وبساطة ذاته تعالى

« وعينية صفاته لذاته »

٣٠٩

بساطة ذاته تعالى

١. التوحيد الذاتي وبساطة الذات.

٢. ذات الله منزّهة عن التركيب الخارجي.

٣. ذاته منزهة عن التركيب العقلي.

٤. صفات الله عين ذاته.

٥. الدليل على وحدة الصفات والذات.

٦. تعدد الصفات وبساطة الذات كيف ؟

٣١٠

بساطة ذاته تعالى

ويقع البحث في هذا الفصل في مقامين :

١. ذات الله منزّهة عن التركيب.

٢. صفات الله عين ذاته.

بعد ما عرفنا « التوحيد الذاتي » بمعنى نفي الشبيه والنظير والمثيل لله سبحانه ببراهينه، يتعين علينا الآن أن نستعرض « التوحيد الذاتي » من زاوية أُخرى، وهي بساطة الذات الإلهية، ونفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والعقلي فيها.

ولما كانت لمسألة بساطة الذات عن التركيب الخارجي والعقلي، ومسألة التوحيد في الصفات ( بمعنى اتحاد الذات مع صفاتها وجوداً وخارجاً ) دلائل مشتركة جعلناهما في فصل واحد وهو الفصل الحاضر، مع الاعتراف بأنّ المسألتين من بابين مختلفين، فمسألة « بساطة الذات » من فروع التوحيد الذاتي، ومسألة اتحاد الذات والصفات من شعب التوحيد في الصفات، ونركز بحثنا أوّلاً على بساطة الذات.

التوحيد الذاتي وبساطة الذات

للتوحيد الذاتي معنيان :

٣١١

١. أنّ الله واحد لا يتصور له نظير ولا مثيل.

٢. أنّ ذاته تعالى بسيطة ومنزهة عن أي نوع من أنواع التركيب، والكثرة العقلية، والخارجية.

وقد اصطلح بعض العلماء على التوحيد الذاتي بالمعنى الأوّل بالواحدية، وبالمعنى الثاني بالأحدية، ولعل هذين الاصطلاحين مبتنيان على أنّ لفظة « واحد » تعني في لغة العرب ما يقابل الاثنين فإذا قلنا: « الله واحد »، يعني: لا ثاني له ولا نظير ولا مثيل ولا عديل، ولكن لفظة « أحد »، تعني الوحدة في مقابل التركيب، وإذا وجدنا القرآن يصف الله بلفظة الأحد ويقول:( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) فهو يقصد مقابلة « التثليث التركيبي » الذي كانت النصارى تدعيه فتزعم بأنّ المقام الالوهي « مركب » من ثلاثة أقانيم.

ويدل على ذلك أنّه لو كان المقصود من « أحد » في هذه الآية هو أنّ الله واحد، ولا نظير له لما كان ثمة داع لتكرار هذا المضمون في ذيل السورة إذ يقول:( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ، ويتضح ما قلناه إذا وقفنا على أنّ هذه السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين، وإن لم يرد ذكرهم بالاسم.

وعلى كل حال سواء أطابق هذا الاصطلاح المعنى اللغوي ل‍: « الواحد » أو « الأحد » أم لا(١) ، فإنّ مثل هذا الاصطلاح سبب للتفكيك بين نوعين من « التوحيد الذاتي ».

* * *

__________________

(١) سنثبت في البحث القرآني لهذا الفصل أنّ المعنى اللغوي للواحد والأحد هو الذي جاء في هذا الاصطلاح.

٣١٢

قد يتصور الإنسان ـ في النظرة البدائية ـ أنّه لا توجد في القرآن أية آية أو آيات ناظرة إلى هذا القسم من التوحيد ( أي بساطة الذات )، وكأنّ القرآن أو كل أمثال هذه البحوث إلى عقل البشر، ولكننا عندما نعيد النظر في القرآن بعد الاطلاع على التحقيقات الفلسفية التي من شأنها إعطاء الإنسان نظرة أعمق وأوسع نجد أنّ القرآن يصف الله سبحانه بطائفة من الصفات التي لا تنسجم مع أي نوع من أنواع التركيب في الذات أبداً، وهو يدل ضمنياً على نفي التركيب وإثبات البساطة لذاته تعالى، وقد ذكرنا في السابق أنّ القرآن ذو أبعاد متعددة من حيث الأهداف والمعاني وإنّه يمكن أن يدرك بعد من أبعاد الآية في النظرة الأُولى بينما ينكشف بعد آخر لنفس الآية في النظرة الثانية في حين يكون اكتشاف بعد ثالث ورابع لنفس الآية محتاجاً إلى مزيد تعمّق وإمعان.

ويؤيد هذا الأمر ما قاله الإمام السجاد حول آيات من سورة الحديد :

« إنّ الله عز وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله عز وجل( قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ما هنالك هلك(١) .

لهذا يجب أن لا نكتفي ـ في استخراج المعارف المتعلّقة بالمبدأ أو المعاد من الآيات القرآنية ـ بالنظرة الأُولى بل لابد من الغوص في بحار القرآن، معتمدين على النظر الأعمق، والجهد الفكري الأكثر، فحينئذ سنرى أيّة جواهر ثمينة سنصيب في هذا الغوص المبارك.

لهذا السبب ولكي نقوي من نظرتنا فإنّنا سنعالج مسألة « بساطة أو تركيب

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٢٨٣ ـ ٢٨٤ طبع الغفاري.

٣١٣

الذات » وكذا التوحيد في الصفات من نظر العقل أوّلاً، ثم نطرح بعد ذلك هذه المسألة على القرآن وصحاح الأحاديث.

١. ذات الله منزّهة عن التركيب الخارجي

والمراد من « التركيب الخارجي » هو أن يكون الشيء ذا أجزاء خارجية، كالمعادن والمحاليل الكيمياوية، التي تتألف من الأجزاء المختلفة.

ولكن مثل هذا « التركيب » يستحيل في شأن الله سبحانه، لأنّ الشيء المركب من مجموعة الأجزاء سيكون « محتاجاً » في وجوده إلى تلك الأجزاء لا محالة، والمحتاج إلى غيره معلول لذلك الغير ولا يصلح للإلوهية حينئذ.

هذا مضافاً إلى أنّ الأجزاء المؤلفة للذات الإلهية إمّا أن تكون « واجبة الوجود » فحينئذ سنقع في مشكلة « تعدد الآلهة » التي يعبر عنها في علم الكلام بتعدد القدماء.

وإمّا أن تكون « ممكنة الوجود » وفي هذه الصورة ستحتاج هذه الأجزاء إلى الغير ليوجدها، فيكون معنى هذا أنّ ما فرضناه « إلهاً » يكون معلولاً لأجزاء ذاته التي هي معلولة لموجود أعلى وبالتالي لا يكون إلهاً.

٢. ذاته منزّهة عن الأجزاء العقلية

ولتوضيح هذا النوع من البساطة نذكر الأُمور التالية :

أ. انّ الشيء، يعرف بجنسه وفصله أو ما يقوم مقامهما التي تسمّى بالماهية وليس للماهية أي دور، إلّا تحديد وجود الأشياء وبيان موقعها في عالم الوجود.

٣١٤

ب. انّ كل موجود ممكن مركب من شيئين: ماهية ووجود وليس المقصود تركبه من الجزءين الخارجيين كالعناصر المتركبة، بل المراد هو أنّ الذهن النقاد يرى الشيء الخارجي الواحد ـ في مختبر العقل ـ مكوناً من جزءين :

أحدهما يحكي عن مرتبته الوجودية وانّه يقع في أي مرتبة من مراتب الوجود، من الجماد والنبات والحيوان، وغيرها، والثاني يحكي عن عينيته الخارجية التي طرد بها العدم عن ساحة الماهية.

ولكن هذا النوع من التركيب يستحيل في شأن الذات الإلهية، لأنّها إذا كانت مؤلفة من وجود وماهية، انطرح هذا السؤال :

إنّ الماهية كانت في حد ذاتها فاقدة للوجود والعينية، فبماذا طرد هذا العدم وأُقيم محله الوجود فإنّ هذا الطرد يحتاج ـ تبعاً لقانون العلية العام ـ إلى عامل خارجي عن ذات الشيء ؟ ومن المعلوم أنّ الشيء المحتاج إلى العلة الخارجة عن وجوده ممكن لا يستحق الالوهية ؟!

ولأجل هذا ذهب العلماء إلى بساطة ذاته وانّها منزّهة عن الماهية، وهو عين الوجود وصرفه.

٣. صفات الله عين ذاته

لا شك في أنّ لله سبحانه صفات، كالعلم والقدرة والحياة، غير أنّه يجب أن نقف على أنّها هل هي أزلية أم حادثة، وعلى الأوّل فهل هي « زائدة » على الذات، وبعبارة أُخرى هل الصفات « عين » الذات أو « غيرها » ؟

إنّ هناك فرقة واحدة أعني الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني ذهبت

٣١٥

إلى حدوث الصفات، وقالوا بخلو الذات الإلهية عنها ـ في البداية ـ ثم اتصفت بها فيما بعد(١) .

ولو تجاوزنا هذه الفرقة لوجدنا جميع الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين متفقين على « أزلية » هذه الصفات.

ومما لا يخفى أنّ الكرامية وغيرها مذاهب ابتدعتها السياسة العباسية آنذاك لإشغال المفكّرين الإسلاميين بالبحوث والمناقشات الجانبية، لكي تسهل لهم السيطرة على الأُمّة الإسلامية، ولأجل هذا لا نجد لهذه المذاهب المفتعلة بأيدي السياسات الزمنية المنحرفة أي أثر إلّا في طيات كتب الملل والنحل فقط.

ولو كانت « الذات الإلهية » فاقدة لهذه الصفات منذ الأزل لاستلزم ذلك حتماً أن تكون الصفات « ممكنة » وحادثة، وحيث إنّ كل ممكن مرتبط بعلة، ومحتاج إلى محدث لزم أن نقف على محدثها.

فهل وجدت من قبل نفسها، أو من قبل الله سبحانه، أو من جانب علة أُخرى ؟ وكلّها باطلة.

أمّا الأوّل فلا يحتاج إلى مزيد بيان إذ لا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه، وأمّا الثاني فكسابقه فإنّ فاقد الشيء لا يكون معطيه، إذ كيف يمكن أن يكون فاقد العلم معطياً له ؟ وأمّا الاحتمال الثالث فكسابقيه أيضاً، إذ ليس هناك عامل خارجي محدث أخذاً بحكم التوحيد في الذات، ولأجل ذلك اختار الجمهور من الإسلاميين، أزلية الصفات.

__________________

(١) الأسفار الأربعة: ٦ / ١٢٣.

٣١٦

فإذا ثبتت أزلية صفاته سبحانه كذاته يبقى بحث آخر وهو :

هل هذه الصفات القديمة الأزلية زائدة عليها لازمة لها، كما ذهب إلى ذلك فريق من المتكلمين الإسلاميين كالأشاعرة(١) ، أم هي « عين » الذات، وأنّه ليس للذات والصفات سوى مصداق واحد لا أكثر، وهنا يتعين علينا أن نتوقف قليلاً لنرى التفاوت بين القولين ثم بمعونة العقل نميز الصحيح عن غير الصحيح منها.

ولوضوح المطلب نقدم أُموراً لها صلة بالموضوع :

١. انّ قولنا: الله سبحانه عالم، مركب من كلمتين: الله وعالم، وكل واحدة تحكي عن أمر، فالمبتدأ يحكي عن الذات، والخبر يحكي عن صفته.

والقائل باتحاد صفاته مع ذاته لا يقول باتحاد مفاهيمها مع ذاته أي اتحاد مفهوم العالم وما وضع عليه ذلك اللفظ مع مفهوم لفظ الجلالة الذي وضع عليه ذلك اللفظ، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته وانّ وجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج غير مصداق لفظ العالم.

ثم يبقى هنا سؤال وهو أنّ ذاك الاتحاد لا يختص بذاته سبحانه بل هو حال عامة الموجودات مع صفاتها، فلماذا اختص هذا البحث بالله سبحانه ؟ وهذا ما نرجع إليه في الكلام التالي.

٢. إذا قلنا أنّ زيداً عالم نرى أنّ علمه ليس بمنفصل عن ذاته ووجوده، بحيث لا يمكننا أن نشير إلى علمه على حدة وعلى ذاته إلى انفرادها، فنقول هذا

__________________

(١) كشف المراد: ١٨١، والأسفار الأربعة: ٦ / ١٢٣.

٣١٧

ذاته وهذا علمه، بل الذات والعلم متحدان على الصعيد الخارجي.

وعند ذلك يتوجه السؤال الآتي: ما هو مقصود القائلين باتحاد صفاته سبحانه مع ذاته ؟ فإنّ الاتحاد حسب ما أوضحناه ليس منحصراً به سبحانه بل جار في جميع الموجودات الممكنة، فإنّ كل موجود ممكن يختلف عن صفاته مفهوماً ويتحد معها خارجاً.

عندما نقول: الصدف أبيض، أو العسل حلو، فإنّ البياض متحد بالصدف، والحلاوة متحدة بالعسل بحيث لا يمكن الإشارة إلى الحلاوة بمعزل عن العسل، وهكذا بالنسبة إلى بياض الصدف، فما الفرق بين النوعين من الاتحاد ؟ ويجاب على ذلك، بأنّ المقصود من اتحاد الذات الإلهية مع صفاته تعالى ليس من قبيل اتحاد الصدف مع بياضه، وعلم زيد مع ذاته بل هو نوع خاص من الاتحاد والعينية لا يوجد في غير الله. وتوضيح ذلك هو ما تقرؤه في البيان التالي :

٣. انّ « الصفات والذات » في الممكنات وان كانت تتمتع بنوع من الاتحاد في كل الموارد ولكن كيفية الاتحاد في مورد « الصفات والذات الإلهية » تختلف عن الاتحاد في الممكنات.

فإنّ علم زيد وان كان متحداً مع ذاته بنوع من الاتحاد ولكن علمه لا يتحد مع ذاته في جميع مراحلها، بل يتحد معها في بعض مراحل الذات، بدليل أنّ زيداً كان في مجتمعه ـ ذات يوم ـ ولم يكن معه ذلك العلم ـ فكانت الذات متحققة ولم يكن العلم معها، وهذا يشعر بأنّ ذاته أي ما به يكون زيد، زيداً غير علمه، وهذا يشعر بأنّ ذاك الاتحاد ليس بمنزلة يجعل الصفات في مرتبة حقيقته وذاته.

وبعبارة أُخرى فإنّ ملاك إنسانية زيد والعناصر المكونة لذاته هي ما يوجد

٣١٨

في الآخرين سواء بسواء فإنّ ملاك الإنسانية، والعناصر المكونة لحقيقة الأفراد الآخرين هي « الحيوانية والناطقية » التي تتكون منهما ذات زيد، أما « علمه » فما هو إلّا « حلية » توجت إنسانيته، وزينتها، وفضلتها على الآخرين، ولتوضيح الحقيقة نفترض « بناء » قد تم وبقي طلاؤه الذي يطلى به ظواهر البناء وخارجه وأبوابه وجدرانه.

وفي هذه الصورة، فإنّ كل ما ينقش على جدران هذا البناء، يضيف إلى جمال البناء جمالاً إضافياً، لكن هذا الطلاء رغم أنّه ليس منفصلاً عن البناء وجدرانه وأبوابه، إلّا أنّه لا يشكل حقيقة البناء، لأنّ العناصر والمواد المنشئة لذلك البناء هي الحديد والاسمنت والجص والآجر، وليست الأصباغ والطلاء.

وعلى هذا فإنّ اتحاد الأبواب والجدران مع الطلاء ( عندما نقول الجدار أزرق ) لا يعني أنّ اللون جزء من واقعيته وذاته، بل غاية ما في الأمر أنّ الألوان قد اتحدت بظاهر الجدار لا أنّها اتحدت بذاته وحقيقته، وعلى هذا النمط يكون بياض الصدف وحمرة التفاح وصفرة الليمون، كما أنّ على غرار هذا يكون اتحاد علم زيد بذاته.

وخلاصة القول: إنّ الاتحاد في هذه الموارد ليس بمعنى أنّ « العارض » قد أصبح جزءاً من ذات « المعروض » بل اتحد مع بعض مراحله ومعنى هذا أنّ العارض والمعروض شيء واحد ولكن دون أن يكون العارض داخلاً في ذات المعروض وجزءاً من حقيقته، وعلى هذا فالمقصود من « وحدة صفات الله مع ذاته » ليس على هذا النمط من الاتحاد بل وحدة آكد وأشد بمعنى أنّ « صفات الله تؤلِّف ذاته » سبحانه فهي « عين » ذاته وليست عارضة عليها، وبالتالي ليس يعني، أنّ ذاته شيء وصفاته شيء آخر، بل صفاته هي ذاته وحقيقته، فعلم الإنسان بشيء

٣١٩

إنّما هو بعلم زائد على ذاته فهو بالعلم الزائد يطّلع على ما هو خارج عن ذاته فيدرك المرئيات والمسموعات عن طريق « الصور الذهنية » التي تدخل إلى الذهن بواسطة الحواس الخمس، وإذا أخذت منه هذه « الصور الذهنية » لم يعد قادراً على درك ما هو خارج عن ذاته ولكنه يحتفظ بذاته مع فقد علمه، وبما أنّ ذات الله عين علمه، وليس العلم بزائد على ذاته، فهو تعالى يدرك جميع المبصرات والمسموعات بنفس ذاته بحيث يكون فرض سلب العلم والقدرة عنه تعالى مساوياً لفرض نفي ذاته.

وعلى هذا فالمقصود من « اتحاد صفات الله مع ذاته » هو عينية الصفات للذات في عامة مراحلها، وكون العلم الإلهي عين الذات الإلهية، وكذا القدرة والحياة، وغيرها من صفات الذات فهي عين ذاته سبحانه، لا أنّ الذات شيء وحقيقة مستقلة، والصفات حقائق طارئة على الذات وعارضة لها.

نظرية الأشاعرة في الصفات

إنّ القول بزيادة الصفات على الذات لا يخلو من مفاسد عقلية أظهرها أنّه يستلزم وجود قدماء ثمانية حسب تعدد صفاته تعالى، وليس هذا إلّا الفرار من خرافة التثليث المسيحي، والوقوع في ورطة القول بالقدماء الثمانية بدل الثلاثة في حين أنّ براهين « التوحيد الذاتي » قاضية بانحصار القديم في الله سبحانه وعدم وجود « واجب آخر سواه ».

الدليل على وحدة الصفات والذات

١. انّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته وعينية أحدهما للآخر يوجب

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363