أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 83803
تحميل: 6909

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83803 / تحميل: 6909
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعندما ملك معاوية، جلس عنده عمرو بن العاص يسمران فتذكرا هذه الحادثة. يروي المسعودي(١) :

وجلس مرّة معاوية وعمرو، فضحك معاوية ضحكاً ذهب به كلّ مذهب، قال: ممَّ تضحك يا أمير المؤمنين، أضحك الله سنّك؟ قال: أضحك من حضور ذهنك يوم بارزت عليّاًعليه‌السلام ، وإبدائك سوأتك، أمَا والله، يا عمرو لقد واقعت المنايا، ورأيت الموت عياناً، ولو شاء لقتلك، ولكن أبي بن أبي طالبعليه‌السلام في قتلك تكرماً. فقال عمرو: أمَا والله، إنّي لعن يمينك حين دعاك إلى البراز، فاحولّت عيناك وبدا سحرك، وبدا منك ما أكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك أو دع.

٧ - ولست أرى أدحض لحجّة معاوية وصحبه في خروجهم للطلب بدم عثمان، من كون معاوية ظلّ معانداً لكلّ دعوة للطاعة والدخول في الجماعة بمبايعة الإمام عليعليه‌السلام ، ورافضاً لكلّ محاولة رأب الصدع، ومخذلاً لكل السفارات بينه وبين عليّعليه‌السلام ، ومصمّماً على قتال جيش الإمام مهما أسفرت عن تفاني المسلمين حتّى إذا ما قُتل الإمام وتنازل الحسن بن عليّعليهما‌السلام وآل الملك إلى معاوية، تناسى كلّية طلبه ذاك، وجعل يبذل الوعود ويتهافت في إمضاء العهود على بياض لكلّ من شرط عهداً، على أنْ يُبايع له بالملك.

أرأيت عندما بعث عليّعليه‌السلام رسله شبث بن ربعي وصحبه إلى معاوية؛ لدعوته إلى الله وإلى الطاعة والجماعة، فما كان جواب معاوية إلاّ أنْ قال: ونطلْ - نترك - دم عثمانرضي‌الله‌عنه ، لا والله، لا أفعل ذلك أبداً(٢) .

____________________

(١) المسعودي، مروج الذهب ٣ : ٢٩، بيروت، المكتبة الإسلاميّة.

(٢) الطبري، المرجع السابق ٤ : ٥٧٣.

١٢١

قال له شبث: أيسرّك يا معاوية، أنّك أمكنت من عمّار تقتله؟ فقال له معاوية: وما يمنعني من ذلك، والله، لو أمكنت من ابن سميّة ما قتلته بعثمان، ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان.

فلمّا أنْ تنازل الحسنعليه‌السلام وبلغ معاوية ما أراد، ولمْ يبقَ من ذي شوكة إلاّ قيس بن سعد بن عبادة ومعه أربعون ألفاً من شيعة عليّعليه‌السلام ، الذين كان يطلبهم معاوية بدم عثمان، قطع معاوية على نفسه العهد فوراً بالأمان لهم على ما أصابوه على أنْ يُبايعوه(١) .

وعندما استتبّت الأمور نهائياً لمعاوية وقدم في أوّل زيارة له إلى المدينة، طالبته عائشة بنت عثمان بن عفّان بدم أبيها كما وعد وكما أقسم بالله ألاّ يتركه أبداً، إلاّ أنّه تصنع الحلم، وتذكر ساعتها - وساعتها فقط - حقن دماء المسلمين، وطالبها بالكفّ عن هذا الطلب.

يروي ابن كثير(٢) : فتوجّه إلى دار عثمان بن عفّان، فلمّا دنا إلى باب الدار، صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمَن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإنّ لي حاجة في هذه الدار. فانصرفوا، ودخل مسكن عائشة بنت عثمان، وأمرها بالكفّ، وقال لها: يا بنت أخي، إنّ الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذه بهذا.

وهكذا أُهدر دم عثمان المدّعى، وتناسى المطالبون بالقصاص مطلبهم بمجرّد أنْ ملك معاوية.

____________________

(١) المرجع السابق ٥ : ١٦٤.

(٢) المرجع السابق ٨ : ١٣٥.

١٢٢

أخرج ابن عساكر، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الصحابي: أنّه دخل على معاوية، فقال له معاوية: ألست مَن قتلة عثمان؟ قال: لا، ولكنّي ممّن حضره فلمْ ينصره. قال: وما منعك من نصره؟ قال: لمْ تنصره المهاجرون والأنصار. فقال معاوية: أما لقد كان حقّه واجباً عليهم أنْ ينصروه. قال: فما منعك يا أميرالمؤمنين من نصره ومعك أهل الشام؟ فقال معاوية: أمَا طلبي بدمه نصرة له. فضحك أبو الطفيل ثمّ قال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:

لا ألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زاداً(١)

* * *

قضية خطيرة: الخروج على عليّعليه‌السلام بغي أمْ حرابة؟

هبْ أنّ كلّ الأدلّة السابقة لا تثبت زعمنا، أنّ معاوية وصحبه إنّما سعوا للحرب طلباً للدنيا فقاتلوا عليها حتّى أدركوا الملك فأقاموا دولة بني اُميّة، ولمْ يكن ذلك بحال خلافة عن صاحب الشرع لإقامة الدين.

وهبْ أنّ أسانيد هذه الأدلّة تحتمل الطعن، وأنّ متونها تقبل التأويل، بما لا يُؤدّي بالضرورة إلى النتيجة التي وصلنا إليها.

ولكنّا نسوق الآن دليلاً نعتبره سيّد الأدلة، فليس فيه فُسحة لممار لمزيد، وأمّا المصنف فلن يخالجه أدنى شكّ في صحة ما ذهبنا إليه.

فقد تنبّأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّار بن ياسر: أنْ ستقتله الفئة الباغية. وقد حدث في حرب صفّين - كما رأينا - أنّ عمّاراً كان في فئة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ثمّ قتله أتباع

____________________

(١) السيوطي، تاريخ الخلفاء، المرجع السابق : ٢٠٠.

١٢٣

معاوية، فاستبان الأمر إذاً بمقتل عمّار أنّ الفئة الباغية هي فئة معاوية. فكان المحتم إذاً طِبقاً لنص الكتاب أنْ يلتزم الجميع الدين، فيكف معاوية وأتباعه عن المضي في القتال، وعلى عامّة المسلمين أنْ يُقاتلوا فئة معاوية حتّى يفيئوا إلى أمر الله، إنْ أبوا إلاّ القتال.

ولكن ذلك لمْ يحدث، بل استمرّ معاوية في القتال، والأنكر من هذا أنّه تأوّل في النص مخافة أنْ ينفضّ عنه أهل معسكره، بعدما تبيّن الأمر، فقال: إنّما قتله الذين جاؤوا به. ومعنى هذا - حسب تأول معاوية - أنّ عليّاًعليه‌السلام هو قاتل عمّار، وكان ردّ عليّعليه‌السلام عندما بلغه تأوّل معاوية:« إنّ ذلك، يعني أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي قتل أصحابه عندما قدّمهم للقتال في بدر وأُحد والمواقع كلّها ».

إنّ تحقيق هذه المسألة بالذات يحتاج إلى أكبر قدر من الدّقة والتؤدة معاً، نظراً لخطورة النتيجة التي سيسفر عنها، ونرى أنّ ذلك يتطلّب بحث الآتي:

أ - صحة الحديث.

ب - تحديد معنى البغي، والفرق بينه وبين معنى الحرابة.

ج - التأويل وشروطه، ومدى انطباقها على تأويل معاوية.

د - النتيجة.

أ - الحديث:

جمع ابن كثير(١) كثيراً من طرق رواية هذا البحث، وهي:

روى البخاري بسنده: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:« يا ويح عمّار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النّار » .

____________________

(١) البداية والنهاية، المرجع السابق ٧ : ٢٨٠.

١٢٤

وروى مسلم بسنده: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعمّار:« تقتلك الفئة الباغية ».

وروى أحمد بسنده، عن أبي سعيد الخدري، قال: أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ببناء المسجد، فجعلنا ننقل لبنةً لبنةً، وكان عمّار ينقل لبنتين لبنتين، فتترّب رأسه، قال: فحدّثني أصحابي ولمْ أسمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه جعل ينفض رأسه، ويقول:«ويحك يابن سميّة! تقتلك الفئة الباغية » .

فالحديث إذاً صحيح كما جاء في الصحاح، كما لمْ يضعّفه ولمْ ينكره أحد من السلف أو الخلف، بل لمْ يجحده معاوية ذاته.

ب - البغي والحرابة:

البغي هو الخروج على الحاكم العادل، ولكن بتأويل سائغ، ولمّا كان الخروج على الحاكم يتطلّب قوّةً وعدداً، وإلاّ سهل التغلّب عليه، فإنّ ما يُعدّ بغياً له شروط وله أحكام كيما تميّزه عن غيره من الأفعال.

فأمّا الشروط، فقد حدّدها الفقهاء(١) كالتالي:

١ - الخروج عن طاعة الحاكم العادل.

٢ - أنْ يكون الخروج من جماعة قوّية لها شوكة وقوّة، بحيث يحتاج الحاكم في ردّهم إلى الطاعة إلى إعداد رجال ومال وقتال.

٣ - أنْ يكون لهم تأويل سائغ يدعوهم إلى الخروج على حكم الإمام، فإنْ لمْ يكن لهم تأويل سائغ كانوا محاربين لا بغاة.

٤ - أنْ يكون لهم رئيس مُطاع، يكون مصدراً لقوّتهم.

____________________

(١) المرجع السابق، فقه السنّة ٢ : ٦٠٢، القاهرة، دار الريّان للتراث.

١٢٥

وأمّا حكم هؤلاء، فقد جاء في قوله تعالى:

( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى‏ فَقَاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حَتّى‏ تَفِي‏ءَ إِلَى‏ أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ) (١) .

وبذلك يتّضح الفرق الدقيق بين البغي والحرابة من ذات تعريف البغي، فالذي يُخرجه من كونه بغياً إلى الحرابة، هو: عدم توفّر التأويل السائغ، ولذلك فإنّ الخروج لمُقاتلة المسلمين بتأويل غير سائغ، هو حرابة مؤكّدة.

ويعلّق صاحب فقه السنّة على ذلك بقوله(٢) :

أمّا إذا كان القتال لأجل الدنيا، وللحصول على الرئاسة ومُنازعة أُولي الأمر، فهذا الخروج يُعتبر محاربة، ويكون للمحاربين حكم آخر يُخالف حكم الباغين.

ثمّ هو يُورد حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي رواه البخاري ومسلم:« مَن حمل علينا السّلاح، فليس منّا » .

ويفسّره بقوله، أي: حمله لقتال المسلمين بغير حقّ. ثمّ يُورد ما ذكره القرطبي في الحرابة: يحاربون الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، استعارة ومجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يُحارب ولا يُغالب، لمَا هو عليه من صفات الكمال، ولمَا وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد، والمعنى: يُحاربون أولياء الله، فعبّر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكباراً لأذيّتهم.

____________________

(١) سورة الحجرات : ٩.

(٢) المرجع السابق، فقه السنّة ٢ : ٦٠٢ - القاهرة - دار الريّان للتراث.

١٢٦

وأمّا حكم المحاربين، فقد جاء في قوله تعالى:

( إِنّمَا جَزَاءُ الذينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوا أَوْ يُصَلّبُوا أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلّا الذينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) .

وقد قسّم الفقهاء الخروج - بحسب ظروفه - إلى أنواع كتقسيم ابن حزم التالي(٢) :

١ - بُغاة خرجوا على تأويل في الدين هُم فيه مُخطئون، كالخوارج، لمْ يُخالفوا فيه إجماعاً، ولا قصدوا فيه خلاف القرآن وحكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ - بُغاة خرجوا على إمام حقّ مُريدين لأنفسهم غلبةً في الدنيا، ولكنّهم لمْ يُخيفوا طريقاً ولمْ يسفكوا دماً جزافاً، ولمْ يأخذوا المال ظلماً.

٣ - فإنْ تعدّت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق أو إلى أخذ مال مَن لقوا أو سفك الدماء هملاً، انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين.

فأصحاب التأويل معذورون وحكمهم حكم المجتهد المخطئ، وأمّا مَن تأوّل تأويلاً فاسداً فلا يُعذر فيه، وأمّا مَن قام في طلب الدنيا مجرّداً بلا تأويل، فلا يُعذر أصلاً؛ لأنّه عامد لمَا يدري أنّه حرام.

فصحّ أنّ لهذا الأمر أهلاً لا يحلّ لأحد أنْ يُنازعهم إيّاه، وأنّ تفريق هذه الاُمّة بعد اجتماعها لا يحلّ، فصحّ أنّ المُنازعين في الملك والرياسة مُريدون تفريق جماعة هذه الاُمّة، وأنّهم مّنازعون أهل الأمر أمرهم فهم عُصاة.

____________________

(١) سورة المائدة : ٣٣ - ٣٤.

(٢) ابن حزم، المحلّى ١١ : ٩٧ - بيروت - دار الآفاق الجديدة.

١٢٧

٤ - فإنْ زاد الأمر حتّى يخرقوا الإجماع فهم مُرتدّون.

ويؤكّد هذا المعنى ما ذكره أبوبكر الجصاص بقوله(١) في تفسير آية الحرابة:

ويحتمل أنْ يريد الذين يحاربون أولياء الله. ويدلّ على ذلك أنّهم لو حاربوا رسول الله لكانوا مُرتدّين بإظهار محاربة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ يُورد الجصاص حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ وفاطمة والحسن والحُسينعليهم‌السلام :« أنا حربٌ لمَن حاربتم، سلمٌ لمَن سالمتم » . ويُعقّب على الحديث بقوله: فاستحقّ مَن حاربهم اسم المحارب لله ولرسوله، وإنْ لمْ يكن مُشركاً.

ج - التأويل:

تناول علماء أصول الفقه التأويل بالدرس، وحدّدوا معناه وشروطه كالتالي(٢) : التأويل هو إخراج اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر يحتمله، وليس هو الظاهر فيه.

وأمّا شروط التأويل، فهي:

١ - أنْ يكون اللفظ مُحتملاً للمعنى الذي، يؤوّل إليه.

٢ - أنْ يكون ثمّة مُوجب للتأويل:

أ - بأنْ يكون ظاهر النصّ مخالفاً لقاعدة مقرّرة معلومة من الدين بالضرورة.

ب - أنْ يكون ظاهر النصّ مخالفاً لنصّ أقوى منه سنداً.

ج - أنْ يكون النصّ مُخالفاً لمَا هو أقوى منه دلالة.

____________________

(١) أبو بكر الجصاص، أحكام القرآن ٤ : ٥١ - بيروت - دار إحياء التراث العربي.

(٢) أبو زهرة، المرجع السابق : ١٢٦.

١٢٨

٣ - ألاّ يكون التأويل من غير سند، بل لا بدّ أنْ يكون له سند مستمدّ من الموجبات له.

والتأويل على ذلك نوعان:

تأويل صحيح: إذا كان مُستوفياً للشروط السابقة.

تأويل فاسد: إذا لمْ يكن ثمّة مُوجب له، أو كان له مُوجب ولكن لمْ ينهج فيه منهاج التأويل الشرعي، أو كان التأويل مُناقضاً للحقائق الشرعيّة، ومُخالفاً للنصوص القطعيّة.

د - النتيجة:

ونحن إنْ عرضنا تأوّل معاوية بقوله: إنّما قتله مَن جاؤوا به. على شروط التأويل، لمْ نجد شرطاً واحداً يُجيزه، ولم نجد بين آراء أكثر الذابين عن معاوية إلاّ مُعترفاً بفساد تأويله، أو عامداً للإبهام في المسألة، أو مُتعمّداً للصمت. فابن كثير لمْ يستطع أنْ يجد لمعاوية مبرّراً لتأوّله، فيعلّق عليه - باقتضاب - بقوله(١) :

(... وهذا التأويل الذي سلكه معاويةرضي‌الله‌عنه بعيد).

وأمّا ابن حجر الهيتمي - الذي صنّف كتابه كلّه في الدفاع عن معاوية - فيقول(٢) :

(... وأخرج معاوية لفظ الحديث عن حقيقته إلى مجازه، لمّا قام عنده من القرائن المقتضية لذلك، فهو تأويل يُمكن على المجتهد أنْ يقول به لمَا قام

____________________

(١) البداية والنهاية، المرجع السابق ٧ : ١١.

(٢) تطهير الجنان واللسان، المرجع السابق : ٥٠.

١٢٩

عنده من القرائن الصارفة له عن حقيقته إلى مجازه. وإنْ كان الحقّ أنّ الحديث ظاهر، بل صريح في أنّ قاتله إنّما هو مَن باشر قتله، وأقرب من تأوّل معاوية هذا تأويل عمرو بن العاص، فإنّه جاء في رواية:« أنّ قاتل عمّار في النار » . فالفئة الباغية محمولة على مباشر قتله والمُعين عليه).

وأنت ترى أنّ ابن حجر، وإنْ كان لمْ يستطع أنْ يقرّ معاوية على تأويله، إلاّ أنّه حاول تسويق تأويل عمرو بحصر الفئة الباغية كلّها في فرد واحد هو المباشر بالفعل للقتل، وكأنّ لا علاقة لمعاوية ولا لعمرو بقتل عمّار، وكأنّ قاتل عمّار ليس جنديّاً في جيش معاوية وعمرو، وكأنّه ليس مأموراً من قبلهما بقتال عليّعليه‌السلام وجيشه. ثمّ إذا أخذنا الرواية التي أوردها الهيتمي:« أنّ قاتل عمّار في النار » . فهل نفت تلك الرواية حديث:« تقتلك الفئة الباغية ». وماذا فعلا بقاتل عمّار؟ هل عاقباه وقد علما أنّه من أصحاب النّار أم كافآه؟! ولقد مرّ بك محاجّة شبث بن ربعي سفير عليّعليه‌السلام لمعاوية، وقوله: أيسرّك يا معاوية، أنّك أمكنت من عمّار، تقتله؟ فيردّ معاوية: والله، لو أمكنت من ابن سميّة، ما قتلته بعثمان، ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان.

وأمّا ابن تيميّة الحنبلي، فإنّ مَن يتمعّن مناقشته لحديث:« تقتلك الفئة الباغية » . يقف على مثل واضح آخر كالهيتمي لذوي الخطورة الشديدة على هذا الدين من داخله، في ليّ عنق الحقيقة والتكلّف الشديد والتهافت الأشد، وهم يظنّون أنّهم يحسنون صنعاً.

فابن تيميّة(١) يُثبت أوّلاً صحّة الحديث بقوله: قد ثبت في الصحيح أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعمّاررضي‌الله‌عنه :« تقتلك الفئة الباغية » . ثمّ يُعلّق عليه بقوله: ومنهم مَن تأوّله على أنّ الباغي الطالب، وهو تأويل ضعيف.

____________________

(١) منهاج السنّة، مرجع سابق ٢ : ٢٠٤.

١٣٠

وطالما أنّ ابن تيميّة ضعّف هذا الرأي، فقد كان الأولى به أنْ يستمرّ في مناقشته لصلب المسألة، إلاّ أنّك تراه ينحي منحى آخر في المناقشة، فيذكر رأياً خطيراً على أنّه اتّفاق أهل السنّة، فيقول: فإنّ البغي إذا كان بتأوّل كان صاحبه مجتهداً، ولهذا اتّفق أهل السنّة على أنّه لا تُفسّق واحدة من الطائفتين، وإنْ قالوا في إحداهما أنّهم كانوا بُغاة، لأنّهم كانوا متأوّلين مجتهدين، والمجتهد المُخطئ لا يُكفّر ولا يُفسّق، وإنْ تعمّد البغي فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يُرفع عقابها بأسباب متعدّدة كالتوبة والحسنات الماحية.

فأنت ترى أنّه أقرّ بصحّة الحديث، ثمّ حكم بالضعف على تأويل من تأوّله، ومع ذلك يضفي صفة الاجتهاد على الباغي المتأوّل مطلقاً، دون أنْ يُبيّن أنّ ذلك مشروط بأنْ يكون التأويل سائغاً. والأخطر من كلّ هذا أنْ يقول: إنّ الباغي المتعمّد البغي لا يُفسّق. ومعنى ذلك أنّ قتلة عمّار قد قتلوه وهُم متعمّدون القتل، رغم علمهم بنصّ حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع هذا لا يُفسّقون، فهل رأيت أبعد من ذلك؟

يقول الله تعالى: ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (١) . ولهذا قال ابن عبّاس(٢) :« لا توبة لقاتل مؤمن عمداً » . لأنّها آخر ما نزل ولمْ ينسخها شيء.

ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول - رواه ابن ماجة -:« لزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتلِ مؤمنِ بغير حقّ » .

____________________

(١) سورة النساء : ٩٣.

(٢) فقه السنة، مرجع سابق : ٥٠٩.

١٣١

ويقولصلى‌الله‌عليه‌وآله - أيضاً رواه الترمذي -:« لو أنّ أهلَ السماء وأهلَ الأرض اشتركوا في دم مؤمن، لأكبّهم الله في النار » .

ثمّ هلاّ رأيت مَن يُذكّر بأمر الله، لعلّه يفيق إنْ كان غافياً، فإذا به يعرض عن الذكر ويضع أصابعه في أُذنيه، ويطلب ممّن ذكّره بالله أنْ يكفّ ويصفه بالجنون، فكذلك فعل معاوية. يذكر ابن حجر الهيتمي(١) : وبسند رجاله الثقات، أنّ رجلين اختصما في قتل عمّار عند معاوية لأجل سلبه، وعبد الله بن عمرورضي‌الله‌عنه حاضر، فقال عبد الله لهما: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول:« تقتله الفئة الباغية » . فأنكر كلّ منهما أنّه قتله. فقال له معاوية: فما بالك معنا؟ فقال: إنّ أبي عمرو بن عاص شكاني إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:« أطعْ أباك مادام حيّاً ولا تعصه، فأنا معكم ولستُ أقاتل » .

وفي رواية سندها صحيح، أنّ معاوية قال لعمرو: ألاَ تكفّ عنّا مجنونك، فما له معنا؟ فقال عبد الله ما ذُكر.

وأمّا ابن العربي المالكي، فيذكر(٢) حديث:« تقتلك الفئة الباغية » . عرضاً ضمن أحاديث اُخر، ولمْ يُناقشه البتّة، بل علّق عليه بقوله: فهذه كلّها اُمور جرت على رسم النزاع، ولمْ تخرج عن طريق من طُرق الفقه، ولا تعدّت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المُصيب عشرة، والمُخطئ أجراً واحداً.

وواضح من كلام ابن العربي أنّ الحديث أوضح من أنْ يُجادل فيه، ولو وُجد ما يُنافح به عن معاوية لمَا صمت، ولمَا لجأ إلى عموميّات لا تُغني من

____________________

(١) تطهير الجنان، مرجع السابق : ٤٣.

(٢) العواصم من القواصم، مرجع سابق : ١٧٣.

١٣٢

الحقّ شيئاً، وإنْ كان قد لجأ إلى أسلوب التهوين، وردّ المسألة إلى مجرّد الاجتهاد البريء، ولمْ ينسَ أنْ يؤجر المُخطئ مرّة.

وأمّا ابن حزم الظاهري فإنّه يرى أنّ معاوية ومَن معه مجتهدون مُخطئون، رغم أنّه يقرّر صراحة: أنّ الباغي العامد مُحارب - على العكس من كلام ابن تيميّة -، فيقول(١) :

المجتهد المُخطئ إذا قاتل على ما يرى أنّه الحقّ، قاصداً إلى الله تعالى بنيّته، غير عالم بأنّه مُخطئ، فهو فئة باغية، وإنْ كان مأجوراً ولا حدّ عليه إذا ترك القتال، ولا قود، وأمّا إذا قاتل وهو يدري أنّه مُخطئ، فهذا مُحارب تلزمه حدود المحاربة والقود، وهذا يُفسّق ويُخرج، لا المجتهد المُخطئ. فهذا معنى قولنا دون تكلّف تأويل، ولا زوال عن موجب ظاهر الآية.

فهل لمْ يدرِ معاوية بالحديث؟ أمْ لمْ يذكّره به أحد؟ أمْ لمْ يستبن معناه؟ أمْ لمْ يتكلّف التأويل؟ أرأيتم إلى عمر بن الخطاب يحدّ الصحابي البدري قدامة بن مظعون، أنّه شرب الخمر متأوّلاً قول الله تعالى:

( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (٢) .

فيُقيم عمر عليه الحدّ، ولكن يزيده أسواطاً عن الحدّ لسوء التأويل(٣) .

____________________

(١) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ : ٢٤٢ - بيروت - دار الجيل : ١٩٨٥.

(٢) سورة المائدة : ٩٣.

(٣) أبو زهرة، أصول الفقه، المرجع السابق : ١١٣.

١٣٣

مسألة غريبة

فلقد أقام معاوية دعوته كلّها على أساس أنّه وليّ دم عثمان، وقد قال الله تعالى:

( وَمَن قُتِلَ مُظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنصُوراً ) (١) .

والشيء الغريب حقّاً أنّ تُورد كتب التاريخ هذا الأمر وكأنّه مقرّر(٢) دون أدنى مناقشة له. فمَن الذي عيّن معاوية خاصّة وليّاً لدم عثمان دون بنيه وورثته وأبناء عمومته الأقربين، كما ترى في شجرة نسبه؟

وإذا رجعنا للفقهاء(٣) ، لوجدنا إجماع الأئمّة على أنّ أولياء الدم هُم الورثة الشرعيّون للقتيل، ولمْ يكن معاوية وارثاً لعثمان، فقد كان له أبناء ذكور بالغون عند مقتله.

ثمّ إنّه يشترط في القصاص إجماع المستحقّين من الورثة، فإن اختلفوا في القصاص، فطلب بعضهم القصاص وعفا البعض الآخر عن الجاني، فإنّه يسقط القصاص، وتجب الدية في مال القاتل وتُقسّم على الورثة.

____________________

(١) سورة الإسراء : ٣٣.

(٢) الطبري، المرجع السابق ٤ : ٦٨.

(٣) عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة ٥ : ٢٦٦ - بيروت - دار الفكر : ١٣٩٢ هـ.

١٣٤

ويقول المالكيّة: يسقط القصاص إنْ عفا رجل من المستحقّين.

ويقول الأئمّة الثلاثة: كلّ وارث يُعتبر قوله في إسقاط القصاص، وإسقاط حقّه من الدية.

أورد الشوكاني(١) حديث عائشة الذي رواه أبو داود والنسائي، واستدلّ به على أنّ الدم حقّ لجميع الورثة من الرجال والنساء، فإنْ وقع العفو فالدية كالتركة.

عن عائشة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال:« وعلى المُقتتلين أنْ ينحجزوا، الأوّل فالأوّل، وإنْ كانت امرأة » . وأراد بـ« المقتتلين » : أولياء المقتول الطالبين القود.« وينحجزوا » ، أي: ينكفّوا عن القود بعفو أحدهم، ولو كانت امرأة. وقوله:« الأوّل فالأوّل » ، أي: الأقرب فالأقرب.

ولمْ يحدّثنا التاريخ أبداً عن اجتماع لجميع ورثة عثمان ليقرّروا قصاصاً أو عفواً، كما لمْ يحدّثنا أبداً عن وكالة شرعيّة من الوارثين لمعاوية ليكون وكيلهم في طلب الدم.

ثمّ لنفترض جدلاً - وهو ليس بحقّ - أنّ طلب الدم حقّ للعصبة وليس للورثة، فإنّ القاعدة ستُطّبق ها هنا أيضاً، وهي أنّ اختلاف العصبة في القود يُسقط القصاص ويستبقي الدية. ونحن نعلم أنّ مُحمّد بن أبي حذيفة ابن خال معاوية وحفيد ربيعة، أخي اُمّية الأكبر، كان في فئة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

فمُحمّد وعثمان إذاً كلاهما يُنتسب إلى جدّهما المشترك عبد شمس، فمَن الذي أثبت حقّ معاوية من هذه العصبة وأسقط حقّ محمّد؟ ولكن محمّد بن أبي حذيفة كان من المُنكرين على عثمان وتولّى مصر لعليّعليه‌السلام حتّى قتله أتباع معاوية، فهنا أيضاً شبهة تسقط القصاص.

____________________

(١) الشوكاني، نيل الأوطار ٧ : ٢٨ - القاهرة - دار الحديث.

١٣٥

____________________

أطلس تاريخ الإسلام، المرجع السابق.

١٣٦

النظام الاُموي: أنساق الحياة الماديّة

١٣٧

لما كان الغرض من النظام بأكمله قد تحدّد - كما سلف بيانه - بالقبض على زمام السلطة، والعمل على استمرار هذا القبض، فلنا أنْ نتوقّع أشكال وسمات الأنساق الفرعيّة المشكّلة للهيكل العام للنظام بدرجة كبيرة من الصحّة؛ إذ لمّا زال مفهوم الخلافة بمقتل عليّعليه‌السلام وتأكّد عهد الملك المتوارث على يد معاوية، تغيّرت بالتبعيّة أساليب الحياة بما يتوافق والنظام الجديد.

ولمْ يكن المسلمون يعرفون منذ نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله معنى الملك، ولمْ يكن أبغض عندهم من أيّ عمل يتّصل بسبب بمعنى الملك، فكانوا يُطلقون أوصاف: الهرقليّة و الكسرويّة، على أعمال الاستبداد والأثرة والاستعلاء والتجبّر والترف.

ذُكر(١) أنّ عمر بن الخطاب عندما قدم إلى الشام، رأى معاوية في أبّهة الملك وزيه من العديد والعدّة، استنكر ذلك وقال: أكسرويّة يا معاوية؟!(٢)

____________________

(١) ابن خلدون، المقدّمة، المرجع السابق ١ : ١٦٩.

(٢) تأوّل معاوية أيضاً في إجابته على استنكار عمر، بقوله: إنّه يُباهي العدوّ بهذه الزينة وتلك الأبهة؛ لأنّ بين أظهر المسلمين جواسيس العدوّ.

ومن العجيب أمر الذين يُسوّغون مثل هذه التأويلات لمعاوية، أنّهم أنفسهم الذين يروون عن عمر قصص الشظف في العيش والتحرّج الشديد في الإنفاق، وأنّهم جعلوا هذه السيرة مُدعاةً لإعجاب العدوّ قبل الصديق، مثل القصّة الشهيرة لمجيء رسول العجم، فوجد عمر نائماً تحت الشجرة.

=

١٣٨

ولمْ يكن الفرق بين الخلافة والملك خافياً على المسلمين. قال عمر ذات يوم لسلمان(١) : أملك أنا أم خليفة؟ قال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقلّ أو أكثر، ووضعته في غير حقّه، فأنت ملك غير خليفة.

ويفرّق ابن خلدون بين الخلافة والملك، بقوله(٢) : وكذا الملك لمَا ذمّه الشارع، لمْ يذمّ منه الغلب بالحقّ وقهر الكافة على الدين ومُراعاة المصالح، وإنّما ذمّه لمَا فيه من التغلّب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات.

ولمّا أراد معاوية أنْ يجعل الملك في ولده، كتب إلى مروان بن الحكم عامله على المدينة، أنْ يأخذ البيعة ليزيد، فخطب مروان فقال(٣) : إنّ أمير المؤمنين رأى أنْ يستخلف عليكم ولده يزيد سنّة أبي بكر وعمر. فقام عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: بل سنّة كسرى وقيصر.

وهكذا فإنّ العهد الذي استهلّه معاوية لمْ يكن عهد خلافة كما وعاه المسلمون، وإنّما عهد مُلك كما لمْ يُعانوه، فما هي سمة هذا الملك؟

مؤشرات النظام الاستبدادي

هناك في الواقع عدّة مؤشرات يُمكن التعويل عليها في كشف طبيعة

____________________

= فلو كانت حجّة معاوية سائغة أولى بها رأس الدولة، وهو يستقبل رُسل الجبابرة. ولكن الأغرب من ذلك، هو قبول عمر لحجّة معاوية وتثبيته على الشام! وهذا وذاك من عوامل بذر الازدواجيّة في شخصية المسلم.

(١) ابن الأثير، الكامل، مرجع سابق ٢ : ٤٥٥.

(٢) المقدّمة، مرجع سابق ١ : ١٦٩.

(٣) السيوطي، تاريخ الخلفاء، مرجع سابق : ١٩٦.

١٣٩

أيّ نظام، وهي ما سنعتمد عليها في بحث طبيعة النظام الاُموي حال سيطرته على السلطة، وهذه المؤشرات هي:

أ - كيفيّة انتقال السلطة.

ب - الرقابة على السلطة والموقف من المعارضة.

ج - سياسة المال.

ولنبحث كلّ مؤشر على حدة بشيء من التفصيل.

أ - كيفيّة انتقال السلطة:

يرى جمهور فقهاء السنّة أنّ الإمامة عِقد مستكمل الشروط بين طرفين هما الاُمّة والإمام، وأنّ صحة هذا العِقد تتعلّق بصحة شروطه، وهي: البيعة والعدالة والشورى.

يقول الماوردي(١) : الإمامة عِقد.

ويقول البغدادي(٢) ، قال الجمهور الأعظم من أصحابنا - أهل السنّة - ومن المعتزلة والخوارج والنجاريّة: أنّ طريق ثبوتها الاختيار من الاُمّة.

فهل حققّت ولاية معاوية الشروط التي تواضع عليها فقهاء أهل السنّة؟

فقد أجمع أهل السنّة على صحة ولاية عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأنّه الإمام الحقّ، وأنّ كلّ خارج عليه باغٍ، وقد خرج عليه معاوية بدعوى القود لعثمان، فكاد له كيداً مكشوفاً، ثمّ حاربه حرباً سافرةً حتّى كانت واقعة التحكيم، فقُتل عليّعليه‌السلام ثمّ إلجاء الحسنعليه‌السلام إلى التسليم.

____________________

(١) الأحكام السلطانيّة، مرجع سابق : ١٠.

(٢) البغدادي، أصول الدين، مرجع سابق : ٢٧٩.

١٤٠