حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)10%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 363

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156092 / تحميل: 8640
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ١

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

العلوي... وكان سيد بني هاشم في زمانه، وأحلمهم، وأنبلهم، وكان المأمون يعظمه، ويخضع له ويتغالى فيه، حتى أنّه جعله ولي عهده... )(١) .

والذهبي الذي عرف بالبغض والعداء لأهل البيتعليهم‌السلام لم يسعه إلاّ الاعتراف بالواقع والإقرار بفضل الإمام الرضاعليه‌السلام .

١٧ - محمود بن وهيب:

قال محمود بن وهيب البغدادي: ( وكراماته - أي الرضا - كثيرة رضي الله عنه، إذ هو فريد زمانه... )(٢) . لقد كان الإمام الرضا فريد زمانه في علمه وتقواه وورعه وحلمه، وسخائه، ولا يشبهه أحد في فضائله ومواهبه.

١٨ - عارف تامر:

قال عارف تامر: ( يعتبر - أي الإمام الرضا - من الأئمّة الذين لعبوا دوراً كبيراً على مسرح الأحداث الإسلامية في عصره... )(٣) . لقد استطاع الإمام في الفترة القصيرة التي تقلد فيها ولاية العهد أن يبرز القيم الأصيلة في السياسة الإسلامية، فقد أمر المأمون بإقامة العدل وتحقيق المساواة بين المسلمين، ونهاه عن التبذير بأموال الدولة إلى غير ذلك من الأمور التي سنذكرها في بحوث هذا الكتاب التي تدعم ما ذكره السيد عارف تامر من أنّ الإمام شأنه شأن آبائه الذين لعبوا دوراً كبيراً على مسرح الأحداث الإسلامية.

١٩ - محمد بن شاكر الكتبي:

قال محمد بن شاكر الكتبي: ( وهو - أي الإمام الرضاعليه‌السلام - أحد الأئمّة الاثني عشر، كان سيد بني هاشم في زمانه... ).

٢٠ - عبد المتعال:

قال عبد المتعال الصعيدي: ( كان - أي الإمام الرضا - على جانب عظيم من العلم والورع، وقد قيل لأبي نواس: علام تركت مدح علي بن موسى والخصال التي تجمعن فيه؟ فقال: لا أستطيع مدح إمام كان جبريل خادماً لأبيه، والله ما تركت ذلك

____________________

(١) تاريخ الإسلام ٨ / ورقة ٣٤، وصور في مكتبة الإمام الحكيم تسلسل ٣٢٣.

(٢) جواهر الكلام (ص ١٤٣).

(٣) عيون التواريخ ٣ / ورقة ٢٢٦ مصوّر في مكتبة السيد الحكيم.

٦١

- أي المدح - إلاّ إعظاماً له، وليس يقدر مثلي أن يقول في مثله )(١) .

لقد كان الإمام مجموعة من الفضائل التي لا تحد، فالعلم والورع من بعض صفاته التي تميز بها على غيره.

٢١ - يوسف النبهاني:

قال يوسف النبهاني: ( علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادقعليهم‌السلام أحد أكابر الأئمّة، ومصابيح الأمّة من أهل بيت النبوّة، ومعادن العلم والعرفان والكرم والفتوّة، كان عظيم القدر، مشهور الذكر، وله كرامات كثيرة، منها أنّه أخبر أنّه يأكل عنباً ورمّاناً فيموت فكان كذلك... )(٢) .

إنّ الإمامعليه‌السلام فرع زاكٍ من الأسرة النبوية التي أعزّ الله بها العرب والمسلمين، وبالإضافة لنسبه الوضّاح فقد كان من دعائم الفضل، ومن أعمدة الشرف، وله الكرمات المشهورة كما يقول النبهاني.

٢٢ - عبد القادر أحمد:

قال عبد القادر أحمد اليوسف: ( تأريخ الإمام حافل بجلائل الأعمال، فمن علم لا يدرك مداه، وعصمة متوارثة، وقدسية لا تضارعها قدسية في عصره ومن بعده، إلاّ مَن انحدر من صلبه من الأئمّة المعصومين، فهو علم هدى زمانه، ومثل أعلى في التقوى، والورع والحلم، والأخلاق، وما عساني أن أذكر في حياة وصي من أوصياء الله، وما عسى قلمي أن يكتب في تعريفه، أو لم يكن ذكر اسمه هو التعريف الكامل، فذكره قبس من نور الله يهدي المستجير به نحو السبيل الأقوم المؤدّي للصالح العام.

إنّ حياة الإمام مكرّسة لإعلاء شأن المسلمين، فما من عمل صدر منه إلاّ كان منطلقاً من عقيدة الإيمان، مستهدفاً صلاح الناس، ومنتهياً لما فيه رضى ربّ العالمين )(٣) .

لقد حفل تاريخ الإمام بجميع الفضائل التي يعتز بها الإنسان، والتي كان من

____________________

(١) المجدّدون في الإسلام (ص ٨٧).

(٢) جامع كرامات الأولياء ٢ / ١٥٦.

(٣) الإمام علي الرضا ولي عهد المأمون (ص ١).

٦٢

أبرزها العلم، والتقوى، والورع والحلم وسمو الأخلاق والآداب كما يقول عبد القادر، فالإمام هو المثل الأعلى لجميع القيم الإنسانية، ولا يضارعه في صفاته وخصائصه إلاّ السادة من آبائه وأبنائه.

٢٣ - يوسف بن أوغلى:

قال يوسف بن أوغلى سبط ابن الجوزي: ( كان علي بن موسى - كما سمي - رضاً جواداً عدلاً، عابداً، معرضاً عن الدنيا، ولولا خوفه من المأمون لما أجاب إلى ولاية العهد )(١) .

وتوفّرت في شخصية الإمام أبي محمد الرضاعليه‌السلام جميع الصفات الكريمة من الجود والعدالة، والعبادة والإعراض عن الدنيا ممّا جعلته في قمّة الشرف والمجد في دنيا الإسلام.

٢٤ - الزركلي:

قال خير الدين الزركلي: ( علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق أبو الحسن، الملقب بالرضي، ثامن الأئمّة الاثني عشر عند الإمامية ومن أجلاّء السادة عند أهل البيت وفضلائهم... )(٢) .

٢٥ - محمد جواد فضل الله:

قال العلاّمة محمد جواد فضل الله: ( الإمام الرضا قاعدة من قواعد الفكر الإسلامي، وأحد منطلقاتها الغنية بالمعرفة، انتهت إليه بعد أبيه الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام أسرار الرسالة، ومفاتيح كنوزها، فكان منهله منها، وعطاؤه من فيضها.

وهو أحد الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت الذين أغنوا الفكر الإسلامي بشتّى صنوف المعرفة ممّا أملوه على تلامذتهم أو أجابوا به مَن سألهم، أو ما نقله لنا التاريخ من محاوراتهم العلمية والعقائدية مع أصحاب المذاهب الأخرى... )(٣) .

الإمام الرضا كنز من كنوز الإسلام، وثمرة مشرقة من ثمرات الرسول الأعظم

____________________

(١) مرآة الزمان ٦ / ورقة ٤١ من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين، تسلسل ٢٨٦٤.

(٢) الأعلام ٥ / ١٧٨.

(٣) حياة الإمام الرضا.

٦٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيض من فيوضاته التي استوعبت جميع لغات الأرض، قد أغنى الله به الفكر وأوضح به القصد، وجعله علماً في بلاده يهدي الحائر، ويسترد به الضال.

٢٦ - أحمد الخزرجي:

قال أحمد الخزرجي: ( علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي، أبو الحسن الرضا، روى عن أبيه وعنه عبد السلام بن صالح وجماعة عدة نسخ، وكان سيد بني هاشم، وكان المأمون يعظّمه، ويبجّله، وعهد له بالخلافة وأخذ له العهد، مات مسموماً بطوس )(١) .

وحكى الخزرجي في هذا الكلام أنّ جماعة من تلاميذ الإمامعليه‌السلام رووا عنه عدة نسخ، ومن المؤكّد أنّها تتعلّق بأحكام الشريعة وآداب الإسلام، وسننه، كما حكى أنّه مات مسموماً، وهو ما نذهب إليه أنّ المأمون سقاه السم ليتخلّص منه، بعدما رأى إجماع المسلمين على تعظيمه وتبجيله، وسوف نعرض لهذا في البحوث الآتية.

٢٧ - بعض أحبّته:

قال بعض أحبّته والمعجبين به: ( علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادقعليهم‌السلام فاق أهل البيت شأنه، وارتفع فيهم مكانه، وظهر برهانه حتى أحلّه الخليفة المأمون محلّ مهجته، وأشركه في خلافته، وفوّض إليه أمر مملكته، وعقد على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته، فكانت مناقبه عليه، وصفاته سنية، ونفسه الشريفة هاشمية، وأرومته الكريمة نبوية، كراماته أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر... )(٢) .

٢٨ - الشبراوي:

قال الشبراوي: كان (رضي الله عنه) كريماً جليلاً، مهاباً موقراً وكان أبوه موسى الكاظمعليه‌السلام يحبّه حبّاً شديداً، ووهب له ضيعة البسرية التي اشتراها بثلاثين؟ ألف دينار(٣).

____________________

(١) خلاصة تهذيب الكمال (ص ٦٧٨).

(٢) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٨٨).

(٣) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٨٨).

٦٤

كان الإمام موسىعليه‌السلام يخلص لولده الإمام كأعظم ما يكون الإخلاص، فقدمه على بقية أبنائه، وجعله القائم من بعده، وأوصى له بهذه القطعة من الأرض - كما يقول الشبراوي - ولم يكن الإمام مدفوعاً بدافع الحب المنبعث عن العواطف والأهواء وإنّما كان من أجل أنّ ولده قاعدة من قواعد الإسلام، وأنّه أحد أوصياء الرسول الأعظم الذين نصّ عليهم حسبما تواترت الأخبار بذلك.

٢٩ - أبو النواس:

وكان ممّن مدح الإمامعليه‌السلام أبو نواس الشاعر المشهور، وقد قال الشعر فيه مرّتين وأجاد فيهما، وهما:

١ - إنّ الشعراء المعاصرين للإمام قالوا فيه الشعر ومدحوه سوى أبي نواس فعُوتب على ذلك(١) فقال هذه الأبيات الرائعة:

قيل لي أنت أوحد الناس طرّاً

في فنون من المقال النبيه

لك من جوهر الكلام نظام

يثمر الدر في يدي مجتنيه

فلماذا تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمّعن فيه

قلت: لا أهتدي لمدح إمامٍ

كان جبريل خادماً لأبيه

وهذه الأبيات الشائعة الذكر قد حفظها الناس جيلاً بعد جيل، واعتبروها من روائع الشعر العربي؛ لأنّها عبّرت عن أحاسيسهم تجاه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وما يحملون لهم من إكبار وتعظيم، ومن الطريف أنّ الذهبي الذي عرف بالحقد على أهل البيت قد علق على البيت الأخير من هذه الأبيات بقوله: ( قلت: هذا لا يجوز إطلاقه من أنّ جبريل خادم لأبيه والنص معدوم فيه... وقد كذبت الرافضة على علي الرضا... )(٢) .

إنّ لأهل البيتعليهم‌السلام منزلة كريمة عند الله تعالى، فقد ناهضوا الضالين من حكّام أمية وبني العباس، وجاهدوا في الله كأعظم ما يكون الجهاد حتى

____________________

(١) ذكر ابن طولون في كتابه ( الأئمّة الاثنى عشر ) ص ٩٨ - ٩٩ إنّ أبا نواس عُوتب على ترك مدح الإمام، فقال له بعض أصحابه: ما رأيت أوقح منك، ما تركت خمراً ولا طوداً ولا مغنّي إلاّ قلت فيه شيئاً، وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئاً، فقال: والله ما تركت ذلك إلاّ إعظاماً له، وليس يقدر مثلي أن يقول في مثله، ثم أنشد بعد ساعة هذه الأبيات.

(٢) تأريخ الإسلام ٨ / ورقة ٣٥.

٦٥

تقطّعت أوصالهم وسبيت نساؤهم، وعانوا من الاضطهاد والتنكيل ما لا يوصف، لمرارته وقسوته كل ذلك في سبيل إعلاء كلمة دين الله ونشر العدل بين الناس، ولكن الذهبي وأمثاله من المنحرفين عن الحق لا يعقلون ذلك.

٢ - خرج الإمام الرضاعليه‌السلام يوماً على بغلة فارهة، فدنا منه أبو نواس، وسلّم عليه وقال له: ( يا بن رسول الله قلت: فيك أبياتاً أحبّ أن تسمعها منّي؟ ). وبادر الإمام قائلاً:

( قل: )

فانبرى أبو نواس قائلاً:

مطهّرون نقيّات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم كلّما ذكروا

مَن لم يكن علويّاً حين ننسبه

فما له في قديم الدهر مفتخرُ

أُولئك القوم أهل البيت عندهم

علم الكتاب وما جاءت به السورُ(١)

وهذه الأبيات من أصدق الشعر وأروعها قد اقتبس الشطر الأوّل من القرآن الكريم، قال تعالى:

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)

لقد طهّرهم الله من الزيغ، وأذهب عنهم الرجس، وجعلهم قدوة لعباده يهتدي بهم الحائر.

وأعجب الإمام بهذه الأبيات فقال لأبي نواس: ( قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد... )، ثم التفت إلى غلامه فقال له: ما معك من فاضل نفقتنا؟

فقال: ثلاث مائة دينار، قال: ارفعها له، ثمّ لمّا ذهب إلى بيته، قال لغلامه: لعلّه استقلها، سق إليه البغلة(٢) (٣)

٣٠ - دعبل الخزاعي:

وأكثر دعبل في مدح الإمام الرضاعليه‌السلام ، وفي رثائه، وممّا قاله فيه:

____________________

(١) خلاصة الذهب المسبوك (ص ٢٠٠).

(٢) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٦٠)، نزهة المجلس ٢ / ١٠٥.

(٣) كشف الغمّة ٣ / ١٠٧.

٦٦

لقد رحل ابن موسى بالمعالي

وسار بيسره العلم الشريفُ

وتابعه الهدى والدين طرّاً

كما يتتبّع الإلف الأليفُ(١)

ومعنى هذا الشعر أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام قد حوى جميع صنوف الشرف والمعالي، كما تابعه العلم والهدى والدين، وقد تميّز بهذه الصفات الكريمة التي كانت من ذاتيّاته.

٣١ - الصاحب بن عباد:

أمّا الصاحب بن عبّاد الوزير، فقد هام بحب الإمام الرضاعليه‌السلام وقد أهدى تحياته العطرة إلى الإمام بهذه الأبيات.

يا سايراً زائراً إلى طوس

مشهد طهر وأرض تقديس

أبلغ سلامي الرضا وحط على

أكرم رمسٍ لخير مرموس

والله والله حلفة صدرت

من مخلص في الولاء مغموس

إنّي لو كنت مالكاً أربي

كان بطوس الغناء تعريسي

لمشهد بالزكاء ملتحف

وبالسنا والثناء مأنوس

إلى أن يقول:

يا بن النبي الذي به قمع الله

ظهور الجبابر الشوس(٢)

وابن الوصي الذي تقدّم في

الفضل على البزل القناعيس(٣)

وحائز الفخر غير منتقص

ولابس المجد غير تلبيس(٤)

ويقول في مقطوعة أخرى:

يا زائراً قد نهضا

مبتدراً قد ركضا

ومَن قد مضى كأنّه

البرق إذا ما أومضا

أبلغ سلامي زاكياً

بطوس مولاي الرضا

سبط النبي المصطفى

وابن الوصي المرتضى

____________________

(١) ديوان دعبل (ص ١٠٨).

(٢) الشوس: جمع أشوس، وهو الرافع رأسه تكبّراً.

(٣) البزل جمع بازل وهو البعير الذي انشق وهو في التاسعة، والقناعيس جمع قنعاس وهو الإبل العظيم ويوصف به الرجل الشديد.

(٤) عيون أخبار الرضا ١ / ٤.

٦٧

مَن حاز عزّاً أقعساً(١)

وشاد مجداً أبيضا

وقل له: من مخلصٍ

يرى الولا مفترضا(٢)

٣٢ - ابن الحجّاج:

وأثر ابن الحجّاج الشعر الكثير في مدح الإمام الرضاعليه‌السلام كان منه هذان البيتان:

يا ابن من تؤثر المكارم عنه

ومعالي الآداب تمتار منه

من سمى الرضا علي بن موسى

رضي الله عن أبيه وعنه (٣)

٣٣ - عبد الله بن المبارك: قال عبد الله بن المبارك في مدح الإمام هذا البيت:

هذا علي والهدى يقوده

من خير فتيان قريشٍ عوده (٤)

٣٤ - الصولي:

قال الصولي في مدح الإمام:

إلا إنّ خير الناس نفساً ووالدا

ورهطاً وأجداداً علي المعظم

أتتنا به للحلم والعلم ثامناً

إماماً يؤدّي حجّة الله تكتم (٥)

٣٥ - ابن حماد: قال الشاعر ابن حماد في مدح الإمام الرضاعليه‌السلام :

ساقها شوقي إلى طوس

ومن تحويه طوس

مشهد فيه الرضا

العالم والحبر النفيس

ذاك بحر العلم

والحكمة إن قاس مقيس

ذاك نور الله لا يطفى

له قط طميس (٦)

٣٦ - الإربلي: قال علي بن عيسى الإربلي في قصيدة يمدح بها الإمام ويتشوّق لزيارة مرقده:

____________________

(١) الأقعس: الشيء الثابت.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ / ٦.

(٣) المناقب ٤ / ٣٤٣.

(٤) المناقب ٤ / ٣٦٢.

(٥) عيون أخبار الرضا ١ / ١٥.

(٦) المناقب ٤ / ٣٥٠.

٦٨

أيّها الراكب المجد قف العيس

إذا ما حللت في أرض طوسا

لا تخف من كلالها ودع التأديب

دون الوقوف والتعريسا

وألثم الأرض إن رأيت ثرى

مشهد خير الورى علي بن موسى

وأبلغنه تحية وسلاماً

كشذى المسك من علي بن عيسى

قل سلام الإله في كل وقتٍ

يتلقّى ذاك المحلّ النفيسا

منزل لم يزل به ذاكر لله

يتلوا التسبيح والتقديسا

دار عزٍّ ما انفك قاصدها

يزجى إليها آماله والعيسا

بيت مجدٍ ما زال وقفاً عليه

الحمد والمدح والثناء حبيسا

ما عسى أن يقال في مدح قومٍ

أسس الله مجدهم تأسيسا

ما عسى أن أقول في مدح قومٍ

قدّس الله ذكرهم تقديسا

هم هداة الورى وهم أكرم

الناس أُصولاً شريفة ونفوسا

إن عرت أزمة تندوا غيوثاً

أو دجت شبهة تبدّوا شموسا

شرفوا الخيل والمنابر لمّا

افترعوها والناقة العنتريسا(١)

معشر حبّهم يجلي هموماً

ومزاياهم تجلي طروسا

كرموا مولداً وطابوا أصولاً

وزكوا محتداً وطالوا غروسا

ليس يشقى بهم جليس ومَن كان

ابن شوري إذا أرادوا جليسا

قمت في نصرهم بمدحي لمّا

فاتني أن أجرّ فيه خميسا

ملأوا بالولاء قلبي رجاءً

وبمدحي لهم ملأت الطروسا

فتراني لهم مطيعاً حنيناً

وعلى غيرهم أبيّاً شموسا

يا علي الرضا أبثّك ودّاً

غادر القلب بالغرام وطيسا

مذهبي فيك مذهبي وبقلبي

لك حب أبقى جوىً ورسيسا

لا أرى داءه بغيرك يشفى

لا ولا جرحه بغيرك يوسى

أتمنّى لو زرت مشهدك

العالي وقبّلت ربعك المأنوسا

وإذا عزّ أن أزورك يقظان

فزرني في النوم واشف السيسا

____________________

(١) العنتريس: الناقة الغليظة الوثيقة.

٦٩

في ظلال أبيه

عاش الإمام الرضاعليه‌السلام تسعاً وعشرين سنة وأشهراً في كنف أبيه الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ، وقد شاهد ضروباً قاسية من المحن والخطوب التي حلّت بأبيه الذي كان مثار قلق وخوف للحكم العبّاسي؛ لأنّه كان محط أنظار المسلمين، وموضع آمالهم في إنقاذهم من الطغمة العبّاسية الحاكمة التي تمادت في ظلم الناس وإرغامهم على ما يكرهون.

وبالإضافة إلى ذلك فقد دان شطر كبير من المسلمين بإمامة الإمام الكاظم، وأنّه الخليفة الشرعي للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحق بمركزه ومقامه من هارون وغيره من ملوك بني العباس الذين عاصرهم الإمامعليه‌السلام ، وقد اقضّ ذلك مضاجع العبّاسيين وورمت أنوفهم، فاتخذوا جميع الوسائل لاضطهاد الإمام والتنكيل به.

وعلى أيّ حال فإنّا نعرض - بصورة مجملة - إلى شخصية الإمامعليه‌السلام ، وما يتصل بذلك من بعض الشؤون التي ترتبط بحياة الإمام الرضاعليه‌السلام .

أمّا معالم شخصية الإمام الكاظمعليه‌السلام فهي ملء فم الدنيا شرفاً وفضلاً، فقد توفّرت في شخصيته الكريمة جميع عناصر الفضيلة ومقوّمات الحكمة والآداب، والتي منها:

١ - مواهبه العلمية:

والشيء الذي لا شك فيه أنّ الإمام موسىعليه‌السلام كان أعلم أهل عصره، وأدراهم بجميع العلوم، أمّا علم الفقه والحديث فكان من أساطينه، وقد احتف به العلماء والرواة وهم يسجّلون ما يفتي به، وما يقوله من روائع الحكم

٧٠

والآداب، وقد شهد الإمام الصادقعليه‌السلام عملاق هذه الأمّة ورائد نهضتها الفكرية، بوفرة علم ولده، فقد قال لعيسى: ( إنّ ابني هذا - وأشار إلى الإمام موسى - لو سألته عمّا بين دفّتي المصحف لأجابك فيه بعلم... )(١) .

وقال في فضله: ( وعنده علم الحكمة والفهم والسخاء، والمعرفة بما يحتاج إليه الناس فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم... ).

وقد روى العلماء عنه جميع أنواع العلوم ممّا ملأوا به الكتب، وقد عرف بين الرواة بالعالم، وقال الشيخ المفيد: ( وقد روى الناس عن أبي الحسن فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه )(٢) .

لقد قام الإمام موسىعليه‌السلام بتطوير الحياة العلمية، ونموّها، وكان من ألمع أئمّة المسلمين في نشره للثقافة الإسلامية.

٢ - عبادته وتقواه:

وأجمع الرواة على أنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام كان من أعظم الناس طاعة لله، ومن أكثرهم عبادة له، وكانت له ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود لله، كما كانت لجدّه الإمام زين العابدينعليه‌السلام حتى لُقّب بذي الثفنات، وكان من مظاهر عبادته أنّه إذا وقف مصلّياً بين يدي الخالق العظيم أرسل ما في عينيه من دموع وخفق قلبه، وكذلك إذا ناجى ربّه أو دعاه(٣) ، ويقول الرواة: إنّه كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقّب حتى تطلع الشمس، ويخر لله ساجداً، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد لله حتى يقرب زوال الشمس(٤) .

وكان من مظاهر طاعته أنّه دخل مسجد جدّه رسول الله (ص) في أوّل الليل فسجد سجدة واحدة، وهو يقول بنبرات تقطر خوفاً من الله:

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٣٨.

(٢) الإرشاد (ص ٢٧٢).

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٣٩.

(٤) كشف الغمّة.

٧١

( عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة... ).

وجعل يردد هذا الدعاء بإنابة وإخلاص وبكاء حتى أصبح الصبح(١).

وحينما أودعه الطاغية الظالم هارون الرشيد العبّاسي في ظلمات السجون؛ تفرّغ للعبادة، وشكر الله على ذلك قائلا: ( اللّهمّ إنّي طالما كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، وقد استجبت لي فلك الحمد على ذلك )(٢) .

وكان الطاغية هارون يشرف من أعلى قصره على السجن فيبصر ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغيّر عن موضعه، وعجب من ذلك، وراح يقول للربيع:

( ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟ ) فأجابه الربيع قائلاً: ( يا أمير المؤمنين، ما ذاك بثوب، وإنّما هو موسى بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال... )

وبهر الطاغية، وقال: ( أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم... ).

وسارع الربيع طالباً منه أن يطلق سراح الإمام ولا يضيق عليه في سجنه قائلاً: ( يا أمير المؤمنين، مالك قد ضيّقت عليه في الحبس؟ )

وسارع هارون قائلاً: ( هيهات: لا بد من ذلك... )(٣) .

وقد عرضنا بصورة شاملة إلى عبادته، وطاعته لله، وما صدر عنه من صنوف العبادة التي تدل على أنّه كان إمام المتقين وسيد العابدين والموحّدين في عصره.

٣ - زهده:

وزهد الإمام الكاظمعليه‌السلام في الدنيا، وأعرض عن مباهجها، وزينتها

____________________

(١) وفيات الأعيان ٤ / ٢٩٣ كنز اللغة (ص ٧٦٦).

(٢) وفيات الأعيان ٤ / ٢٩٣.

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٤٢.

٧٢

وآثر طاعة الله تعالى على كل شيء، وكان بيته خالياً من جميع أمتعة الحياة، وقد تحدث عنه إبراهيم بن عبد الحميد فقال: دخلت عليه في بيته الذي كان يصلّي فيه، فإذا ليس فيه شيء سوى خصفة، وسيف معلّق، ومصحف(١) .

وكان كثيراً ما يتلو على أصحابه سيرة الصحابي الثائر العظيم أبي ذر الغفاري الذي طلّق الدنيا، ولم يحفل بأي شيء من زينتها قائلاً: ( رحم الله أبا ذر، فلقد كان يقول: جزى الله الدنيا عنّي مذمّة بعد رغيفين من الشعير: أتغذى بأحدهما، وأتعشى بالآخر، وبعد شملتي الصوف ائتزر بأحدهما وأتردى بالأخرى )(٢) .

لقد وضع الإمام موسىعليه‌السلام نصب عينيه سيرة العظماء الخالدين من صحابة جدّه سيد المرسلين يشيد بسيرتهم، ويتلو مآثرهم على أصحابه وتلاميذه لتكون لهم قدوة حسنة في حياتهم.

٤ - حلمه:

أمّا الحلم فهو من أبرز صفات سيدنا الكاظمعليه‌السلام ، فقد كان مضرب المثل في حلمه وكظمه للغيظ، ويقول الرواة: إنّه كان يعفو عمّن أساء إليه، ويصفح عمّن اعتدى عليه، وذكر الرواة بوادر كثيرة من حلمه كان منها:

١ - أنّ شخصاً من أحفاد عمر بن الخطاب كان يسئ للإمام موسى ويسب جدّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فأراد بعض شيعة الإمام اغتياله فنهاهم عن ذلك، ورأى أن يعالجه بغير ذلك فسأل عن مكانه، فقيل له: إنّ له ضيعة في بعض نواحي يثرب وهو يزرع فيها فركب الإمام بغلته، ومضى متنكراً إليه، فأقبل نحوه فصاح به العمري لا تطأ زرعنا فلم يحفل به الإمام إذ لم يجد طريقاً يسلكه غير ذلك، ولمّا انتهى إليه قابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً له:

( كم غرمت في زرعك هذا!... )

( مائة دينار... ).

( كم ترجو أن تصيب منه؟ )

( أنا لا أعلم الغيب... ).

____________________

(١) البحار ١١ / ٢٦٥.

(٢) أصول الكافي ٢ / ١٣٤.

٧٣

( إنّما قلت: لك كم ترجو أن يجيئك منه! )

( أرجو أن يجيئني منه مائتا دينار ).

فأعطاه سليل النبوّة ثلاث مائة دينار، وقال: هذه لك وزرعك على حاله، فانقلب العمري رأساً على عقب وخجل على ما فرط في حق الإمام، وانصرف الإمام عنه وقصد الجامع النبوي، فوجد العمري قد سبقه فلمّا رأى الإمام قام إليه، وهو يهتف بين الناس:

( الله أعلم حيث يجعل رسالته فيمَن يشاء... ).

وبادر أصحابه منكرين عليه هذا التغيير فأخذ يخاصمهم ويذكر مناقب الإمام ومآثره، والتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً: ( أيّما كان خيراً؟ ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار )(١)

لقد عامل الإمام مبغضيه ومناوئيه بالإحسان واللطف فاقتلع من نفوسهم النزعات الشريرة، وغسل أدمغتهم التي كانت مترعة بالجهل والنقص، وقد وضع أمامه قوله تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

٢ - ومن آيات حلمه أنّه اجتاز على جماعة من أعدائه كان فيهم ابن هياج فأمر بعض أتباعه أن يتعلّق بلجام بغلة الإمام ويدّعي أنّها له، ففعل ذلك، وعرف الإمام غايته فنزل عن البغلة وأعطاها له(٢).

وقد أعطى الإمام بذلك مثلاً أعلى للحلم وسعة النفس، وكانعليه‌السلام يوصي أبناءه بالتحلّي بهذه الصفة الكريمة فقد قال لهم:

( يا بنى أوصيكم بوصية مَن حفظها انتفع بها، إذا أتاكم آت، فأسمع أحدكم في الأُذن اليمنى مكروهاً، ثم تحوّل إلى اليسرى فاعتذر لكم، وقال: إنّي لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره )(٣).

وبهذه الوصية نقف على مدى حلمه وسعة أخلاقه، وعدم مقابلة المسيء بالمثل , وهذه الظاهرة من أهم الوسائل الداعية إلى التآلف وجمع الكلمة بين الناس

____________________

(١) تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨ - ٢٩.

(٢) البحار ١١ / ٢٧٧.

(٣) الفصول المهمّة (ص ٢٢).

٧٤

٥ - جوده:

وكان الإمام موسىعليه‌السلام من أندى الناس كفّاً، ومن أكثرهم عطاءً للبائسين والمحرومين، ومن الجدير بالذكر أنّه كان يتطلّب الكتمان وعدم ذيوع ما يعطيه؛ مبتغياً بذلك الأجر عند الله تعالى، ويقول الرواة:

إنّه كان يخرج في غلس الليل البهيم فيوصل البؤساء والضعفاء وهم لا يعلمون من أي جهة تصلهم هذه المبرّة، وكانت صلاته لهم تتراوح ما بين المائتين دينار إلى الأربعمائة دينار(١) وكان أهله يقولون: ( عجباً لـمَن جاءته صرار موسى وهو يشتكي القلّة والفقر )(٢) .

وقد حفلت كتب التأريخ ببوادر كثيرة من الحاجة والسؤال، ويجمع المترجمون له أنّه كان يرى أنّ أحسن صرف للمال هو ما يرد به جوع جائع، أو يكسو به عارياً، وقد ذكرنا بوادر وأمثلة كثيرة من جوده في كتابنا حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

٦ - إغاثته للملهوفين:

من أبرز ذاتيات الإمام موسىعليه‌السلام إغاثته للملهوفين وإنقاذهم ممّا ألمّ بهم من محن الأيام وخطوبها، وكانت هذه الظاهرة من أحبّ الأمور إليه، وقد أفتى شيعته بجواز الدخول في حكومة هارون بشرط الإحسان إلى الناس، وقد شاعت عنه هذه الفتوى ( كفّارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان ).

ويقول الرواة: إنّ شخصاً من أهالي الري كانت عليه أموال طائلة لحكومة الري، وقد عجز عن تسديدها وخاف من الحكومة أن تصادر أمواله، وتنزل به العقوبة الصارمة، فسأل عن الحاكم فأخبروه أنّه من شيعة الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فسافر إلى يثرب فلمّا انتهى إليها تشرّف بمقابلة الإمام وشكا إليه حاله، وضيق مجاله، فاستجابعليه‌السلام بالوقت له، وكتب إلى حاكم الري رسالة جاء فيها بعد البسملة:

( اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلاًّ لا يسكنه إلاّ مَن أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام... ).

____________________

(١) تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨.

(٢) عمدة الطالب (ص ١٨٥).

٧٥

وأخذ الرسالة، وبعد أدائه لفريضة الحج اتجه صوب وطنه فلمّا انتهى إليه، مضى إلى الحاكم ليلاً فطرق باب بيته فخرج غلامه فقال له: ( مَن أنت؟ ).

( رسول الصابر موسى بن جعفر... ).

فهرع إلى مولاه فأخبره بذلك فخرج حافي القدمين مستقبلاً له فعانقه وقبّل ما بين عينيه، وطفق يسأله بلهفة عن حال الإمام وهو يجيبه، ثم ناوله رسالة الإمام، فأخذها بإكبار وقبّلها فلمّا قرأها استدعى بأمواله وثيابه فقاسمه في جميعها، وأعطاه قيمة ما لا يقبل القسمة، وهو يقول له: ( يا أخي هل سررتك؟... ) وسارع الرجل قائلاً: ( أي والله وزدت على ذلك... ) ثم استدعى الحاكم السجل فشطب على جميع الديون التي على الرجل، وأعطاه براءة منها، فخرج وقد غمرته موجات من الفرح والسرور، ورأى أن يجازي إحسانه بإحسان فيمضي إلى بيت الله الحرام ويدعوا له، ويخبر الإمام بما أسداه عليه من المعروف، ولمّا أقبل موسم الحج سافر إلى بيت الله الحرام، ولمّا انتهى إليه دعا للرجل بإخلاص، وأخبره بما أسداه حاكم الري من الإحسان إليه فسرّ الإمام بذلك سروراً بالغاً، والتفت إليه الرجل قائلاً: ( يا مولاي هل سرّك ذلك؟ ).

( أي والله لقد سرّني، وسرّ أمير المؤمنين، والله لقد سرّ جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقد سرّ الله تعالى )(١) .

وهذه المبادرة تمثّل مدى اهتمامه بإغاثة الملهوفين، وبها نطوي الحديث عن بعض خصائصه وصفاته.

الإمام مع هارون:

وعانى الإمام الكاظمعليه‌السلام ألواناً قاسية من المحن والخطوب في عهد الطاغية هارون الذي جهد على ظلمه والتنكيل به، فقد قضى زهرة حياته في ظلمات

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ١ / ١٦١ - ١٦٢.

٧٦

سجونه، محجوباً عن أهله وشيعته، ونقدّم عرضاً سريعاً إلى ما لاقاه في عهد هارون.

إلقاء القبض على الإمام:

وثقل الإمام على هارون، وورم أنفه منه؛ وذلك لأنّه أعظم شخصية في العالم الإسلامي يكنّ له المسلمون المودّة والاحترام، في حين أنّه لم يحظ بذلك.

ويقول الرواة: إنّ من الأسباب التي أدّت هارون لسجنه للإمام أنّه لمّا زار قبر النبي (ص) وقد احتف به الأشراف والوجوه والوزراء، وكبار رجال الدولة، وأقبل على الضريح المقدّس، ووجّه له التحية قائلاً: ( السلام عليك يا بن العم... ).

ولقد أفتخر على مَن سواه برحمه الماسة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه إنّما نال الخلافة بهذا السبب، وكان الإمام موسىعليه‌السلام إلى جانبه فسلّم على النبي العظيم قائلاً:

( السلام عليك يا أبت... ). وفقد الرشيد صوابه، وورم أنفه وانتفخت أوداجه، فإنّ الإمامعليه‌السلام أقرب منه إلى النبي، وألصق به من غيره فاندفع الطاغية بنبرات تقطر غضباً قائلاً: ( لم قلت: إنّك أقرب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منّا؟... ). فأدلى الإمام بالحجّة القاطعة التي لا يمكن إنكارها قائلاً:

( لو بُعث رسول الله حيّاً، وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ ).

وسارع هارون قائلا: ( سبحان الله!! وإنّي لأفتخر بذلك على العرب والعجم... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام يقيم عليه الدليل أنّه أقرب إلى النبي (ص) منه قائلاً:

( ولكنّه لا يخطب منّي، ولا أزوجه لأنّه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم ).

وأقام الإمام دليلاً آخر على قوله، فقال لهارون:

( هل يجوز لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدخل على حرمك وهن كاشفات؟ ).

٧٧

فقال هارون: لا. وقال الإمام: ( لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، فلذلك نحن أقرب إليه منكم ).(١) .

وثار الرشيد، ولم يجد مسلكاً ينفذ منه لتفنيد حجّة الإمامعليه‌السلام ، وانطوت نفسه على الشر فجاء إلى قبر النبي (ص) وقال له: ( بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله إنّي أعتذر إليك من أمر عزمت عليه إنّي أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأنّي قد خشيت أن يلقي بين أمّتك حرباً يسفك فيها دماءهم... ). لقد حسب أنّ اعتذاره إلى النبي (ص) من ارتكاب الجريمة يجديه وينفي عنه المسؤولية في يوم يخسر فيه المبطلون.

وفي اليوم الثاني أصدر أوامره بإلقاء القبض على الإمام، فألقت الشرطة القبض عليه وهو قائم يصلّي عند رأس جدّه النبي (ص) فقطعوا عليه صلاته، ولم يمهلوه لإتمامها، فحمل من ذلك المكان الشريف، وقُيّد وهو يذرف أحر الدموع، ويبث شكواه إلى جدّه قائلاً: ( إليك أشكو يا رسول الله... ). وحُمل الإمام وهو يرسف في القيود، فمثل أمام الطاغية هارون فجفاه، وأغلظ له في القول(٢) .

سجنه في البصرة:

وحُمل الإمام مقيّداً إلى البصرة، وقد وكل حسان السري بحراسته، والمحافظة عليه، وفي الطريق التقى به عبد الله بن مرحوم الأزدي، فدفع له الإمام كتباً، وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وعرّفه بأنّه الإمام من بعده(٣) .

وسارت القافلة تطوي البيداء حتى انتهت إلى البصرة وذلك قبل التروية بيوم(٤) فسلّم حسان الإمام إلى عيسى بن جعفر فحبسه في بيت من بيوت المحبس

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٥٦ - ٤٥٧.

(٢) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٥.

(٣) تنقيح المقال.

(٤) منتخب التواريخ (ص ٥١٨).

٧٨

وأقفل عليه أبواب السجن، فكان لا يفتحها إلاّ في حالتين: إحداهما خروجه إلى الطهور والأخرى لإدخال الطعام إليه.

واقبل الإمام على العبادة والطاعة فكان يصوم في النهار ويقوم في الليل، ويقضي عامة وقته في الصلاة والسجود والدعاء وقراءة القرآن، واعتبر تفرّغه للعبادة من نعم الله تعالى عليه، فكما يقول: ( اللّهمّ إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت فلك الحمد )(١) .

الإيعاز لعيسى باغتياله:

وأوعز هارون إلى عيسى عامله على البصرة باغتيال الإمامعليه‌السلام وثقل الأمر على عيسى فاستشار خواصه بذلك فمنعوه وخوفوه من عاقبة الأمر، فاستجاب لهم، ورفع رسالة إلى هارون، جاء فيها: ( يا أمير المؤمنين كتب إلي في هذا الرجل، وقد اختبرته طول مقامه بمَن حبسته معه عيناً عليه، لينظروا حيلته وأمره وطويّته ممّن له المعرفة والدراية، ويجري من الإنسان مجرى الدم، فلم يكن منه سوء قط، ولم يذكر أمير المؤمنين إلاّ بخير، ولم يكن عنده تطلع إلى ولدية، ولا خروج، ولا شيء من أمر الدنيا، ولا دعا قط على أمير المؤمنين، ولا على أحد من الناس، ولا يدعو إلاّ بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين من ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ مَن يتسلّمه منّي، وإلاّ سرحت سبيله، فإنّي منه في غاية الحرج )(٢) .

ودلّت هذه الرسالة على خوف عيسى من الإقدام على اغتيال الإمام، وقد بقي في سجنه سنة كاملة(٣) .

سجنه في بغداد:

واستجاب الرشيد لطلب عامله عيسى، فأمره بحمل الإمام إلى بغداد، فحمل إليها، تحفّ به الشرطة والحرس، ولمّا انتهى إليها أمر الرشيد بحبسه عند الفضل بن الربيع، فأخذ الفضل، وحبسه في بيته، ولم يحبسه في السجون العامة؛ وذلك لسمو

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٦.

(٢) الفصول المهمّة.

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٦٨.

٧٩

مكانة الإمام، وعظم شخصيته، فخاف من حدوث الفتنة واضطراب الرأي العام.

واقبل الإمامعليه‌السلام على العبادة والطاعة، وقد بهر الفضل بعبادته فقد روى عبد الله القزويني قال: دخلت على الفضل بن الربيع، وهو جالس على سطح داره فقال لي: ادن منّي فدنوت حتى حاذيته، ثم قال لي: ( أشرف على الدار... ). وأشرف عبد الله على الدار، فقال له الفضل:

- ما ترى في البيت؟

- أرى ثوباً مطروحاً.

- انظر حسناً.

فتأمّل عبد الله، ونظر مليّاً فقال:

- رجل ساجد.

- هل تعرفه؟

- لا.

- هذا مولاك.

- مَن مولاي؟

- تتجاهل عَلَيّ؟

- ما أتجاهل، ولكن لا أعرف لي مولى.

- هذا أبو الحسن موسى بن جعفر.

وكان عبد الله ممّن يدين بإمامته، وأخذ الفضل يحدثه عن عبادته قائلاً: ( إنّي أتفقّده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على الحال التي أخبرك بها، إنّه يصلّي الفجر، فيعقّب ساعة في دبر صلاته، إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكل مَن يترصد له الزوال فلست أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس؟ إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدّد الوضوء، فاعلم أنّه لم ينم في سجوده، ولا أغفى فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلّى العصر سجد سجدة فلا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة، فإذا صلّى العتمة أفطر على شوى يؤتى به، ثم يجدّد الوضوء ثم يسجد، ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة، ثم

٨٠

يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).

وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.

ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).

فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.

( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(1) .

لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.

نصّه على إمامة الرضا:

ونصب الإمام موسىعليه‌السلام ولده الإمام الرضاعليه‌السلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(2) .

وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:

1 - محمد بن إسماعيل:

روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).

قالعليه‌السلام :

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 - 471.

(2) نفس المصدر.

٨١

( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(1) .

2 - علي بن يقطين:

روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(2) .

3 - نعيم بن قابوس:

روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(3) .

4 - داود بن كثير:

روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟

فأشارعليه‌السلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(4) .

5 - سليمان بن حفص:

روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(5) .

____________________

(1) كشف الغمّة 3 / 88.

(2) كشف الغمّة 3 / 88.

(3) كشف الغمّة 3 / 88.

(4) الفصول المهمّة (ص 225).

(5) عيون أخبار الرضا 1 / 26.

٨٢

6 - عبد الله الهاشمي:

قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!

قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(1).

7 - عبد الله بن مرحوم:

روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(2).

8 - عبد الله بن الحرث:

روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!

قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(3)

9 - حيدر بن أيوب:

روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 26 - 27.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا.

٨٣

بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟

يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(1).

10 - الحسين بن بشير:

قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(2) .

11 - جعفر بن خلف:

روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(3).

12 - نصر بن قابوس:

روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4) .

13 - محمد بن سنان:

روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟

قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا 1 / 30.

(4) عيون أخبار الرضا 1 / 31.

٨٤

والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(1) حرام على النار أن تمسّك أبداً(2) .

هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليه‌السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.

وصيّة الإمام:

وأقام الإمام موسىعليه‌السلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.

أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليه‌السلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.

سجن السندي:

وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.

____________________

(1) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 32 - 33.

٨٥

وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

كتابه إلى هارون:

وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(1) .

وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

اغتيال الإمام:

وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..

فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(2) .

وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.

إلى الرفيق الأعلى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليه‌السلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى

____________________

(1) البداية والنهاية 10 / 183.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 - 500.

٨٦

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(1) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.

ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(2) .

لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.

سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.

سيّدي أبا الرضا:

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 504).

(2) حياة الإمام موسى 2 / 514 - 515.

٨٧

لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.

تحقيق الشرطة في الحادث:

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).

( نعم )...

( ليس هنا إلاّ الخير... ).

( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).

( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..

( لا ).

( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).

( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).

هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).

( نعم ).

ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،

٨٨

أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:

( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).

( نعم ).

ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(1) .

كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(2). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.

وضعه على الجسر:

ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:

مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقىً على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً

لم يشيّعه للقبور موحّد

حملوه وللحديد برجليه هزيج

له الأهاضيب تنهد(3)

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521.

٨٩

النداء الفظيع:

يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(1) .

قيام سليمان بتجهيز الإمام:

وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).

فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).

وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:

( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(2) .

وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.

وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:

( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر.

٩٠

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(1) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:

قد قلت للرجل المولّى غسله

هلاّ أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسّله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحّها

عنه وحنّطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله

كرماً ألست تراهم بإزائه

لا توه أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه(2)

وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.

وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

تقلّد الإمام الرضا للزعامة الكبرى:

وتقلّد الإمام الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.

____________________

(1) الأنوار البهية (ص 99).

(2) الإتحاف بحب الأشراف (ص 57).

٩١

سفره إلى البصرة:

وبعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام سافر الإمام الرضاعليه‌السلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).

وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).

سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).

فقالعليه‌السلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).

وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).

( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).

وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك

٩٢

الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.

وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).

وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).

فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.

والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).

ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).

ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).

وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة عيسى

٩٣

بمحمد؟... ).

وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).

فأخذ الإمامعليه‌السلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).

قال الجاثليق: ( صفه ).

وأخذ الإمامعليه‌السلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).

وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).

وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليه‌السلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطفقا قائلين:

٩٤

( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).

وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).

وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).

( بل صدق وعدل... ).

وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).

قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).

وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).

( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).

٩٥

وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).

ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).

وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليه‌السلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).

فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).

والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).

وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).

والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليه‌السلام بالإمامة، وطلبعليه‌السلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه

٩٦

ومضى إلى المدينة المنوّرة(1) .

سفره إلى الكوفة:

وغادر الإمامعليه‌السلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).

فقالوا جميعاً: ( نعم ).

فقالعليه‌السلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).

وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )

فقالعليه‌السلام :

( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(2) .

وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام

____________________

(1) البحار 12 / 21 - 23، بتصرف نقلنا الخبر.

(2) البحار 12 / 23، نقلنا الحديث بتصرف.

٩٧

عليه‌السلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.

٩٨

٩٩

مناظراته واحتجاجاته

واتسم عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.

ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.

ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363