أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 83701
تحميل: 6889

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83701 / تحميل: 6889
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثمّ نعم، نحن ها هنا نسوق الدليل على سقوط دفاع ابن العربي ومَن سار على نهجه، واستنّ بسنّته ونُقيم الحجّة على معاوية، ونحتكم في الحكم على فعلته، على المبدأ الذي أرساه ربّ العالمين:

( مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً ) (١) .

فقد أجمعت النصوص على أنّ حبّ عليّعليه‌السلام من حبّ الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهل أظلم ممّن أضمر غير الحبّ لمَن أحبّه الله ورسوله؟ وما بالك بمَن أظهره؟

يروي البخاري في باب غزوة خيبر: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في عليعليه‌السلام :« لأُعطينّ الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله ».

وفضل عليّعليه‌السلام وسابقته أشهر من أنْ يُذكّر بها، ويكفي أنْ تُذكر من منزلته قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله له، فيما رواه البخاري في باب مناقب عليعليه‌السلام :« أمَا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ » .

ثمّ هل هناك من مقام أعظم من أنْ يشرّف امرؤ بالتوحّد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فكذلك كان عليّعليه‌السلام الذي قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - فيما رواه البخاري -:« أنت منّي وأنا منك » .

فهل هناك أخسر ممّن سبّ عليّاًعليه‌السلام وقد علم أنّه بعض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

ولمْ تكن هذه البغضيّة وهذا الامتزاج بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّعليه‌السلام من تكثّر محبّي عليّعليه‌السلام ، ولكنّها كانت بالنصّ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو ما حدا باُمّ سلمة أنْ تروع عندما بلغها سبّ عليّعليه‌السلام ، فقالت(٢) - فيما رواه أحمد -:

____________________

(١) سورة المائدة : ٣٢.

(٢) البداية والنهاية، مرجع سابق ٧ :٣٧٠.

١٦١

أيُسبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكم على المنابر؟!

وبمثل ما ثبت النصّ على حبّ عليّعليه‌السلام ، فقد ثبت كذلك النصّ على النهي عن إضمار البغض له. يروي البخاري في كتاب المغازي: وبعث عليّعليه‌السلام وخالد إلى اليمن، أنّه لمّا حدثت جفوة بين بريدة وعليعليه‌السلام ، وجاء بريدة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له:« يا بريدة، أتبغض عليّاً؟ ». فقلت: نعم. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« لا تبغضه ».

وفي رواية أحمد: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لبريدة:« أتبغض عليّاً؟ » . قال، قلت: نعم. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« فلا تبغضه، وإنْ كنت تحبّه فازددْ له حبّاً » .

ولكي تقف على حقيقة منزلة عليّعليه‌السلام ، وتدرك فداحة ما اقترفه معاوية، فيكفي أنْ تعلم أنّ حبّ عليّعليه‌السلام أو بغضه لمْ يكن كما لم يزل، استشعارهما ممّا يكتمل به الإيمان أو ينقص، ولكنّهما علامتان فارقتان على الإيمان والنفاق. جاء في صحيح مُسلم، عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قوله:« إنّه لعهد النبيّ الاُمّي إليّ، أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق ».

ثمّ إنّ معاية كلّم وعُوتب وذكّر بمدى إثم الوقوع في عليّعليه‌السلام ، ناهيك عن السبّ البواح له، فلمْ يحرّك كلّ ذلك في نفسه شيئاً ولمْ يصغِ، ولم يأبه ولم يتب. وقد كان حريّاً به أنْ يفعل فعل بريدة، إذ ما أنْ نهاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن بغض عليّعليه‌السلام ، حتّى تاب وقال - وفي رواية أحمد -: فما كان في الناس أحد بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحبّ إليّ من عليّعليه‌السلام .

يروي مسلم وأحمد والترمذي(١) إنكار سعد بن أبي وقّاص لفعل معاوية: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما يمنعك أنْ تسبّ أبا تراب - يقصد عليّاًعليه‌السلام -؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنْ تكون لي

____________________

(١) البداية والنهاية، مرجع سابق : ٣٥٢.

١٦٢

واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول - وخلّفه في بعض مغازيه - فقال له عليّعليه‌السلام :« يا رسول الله، أتخلّفني مع النساء والصبيان؟ » . فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أمَا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؟ » . وسمعته يقول يوم خيبر:« لأُعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله » . قال: فتطاولت لها. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« ادعوا لي عليّاً » . فأُتى به أرمد، فبصق في عينيه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه. ولمـّا نزلت هذه الآية:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) . دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً وفاطمة وحسناً وحُسيناًعليهم‌السلام ، ثمّ قال:« اللهمّ، هؤلاء أهلي » . ثمّ نهض سعد قائلاً لمعاوية: لا أدخل عليك داراً بعد هذا اليوم. ثمّ نفض رداءه ثمّ خرج.

فقد ذكّر معاوية إذاً بالله، فلمْ يشأ أنْ يذكر، فما أتعسه إذ نصب نفسه حرباً لله، يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ذكره البخاري في الحديث القدسي - قال الله تعالى: « مَن عادى لي وليّاً، فقد آذنته بالحرب ». فما بالك بعداء مَن كان مولىً لكلّ مؤمن؟ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وثبت ذلك بطرق متعدّدة(٢) -:« مَن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه ».

فإذا كان حبّ عليّعليه‌السلام علامة على الإيمان، وبغضه آية على النفاق، وعداؤه عداء لله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف بمَن لمْ يكتفِ بحرب عليّعليه‌السلام بل تسلط على رقاب العباد، فجعل حياتهم رهن سبّ عليّعليه‌السلام وإعلان البراءة منه؟

____________________

(١) سورة آل عمران : ٦١.

(٢) جمع ابن كثير في البداية والنهاية ٧ : ٣٦٠، طرق رواية الحديث، وهو المشهور بـ ( حديث غدير خم ).

١٦٣

إقرأ معي فجيعة من فجائع الدهر، ومأساة من مآسي التاريخ، ثمّ أمعن النظر في أبشع صور الاستبداد والطغيان تمثّلت في مخزى من مخازي معاوية رأس النظام الأموي:

يروي الطبري(١) : أنّ معاوية أرسل رسوله إلى حجر بن عدي وأصحابه في السجن، يعرض عليهم تركهم إنْ هم لعنوا عليّاًعليه‌السلام ، فيقول لهم: إنّا قد أُمرنا أنْ نعرض عليكم البراءة من عليّعليه‌السلام واللعن له، فإنْ فعلتم تركناكم، وإنْ أبيتم قتلناكم؛ فابرأوا من هذا الرجل، نخلِّ سبيلكم. فقالوا: اللهمّ، إنّا لسنا فاعلي ذلك، بل نتولاّه، ونتبرّأ ممّن تبرّأ منه.

وهذا زياد بن سميّة عامل معاوية على الكوفة، يأتي بصيفي بن فسيل صاحب حجر بن عدي، فيقول له: يا عدوّ الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب. قال: ما أعرفك به! فقال: ما قولك في عليّعليه‌السلام ؟ قال: أحسن قول أنّا قائله في عبد من عباد الله المؤمنين. قال: اضربوا عاتقه بالعصا حتّى يلصق بالأرض. فضُرب حتّى لزم الأرض. ثمّ قال: أقلعوا عنه، إيه، ما قولك في عليّعليه‌السلام ؟ قال: والله، لو شرحتني بالمواسي والمدى ما قلت إلاّ ما سمعت منّي. قال: لتلعنّنه أو لأضربنّ عنقك. قال: إذا تضربها والله قبل ذلك، فإنْ أبيت إلاّ أنْ تضربها، رضيت بالله وشقيت أنت. قال: ادفعوا في رقبته.

ولمّا جِيء بعبد الرحمن العنزي إلى معاوية، قال له: ما قولك في عليّعليه‌السلام ؟ قال: دعني ولا تسألني، فإنّه خير لك. قال: والله، لا أدعك حتّى تخبرني عنه. قال: أشهد أنّه كان من الذاكرين الله كثيراً، ومن الآمرين بالحقّ، والقائمين بالقسط،

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٥ : ٢٧٥.

١٦٤

والعافين عن الناس. فبعث به معاوية إلى زياد، وكتب إليه: أمّا بعد، فإنّ هذا العنزي شرّ مَن بعثت، فعاقبه عقوبته التي هو أهلها، واقتله شرّ قتلة. فما كان من زياد إلاّ أنْ دفنه حيّاً.

وهكذا قتل معاوية حجراً وأصحابه الستّة على حبّ عليّعليه‌السلام .

أفلا يذكّرنا ذلك بفعل أبيه أبي سفيان عندما أحاطوا بزيد بن الدثنة، مبعوث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة، فإذا بأبي سفيان يُحاول بشتّى الطرق انتزاع كلمةً من زيد، وهو في موقف الموت تسيء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيأبى زيد، فيقتلوه.

على أنّه ممّا لا يدع أدنى مجال لمعذّر لمعاوية، أنّ حجراً وأصحابه حاجّوا معاوية وألزموه الحجّة، رغم يقينهم أنّه قاتلهم، بحيث لا يجد عليهم سبيلاً تعلقاً بنقض البيعة، تبياناً للناس حقيقة أمر حكمه؛ ذلك أنّ حجراً حين حُمل إلى معاوية، قال له: السّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال معاوية: أمير المؤمنين! أمَا والله، لا أقيلك ولا أستقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه.

ولمّا دخل الخثعمي على معاوية، قال له: الله الله يا معاوية، فإنّك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ثمّ مسؤول عمّا أردت بقتلنا، وفيمَ سفكت دماءنا؟ فيصم معاوية أذنيه عن المناشدة بالله، أنّه لا يريد إلاّ سماع سبّ عليّعليه‌السلام ، فيعود قائلاً للخثعمي: ما تقول في عليّعليه‌السلام ؟

قال الحسن بعد أنْ بلغه قتل حجر وأصحابه: حاجّوهم وربّ الكعبة.

وقال الحسن البصري(١) : أربع خصال كنّ في معاوية، لو لمْ تكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت مُوبقة: انتزاؤه على هذه الاُمّة بالسفهاء حتّى ابتزّها أمرها بغير

____________________

(١) المرجع السابق : ٢٧٩.

١٦٥

مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادّعاؤه زياداً، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الولد للفراش، وللعاهر الحجر » . وقتله حجراً، ويلاً له من حجر! ويلاً له من حجر!

فلمّا قارب الأجل المحتوم من النهاية، وجاءت سكرات الموت، وأيقن معاوية أنّها آخر لحظات الدنيا، وأوّل العهد بالآخرة، حضره شبح حجر، واستحضر ما قدّمت يداه.

يقول ابن سيرين(١) : فبلغنا أنّه لمّا حضرته الوفاة، جعل يُغرغر بالصوت، ويقول: يومي منك يا حجر، يوم طويل!(٢)

* * *

وقد أدرك المعاصرون لأمر حجر حقيقة هذا الموقف - كما نحلّله نحن الآن - فلم يسيغوا تأوّل معاوية لقتل حجر وأصحابه - كما يفعل المعذّرون لمعاوية -، ولكن فهموه على أنّه حرص النظام الحاكم على قتل المعارضة أيّاً كان نوعها، وإنْ كانت تَعني النهي عن المنكر والأمر بالمعروف وهو بعض الدين، إضافة إلى إرهاب مَن تسوّل له نفسه التفكير في نقد النظام. يدلّ على ذلك ما رواه الطبري عن أبي إسحاق قوله: أدركت الناس وهم يقولون: إنّ أوّل ذلّ دخل الكوفة موت الحسن بن عليعليه‌السلام ، وقتل حجر بن عدي، ودعوة زياد، ويدلّ عليه أيضاً ما أيقنه الناس من إمعان النظام الحاكم في تجبّره

____________________

(١) المرجع السابق : ٢٥٧.

(٢) بينما كانت آخر كلمات حجر - قبل أنْ يُقدّم للقتل - لبناته: إنّ الذي كان يرزقكنّ ويكفيني مؤنتكنّ هو الله تعالى وهو حيّ لا يموت، وأرجو ألا يُضيعكنّ وأنْ يحفظني فيكنّ. وقال لأهله: لا تطلقوا عنّي حديداً، ولا تغسّلوا عنّي دماً؛ فإنّي اُلاقي معاوية غداً على الجادّة.

١٦٦

بعد قتل المعارضة، وهو ما تعبّر عنه هند الأنصاريّة شعراً بقولها(١) :

تجبرت الجبابر بعد حجر

وطاب لها الخورنق والسدير

* * *

لمْ يكن قتل حجر وأصحابه مجرد حادث عارض، ولكنّه كان منهج معاوية ومَن أتى بعده في التعامل مع المعارضة، الاستئصال من الجذور، مهما كانت تلك المعارضة على درجة من الحصانة تكفلها الصحبة أو السابقة. وقد كان ذلك منهجاً أصيلاً وليس مجرد تعامل ظرفي، فهل من حسن السياسة والتدبير والحلم الذي زعمه الزاعمون لمعاوية إصراره على سبّ عليّعليه‌السلام وبنيهعليهم‌السلام وصحبه عقب الصلوات - ولم يُبن لنا ابن العربي ولا غيره كيف تكون صلاة مَن يقول في تشهّد الختام منها: اللهمّ، صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، ثمّ يعقّب الصلاة بلعن آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله - أمْ أنّها سياسة استفزاز متعمّد لأصحاب عليّعليه‌السلام ومَن يرى رأيه؟ فمَن أجبر نفسه على السماع والصمت فقد ضمن معاوية قهر نفسه واعتيادها على القهر، وأمّا مَن أبت نفسه إلاّ الشهادة بالحقّ، فهذا لا علاج له عند معاوية إلاّ السيف المصلت يتقدّمه كتاب شهادة الزور بالمروق من الدين والخروج عن الجماعة.

____________________

(١) قالت هند في رثائه:

تـرفع أيـها الـقمرُ المنير

تبصّر هل ترى حجراً يسير

يسير إلى معاوية بن حرب

لـيقتله كـما زعـم الأمير

تـجبرت الجبابر بعد حجر

وطاب لها الخورنق والسدير

وأصبحت البلاد بها محولاً

كـأن لم يحيها مزن مطير

ألا يا حجر، حجر بن عدي

تـلقتك الـسلامة والسرور

أخـافُ عليك ما أردى عدياً

وشـيخاً في دمشق له زئير

يـرى قتل الخيار عليه حقاً

لـه مـن شـر امته وزير

١٦٧

ولعلّ في ذلك تكون الإجابة لمَن وقف متسائلاً عن سبب سنّ معاوية سنّة لعن عليّعليه‌السلام وبنيهعليهم‌السلام على المنابر، ومن هؤلاء نذكر أستاذاً(١) للتاريخ الإسلامي واضح الميل لمعاوية ودولته، ولكنّه لمْ يرَ مخرجاً لمعاوية من هذا الفعل، فيقول: ممّا ننقده على هذا العهد اهتمام معاوية بالتشهير بعليّعليه‌السلام على المنابر، مع أنّ الرجل قد لحق بربّه وانتهى بأمره. وكان يعلم يقيناً أنّ هذه الأقوال ممّا يهيج صدور شيعته، وتجعلهم يتأفّفون ويتذّمرون، ولا ندري ما الذي حمله أنْ جعل ذلك فرضاً حتماً في كلّ خطبة، كأنّه ركن من أركانها لا تتمّ إلاّ به.

نعم، قد علم معاوية يقيناً أنّ لعن عليّعليه‌السلام يدعو للتذمّر، وهذا لا يدعو للدهشة، فقد علم يقيناً أيضاً أنّ مَن يقوى على التذمّر لحب عليّعليه‌السلام - وقد مضى عليّعليه‌السلام إلى ربّه - فمعناه البقاء على الاستمساك بقيم عليّعليه‌السلام ومبادئه ومنهجه. يقول أيّوب السختياني(٢) - فيما أورده الذهبي(٣) -: مَن أحبّ عليّاًعليه‌السلام فقد استمسك بالعروة الوثقى. وتلك هي المفرزة التي يُريدها معاوية ليحصد خرجها أوّلاً بأوّل، ومن هنا استمراره في سنّته إلى أنْ قضى مع توريثه إيّاها لمَن بعده.

على أنّ الأمر ذا الأهميّة هنا معرفة أنّ الأمر لا يتعلّق تحديداً بعليّعليه‌السلام ذاته، فإنّما عليّعليه‌السلام رمز لا شية فيه للقيم الخالصة والمبادئ الخالصة، أي: للدين الخالص. فمَن استمسك به، فهو حقّاً أخطر أعداء معاوية، ولكن هذا لا يمنع أنّ نظام معاوية لا

____________________

(١) الشيخ محمّد الخضري بك، تحقيق الشيخ محمّد العثماني، الدولة الاُمّوية : ٤٤٩، ط ١ - بيروت - دار القلم : ١٩٨٦ م.

(٢) محمّد شمس الدين الذهبي، الكبائر : ١٧٩ - القاهرة - دار التراث العربي : ١٩٨٢م.

(٣) من عجائب الأمور، أنّ الذهبي يعدّ سبّ الصحابة من الكبائر المخرجة من الملّة، ومع ذلك لا يطبّق هو أو غيره من فقهاء السنّة تلك القاعدة أبداً على معاوية! وهذا سبب إضافي لازدواجيّة الشخصيّة.

١٦٨

يطيق ولا يسمح بأيّ نوع من المعارضة، سواء كانت من شيعة عليّعليه‌السلام أو من الخوارج عليه أو من غيرهم، فقد اتّخذ لنفسه ولعمّاله سياسة التنكيل والبطش بلا رحمة في تعاملهم مع المعارضة.

هل رأيت زياد بن سميّة، عامل معاوية على البصرة، ثمّ عليها وعلى الكوفة معاً، يقتل أعرابيّاً رغم علمه ببراءته؛ لأنّه رأى في قتله إرهاباً لغيره.

ذكر ابن إسحاق(١) ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم عرفة، من حجّة الوداع إذ كان يردّد صارخه: يقول له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« قل يا أيّها الناس، إنّ رسول الله، يقول: هل تدرون أيّ شهر هذا؟ » . فيقول لهم، فيقولون: الشهر الحرام. فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« قل لهم: إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أنْ تلقوا ربّكم، كحرمة شهركم هذا » . ثمّ يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« قل: يا أيّها الناس، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول: هل تدرون أيّ بلد هذا؟ ». قال: فيصرخ به. قال، فيقولون: البلد الحرام. قال، فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« قل لهم: إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أنْ تلقوا ربكم، كحرمة بلدكم هذا » . قال: ثمّ يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« قل: يا أيّها الناس، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول: هل تدرون أيّ يوم هذا؟ ». قال: فيقوله لهم. فيقولون: يوم الحجّ الأكبر. قال: فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« قل لهم: إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى إنْ تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا » .

ج - سياسة المال:

إحدى أهمّ خصائص نظم الحكم على اختلافها، وبالأخصّ نظام الحكم الإسلامي، لمّا كانت سياسة المال فيه مضبوطةً كلّيةً بشرع الله. وإذا كانت

____________________

(١) سيرة ابن هشام، مرجع سابق ٤ : ٦٠٥.

١٦٩

هناك فسحة لاجتهاد الحاكم، فهو محدّد بالتزام العدل وأداء الأمانة مُطلقاً دون اتّباع هوىً أو مجرد الاقتراب من مظنّة الشبهات.

يقول الله تعالى:( يَا دَاوُدُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ الناس بِالحقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَى‏ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (١) .

( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى‏ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (٢) .

وقد وضع الفقهاء شروطاً ثلاثة للخليفة في سياسته للمال(٣) :

جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصّاً واجتهاداً من غير خوف ولا عسف.

تقدير العطايا وما يستحقّ في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.

استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوّض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطةً والأموال بالأمناء محفوظةً.

فليس للحاكم إلاّ أن يتّبع قواعد العدل المُطلق فيما أراد الشارع من سياسته للمال، وليس له أنْ يجبي وأنْ يُعطي وأنْ يمنح وأنْ يمنع إلاّ طِبقاً لقواعد الشرع.

يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - في رواية البخاري -:« ما أُعطيكم ولا أمنعكم، أنا قاسم أضع حيث اُمرت ».

____________________

(١) سورة ص : ٢٦.

(٢) سورة النساء : ٥٨.

(٣) الماوردي، الأحكام السلطانيّة، مرجع سابق : ١٨.

١٧٠

وقد بلغت الحساسيّة مبلغها الأقصى في فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حرصاً على المال، ألاّ يُوضع في غير موضعه، وإن قسراً للنفس وإرغاماً على غير ميلها الفطري. فقد حُدّث أنّ فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اشتكت ما تلقى من الرحى ممّا تطحن، فبلغها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أتى بسبي، فأتته تسأله خادماً، فذكر الحديث. وفيه:« ألاَ أدلُّكما على خير ممّا سألتما؟ » . فذكر الذّكر عند النوم، فمنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ابنته وأعزّ النّاس عليه من قرابته، بينما أعطى غيرها.

وقد كان حريّاً بالنفوس أنْ تشرب رحيق هذا الحسّ المرهف، فضلاً عن التزام قواعد الحقّ والعدل المُطلق. وقد علم الناس تلك القواعد من نصوص دينهم، وخبروها من فعل نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا يدع مجالاً للإبدال والمغايرة.

يروي أحمد في مسنده: كان عمر يحلف على أيمان ثلاث: والله، ما أحد أحقّ بهذا المال من أحد، وما أنا أحقّ به من أحد. ويعلّق الشوكاني على ذلك بقوله(١) : فيه دليل على أنّ الإمام كسائر الناس، لا فضل له على غيره في تقديم ولا توفير نصيب.

ثمّ سارت الأمور على النحو الذي سارت عليه من التباعد قليلاً قليلاً عن النهج النبويّ، ثمّ بمعدّل متزايد حتّى كاد القوم يضلّون الطريق.

ثمّ أتى عليّعليه‌السلام خليفة لتشقى بورعه وتحرجه في أموال المسلمين، أقوام استمرأوا التفضيل بغير الحقّ، حتّى تضخّمت ثرواتهم وتضخّمت معها مطامع ومطامحهم، شأنهم في ذلك شأن كلّ طبقة تملك قوّة المال فتسعى واعية للتقوى بقوى النفوذ والسلطان تصون بها مصالحها وتستأمن بها على غدها. أدّى ذلك بطبيعة الحال إلى تحالف كلّ القوى صاحبة المصلحة ألاّ يكون عليٌّعليه‌السلام حاكماً، وهي تعلم يقيناً مَن هو عليّعليه‌السلام .

____________________

(١) نيل الأوطار، مرجع سابق ٨ : ٧٥.

١٧١

فعليّعليه‌السلام يرفض - وهو والٍ على اليمن من قبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - السّماح للصاحبة بركوب إبل الصدقة قائلاً:« إنّما لكم منها سهم كما للمسلمين » .

وعليّعليه‌السلام وهو أمير المؤمنين يأكل الشعير، تطحنه بيديها سيّدة نساء العالمين [ فاطمة الزهراءعليها‌السلام ]، ثمّ يختم على جراب الدقيق، ويقول:« لا أُحبّ أنْ يدخلَ بطني إلاّ ما أعلم » .

وعليّعليه‌السلام وهو رأس الدولة يرعد شتاء في لباس له، فيكلّمه الناس: إنّ الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً، وأنت تفعل هذا بنفسك؟ فيقولعليه‌السلام :« والله ما أزرأكم شيئاً، وما هي إلاّ قطيفتي التي أخرجتها من المدينة » (١) .

هذا هو إذاً عليّعليه‌السلام كما عرفه الناس، محسنهم ومسيئهم على السواء، فأمّا المسحنون، فقد استمسكوا به ونافحوا عنه حتّى الممات، وأمّا المسيئون، فقد عادوه وحاربوه حتّى مات.

وربّما زعم زاعم أنّ سلوك عليّ ذاك سلوك مثالي، وأنّه تكلّف مشقةً لا تلزم بالضرورة أنّ فهم عليّعليه‌السلام للمسألة هو الفهم الإسلامي الحقّ، فلمْ يكن ليغيب عنه أنّ له حقّاً في المال العام، ولكنّه الحقّ الذي يُكافئ وظيفته التي يؤدّيها للناس، ومكافئها يتحدّد اجتماعيّاً لا مُطلقاً، فإنْ كان له ما يسدّ حاجته وترك هذا المكافئ، فذاك هو الإحسان.

أراد عليّعليه‌السلام إذاً أنْ يُنبّه الناس إلى تلك الحقيقة بحدّه للحقوق، وأنّه ليس مُطلق اليد في منح نفسه أو منع غيره أو صلة قرابته ومَن يراه، وقد كان يسعه أنْ يتأوّل تأوّل عثمان: أنا أصل قرابتي في الله. أو تأوّله: إنّ لي في هذا المال حقّاً وإنْ رغمت أنوف. ولكنّ عليّاًعليه‌السلام في هذه الحالة لن يكون عليّاًعليه‌السلام - حسْبَ تعبير سيّد

____________________

(١) ابن الأثير، الكامل، مرجع سابق ٣ : ٢٦٤.

١٧٢

قطب - صاحب إعادة التمكين للمشروع الإسلامي في أرض الواقع، وهو الذي ردّ على عثمان مقالته بتذكيره أنّ السابقة في العطاء كما في البلاء، إنّما يقع أجرها على الله، ولا تُستوفى من أموال المسلمين.

أين هذا إذاً من سيرة معاوية وعُصبته؟

رأينا من قبل حدثاً واحداً وموقفين مختلفين: عقيل يطلب من أخيه عليّ الإمامعليه‌السلام إعطاءه من بيت المال، فيرفض عليّعليه‌السلام مذكّراً أخاه أنّه مُؤتمن على مال المسلمين وإنْ فعل يكن سارقاً، فيذهب عقيل إلى معاوية بالشام، فيغدق عليه بغير حرج، لا لشيء إلاّ ليفرّق جماعة عليّعليه‌السلام وليطمع فيه غيره من المترّددين.

ومعاوية يعد المواكب الحافلة، ويري عمر - عند زيارته الشام - أبهة الملك وزينته من مال المسلمين زاعماً أنّ ذلك أدعى لإلقاء الروع في قلوب الروم.

على أنّ هناك واقعة بعينها ربّما أغنى ذكرها عن سوق الأمثلة كشفاً عن بنية نظام الحكم الاُموي، والقواعد التي أرساها المؤسّس العملي الأوّل معاوية، وتلك هي الصفقة التي عقدها معاوية وعمرو بن العاص معاً حرباً لعليّعليه‌السلام ، وتصوّرها المحاورة التالية كما ذكرها المسعودي(١) :

يقول معاوية لعمرو: بايعني.

عمرو: لا، والله لا أُعطيك من ديني حتّى أنال من دنياك.

معاوية: سلْ.

عمرو: مصر طعمة.

معاوية: نعم.

____________________

(١) المسعودي، مروج الذهب ٢ : ٣٦٣ - بيروت - المكتبة الإسلاميّة.

١٧٣

فيقول عمرو:

معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل

به من دنياك فانظرن كيف تصنع

فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة

أخذت بها شيخاً يضر وينفع

وربما قال قائل: إنّ ذلك تكلّف يبدو من الخيار المكشوف للدنيا على حساب الدين، وإنّ الأطماع لا تُعالج بمثل تلك المكاشفة الفجّة حتّى بين الأنداد العاديّين، فإنّما جرت العادة على تغليف الأطماع وتعليلها بإضفاء نوع من شرعيّة وإنْ زائفة عليها، فكيف بمَن كان بمثل دهاء وتحفّظ معاوية وعمرو؟

وربما طعن آخر في مصداقيّة المسعودي باعتبار أنّ به تشيعاً، ربما حمله على شوب التاريخ بالرأي، أو على التهاون في التحقق ممّا يروي، فيما يتعلّق بمدح عليّعليه‌السلام وقدح مناوئيه.

وأيّاً ما كان الأمر، فإنّ الثابت الذي لا مراء فيه أنّ معاوية ولّى عمراً مصر عام (٣٨ هـ)، بعد صفّين وبعد قتل محمّد بن أبي بكر والي مصر من قبل عليّعليه‌السلام وظلّ والياً عليها حتّى قضى، ثمّ تولاّها ابنه عبد الله من بعده.

والثابت أيضاً في كتب التاريخ على اختلافها، أنّ خراج مصر تركه معاوية لعمرو طيلة حياته فيما عبّر عنه بالطعمة.

يذكر المقريزي(١) : أنّ مصر جُعلت له طعمة بعد عطاء جندها والنفقة في مصلحتها.

فإذا علمت أنّ خراج مصر كان في ذلك الوقت أربعة عشر مليون دينار،

____________________

(١) المقريزي، الخطط ١ : ٣٠٠، ط ٢ - القاهرة - مكتبة الثقافة الدينيّة : عام ١٩٨٧ م.

١٧٤

عرفت لمـّا كان حرص عمرو على مصر، وعندما مات ترك سبعين بهاراً دنانير - والبهار: جلد ثور، ومبلغه أردبان بالمصري -(١) .

هذا في الوقت الذي لمْ يبنِ عليّعليه‌السلام آجرةً على آجرةٍ، ولا لبنةً على لبنةٍ، ولا قصبةً على قصبةٍ، كما يقول سفيان، وأنّه عندما تُوفّي لمْ يترك - كما قال الحسنعليه‌السلام - بيضاء ولا صفراء إلاّ ثمانمئة أو سبعمئة أرصدها لجارية(٢) .

قضيّة أبي ذر:

وقضيّة أبي ذر بسيطة وبيّنة بساطة وبيان الإسلام ذاته، وهي كما يُعبّر عنها بكلمات قليلة كان يقولها للناس:

يا معشر الأغنياء وأسوا الفقراء، بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار، تُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.

وقال لعثمان: لا ترضوا من الأغنياء حتّى يبذلوا المعروف ويُحسنوا إلى الجيران والإخوان، ويصلوا القرابات(٣) .

فلمْ يكن أبو ذر إذاً يرى أنّ أداء الزكاة هي كلّ حقّ المال، وإنّما ما زاد على قوته وقوت مَن يعولهم وكفاية حاجاتهم، فالجماعة أولى بالاستفادة منه على نحو يكفل الحياة الكريمة للجميع، فإنْ لم يفعل يكن كانزاً للمال بما يستحقّ معه عقوبة الكنز المقرّرة بالقرآن:( يَاأَيّهَا الذينَ آمَنُوا إِنّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالذينَ يَكْنِزُونَ

____________________

(١) المرجع السابق : ٣٠١.

(٢) ابن الأثير، مرجع سابق ٣ : ١٠.

(٣) المرجع السابق : ١١.

١٧٥

الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى‏ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنّمَ فَتُكْوَى‏ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَاكُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (١) .

تلك كانت دعوة أبي ذر، فماذا كان موقف معاوية منه ومن دعوته، إبّان إقامة أبي ذر بالشام ومعاوية والٍ عليها من قبل عثمان؟

١ - التشكيك في السند الشرعي للدعوة:

فقد أنكر معاوية أنّ هذه الآيات نزلت في المسلمين، زاعماً أنّها في أهل الكتاب(٢) .

قال البخاري(٣) في تفسير الآية: حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا جرير عن حصين عن زيد بن وهب، قال: مررت على أبي ذر بالربذة، فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنّا بالشام فقرأت:( وَالذينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (٤) . فقال معاوية: ما هذه فينا، ما هذه إلاّ في أهل الكتاب. قال، قلت: إنّها لفينا وفيهم.

وقد أكّد المفسّرون(٥) صحّة قول أبي ذر، فقال السدي: هي في أهل القبلة. وقال الضحاك: هي عامّة في أهل الكتاب والمسلمين. وقال عطاء عن ابن عبّاس: يُريد من المؤمنين.

____________________

(١) سورة التوبة : ٣٤ - ٣٥.

(٢) ليس بغريب أنْ يكون زعم معاوية هو عين مماحكة بعض منظري الأنظمة المعاصرة في المحيط الإسلامي التي تسودها العلمانيّة، بزعمهم أنّ آيات الحاكمية إنّما خُوطب بها بنو إسرائيل، وهو يعزّز ما ذهبنا إليه في هذه الدراسة من مفارقة النظام الاُموي للنظام الإسلامي ومواقعته للجاهليّة.

(٣) تفسير ابن كثير، مرجع سابق ٢ : ٣٥٢.

(٤) سورة التوبة : ٣٤.

(٥) النيسابوري، أسباب النزول، مرجع سابق : ١٨٤.

١٧٦

٢ - الإرهاب والتهديد الشخصي:

فقد ذكر ابن الأثير: أنّه ذُكرت في ذلك اُمور كثيرة، مثل سبّ معاوية لأبي ذر وتهديده بالقتل، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء. وعلّق ابن الأثير على ذلك بكرهه ذكره رغم صحّته(١) .

وكذلك فعل الطبري، إذ لمْ ينفِ وقوع هذه الأمور، ولكنّه قال(٢) : كرهت ذكر أكثرها.

٣ - الحجر على الدعوة:

فقد ذكر ذكر ابن كثير(٣) : أنذ معاوية كان ينهى أبا ذر عن إشاعة دعوته، فلا يمتنع.

٤ - ادّعاء الفتنة:

خشي معاوية من شيوع دعوة أبي ذر، فما كان منه إلاّ أنْ بعث إلى عثمان يعظّم أمر أبي ذر، قائلاً له: إنّ أبا ذر قد أعضل بي، وقد كان من أمره كيت وكيت(٤) . فما كان جواب عثمان إلاّ أنْ قال: إنّ الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبقَ إلاّ أنْ تثب.

وإحداث الفتنة - كما هو معلوم - تهمة عظمى تدور معها دائماً لواحق، مثل تفريق الجماعة والخروج عن الطاعة والإفساد في الأرض، وربما العمالة للأعداء، وهي تُهم تكاد تكون واحدة بألفاظها على مرّ العصور، تتّهم بها السلطة القائمة كلّ ذي رأي مخالف تخشاه على مصالحها.

____________________

(١) الكامل، مرجع سابق ٣ : ١٠.

(٢) التاريخ، مرجع سابق ٤ : ٢٨٣.

(٣) البداية والنهاية، مرجع سابق ٧ : ١٦١.

(٤) العقد الفريد، مرجع سابق ٤ : ١١.

١٧٧

ولمْ يكن أبو ذر لتخفى عليه صحف الاتّهام الجاهزة، فما كان جوابه إلاّ أنْ قال مقالةً تجمع بين الثبات على الحقّ وتفويت الفرصة على متّهميه، فقال: فلا أدع قولي، ولو أمروا عليّ عبداً حبشياً لأطعت(١) .

٥ - التربص ومحاولة التشويه:

احتال معاوية بشتّى الوسائل لِوَأد دعوة أبي ذر، حتّى إنّه حاول نصب الفخاخ له كي يُوقع به، فأرسل إلى أبي ذر في جنح الليل ألف دينار فأنفقها، ثمّ عاد معاوية فأرسل رسوله في الصباح التالي وأمره أنْ يقول له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية فإنّه أرسلني إلى غيرك وإنّي أخطأت بك، فقال له أبو ذر: يا بني، قلْ له: والله، ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخرّنا ثلاثة أيام حتّى نجمعها(٢) .

وهذا يدلّ على خبيئة نفس معاوية، فلو أنّ حقيقة روح الإسلام مسّتها ما استبعد أنْ تنطوي نفس كنفس أبي ذر على الصدق في القول والفعل. وكيف لا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه:« ما أظلّت الخضراءُ، ولا أقلّت الغبراءُ أصدق لهجة من أبي ذر ». بل كان صدق أبي ذر مضرب الأمثال عند العرب، فكانوا يقولون: أصدق من أبي ذر، كقولهم: أسخى من حاتم، وأكذب من مسيلمة.

ومع هذا عاد معاوية حتّى لحظة إخراجه من الشام، ليتعلّق عليه بأيّ شيء يتّخذه ذريعة للتشنيع عليه، فعندما أخرجه وأهله كان معهم جراب ثقيل، فأسرع معاوية يقول: انظروا إلى هذا الذي يزهد في الدنيا ما عنده؟ فقالت امرأته: والله، ما هو دينار ولا درهم، ولكنّها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوساً لحوائجنا.

____________________

(١) الكامل، مرجع سابق ٣ : ١٠.

(٢) المرجع السابق ٣ : ١١.

١٧٨

٦ - النفي نهائياً:

لبّى عثمان طلب معاوية فاستقدم أبا ذر من الشام إلى المدينة، ثمّ سيّره منفيّاً إلى ناحية نائية، تُسمّى: الربذة.

يذكر ابن كثير(١) : كتب عثمان إلى أبي ذر أنّ يقدم عليه المدينة، فقدمها فلامه عثمان على بعض ما صدر منه، واسترجعه فلمْ يرجع، فأمره بالمقام بالربذة.

وذكر ابن عبد ربّه(٢) : أنّ عثمان أمر أبا ذر بالاعتزال.

وبعد، فقد جاء المعذّرون - كعادتهم الدائمة - ليُعيدوا صياغة القضيّة، وليُردوها جملةً إلى هذا اليهودي الغامض الذي أسلم كيداً للإسلام - كما يقولون - والذي يُخرجونه دائماً من جُعبتهم جاهزاً مستعدّاً لإلقاء التبعات عليه في كلّ قضيّة يُحارون فيها دفاعاً عن السلطان، أو عندما تعييهم الحيل في تلفيق الأحداث بما يتّفق وأهواءهم. حدث في قضيّة أبي ذر، كما حدث من بعد في قضيّة عثمان وفتنة معاوية.

هكذا يردّون دعوة أبي ذر إلى فكر ابن السوداء عبد الله بن سبأ، لا أنّها حقيقة تُمثّل أبي ذر لروح الإسلام.

يروي الطبري(٣) : أنّ العاذرين لمعاوية قالوا: لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر، فقال: يا أبا ذر، ألاَ تعجب إلى معاوية، يقول: المال مال الله! ألاَ إنّ كلّ شيء لله، كأنّه يُريد أنْ يحتجبه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين.

____________________

(١) البداية والنهاية، مرجع سابق ٣ : ١٦٢.

(٢) العقد الفريد، مرجع سابق : ١١٨.

(٣) التاريخ، مرجع سابق : ٢٨٣.

١٧٩

ولعلّ أيسر ردّ لهذه الفرية تلك الرواية الواردة في ذات المصدر(١) وتناقض تماماً الرواية الأولى، فيروي الطبري: كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعربيّة، وكان يُحبّ الوحدة والخلوة. فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار، فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتّى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي للمؤدّي الزكاة ألاّ يقتصر عليها حتّى يحسن إلى الجيران والإخوان، ويصل القرابات. فقال كعب: مَن أدّى الفريضة، فقد قضى ما عليه. فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجّه، وكان قد قال له: يابن اليهوديّة، ما أنت وما ها هنا! والله، لتسمعنّ منّي أو لأدخل عليك.

ولعلّك لاحظت معي التعمية والتناقض معاً، فالنصّ يذكر: أنّ أبا ذر كان يُحبّ الوحدة والخلوة، بما يباطن ذلك من إيحاء متعمّد، وكأنّ مقامه بالربذة اختياره الخاصّ وليس نفياً، ثمّ إنّه رفض مناقشة كعب الأحبار، وهو أرسخ قدماً في الإسلام من ابن السوداء المزعوم، فكيف يذعن بتعلّم أمر الدين من الأخير؟

ثمّ ما لهؤلاء يغضّون الطرف عن الدليل القرآني البيّن على صحّة دعوة أبي ذر: أنّ في المال حقّاً سوى الزكاة. يقول الله تعالى:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ ) (٢) .

____________________

(١) المرجع السابق : ٢٨٤.

(٢) سورة البقرة : ١٧٧.

١٨٠