النص والاجتهاد

النص والاجتهاد0%

النص والاجتهاد مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 629

النص والاجتهاد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي
تصنيف: الصفحات: 629
المشاهدات: 148373
تحميل: 6089

توضيحات:

النص والاجتهاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 629 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148373 / تحميل: 6089
الحجم الحجم الحجم
النص والاجتهاد

النص والاجتهاد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فيه الناس: ولم يهاجر حتى مات في مكة(١) والله يعلم بواطنه(٣٠٧) . على أن لرسول الله كلمة قالها لثلاثة: أبي محذورة، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، حيث أنذرهم بقوله آخركم موتا في النار(٣٠٨) .

وهذا أسلوب حكيم من أساليبهصلى‌الله‌عليه‌وآله في إقصاء المنافقين عن التصرف في شؤون الإسلام والمسلمين، فانهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما كان عالما بسوء بواطن هؤلاء الثلاثة أراد أن يشرب في قلوب أمته الريب فيهم، والنفرة منهم، إشفاقا عليها ان تركن إلى واحد منهم في شئ مما يناط بعدول المؤمنين وثقاتهم، فنص بالنار على واحد منهم وهو آخرهم موتا، لكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أجمل القول فيه على وجه جعله دائرا بين الثلاثة على السواء، ثم لم يتبع هذا الإجمال بشئ من البيان وتمضي الأيام والليالي على ذلك، ويلحقصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى ولا بيان، فيضطر أولى الألباب من أمته إلى إقصائهم جميعا عن كل أمر يناط بالعدول والثقات من الحقوق المدنية في دين الإسلام، لاقتضاء العلم الإجمالي ذلك بحكم القاعدة العقلية في الشبهات المحصورة، فلولا أنهم في وجوب الإقصاء على السواء لاستحال عليه - وهو سيد الحكماء - عدم البيان في مثل هذا المقام.

فان قلت: لعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين هذا الإجمال بقرينة خفيت علينا بتطاول المدة.

____________________

(١) كل ما نقلناه هنا عن أبى محذورة موجود في ترجمته من الاستيعاب بهامش الإصابة وغيرها وهو مما لا خلاف فيه (منه قدس).

(٣٠٧) الاستيعاب بهامش الإصابة ج ٤ / ١٧٩ ط ١.

(٣٠٨) كما في ترجمة سمرة من الاستيعاب والإصابة وغيرهما (منه قدس). الإصابة ج ٢ / ٧٩، الاستيعاب لابن عبد البر بهامش الإصابة ج ٢ / ٧٨ (*).

٢٤١

قلنا: لو كان ثمة قرينة ما كان كلا من هؤلاء الثلاثة في الوجل من هذا الإنذار على السواء(١) . على انه لا فرق في هذه المشكلة بين عدم البيان واختفائه بعد صدوره لاتحاد النتيجة فيهما بالنسبة الينا، إذ لا مندوحة لنا عن العمل بما يوجبه العلم الإجمالي من تنجيز التكليف في الشبهة المحصورة على كلا الفرضين.

فان قلت: انما كان المنصوص عليه بالنار منهم مجملا قبل موت الأول والثاني ولسبقهما إلى الموت تبين وتعين أنه انما هو الباقي بعدهما بعينه دون سابقيه وحينئذ لا إجمال ولا إشكال.

قلنا. أولا: أن الأنبياءعليهم‌السلام كما يمتنع عليهم ترك البيان مع الحاجة إليه يستحيل عليهم تأخيره عن وقت الحاجة، ووقت الحاجة هنا متصل بصدور هذا الإنذار لو كان لواحد من الثلاثة شئ من الاعتبار، لأنهم منذ أسلموا كانوا محل ابتلاء المسلمين في الحقوق المدنية شرعا كالإمامة في الصلاة جماعة، وقبول الشهادة في المرافعات الشرعية ونحوها، وكالإفتاء و القضاء، مع استجماعهم لشروطهما، ونحو ذلك مما يشترط فيه العدالة والورع فلولا وجوب إقصائهم عنها ما أخرصلى‌الله‌عليه‌وآله البيان اتكالا على صروف الزمان، وحاشا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقصي أحدا عن حقه طرفة عين، ومعاذ الله أن يخزي من لا يستحق الخزي ثم يبقيه على خزيه حتى يموت مخزيا إذ لا نعرف براءته - بناء على هذا الفرض الفاسد - إلا بتقدم موته.

وثانيا: أنا (شهد الله) بذلنا الطاقة بحثا وتنقيبا فلم يكن بالوسع ان نعلم أيهم المتأخر موتا، لان الأقوال في تاريخ وفياتهم بين متناقض متساقط(٢) وبين

____________________

(١) كما يعلمه متتبعوا شؤونهم حول هذا الوعيد (منه قدس).

(٢) أما تناقضها فلان بعضها نص بموت سمرة سنة ثمان وخمسين وموت أبى هريرة =>

٢٤٢

مجمل متشابه لا يركن إليه كما يعلمه المتتبعون(٣٠٩) .

وثالثا: لم يكن من خلق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وهو العزيز عليه عنت المؤمنين الحريص عليهم الرؤوف بهم الرحيم لهم - أن يجابه بهذا القول من يحترمه وما كان (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(٣١٠) ليفاجئ به غير مستحقه، ولو أن في واحد من هؤلاء الثلاثة خيرا ما أشركه في هذه المفاجئة القاسية، والمجابهة الغليظة، لكن اضطره الوحي إلى ذلك نصحا لله تعالى وللأمة( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ) (٣١١) .

[ تنبيه ]

ان من عرف رأي اخواننا - من أهل المذاهب الأربعة - في بدء الأذان والإقامة واشتراعها لا يعجب من استسلامهم للزيادة فيهما أو للنقيصة منهما، فانهم - هدانا الله وإياهم - لا يرون أن الأذان والإقامة مما شرعه الله تعالى بوحيه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا مما ابتدأ به النبي صادعا به عن الله عزوجل كسائر النظم والأحكام، وانما كان طيف رآه بعض الصحابة في المنام كما صرحوا به

____________________

=> سنة تسع وخمسين وهذا منقوض بالقول بأن موت أبى هريرة كان سنة سبع وخمسين وهكذا بقية الأقوال في موت الثلاثة. وأما المجمل المتشابه منها فكالقول بموت الثلاثة كلهم في سنة تسع وخمسين، من غير بيان الساعة واليوم والشهر الذي وقع فيه الموت (منه قدس).

(٣٠٩) راجع: شيخ المضير أبو هريرة ط ٣، أبو هريرة لشرف الدين.

(٣١٠) مضمون الآية الكريمة "( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) " القلم: ٤.

(٣١١) لهذا الكلام بقية فلتراجع في خاتمة كتابنا (أبو هريرة) (منه قدس). سورة النجم آية: ٣ وراجع: كتاب " أبو هريرة " لشرف الدين. (*)

٢٤٣

ونقلوا الإجماع عليه ورووا فيه أحاديث صححوها وادعوا تواترها(٣١٢) .

واليك منها ما هو من أصحها عندهم، فعن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، قال: اهتم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: أنصب راية فإذا رأوها أذن بعضهم فلم يعجبه ذلك فذكروا له القبع - يعني الشبور شبور اليهود - فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، فذكروا له الناقوس، فقال هو من أمر النصارى - وكأنه كرهه أولا ثم أمر به فعمل من خشب - فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأري الأذان في منامه.

قال: فغدا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره فقال له: يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما، ثم خبر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: ما منعك ان تخبرني ؟ فقال سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله، قال: فأذن بلال. (الحديث)(٣١٣)

____________________

(٣١٢) راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم ص ٨١، عن سنن أبى داود ج ١ / ٣٣٥ - ٣٣٨، المصنف لعبد الرزاق ج ١ / ٤٥٥ - ٤٦٥، السيرة الحلبية ج ٢ / ٩٣ - ٩٧، تاريخ الخميس ج ١ / ٣٥٩، الموطأ ج ١ وشرحه للزرقاني ج ١ / ١٢٠ - ١٢٥، صحيح الترمذي ج ١ / ٣٥٨ - ٣٦١، مسند أحمد ج ٤ / ٤٢، سنن ابن ماجة ج ١ / ١٢٤، سنن البيهقي ج ١ / ٣٩٠، سيرة ابن هشام ج ٢ / ١٥٤ و ١٥٥ و ١٢٥، نصب الراية ج ١ / ٢٥٩ - ٢٦١، فتح الباري ج ٢ / ٦٣ - ٦٦، الطبقات لابن سعد ج ١ قسم ٢ ص ٨، البداية والنهاية ج ٣ / ٢٣٢ - ٢٣٣ المواهب اللدنية ج ١ / ٧١، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٣ / ٢٧٣ و ٢٧٥، تبيين الحقائق للزيلعي ج ١ / ٩٠، الروض الانف ج ٢ / ٢٨٥ - ٢٨٦، حياة الصحابة ج ٣ / ١٣١، كنز العمال ج ٤ / ٢٦٣، سنن الدارقطني ج ١ / ٢٤١ و ٢٤٢ و ٢٤٥ وغير ذلك من مصادر.

(٣١٣) أخرجه أبو داود في باب بدء الأذان من الجزء الأول من سننه، ورواه غير =>

٢٤٤

وعن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري عن أبيه عبد الله بن زيد قال: لما أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمعهم للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت له: أتبيع هذا الناقوس ؟ قال: وما تصنع به ؟ فقلت: ندعوا به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ؟ فقلت: بلى. فقال: تقول الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، أشهد أن لا اله إلا الله، أشهد أن لا اله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله اكبر، الله اكبر، لا اله الله(١) .

قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا اله إلا الله أشهد أن لا اله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، لا اله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته بما رأيت، فقال: انها لرؤيا حق ان شاء الله تعالى، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به أندى صوتا منك، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول

____________________

=> واحد من أصحاب السنن والمسانيد وأرسله أهل السير والأخبار منهم إرسال المسلمات فراجع (منه قدس). راجع: سنن أبى داود ج ١ / ١٩٤ ط السعادة، كنز العمال.

(١) هذا الأذان كان - بزعم المحدثين به عن عبد الله بن زيد - أول أذان في الإسلام وهو كما تراه ليس فيه (الصلاة خير من النوم) مع كونه انما كان لصلاة الفجر فمن أين جاء هذا الفصل يا مسلمون ؟ ! (منه قدس) (*).

٢٤٥

الله لقد رأيت مثل ما رأى. (الحديث)(٣١٤) .

واختصره الإمام مالك في ما جاء في النداء للصلاة من موطأه، فحدث عن يحيى بن سعيد أنه قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يتخذ خشبتين(١) . يضرب بهما ليجمع الناس للصلاة فأري عبد الله بن زيد الأنصاري من بني الحارث بن الخزرج خشبتين في النوم، فقال: ان هاتين الخشبتين لنحو مما يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجمع به الناس للصلاة، فقيل له: ألا تؤذنون للصلاة ؟ وأسمعه الأذان، فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله بالأذان: انتهى ما في الموطأ مختصرا مرسلا(٣١٥) .

وقال الإمام ابن عبد البر: روى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة، ومعان متقاربة، والاسانيد في ذلك متواترة

____________________

(٣١٤) أخرجه أبو داود السجستاني في باب كيف الأذان من سننه، والترمذي في صحيحه وقال: حسن صحيح، ورواه كل من ابن حيان وابن خزيمة وصححاه وابن ماجة في باب بدء الأذان من سننه وغير واحد من أصحاب السنن والأخبار (منه قدس). راجع: سنن أبى داود ج ١ / ١٩٥ ط السعادة، صحيح الترمذي، سنن ابن ماجة ج ١ / ٢٣٢ ح ٧٠٦، الطبقات لابن سعد ج ١ / ٢٤٦ ونقله العلامة في تذكرة الفقهاء ج ١ / ١٠٤ ط قديم.

(١) قال الزرقاني في تعليقه على هذا الحديث من شرحه للموطأ: هما الناقوس وهى خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت (قال) كما في الفتح وغيره. قلت: وللزرقاني هنا (حول حديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة) كلام ألفت إليه الباحثين فليراجعوه في ص ١٢٠ إلى منتهى ص ١٢٥ من الجزء الأول من شرح الموطأ (منه قدس).

(٣١٥) والتفصيل في شرح الزرقاني فليراجع (منه قدس). راجع: موطأ مالك ص ٥٥ ح ١٤٤ وفى طبع محمد فؤاد عبدا لباقي ج ١ / ٦٧ (*).

٢٤٦

وهي من وجوه حسان(٣١٦) . هذا كلامه بلفظه(١) .

قلت. في ثبوت هذه الأحاديث نظر من وجوه: (أحدها) ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ليؤآمر الناس في اشتراع الشرائع الإلهية، وانما كان يتبع فيها الوحي( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (٢) .

والأنبياء كلهم صلوات الله وسلامه عليهم لا يؤآمرون أممهم فيما يشترعون( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٣)

وحسبنا قوله عزوجل لعبده وخاتم رسله:( قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٤)

( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (٥) .

( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) (٦) .

وقد حظر، عز سلطانه، عليه العجل ولو بحركة اللسان فقال جل وعلا:( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٧) .

و أثنى جل ثناؤه على قول رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال وهو أصدق القائلين:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ

____________________

(٣١٦) الطبقات لابن سعد ج ١ / ٢٤٦ وغيره.

(١) نقله الزرقاني عنه فيما تقدمت الإشارة إليه من شرح الموطأ (منه قدس).

(٢) الآية - ٣ و ٤ و ٥ - من سورة النجم.

(٣) الآية - ٢٦ و ٢٧ - من سورة الأنبياء.

(٤) في آخر سورة الأعراف آية: ٤٠٢.

(٥) الآية - ١٥ - من سورة يونس.

(٦) الآية - ٩ - من سورة الأحقاف.

(٧) الآية - ١٦ - ١٩ - من سورة القيامة. (*)

٢٤٧

تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (١) ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ) (٢) .

(ثانيهما) ان الشورى المذكورة في هذه الأحاديث لمما يحكم العقل مستقلا بعدم اعتبارها في تشريع الشرائع الإلهية فالعقل بمجرده يحيل وقوعها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهل رأي الناس فيها الا تقول محض على الله تعالى ؟( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (٣)

نعم كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتألف أصحابه بمشورتهم في أمور الدنيا، كلقاء العدو ومكائد الحرب ونحوها عملا بقوله تعالى:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (٤) .

وفي مثل ذلك يجوز عليه أن يتألفهم بمشاورتهم فيها مع استغنائه بالوحي عن آرائهم، لكن شرائع الدين لا يجوز فيها عليه الا اتباع الوحي المبين.

(ثالثها) ان هذه الأحاديث تضمنت من حيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مالا يجوز على مثله من المتصلين بالله عزوجل، حتى مثلته وقد ضاق في أمره ذرعا فاحتاج إلى مشورة الناس، وأنه كره الناقوس أولا، ثم أمر به بعد تلك الكراهة، وأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن أمر به عدل عنه إلى ما اقتضته رؤيا عبد الله بن زيد، وان عدوله عن الناقوس كان قبل حضور وقت العمل به.

وهذا من البداء المستحيل على الله تعالى وعلى موضع رسالته، ومختلف ملائكته، ومهبط وحيه وتنزيله، وسيد

____________________

(١) الآية - ٤٠ - ٤٣ - من سورة الحاقة.

(٢) الآية - ١٩ - ٢٢ - من سورة التكوير.

(٣) الآية ٤٤ إلى ٤٧ من سورة الحاقة.

(٤) من الآية ١٥٩ من سورة آل عمران. (*)

٢٤٨

أنبيائه وخاتم رسله. على أن رؤيا غير الأنبياء لا يبتني عليها شئ من الأشياء بإجماع الأمة(٣١٧) .

(رابعها) ان في أحاديثهم هذه من التعارض ما يوجب سقوطها، وحسبك منها الحديثان اللذان أوردناهما آنفا - حديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، وحديث محمد ابن عبد الله بن زيد عن أبيه -(٣١٨) فأمعن فيما يتعلق منهما برؤيا عمر تجد التعارض بينا بأجلى مظاهره.

وأيضا فان هذين الحديثين المشار اليهما يقصران الرؤيا على ابن زيد وابن الخطاب، لكن حديث الرؤيا للطبراني في الأوسط(٣١٩) صريح في صدورها من أبي بكر أيضا، وهناك من أحاديثهم ما هو صريح بأن تلك الرؤيا كانت من أربعة عشر رجلا من الصحابة، كما في شرح التنبيه للجبيلي، وروي ان الرائين تلك الليلة كانوا سبعة عشر من الأنصار، وعمر وحده من المهاجرين وفي رواية أن بلالا ممن رأى الأذان أيضا وثمة متناقضات في هذا الموضوع أورد الحلبي منها ما يورث العجب العجاب، وحاول الجمع بينها فحبط عمله(٣٢٠) .

____________________

(٣١٧) تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي ج ١ / ١٠٤ و ١٠٥ ط قديم، فتح الباري ج ٢ / ٦٢.

(٣١٨) قد تقدم الحديثان تحت رقم (٣٠٤ و ٣٠٥) فراجع وراجع أيضا: الصحيح من سيرة النبي ج ٣ / ٨١.

(٣١٩) المعجم الأوسط للطبراني مخطوط، الصحيح من سيرة النبي ج ٣ / ٨١.

(٣٢٠) فلتراجع في باب بدء الأذان ومشروعيته من الجزء الثاني من سيرته الحلبية، فان هناك ما يوجب العجب والاستغراب (منه قدس). السيرة الحلبية ج ٢ / ٢٩٦ وما بعدها، الصحيح من سيرة النبي ج ٣ / ٨٢ (*).

٢٤٩

إذ قال يجمع شملا غير مجتمع

منها ويجبر كسرا غير منجبر

(خامسها) أن الشيخين - البخاري ومسلما - قد أهملا هذه الرؤية بالمرة فلم يخرجاها في صحيحيهما أصلا، لا عن ابن زيد، ولا عن ابن الخطاب، ولا عن غيرهما، وما ذاك الا لعدم ثبوتها عندهما. نعم أخرجا في باب بدء الأذان من صحيحيهما عن ابن عمر، قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوما في ذلك. فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل بوق اليهود. فقال عمر: ألا تبعثون رجلا ينادي للصلاة ؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا بلال قم فناد الصلاة. فنادى بالصلاة .آه(٣٢١)

هذا كل ما في صحيحي البخاري ومسلم مما يتعلق ببدء الأذان ومشروعيته وقد اتفق الشيخان على إخراجه كما اتفقا على إهمال ما عداه مما يتعلق بهذا الموضوع، وكفى به معارضا لما رووه من أحاديث الرؤيا كلها، لان مقتضى هذا الحديث ان بدء الأذان انما كان برأي عمر لا برؤياه، ولا برؤيا عبد الله بن زيد ولا غيرهما، ومقتضى تلك ان بدأه وبدء الإقامة إنما كان بالرؤيا التي سبق فيها عبد الله بن زيد، عمر بن الخطاب: ولذلك يدعى عندهم برائي الأذان وربما قالوا صاحب الأذان.

وأيضا فان حديث الشيخين هذا صريح في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انما أمر بلالا - بالنداء للصلاة - في مجلس التشاور، وعمر حاضر عند صدور الأمر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتلك الأحاديث أحاديث الرؤيا كلها - صريحة بأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله انما أمر بلالا بالنداء عند الفجر إذ قص ابن زيد عليه رؤياه، وذلك

____________________

(٣٢١) صحيح مسلم ك الصلاة باب بدء الأذان ج ٢ / ٢ ط العامرة. (*)

٢٥٠

بعد الشورى بليلة في اقل ما يتصور ولم يكن عمر حينئذ حاضرا وانما سمع الأذان وهو في بيته فخرج آنذاك يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى. بجدك قل لي هل يمكن الجمع بين هذا وتلك ؟ كلا.

وشرف الإنصاف، وعلو الحق. وعزة ربنا عز سلطانه. على أن الحاكم قد أهمل أحاديث رؤيا الأذان والإقامة، فلم يرو في مستدركه منها شيئا أصلا، كما أهملها الشيخان فلم يرويا في الصحيحين شيئا منها بالمرة، هذا مما يلمسك سقوطها عن درجة الصحة عندهما، وذلك لان الحاكم قد اخذ على نفسه ان يستدرك عليهما كل ما لم يخرجاه في صحيحيهما من السنن الصحاح من شرطهما، وقد قام في مستدركه بما أخذه على نفسه أتم قيام، وحيث - أنه مع ذلك كله - لم يخرج من أحاديث الرؤيا في المستدرك شيئا، علمنا انه لم يثبت منها على شرط الشيخين شئ لا في صحيحيهما ولا في غير الصحيحين كما لا يخفى.

وللحاكم هنا كلمة تفيد جزمه ببطلان أحاديث الرؤيا وأنها كأضاليل ألا وهي قوله: وانما ترك الشيخان حديث عبد الله بن زيد في الأذان والرؤيا لتقدم موت عبد الله. قلت: هذا لفظه بعينه(١) .

ويؤيد ذلك أن ابتداء الأذان عند الجمهور انما كان بعد وقعة احد.

وقد اخرج أبو نعيم في ترجمة عمر بن عبد العزيز من كتاب حلية الأولياء بسند صحيح(٢) عن عبد الله العميري، قال: دخلت ابنة عبد الله بن زيد بن ثعلبة

____________________

(١) فراجعه في باب رد الصدقة ميراثا، من كتاب الفرائض ص ٣٤٨ من جزئه الرابع (منه قدس).

(٢) صرح بصحته ابن حجر العسقلاني إذ نقله عن الحلية في ترجمة عبد الله بن زيد الأنصاري في اصابته فراجع (منه قدس).

٢٥١

على عمر بن عبد العزيز فقالت له: أنا ابنة عبد الله ابن زيد شهد أبي بدرا وقتل بأحد، فقال سلي ما شئت فأعطاها(٣٢٢) . قلت: لو كان عبد الله بن زيد كما يقولون أنه رأى الأذان لذكرت ابنته ذلك عنه كما نقلت حضوره بدرا وشهادته في احد كما لا يخفى.

(سادسها) ان الله عزوجل حظر على الذين آمنوا ان يتقدموا بين يدي الله ورسوله وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وأنذرهم بحبوط أعمالهم الصالحة إذا ارتكبوا شيئا من ذلك فقال عز من قائل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (٣٢٣) (الآيات).

وكان سبب نزولها أن قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ركب من بني تميم يسألونه أن يؤمر عليهم رجلا منهم، فقال أبو بكر - فيما أخرجه البخاري في تفسير الحجرات من الجزء الثالث من صحيحه ص ١٢٧ يا رسول الله أمر عليهم القعقاع بن معبد متقدما بقوله هذا ومبادرا برأيه، فقال عمر على الفور من قول صاحبه: بل أمر الافرع بن حابس اخا بني مجاشع يا رسول الله فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وتماريا جدالا وخصومة، وارتفعت أصواتها في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآيات الحكيمة بسبب تسرعهما في الرأي، وتقدمهما فيه بين يدي رسول الله ورفع أصواتهما فوق صوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣٢٤) .

____________________

(٣٢٢) حلية الأولياء ج، الإصابة لابن حجر ج ٢ / ٣١٢ ط ١.

(٣٢٣) سورة الحجرات آية: ١ - ٢.

(٣٢٤) صحيح البخاري، تفسير القرطبي ج ١٦ / ٣٠٠. (*)

٢٥٢

خاطب المؤمنين كافة بهذه الآيات لتكون قانونهم المتبع وجوبا في آدابهم وأخلاقهم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذه الآيات كلها كما تراها قد منعت كل مؤمن ومؤمنة عن كل افتئات على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكل اقدام على أمر بين يديه، فان معنى قوله تعالى:( لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) ان لا تفتئتوا عندهما برأي ما حتى يقضي الله على لسان نبيه ما شاء، وكأن المقترحين المتقدمين بين يديه كانا قد جعلا لانفسهما وزنا ومقدارا ومدخلا في الشؤون العامة، فنبه الله المؤمنين على خطأهما فيما رأياه، وأوقفهما على حدهما الذي يجب أن يقفا عليه.

وقوله تعالى:( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) نهى عن القول المشعر بأن لهم مدخلا في الأمور، أو وزنا عند الله ورسوله، لان من رفع صوته فوق صوت غيره فقد جعل لنفسه اعتبارا خاصا، وصلاحية خاصة، وهذا مما لا يجوز ولا يحسن من أحد عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن أمعن في قوله تعالى:( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، وقوله عز من قائل:( أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) علم الحقيقة بكنهها.

ومن علم ان الله ما أقر أبا بكر الصديق وعمر الفاروق على تقدمهما بين يدي الله ورسوله لا يقران الناس على تشاورهم في اشتراع شرائعه، ونظمه وأحكامه، بطريق أحق لو كان قومنا يعلمون.

(سابعها) أن الأذان والإقامة من معدن الفرائض اليومية نفسه، فمنشئها هو منشئ الفرائض نفسه، بحكم كل نسابة للألفاظ والمعاني، خبير بأساليب العظماء وأهدافهم، وانهما لمن أعظم شعائر الله عزوجل، امتازت بهما الملة الإسلامية على سائر الملل والأديان، إذ جاءت آخرا ففاقت مفاخرا فليمعن معي الممعنون من أولي الألباب بما في فصولهما من بلاغة القول وفصاحته ،

٢٥٣

وفخامة المعاني وسموها، وشرف الأهداف، وإعلان الحق بكل صراحة - الله أكبر، أشهد أن لا اله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله - مع الدعوة إليه بكل ترغيب فيه، وكل ثناء عليه. حي على الصلاة حي على الفلاح، حي على خير العمل، لا تأخذ الداعي لومة لائم ولا سطوة مخالف غاشم.

تلك دعوة حية - كما قال عنها بعض الإعلام - كأنما تجد الإصغاء والتلبية من عالم الحياة بأسرها، وكأنما يبدأ الإنسان في الصلاة من ساعة مسراها إلى سمعه، ويتصل بعالم الغيب من ساعة إصغائه إليها.

دعوة تلتقي فيها الأرض والسماء، ويمتزج فيها خشوع المخلوق بعظمة الخالق، وتعيد الحقيقة الأبدية إلى الخواطر البشرية في كل موعد من مواعيد الصلاة، كأنها نبأ جديد. الله أكبر الله أكبر - لا اله إلا الله لا اله إلا الله -.

تلك هي دعوة الأذان التي يدعو بها المسلمون إلى الصلاة، وتلك هي الدعوة الحية التي تنطق بالحقيقة الخالدة ولا تومي إليها، وتلك هي الحقيقة البسيطة غاية البساطة، العجيبة غاية العجب، لأنها أغنى الحقائق عن التكرار في الأبد إلا بيد، وأحوج الحقائق إلى التكرار بين شواغل الدنيا وعوارض الفناء.

المسلم في صلاة منذ يسمعها تدعوه للصلاة، لأنه يذكر بها عظمة الله، وهي لب لباب الصلوات. وتنفرج عنها هدأة الليل فكأنها ظاهرة من ظواهر الطبيعية الحية تلبيها الأسماع والأرواح وينصت لها الطير والشجر، ويخف لها الماء والهواء، وتبرز الدنيا كلها بروز التأمين والاستجابة منذ تسمع هتفة الداعي الذي يهتف

٢٥٤

بها. إلى آخر كلامه(١) .

وبالجملة فان الأذان والإقامة لمما لا يأتي به البشر ولو اجتمعوا له، فنعوذ بالله من مخ الحقائق الناصعة ولاسيما إذا كانت من شرائع الله السائغة، وآياته البالغة.

(ثامنها) ان سنهم في بدء الأذان والإقامة كلها يناقض المأثور الثابت عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا وزن عندنا لما خالف الثابت عنهم من رأي أو رواية مطلقا.

ففي باب الأذان والإقامة من كتاب وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة بالسند الصحيح عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام ، قال: لما هبط جبرائيل على رسول الله بالأذان أذن جبرئيل وأقام، وعندها أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليا ان يدعو له بلالا فدعاه فعلمه رسول الله الأذان وأمره به، وهذا ما رواه كل من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، والصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، وشيخ الإمامية محمد بن الحسن الطوسي، وناهيك بهؤلاء صدقا وورعا(٣٢٥)

وروى شيخنا الشهيد السعيد محمد بن مكي في كتابه (الذكرى) ان الصادق - الإمام جعفر بن محمد الباقر - ذم قوما زعموا ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد الأنصاري، فقال: ينزل الوحي به على نبيكم فتزعمون

____________________

(١) فراجعه في ص ١٣٦ إلى ص ١٤٢ من كتاب - داعى السماء - لكاتب الشرق الأستاذ العقاد (منه قدس).

(٣٢٥) الأذان بوحي من الله: ونص الرواية هي: عن أبى عبد اللهعليه‌السلام قال: لما هبط جبرئيلعليه‌السلام بالأذان على رسول الله كان رأسه في حجر علىعليه‌السلام فأذن جبرئيل وأقام، فلما انتبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا على سمعت ؟ قال: نعم. قال: حفظت ؟ قال: نعم، قال: ادع لي بلالا نعلمه فدعا علىعليه‌السلام بلالا فعلمه " =>

٢٥٥

انه أخذه عن عبد الله بن زيد !(٣٢٦) .

وعن أبي العلاء - كما في السيرة الحلبية - قال: قلت لمحمد بن الحنفية انا لنتحدث أن بدء الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، قال: ففزع ذلك محمد بن الحنفية فزعا شديدا.

وقال عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعتم انه كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام، قال: فقلت له هذا الحديث قد استفاض في الناس، قال: هذا والله هو الباطل. إلى آخر كلامه(٣٢٧) .

وعن سفيان بن الليل، قال: لما كان من الحسن بن علي ما كان قدمت عليه المدينة قال: فتذاكروا عنده الأذان، فقال بعضنا انما كان بدء الأذان، برؤيا عبد الله بن زيد فقال له الحسن بن علي: ان شأن الأذان أعظم من ذلك، أذن جبرائيل في السماء مثنى مثنى وعلمه رسول الله، وأقام مرة مرة فعلمه رسول الله. (الحديث)(١) .

وعن هارون بن سعد عن الشهيد زيد بن الإمام علي بن الحسين عن آبائه

____________________

=> راجع: وسائل الشيعة للحر العاملي ك الصلاة باب ١ من أبواب الأذان والإقامة. الكافي لثقة الإسلام الكليني المتوفى ٣٢٨ أو ٣٢٩ ه‍ ج ٣ / ٣٠٢، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق المتوفى ٣٨١ ه‍ ج ١ / ٢٨٢ ح ٨٦٥، التهذيب للشيخ الطوسي المتوفى ٤٦٠ ه‍ ج ٢ / ٢٧٧ ح ٢٦٤٠، جامع أحاديث الشيعة ج ٤ / ٦٢٢.

(٣٢٦) الذكرى للشهيد الأول ص ١٦، جامع أحاديث الشيعة ج ٤ / ٦٢٣، البحار ج ١٨ / ٣٥٤، علل الشرايع ص ١١٢، الكافي ج ٣ /، الجواهر ج ٩ ص ٨.

(٣٢٧) السيرة الحلبية ج ٢ / ٣٠٠ ط مصطفى الحلبي وفى طبع آخر ج ٢ / ٩٦.

(١) أخرجه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة من المستدرك ص ١٧١ من جزئه الثالث (منه قدس) (*).

٢٥٦

عن علي: أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علم الأذان ليلة أسري به وفرضت عليه الصلاة(٣٢٨) .

النص والاجتهاد - السيد شرف الدين ص ٢٣٨: -

[ المورد - (٢٤) -: إسقاط " حي على خير العمل " من الأذان الإقامة ]

وذلك ان هذا الفصل كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جزءا من الأذان ومن الإقامة(٣٢٩) لكن أولي الأمر على عهد الخليفة الثاني كانوا يحرصون على

____________________

(٣٢٨) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، وابن مردويه فيما نقله المتقى الهندي ص ٢٧٧ من الجزء السادس من كنز العمال وهو الحديث ٣٩٧ من أحاديث الكنز (منه قدس).

من يقول ان الأذان كان بالوحي: الصحيح من سيرة النبي ج ٣ / ٨٤ نقله عن كل من الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وابن عمر والإمام الباقر وعايشة. راجع: منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٣ / ٢٧٣، السيرة الحلبية ج ١ / ٣٧٣ وج ٢ / ٩٣ و ٩٥، مجمع الزوائد ج ١ / ٣٢٩، نصب الراية ج ١ / ٢٦٢ و ٢٦٠، والمواهب اللدنية ج ١ / ٧١، فتح الباري ج ٢ / ٦٣، الروض الانف ج ٢ / ٢٨٥ و ٢٨٦ البداية والنهاية ج ٣ / ٢٣٣.

(٣٢٩) " حي على خير العمل " كان في الأذان على عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : وبه قالت الإمامية بل عندهم اجماعي كما عن السيد المرتضى في الانتصار ص ٣٩ الجواهر ج ٩ ص ٨١ وغيرهما، بل اعترف به غيرهم: راجع: سنن البيهقي ج ١ / ٥٢٤ - ٥٢٥، السيرة الحلبية ج ٢ / ١٠٥ ط ١٣٨٢ ه‍ سعد السعود ص ١٠٠، مقاتل الطالبيين ص ٢٩٧، جامع أحاديث الشيعة ج ٤ / ٦٨٥ - ٦٨٦، البحار ج ٨٤ / ١٠٧، جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار ج ٢ / ٢٩١ و ١٩٢، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٥ / ٢٨٣، ميزان الاعتدال للذهبي ج ١ / ١٣٩، لسان الميزان ج ١ / ٢٦٨، نيل الاوطار للشوكاني ج ٢ / ٣٢، دعائم الإسلام ج ١ / ٤٥، البحار ج ٨٤ / ١٧٩، الروض النضير ج ١ / ٥٤٢ و ج ٢ / ٤٢، منتخب =>

٢٥٧

أن تفهم العامة ان خير العمل انما هو الجهاد في سبيل الله ليندفعوا إليه، وتعكف هممهم عليه، ورأوا أن النداء على الصلاة بخير العمل مقدمة لفرائضها الخمس ينافي ذلك(٣٣٠) .

بل أوجسوا خيفة من بقاء هذا الفصل في الأذان والإقامة ان يكون سببا في تنشيط العامة عن الجهاد، إذ لو عرف الناس ان الصلاة خير من العمل مع ما فيها من الدعة والسلامة لاقتصروا في ابتغاء الثواب عليها وأعرضوا عن خطر الجهاد المفضول بالنسبة إليها.

وكانت همم أولي الأمر يومئذ منصرفة إلى نشر الدعوة الإسلامية، وفتح المشارق والمغارب. وفتح الممالك لا يكون الا بتشويق الجند إلى التورط في سبيله بالمهالك بحيث يشربون في قلوبهم الجهاد، حتى يعتقدون انه خير عمل يرجونه يوم المعاد.

____________________

=> كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٣ / ٢٧٦، كنز العمال ج ٤ / ٢٦٦، دلائل الصدق ج ٣ / ٩٩ و ١٠٠ عن مبادئ الفقه الإسلامي للعرفي ص ٣٨، سيرة المصطفى للسيد هاشم معروف ص ٢٧٤.

(٣٣٠) السبب في حذف " حي على خير العمل " من الأذان ؟ عن عكرمة قال: قلت لابن عباس أخبرني لأي شئ حذف من الأذان " حي على خير العمل " قال: أراد عمر أن لا يتكل الناس على الصلاة ويدعوا الجهاد فلذلك حذفها من الأذان. راجع: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ١ / ٢٣٨ عن الإيضاح ص ٢٠١ - ٢٠٢، دعائم الإسلام ج ١ / ١٤٤، البحار ج ٨٤ / ١٥٦ و ١٤٠، علل الشرائع ج ٢ / ٥٦، دلائل الصدق ج ٣ / ١٠٠ عن مبادئ الفقه الإسلامي للعرفي ص ٣٨، الروض النضير ج ٢ / ٤٢ سيرة المصطفى للسيد هاشم معروف ص ٢٧٤، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ٩٧ (*).

٢٥٨

ترجح في نظرهم إسقاط هذا الفصل تقديما لتلك المصلحة على التعبد بما جاء به الشرع الأقدس.

فقال الخليفة الثاني وهو على المنبر - فيما نص عليه القوشجي(١) في أواخر مبحث الإمامة من شرح التجريد، وهو من أئمة المتكلمين على مذهب الأشاعرة -: " ثلاث كن على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل "(٣٣١) .

وتبعه في إسقاطها عامة من تأخر عنه من المسلمين، حاشا أهل البيت ومن

____________________

(١) القوشجى هو علاء الدين على بن محمد ذكره طاش كبرى زاده في كتابه (الشقائق النعمانية) وغير واحد من أصحاب المعاجم فذكروا انه قرأ على علماء سمرقند وأخذ العلوم الرياضية عن المولى الفاضل القاضي زاده الرومي وعلى الأمير الغ بنك، ثم ذهب إلى بلاد كرمان فقرأ على علمائها، ثم عاد إلى سمرقند، ثم أتى القسطنطينية على عهد السلطان محمد خان فأكرمه وأعطاه مدرسة أيا صوفيا ورتب له في كل يوم مائتي درهم، وعين لكل من أولاده وأتباعه منصبا. وله من التصانيف شرح التجريد المشهور بالشرح الجديد في علم الكلام، والرسالة المحمدية في علم الحساب نسبها إلى السلطان محمد خان، والرسالة الفتحية في علم الهيئة سماها بذلك لفتح السلطان محمد خان عراق العجم، وله حاشية على أوائل شرح الكشاف للتفتازانى وقد جمع عشرين متنا في عشرين علما سماه محبوب الحمائل. كان بعض تلامذته يحمله ولا يفارقه.

أما شرحه للتجريد - تجريد الخواجة نصير الدين الطوسي أعلى الله مقامه - فمن أحسن الشروح علما وهو منتشر بطبعه، وتوفى القوشجى في القسطنطينية سنة ٨٧٩ ودفن بجوار أبى أيوب الأنصاري رضي‌ الله‌ عنه ما (منه قدس).

(٣٣١) واعتذر بعد أن أرسله عنه إرسال المسلمات بأنه قد اجتهد في ذلك (منه قدس). راجع: شرح التجريد للقوشجى ط إيران ص ٤٨٤ مبحث الإمامة، كنز العرفان للسيورى ج ٢ / ١٥٨ عن الطبري في المستنير، الغدير ج ٦ / ٢١٣، جواهر الأخبار والآثار ج ٢ / ١٩٢ عن التفتازانى في حاشيته على شرح العضدي، الصراط المستقيم للبياضي ج. (*)

٢٥٩

يرى رأيهم " حي على خير العمل " من شعارهم، كما هو بديهي من مذهبهم، حتى ان شهيد فخ - الحسين بن علي بن الحسن بن أمير المؤمنينعليهم‌السلام - لما ظهر بالمدينة أيام الهادي من ملوك العباسيين، أمر المؤذن أن ينادي بها ففعل. نص على ذلك أبو الفرج الأصبهاني حيث ذكر صاحب فخ ومقتله في كتابه مقاتل الطالبين(٣٣٢) .

وذكر العلامة الحلبي في باب بدء الأذان ومشروعيته ص ١١٠ على الجزء الثاني من سيرته ان ابن عمر (رض) والإمام زين العابدين علي بن الحسينعليهما‌السلام ، كان يقولان في الأذان - بعد حي على الفلاح - حي على خير العمل. آه(٣٣٣) .

____________________

(٣٣٢) وكل من ذكر شهيد فخ - وثورته المبرورة على الظلم والظالمين - نص على ذلك (منه قدس). الذي أمر هو عبد الله بن الحسن وليس الحسين بن على راجع: مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني ص ٤٤٦ وفى طبع الحيدرية ص ٢٩٧، دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج ١ / ٢٣٧ - ٢٣٨.

(٣٣٣) السيرة الحلبية ج ٢ / ٣٠٥ ط مصطفى الحلبي.

القائلون بحي على خير العمل في الأذان من الصحابة والتابعين :

١ - عبد الله بن عمر: سنن البيهقي ج ١ / ٤٢٤ و ٤٢٥، دلائل الصدق ج ٣ / ١٠٠ عن مبادئ الفقه الإسلامي للعرفي ص ٣٨، مصنف عبد الرزاق ج ١ / ٤٦٤ و ٤٦٠، جامع ابن أبى شيبة ج ١ / ١٤٥، الروض النضير ج ١ / ١٩٢، دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج ١ / ٢٣٤، المحلى لابن حزم ج ٣ / ١٦٠، جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة بحر الزخار للصعيدى ج ٢ / ١٩٢، السيرة الحلبية ط ١٣٨٢ ه‍ ج ٢ / ١٠٥، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج ٣ / ٨٩.

٢ - على بن الحسين (ع) =>

٢٦٠