أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 83992
تحميل: 6960

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83992 / تحميل: 6960
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فإيتاء المال على حبّه - من ذكرهم الله تعالى - غير الزكاة المذكورة من بعد في ذلك الآية.

وروى الترمذي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال:« إنّ في المال حقّاً سوى الزكاة » .

وقال عمر آخر عهده: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسّمتها على فقراء المهاجرين(١) .

وقال عليّعليه‌السلام :« إنّ الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإنْ جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحقّ على الله تعالى أنْ يُحاسبهم يوم القيامة، ويُعذّبهم عليه » (٢) .

ويعلّق ابن حزم على هذه المسألة بقوله: وفرض على الأغنياء من أهل كلّ بلد أنْ يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إنْ لمْ تقم الزكوات بهم.

ولسيّد قطب ذات الرأي، إذ يقول(٣) : وإنّا لنلحظ شبه تواطؤ بين من يتحدّثون عن الزكاة في هذه الأيّام، على اعتبارها الحدّ الأقصى الذي يطلبه الإسلام دائماً من روؤس الأموال، لذلك ينبغي أنْ نكشف هذا التواطؤ الذي يتعمّده رجال الدين المحترفون(٤) .

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٤ : ٢٢٦.

(٢) ابن حزم، المحلّى ٦ : ١٥٨ - بيروت - دار الآفاق الجديدة.

(٣) العدالة الاجتماعيّة في الإسلام، مصدر سابق : ١٥٧.

(٤) من الباحثين المعاصرين الذين يؤكّدون ذات المعنى، د. يوسف القرضاوي صاحب كتاب ( فقه الزكاة )، إذ يقول في ٢ : ١٠١٧: ومن ذلك ما شاع لدى المتأخّرين من أهل الفقه، أنّ لا حقّ في المال سوى الزكاة، وأصبح هذا كالقضيّة المسلّمة عند كثيرين من المشتغلين بالعلم الديني.

١٨١

وإنّا لنُحبّ كذلك أنْ نُورد رأي سيّد قطب(١) - وإنْ مطوّلاً - في قضيّة أبي ذر: وما كانت مثل هذه الدعوة - دعوة أبي ذر - ليطيقها معاوية، ولا ليطيقها مروان بن الحكم، فما زالا به عند عثمان يُحرضانه عليه حتّى كان مصيره إلى الربذة منفيّاً من الأرض في غير حرب لله ولرسوله، وفي غير سعي في الأرض بالفساد، كما تقول شريعة الإسلام.

لقد كانت هذه الصيحة يقظة ضمير مسلم لمْ تحذره الأطماع، أمام تضخّم فاحش في الثروات، يفرّق الجماعة الإسلاميّة طبقات، ويحطّم الأُسس التي جاء هذا الدين ليُقيمها بين الناس، وبحسبنا أنْ نعرض هاهنا نموذجاً للثروات الضخام أورده المسعودي، قال: في أيّام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال، فكان لعثمان يوم قُتل عند خازنه خمسون ومئة ألف دينارٍ وألف ألف درهمٍ، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مئة ألف دينارٍ، وخلّف إبلاً وخيلاً كثيرة، وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينارٍ، وخلّف ألف فرسٍ وألف أمةٍ.

وكانت غلّة طلحة من العراق ألف دينارٍ كلّ يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك. وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرسٍ، وله ألف بعيرٍ وعشرة آلاف من الغنم؛ وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً.

وخلّف زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما كان يُكسر بالفؤوس، غير ما خلّف من الأموال والضياع، وبنى الزبير دارة بالبصرة، وبنى أيضاً بمصر والكوفة والإسكندريّة، وكذلك بنى طلحة دارة بالكوفة، وشيّد داره بالمدينة، وبناها بالجص والآجر والسياج. وبنى سعد بن أبي وقّاص دارة بالعقيق

____________________

(١) العدالة الاجتماعيّة، مرجع سابق : ٢٣٧.

١٨٢

ورفع سمكها وأوسع فضاءها، وجعل أعلاها شرفات. وبنى المقداد داره بالمدينة، وجعلها مجصّصة الظاهر والباطن.

وخلف - يعني ابن منبه - خمسين ألف دينارٍ وعقاراً، وغير ذلك ما قيمته ثلاثمئة ألف درهمٍ.

هذا هو الثراء الذي بدأ صغيراً بإيثار بعض المسلمين على بعض في العطاء أيّام عمر، ذلك الإيثار الذي كان معتزماً إبطاله وتلافي آثاره لو لا أنْ عاجلته الطعنة التي لمْ تَصب قلب عمر وحده، وإنّما أصابت قلب الإسلام. ثمّ نما وزاد بإبقاء عثمان عليه، فضلاً على العطايا والهبات والقطائع، ثمّ فشا فشواً ذريعاً بتجميع الأملاك والضياع وموارد الاستغلال، بما أباحه عثمان من شراء الأرضين في الأقاليم، وتضخيم الملكيّات في رقعة واسعة، وبمقاومة الصيحة الخالصة العميقة التي انبعثت من قلب أبي ذر.

 وكانت جديرة لو بلغت غايتها، ولو وجدت من الإمام استماعاً لها أنْ تعدل الأوضاع، وأنْ تحقّق ما أراده عمر في آخر أيّامه من ردّ فضول الأغنياء على الفقراء، بما يُبيحه له سلطان الإمامة لدفع الضرر عن الاُمّة، بل بما يحتمه عليه تحقيقاً لمصلحة الجماعة.

وبقدر ما تكدّست الثروات في جانب، كان الفقر والبؤس في الجانب الآخر حتماً، وكان النقمة والسخط كذلك. وما لبث هذا كلّه أنْ تجمّع وتضخّم، لينبعث فتنةً هائجةً، يستغلّها أعداء الإسلام فتُودّي في النهاية بعثمان، وتُودّي معه بمأمن الاُمّة الإسلاميّة وسلامتها، وتسلّمها إلى اضطراب وفوران لمْ يخب أوراه حتّى كان قد غشي بدخانه على روح الإسلام، وأسلم الاُمّة إلى ملك عضوض.

وممّا يلفت الانتباه في كلام سيّد قطب مستشهداً بالمسعودي، أنّ الأمر لا يتعلّق بمجرد بناية دار هنا ودار هناك، أو أنّ تلك الدور مجصّصة أو بها شرفات، فلا تثريب على إتيان ذلك بحدّ ذاته، وإنّما عَنى من سوق أمثلته الدلالة

١٨٣

على تكدّس الثروات في جانب وانعدامها أو شبه انعدامها في جانب آخر، بما يُقسّم المجتمع إلى طبقات يعمّق من تناقضها، أنّ تلك الثروات المكدّسة تجد مصرفها في رفاهيّة مظهريّة لا تزيد المعدمين إلاّ نقمةً وسخطاً.

وخلافاً لجُلّ فقهاء السنّة، فإنّ سيّد قطب يلمس الدواعي الحقيقيّة للثورة بنظام عثمان، فهو يُرجعها لأسبابها الاجتماعيّة، وليس للتآمر من الكائدين للإسلام كما يزعمون.

ثمّ هو مؤكّد على سبب رئيس من أسباب انهيار النظم، وهو انعدام الحريّة، تلك التي تفجّرها قضيّة أبي ذر، فلو أنّ الإمام استمع إليه، أو أُتيحت له حريّة الدعوة لتمكن النظام من التصحيح الذاتي لأخطائه قبل تفاقهما، ودون أنْ تبلغ حدّ اللاعودة.

على أنّ ما يلفت النظر بشدّة، تقصّي سيّد قطب لجذور الثورة، وإمساكه بالسبب الأوّل للتفاوت الطبقي الذي وجده عند عمر، إذ إنّ الإيثار بدأ على يديه بالتفضيل في العطاء، فقد كان العطاء بالسويّة على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وظلّ كذلك على عهد أبي بكر، حتّى جاء عمر فبدّله إلى التفضيل، ثمّ زاد على عهد عثمان، حتّى أتى عليّعليه‌السلام فأعاده إلى السويّة كسيرته الأولى، ممّا كان سبباً في الثورة المضادّة من طبقة المترفين التي نجحت في القضاء على نظامه، وأحلّت محلّه الملك العضوض.

ورغم تحديده السبب الأوّل للطبقيّة، إلاّ أنّه استدرك بقوله إنّ عمر أراد ردّ فضول أموال الأغنياء، ولكن لمْ يقل أحد ما الذي منعه من ذلك، إضافةً إلى أنّه لا يتأتّى من مفهوم صيغة قول عمر: لو استقبلت من أمري ما استدبرت. بما يُوحي بالاستحالة. ثمّ إنّ عمر قال: لو أنّه فعل ذلك لردّه على فقراء المهاجرين، بما يَعني تمييزاً آخر. أمَا كان أجدر أنْ يقول: على فقراء المسلمين؟ ولكنّها قصّة اُخرى تحتاج إلى تفصيل آخر.

١٨٤

النظام الاُموي - القيم والاتجاهات

لمّا كانت الاتّجاهات تُعدّ منافذ لقياس القيم بما تتبدّى في سلوك بعينه يُمارس في مواقف مختلفة، فإنّا نحسب أنّه يتوفّر لدينا الآن كمٌ هائلٌ من المواقف المتنوّعة القابلة للاختزال في اتّجاهات محدّدة، تكشف بالتالي عن نسق القيم السائد خلال هذا النظام بما يحويه من دافعيّة، نُحاول رصدها بالنسبة إلى الدافعيّة المستهدفة من النظام الإسلامي.

ولكي نزيد الأمر بياناً، فسوف نُحاول استظهار دلالات المواقف المختلفة فيما يلي:

١ - استغواء واستهراء النفوس:

مرّةً اُخرى تطلّ علينا قصّة عقيل بن أبي طالب أخي عليّعليه‌السلام ، لمَا لها من دلالات متعدّدة، فعقيل يطلب من أخيه الإمام إعطاءه من بيت مال المسلمين فيأبى عليّعليه‌السلام ، فيلحق عقيل بعدوّ أخيه معاوية فيغدق عليه من مال المسلمين، فمعاوية يُعطي عقيلاً بغير حقّ ولغير حقّ، يستنقص به فئة عليّعليه‌السلام ويطمع فيه غير عقيل ممّن يُغريهم المال حين تُذاع هذه الفعلة بينهم، فيحتالون على المبدأ أو يتبجّحون بالباطل على علمهم بالحقّ، كما قال عقيل: إنّي أردت عليّاًعليه‌السلام على دينه فاختار دينه، وإنّي أردت معاوية على دينه، فاختارني على دينه.

١٨٥

كثيراً ما تقرأ عن اتّصاف معاوية بالدهاء، ويعزون إلى ذلك غبه على الحكم، وكأنّهم بذلك يقرّون بمزيّة لمعاوية، ولكن الدهاء على الجور شيء والاستواء على الحقّ شيء آخر، إقرأ قول عليّعليه‌السلام تقف على الفارق:

« أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟ وَ اللَّهِ، لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً، لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ؟ » .

فقد حاول معاوية رشوة قيس بن سعد عامل عليّعليه‌السلام على مصر؛ ليخون إمامه ويتابع معاوية، فبعث إليه بكتاب يقول فيه(١) : تابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقينِ إذا ظهرت ما بقيت، ولمَن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز مادام لي سلطان، وسلني غير هذا ممّا تُحبّ، فإنّك لا تسألني شيئاً إلاّ أُوتيته.

إلاّ أنّ قيساً يأبى الخيانة ويرفض الرشوة ويترفّع على الإغراء مستمسكاً بدينه، فيكتب إلى معاوية(٢) : فإنّ العجب من اغترارك بي، وطمعك فيّ، واستسقاطك رأيي، أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحقّ، وأهداهم سبيلاً، وأقربهم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيلةً، وتأمرني بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزور، وأضلّهم سبيلاً، وأبعدهم من الله عزّ وجلّ ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيلةً، ولد ضآلين مضلّين، طاغوت من طواغيت إبليس.

وموقف ثالث: لا يكلّ فيه معاوية عن استعمال سلاح الرشوة، وخاصّة في المواقف الشديدة التي تُغري بالسلامة في مواقع الخطر. فقد حدث في موقعة صفّين وحينما حمي الوطيس وبلغت القلوب الحنابر، أنْ بعث معاوية إلى

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٤ : ٥٥٠.

(٢) المصدر السابق : ٥٥١.

١٨٦

أمير خيّالة عليّعليه‌السلام قائلاً له: اتّبعني على ما أنت عليه، ولك إمرة العراق(١) .

وهذه المرّة تعمل الرّشوة عملها، فيطمع فيها أمير الخيّالة خالد بن المعتمر، ويخون إمامه عليّاًعليه‌السلام .

وموقف رابع: فعندما التقى بعد صفّين الحكمان عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري، حاول عمرو - سيرة صاحبه معاوية - رشوة أبي موسى، كيْما يتابعه على تولّية معاوية الخلافة، فقال عمرو: إنّ ولّي أكرمك كرامةً لمْ يكرمْها خليفة. فيردّ أبو موسى: يا عمرو، اتّق الله عزّ وجلّ، وأمّا تعريضك لي بالسلطان، فو الله، لو خرج لي من سلطانه كلّه ما ولّيته(٢) .

٢ - انتكاس الفطرة وشيوع الخنوع القهري:

رأينا من قبل - عند دراستنا لمقوّمات النظام الجاهلي - كيف تميّز العرب بأنفة خاصّة تجلّت أكثر ما تجلّت في إباء الضيم، وفي تلك الحساسيّة المفرطة تجاه كلّ ما يمسّ الكرامة، حتّى لربما نشبت الحرب الضروس لأوهى سبب يخدش الكبرياء.

ورغم أنّ تلك السمات لمْ يُتاحْ لها أنْ توظّف التوظيف الاجتماعي القويم في ظلّ جاهليّة العرب، إلاّ أنّنا مع ذلك تعرّفنا على أنضج تجربة لهم تمثّلت في حزب الفضول الداعي لرفض كلّ ضيم، وللتناصر للمظلوم.

فلمّا أهلّ الإسلام أفاد من هذه الخصال، واستخلص منها العناصر الإيجابيّة، فهذّبها ووظّفها التوظيف الصحيح، ووجّهها التوجيه الأسمى، فأقرّ العزّة

____________________

(١) ابن كثير، البداية والنهاية، مرجع سابق ٧ : ٢٧٦.

(٢) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٦٨.

١٨٧

للمؤمنين، وحضّ على التذلل فيما بينهم، وأوجب على كلّ مسلم النصح لعامّة المسلمين ولأئمتهم، وبيّن أنّ المؤمن الحقّ، مَن قال الحقّ لا يخشى في الله لومة لائم، ووصم الساكت عن الحقّ، بأنّه شيطان أخرس، بل جعل الإسلام أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر.

كلّ ذلك ينبع ممّا أراده الإسلام للمؤمنين ألاّ يخشوا إلاّ الله وحده، وهي النتيجة الخالصة لعقيدة التوحيد التي تنفكّ معها كلّ قيود المرء، فينطلق في الحياة موقناً بالله معتزلاً به وبدينه وبنفسه.

هذا ما أراد الله لعباده المؤمنين، وهكذا ربّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مَن اتّبعه. ولعلّك تُدهش ممّا بلغته الحريّة التي عاشها المسلمون في ظلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى وإنْ أدّت بأحدهم إلى الشطط، كذلك الذي اندفع يقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اعدل يا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فلمْ يزد على أنْ حاجّه وكفّ أذى النّاس عنه.

كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقيم دعائم دولة قوامها الفرد الحرّ بأوسع معاني الحريّة، يتشابك في مجتمع متماسك بأشدّ الروابط متانةً، في معادلة غاية في التوازن لم تعهدها البشريّة من قبل، وكانت وسيلة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك تنميّة الشخصيّة الحرّة، بإطلاقها من كلّ إسار يُقيّدها إلى رحابة الاستعباد الطوعي لله وحده، ولكن ذلك لا يأتي بقرار أو مجرّد أمر، أو باستحفاظ عناوين المبادئ وترديدها، وإنّما من خلال ممارسة فعّالة في واقع حيّ تُدرّب فيها النفس على الأخذ والعطاء والمواجهة والاستعلاء على الضرورات، حين تُوضع مواضع الاختيار والابتلاء.

إذاً شرط المجتمع المُعافى من المنظور الإسلامي هو الشخصيّة القويمة، وأمّا تلك المقهورة أو المتردّدة أو المؤثرة للسلامة مع الباطل على الحقّ، فهي شخصيّة عقيمة لا يستقيم معها مجتمع، ولا تصحّ بها حياة.

١٨٨

وعلى النقيض من ذلك تماماً يؤسّس الاستبداد نظامه، وكلّ نظم الاستبداد - حتّى يومنا هذا - تستمدّ حياتها من نفوس مقهورة، مطأطأة الرؤوس، لا تمدّ أبصارها أبعد من مُحيط أقدامها، وهو ما تحرص تلك النظم على تعميقه حتّى يصير عادةً تُورث في الأجيال المتعاقبة القابلية الدائمة للاستعباد.

وإذا كان الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أرسى قواعد التمكين للشخصيّة الإسلاميّة في حياته، فإنّ ما تلا ذلك من عهود قد حمل معه عوامل تآكل تلك القواعد في الواقع الفعلي، بما خلّف إخلالاً في توازن البِناء كلّه.

على أنّ تلك العهود لمْ تُعدم بطبيعة الحال من تصدّيات - وإنْ قلّت - للبِناء ألاّ ينهار، كذلك الذي يؤثر عنه - إنْ صحّ - أنّه قال لعمر: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا. وكمعارضات أبي ذر، وكثورة وفود الأمصار على المظالم في عهد عثمان، حتّى جاء عليّعليه‌السلام الذي وجد مهمّته أشقّ بكثير ممّا يتصوّر الكثيرون: إعادة إقامة القواعد من الأساس.

كادت تضيع معالم تمييز الحقّ من الباطل - لأسباب قد وُضّح بعضها ونتاولها لاحقاً إنْ شاء الله - على جميع الأصعدة حتّى ما كان منها على مستوى التشريع، فكان على عليّعليه‌السلام أنْ يُعيد ترسيم الحدود.

وكانت سحب الضلال قد غشيت الناس، فما أسفرت الأيّام إلاّ عن قلّة تصارع عوامل السقوط، فكان على عليّ مداومة الجهاد لاستنقاذ البقيّة، وما أكثرها، ومن أبلغ ما أثر عن عليّعليه‌السلام قوله(١) :« أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ وَ جُوعُهَا طَوِيلٌ؛ أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَ السُّخْطُ، وَ إِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا. فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ( فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ) (٢) » .

____________________

(١) نهج البلاغة بشرح محمّد عبده : ٤٥٩ - بيروت - دار البلاغة : ١٩٨٧ م.

(٢) سورة الشعراء : ١٥٧.

١٨٩

أين إذاً هذا العهد الذي يُربّي نفس المرء على الحقّ خالصاً، من عهد يطلب من كلّ إمرئ أنْ يجعل نفسه منتهى همّه؟ وما بالك بعهد شعاره جعل كلّ فرد يُناجي نفسه: انجُ سعد، فقد هلك سعيد!

إنّ الخُطّة التي اختطّها معاوية لسياسة المسلمين وإحكام قبضته عليهم واحتكاره وذرّيّته السلطة، يعبّر عنها أوضح تعبير كبير عمّاله زياد بن أبيه في خطبته الشهيرة بالبتراء(١) . وزياد هذا قد حظي بثقة معاوية حتّى جمع له البصرة وخراسان وسجستان، ثمّ الهند والبحرين وعمان. يقول زياد(٢) : وإنّي أقسم بالله، لآخذنّ الولي بالولي(٣) ، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتّى يلقى الرجل منكم أخاه، فيقول: " انج سعد، فقد هلك سعيد " أو تستقيم لي قناتكم، وقد أحدثنا لكلّ ذنب عقوبة، فمَن غرّق قوماً غرّقته، ومَن حرق على قوم حرقناه، ومَن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومَن نبش قبراً دفنته حيّاً. وأيمْ الله، إنّ لي فيكم صرعى كثيرة، فليحذر كلّ إمرئ منكم أنْ يكون من صرعاي!

وأنت تلاحظ - كما لاحظ الناقدون جميعاً - أنّ هذه سياسة لا تمّت للإسلام بصلة، فقد قال الله تعالى:

( وَإِبْرَاهِيمَ الذي وَفّى * أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏ * وَأَن لّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلّا مَا سَعَى ) (٤) .

____________________

(١) لأنّه لمْ يحمد الله فيها.

(٢) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٢١٩.

(٣) في العقد الفريد: الولي بالمولى.

(٤) سورة النجم : ٣٧ - ٣٩.

١٩٠

ولمْ يأمر الإسلام أبداً بالتحريق، وبنقب القلوب وبدفن الأحياء. ثمّ هو يقسم بالله أنّ له في رعيته لصرعى كثيرة، وكأنّها حصّة مقرّرة سلفاً، وقد فعلها. أتذكرون الأعرابي الذي قتله مع يقينه من صدق عذره زاعماً أنّ في ذلك صلاح الاُمّة؟!

وزياد في كلّ ذلك لمْ يفته - سيرة صاحبه معاوية - إلباس الحقّ بالباطل، وتحريف الكلم عن مواضعه، فيزعم في ذات الخطبة: إنّي رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلاّ بما صلح به أوّله: لينٌ في غير ضعف، وشدّةٌ في غير جبريّة وعنف.

بل يزعم أنّه سيُسوّس الناس بالعدل بمثل ما تقدّم من قانونه، فيقول: نُسوّسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولّينا.

وعلى هذا النهج أحكم معاوية أمر سلطانه، بين استبداد مطلق بالسلطة وخلط للحقّ بالباطل، وتهديد ووعيد وإرعاب وإرهاب، وأخذ للبريء بالمتّهم والمحسن بالمسيء، والقتل بالظنّة والعقوبة على الشبهة.

يذكر الطبري(١) : كان زياد أوّل من شدّ أمر السلطان، وأكّد الملك لمعاوية، وألزم الناس الطاعة، وتقدّم في العقوبة وجرّد السيف، وأخذ بالظّنة وعاقب على الشبهة، وخافه الناس في سلطانه خوفاً شديداً.

كلّ ذلك قد حدث في قرن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الأوّل، ولمّا تمضِ بضعة عقود على وفاته. ولعمرك، فذلك هو عين ما توقّع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وحذّر الناس من وقوعه، إنْ هم ظلّوا على ما هم عليه من تثاقل عن نصرة الحقّ، إذ قال في بني

____________________

(١) المرجع السابق ٥ : ٢٢٢.

١٩١

اُ ميّة(١) :« وَ اللَّهِ، لَا يَزَالُونَ حَتَّى لَا يَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ، وَ لَا عَقْداً إِلَّا حَلُّوهُ، وَ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ إِلَّا دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ، وَ نَبَا بِهِ سُوءُ رَعْيِهِمْ » .

فلمّا اجتمع الاستبداد والقهر مع إفساد الذمم بالإغواء والرشوة، كانت المحصّلة الطبيعيّة شيوع النفاق، وكذلك شأن كلّ حكم استبدادي على مرّ التاريخ.

فهل هناك ما هو أرذل من شخص يقوم بين يدي زياد - بعد إذ ألقى خطبته البتراء تلك - فينافق زياداً بقوله: أشهد أيّها الأمير، أنّك قد أُوتيت الحكمة وفصل الخطاب!

وهل هناك ما هو أنكر من مشيخة البصرة، يحشو زياد أعطافهم بالمال، فينبري قائلهم(٢) :

ألا من مبلغ عني زياداً

فنعم أخو الخليفة والأمير

فأنت إمام معدلة وقصد

وحزم حين تحضرك الأمور

أخوك خليفة الله ابن حرب

وأنت وزيره، نعم الوزير

بأمر الله منصور معان

إذا جار الرعية لا تجور

* * *

فتكون العاقبة التلقائيّة لكلّ ذلك أنْ يقبر المبدأ الإسلامي الأعمق، والكفيل بحفظ صحّة الاُمّة أبداً لو استمسك به، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبدلاً من وجوب استشعارك الدائم المسؤوليّة المجتمعيّة، وأنْ تكون خصماً للظالم عوناً للمظلوم، تجعل شعارك: نفسي نفسي.

* * *

____________________

(١) نهج البلاغة، مرجع سابق : ٢٤١.

(٢) الطبري، مرجع سابق : ٢٢٣.

١٩٢

٣ - الهزء باحكام الشرع:

قد تختلف وجهات النظر في مسألة يجوز فيها الاجتهاد، وقد يتأوّل متأوّل أمراً يخضع لشروط التأويل، وأمّا أنْ يجاهر أحد بمخالفة حكم محكم لا سبيل إلى الاجتهاد فيه أو تأوّله، وليس له سابقة أو نظير في حكم الإسلام، فقد أخرج نفسه بنفسه من الإسلام.

فما بالك بالمنوط به القيام بشرع الله، فحكم بغير ما أنزل الله، مصرّاً على ما فعل؟

فذاك بيان ما فعله معاوية بن أبي سفيان في قضيّة استلحاقه زياداً بن سميّة. فقد وُلد زياد في فراش عبيد الرومي، الذي زوّجه سميّة الحارث بن كلدة الثقفي، بعد أن وهبه له أحد دهاقين الفرس. ثمّ حدث أنْ ذكر أبو سفيان زناه بسميّة - عندما أتاه بها أبو مريم السلولي وهو خمّار بالطائف - وأنّ زياداً وُلد هذا الزنى. إلاّ أنّ معاوية - بعد طول عهد - استحلق زياداً ودعاه: زياد ابن أبي سفيان.

وحكم الإسلام في هذه القضيّة واضح مشهور، وهو:« الولد للفراش، وللعاهر الحجر » . وعليه يكون زياد لعبيد، ولا نسب يصحّ لأبي سفيان، طبقاً لحديث البخاري عن عائشة:

كان عتبة بن أبي وقّاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقّاص أن ابن وليدة زمعة منّي فاقبضه. قالت: فلمّا كان عام الفتح، أخذه سعد بن أبي وقّاص، وقال: ابن أخي قد عهد إليّ فيه. فقام عبد بن زمعة، فقال: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي كان قد عهد إليّ فيه. فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه.

١٩٣

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« هو لك يا عبد بن زمعة » . ثمّ قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الولد للفراش، وللعاهر الحجر » . ثمّ قال لسودة بنت زمعة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :« احتجبي منه » . لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتّى لقي الله.

ومعنى« وللعاهر حجر »: وله الخيبة، ولا حقّ له في الولد، كما قال الفقهاء(١) . وقال سعيد بن المسيّب: أوّل قضاء كان في الإسلام بالباطل استلحاق زياد.

وأكّد الحسن البصري(٢) أنّ هذه الفعلة من معاوية موبقة له، إذ ذكر أنّها واحدة من أربع خصال كنّ في معاوية، لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت له موبقة، ومنها: ادعاؤه زياداً، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الولد للفراش، وللعاهر الحجر » .

وعظّم ابن الأثير أمر هذا الاستلحاق حتّى إنّه لمْ يرتضِ إيجاز الطبري له، فقال(٣) : إنّه من الأمور المشهورة الكبيرة في الإسلام، لا ينبغي إهمالها. ثمّ وصّف هذا الاستلحاق - بعد سرد تفاصيله - قائلاً: وكان استلحاقه أوّل ما ردّت به أحكام الشريعة علانيّة، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قضى بـ« الولد للفراش، وللعاهر بالحجر » . ثمّ علّق على مَن يُحاول تبرير فعلة معاوية، قائلاً: وهذا مردود لاتّفاق المسلمين على إنكاره، ولأنّه لمْ يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجّة.

وقال السيوطي(٤) : هي أوّل قضيّة غُيّر فيها حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الإسلام.

____________________

(١) انظر: الفقه على المذاهب الأربعة، مرجع سابق ٥ : ١٢٠. الموطّأ للإمام مالك، كتاب الأقضية، باب: القضاء بالحق الولد بأبيه.

(٢) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٢٧٩.

(٣) الكامل، مرجع سابق ٣ : ٣٠٠.

(٤) تاريخ الخلفاء، مرجع سابق : ١٩٦.

١٩٤

فإذا كان هذا الحكم من الجلاء، بحيث قِيل فيه كلّ ما سبق، أفيحقّ لابن العربي(١) أنْ يأتي زاعماً: أنّ ذلك الاستلحاق كان اجتهاداً من معاوية؟ أمْ أنّه يُشاركه بذلك إثم تبرير مخالفة أحكام الشرع؟

الواقع أنّ كلّ الأحداث التي مررنا بها تؤكّد وتثبت صحّة ما افترضناه من قبل، من خُطّة معاوية وبني اُميّة في السلطة والسيادة مطلقاً، دون ما اعتبار أو اكتراث بالغرض الأساسي من الخلافة في إقامة شرع الله. وإنّما سلكوا المسلك النفعي البحت الذي يُدركون به توكيد سلطانهم.

وقد رأينا من قبل صفقة معاوية وعمرو بن العاص، ودرسنا التأوّل الفاسد في قتل عمّار بن ياسر، وتابعنا رشوة القوّاد، وإغواء المتردّدين، وإطماع الآخرين، فلا تشذّ إذاً قضيّة استلحاق زياد عن هذا المنهج العامّ.

وإنّما أراد معاوية - بعد أنْ تمّ له الأمر بقتل عليّعليه‌السلام وتنازل الحسنعليه‌السلام - ضمّ فارس التي غلب عليها زياد وتحصّن بها، بعد أنْ استعصى عليه بالتهديد فاحتال عليه، ولمْ يزل يوسوس له ويرغّب له فيه حتّى أزلّه.

وكان بعض خُطّة معاوية لخلخلة نظام خلافة عليّعليه‌السلام اختراق جبهته من الداخل، بإفساد ذمم قوّاده والمحيطين به بالشراء والوعد تارةً، وبالتهديد والوعيد تارةً اُخرى، حدث ذلك مع قيس بن سعد عامل عليّعليه‌السلام على مصر - كما ذكرنا - وحدث ذلك إبّان صفّين مع أمير خيّالة عليّعليه‌السلام ومع غيره من رؤوس القبائل، وكذلك حدث مع زياد.

يذكر ابن الأثير(٢) : كتب معاوية إلى زياد يتهدّده، ويعرض له بولادة أبي سفيان إيّاه.

____________________

(١) العواصم من القواصم، مرجع سابق :٢٥٠.

(٢) الكامل، مرجع سابق : ٣٠١.

١٩٥

وبلغ ذلك عليّاًعليه‌السلام ، فكتب إلى زياد:« إنّي ولّيتك ما ولّيتك، وأنا أراك له أهلاً، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل، وكذب النفس، لا تُوجب له ميراثاً ولا تحلّ له نسباً. وإنّ معاوية يأتي الإنسان من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثمّ احذر. والسّلام ».

إلاّ أنّ معاوية ظلّ يتعهّد زياداً بالغواية ويُحيطه بحبائله حتّى وقع في شركه، فتحوّل من النقيض إلى النقيض في تبدّل مُذهل قلّما تجد له نظيراً، ولكنّه يكشف عن مدى تعقيد النفس البشريّة وما تنطوي عليه من قابليّات لاحتمالات متعدّدة يخضع تغليب أحدها لحدّ كبير إلى طبيعة المناخ العام السائد، ولذلك فإنّ الإنسان يظلّ ذا احتمالات مفتوحة لا تنقضي إلى أنْ يُقضى، إلاّ مَن رحم الله فكان ذا عزم يتأبّى على نوازع التردّي.

ومن هنا فإنّ الإسلام بمشروطيّاته الاجتماعيّة في ربطه العضوي بين العقيدة والعبادة والمعاملة، إنما يكفل الشرط الضروري لزيادة الممانعة ضدّ تسرب عوامل الوهن، في الوقت الذي تزيد تأهيل الإنسان لممارسة دور إيجابي وحيويّ وفعّال في الحياة، ومن هنا - أيضاً - كان اختزال المعادلة الدينيّة في علاقة عباديّة فرديّة - كما يُريد العلمانيّون - بمثابة الحصر الجبري للإنسان الذي يجعل تمسّكه حتّى بهذه العلاقة الفرديّة كالقابض على الجمر.

إنّنا لا نغلو إذا قلنا: إنّ أوّل نظام علماني في المجتمع الإسلامي بعد دولة الخلافة، كان نظام حكم معاوية.

وعودة إلى زياد، فإنّ أبا بكرة - أخا زياد - كان ينكر عليه فعلته بشدّة، وذكر ابن كثير(١) : عن أبي عثمان قال: لمـّا ادّعى زياد لقيت أبا بكره، فقلت:

____________________

(١) البداية والنهاية، مرجع سابق ٨ : ٢٩.

١٩٦

ما هذا الذي صنعتم؟ سمعت سعد بن أبي وقّاص يقول: سمعتْ أُذني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول:« مَن ادّعى أباً في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه، فالجنّة عليه حرام » . فقال أبوبكرة: وأنا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقال ابن عبّاس في تفسير قول الله تعالى:( وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ * هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) (١) . أنّ الزنيم هو المُلحق النسب.

وكما أنكر أخو زياد، فقد أنكره غيره ممّن بقيت فيهم روح الإسلامي، غير آبهين بتعذيب معاوية واضطهاده، فالأمر جليل، إذ هو - كما يقول ابن الأثير - أوّل ردّ علني مكشوف وبلا مداراة لأحكام الشريعة.

يقول ابن مفرغ الحميري(٢) :

ألا أبلغ معاوية بن صخر

مغلغلةً عن الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عف

وترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الأتان

وأشهد أنها ولدت زيادا

وصخر من سمية غير دان

* * *

على أنّ معاوية لمْ يجد غضاضة في التجاهل التامّ لأحكام الشرع، فيقول(٣) : وإنّي لمْ أتكّثر بزياد من قلّة، ولمْ أتعزّز به من ذلّة، ولكن عرفت حقّاً له فوضعته موضعه.

____________________

(١) سورة القلم : ١٠ - ١٣.

(٢) جرجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربيّة، مرجع سابق ١ : ٢٤٤.

(٣) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٢١٥.

١٩٧

والأعجب من تَجاهل معاوية متابعة المبرّرين لأفعاله، مثل ابن العربي الذي يتساءل - مفترضاً الغفلة التامّة بأحكام الشرع لدى الآخرين - بقوله: وأيّ عار على أبي سفيان، في أنْ يليط بنفسه ولد زنىً كان في الجاهليّة؟

ولكن السؤال الذي يسأله معاوية: لماذا تذكر فجأة هذا الحقّ لزياد؟ فقد ولد زياد عام الفتح، وأعلن أبو سفيان عن زناه زمن عمر، ولمْ يستلحقه معاوية إلاّ عام ( ٤٤هـ )، أي: بعدما يزيد عن خمسة وثلاثين عاماً من دخول معاوية وأبيه في الإسلام طليقين عام الفتح، أو بعد ما يزيد عن واحد وعشرين عاماً من وفاة عمر. إنّها النفعيّة رائدة الباطل أبداً.

ومن سهل عليه ردّ الشرع، يسهل عليه غيرها، فكذلك كان معاوية صاحب أوّل حدّ تُرك في الإسلام. يذكر الماوردي(١) : أنّ معاوية أتى بلصوص فقطعهم إلاّ واحداً، تمثّل له ببعض أبيات الشعر فخلّى سبيله. ويعلّق على ذلك بقوله: فكان أوّل حدّ تُرك في الإسلام.

ويذكر ابن كثير(٢) من محدثات معاوية في الإسلام عن الزهري، قوله: مضت السنّة أنْ لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، وأوّل من ورث المسلم من الكافر معاوية، وقضى بذلك بنو اُمّية بعده حتّى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنّة، ومضت السنّة أنّ ديّة المعاهد كديّة المسلم، وكان معاوية أوّل من قصرها إلى النصف، وأخذ النصف لنفسه.

وكما خالف السنّة في المعاهدين، فكذلك لمْ يفِ بعهد قبط مصر - كدأبه دائماً في العهود التي لا تحقّق له نفعاً، وربما أجبرته الظروف على بذلها مثلما فعل في نقضه عهده للحسن بن عليّعليهما‌السلام - فيروي المقريزي(٣) :

____________________

(١) الأحكام السلطاني، مرجع سابق : ٢٨٤.

(٢) البداية والنهاية، مرجع سابق ٨ : ١٤١.

(٣) الخطط، مرجع سابق ١ : ٧٩.

١٩٨

كتب معاوية بن أبي سفيان إلى وردان، وكان قد ولي خراج مصر: أنْ زد على كلّ رجل من القبط قيراطاً. فكتب إليه وردان: كيف تُزيد عليهم وفي عهدهم أنْ لا يُزاد عليهم شيء؟ فعزله معاوية.

ثمّ ألاّ تتذكرون خطبة معاوية في أهل الكوفة بعد استتباب الأمر له: كلّ شرط شرطته، فتحت قدميّ هاتين.

وبعد، ألمَ يثبت إذاً وصف عليّعليه‌السلام لمعاوية:« وَ اللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ » .

٤ - اللهو والترف وإلهاء الناس:

الإسلام - كما هو معلوم - دين القصد والاعتدال، فلا تقتير ولا تبذيير، ولا قبض ولا بسط، وإنما عوان بين هذا وذاك.

يصدق ذلك على الإنفاق، كما يصدق على كلّ سلوكيّات المرء في العمل، إنْ قعدت بك همّتك عن الأخذ بأسباب التكسب، قصرت بك مواردك عن الوفاء بحاجاتك، وفتح لك من أبواب الشرور ما لا يُغلق، وإنْ أنت قمت نهماً لجمع المال، كان لك مهلكة في جسدك ونفسك حتّى تصير - كما وصف القرآن - عتلاّ أكولاً منوعاً جموعاً رحيب الجوف. وفي المشاعر والعواطف الإنسانيّة، إنْ شححت ظلمت، وإنْ أفرطت استعبدت. وحتّى في الدين، فالقصد فيه الرفق إنْ أوغلت، وإنْ شاددته غلبت. فإنْ كان هذا القصد يُرجى فيما هو جدّ، فما بالك بالهزل؟

الواقع أنّه ما من فرد أو جماعة أو اُمّة جاوزت حدّ القصد، فصار أمرها إلى الترف إلاّ وجعلت بأيديها إلى مهلكها موعداً.

١٩٩

والترف يستلزم السرف، وهو ما يَعني التعرّض لبغض الله تعالى:

( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنّهُ لاَيُحِبّ الْمُسْرِفِينَ ) (١) .

وقد حذّر الإسلام أيّما تحذيرٍ من السرف والترف، يقول الله تعالى:

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) (٢) .

( وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلّ مِن يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ) (٣) .

وقال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) :« كُلْ ما شئتْ، والبسْ ما شئتْ، ما خطئتك اثنتان: سرف أو مخيلة » .

إنّ الترف يعني ضمن ما يعني: الترّهل والتعطّل والبطالة، وهو يُؤدّي إلى ضياع الهمّة، وخوار القوّة، وفقد المروءة. والاعتياد على الترف يسلب المرء القدرة على مواجهة تقلّبات الحياة، كما قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« اخشو شنوا؛ فإنّ النعمة لا تدوم ». وكلّ تلك الصفات تُخالف مخالفة تامّة ما يرجوه الإسلام للمسلم، أنّه مُطالب بالجهاد أبداً، ممّا يتطلّب القوّة والحزم والعزم، بل إنّ الترف آفة كلّ نظام حاكم على مدى التاريخ، فإذا ما انغمس فيه سدنته، كان ذلك إيذاناً بضياع ملكهم سدى. يقول ابن خلدون(٥) : إنّ من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم.

ويقول: وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء.

____________________

(١) سورة الأعراف : ٣١.

(٢) سورة سبأ : ٣٤.

(٣) سورة الواقعة : ٤١ - ٤٥.

(٤) البخاري.

(٥) المقدمة، مرجع سابق : ١١٨.

٢٠٠