أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)0%

أبداً حسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 439

أبداً حسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: شريف راشد الصدفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 83760
تحميل: 6905

توضيحات:

أبداً حسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83760 / تحميل: 6905
الحجم الحجم الحجم
أبداً حسين (عليه السلام)

أبداً حسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

واستقراؤها يؤكّد قطعيّة دلالتها المنافية منافاةً قطعيّةً للحديث المذكور، وها هنا نُعيد توكيدها:

( وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (١) .

( وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (٢) .

( وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (٣) .

( اتّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِن رَبّكُمْ وَلَا تَتّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكّرُونَ ) (٤) .

( ثمّ جَعَلْنَاكَ عَلَى‏ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتّبِعْهَا وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَاءَ الذينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (٥) .

( فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ ممّن اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ ) (٦) .

فكيف يُطاع إذاً مَن لمْ يحكم بما أنزل الله، وهو هُدى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّته؟

ولا يجوز لمَن قال بالطاعة للحاكم بالهوى، الاحتجاج بالفصل بين عدم الحكم بما أنزل الله جحداً وبين فعل ذلك، لأيّ سبب آخر مع الاعتقاد بصحّة ما أنزل(٧) ؛ فإنّ أمر الآيات متعلّق بالحكم الفعلي وليس بالاعتقاد.

ثمّ هناك العديد من الأحاديث الأخر المضادّة تماماً لمفهوم الأحاديث

____________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

(٢) سورة المائدة : ٤٥.

(٣) سورة المائدة : ٤٧.

(٤) سورة الأعراف : ٣.

(٥) سورة الجاثية : ١٨.

(٦) سورة القصص : ٥٠.

(٧) انظر: تفسير د. عمر عبد الرحمن، كلمة حقّ : ٤٩ - القاهرة - دار الاعتصام، ب. ت.

٣٢١

السابقة، بما يجعل محاولة تأويل الاختلاف لصالح الجائر تعسّفاً وليّاً للحقيقة ونوعاً من تحريف الكلم عن مواضعه، ومثالها عن أبي بكر الصديق: إنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:« إنّ الناس إذا رأوا ظالماً، فلمْ يأخذوا على يديه أوشك أنْ يعمّهم الله بعقاب منه ». رواه الترمذي.

و عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّ أوّل ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتّقِ الله ودع ما تصنع، فإنّه لا يحلّ لك. ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أنْ يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلمّا فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثمّ قال: لُعِنَ الذينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى‏ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - إلى قوله -فاسقون (١) » . ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« كلاّ والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطّرنه على الحقّ أطراً ولتقصرنه على الحقّ قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثمّ ليلعننكم كما لعنهم » . رواه أبو داود.

وعن عبد الله بن عمرو قال، سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:« مَن قُتل دون ماله، فهو شهيد » رواه الشيخان.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« مَن أريد ماله ظلماً فقُتل، فهو شهيد ». رواه ابن ماجة.

وعن عليّعليه‌السلام قال:« بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سريةً وأمر عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أنْ يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: قد عزمت عليكم لمّا جمعتم حطباً وأوقدتم ناراً، ثمّ دخلتم فيها فجمعوا حطباً فأوقدوا ناراً. فلمّا همّوا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: إنّما تبعنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فراراً من النار أفندخلها؟! فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنّما الطاعة في المعروف ». رواه الشيخان وأحمد.

____________________

(١) سورة المائدة : ٧٨ - ٨١.

٣٢٢

وقال خباب بن الأرت: إنّا لقعود على باب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ننتظر أنْ يخرج لصلاة الظهر، إذ خرج علينا، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« اسمعوا » . فقلنا: سمعنا. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« اسمعوا » . فقلنا: سمعنا. فقال:« إنّه سيكون عليكم أمراء فلا تعينوهم على ظلمهم، فمَن صدقهم بكذبهم فلن يرد علىّ الحوض ». رواه أحمد.

فهذه إذاً نصوص متضافرة تعني ضمن ما تعني الحثّ على الإيجابيّة في التعامل مع الأحداث، وليس السلبيّة والركون إلى الظلم وممالأة الظالم، وهي تعني أيضاً أنّ النفرة للحقّ ليست ترفاً يمارسها المسلمون أو يدعونها، بل هي مسؤوليّة أصيلة يحاسبون عليها حتّى ليعمّهم العذاب إنْ هم تركوها، ألمْ يكن إذاً أولى بهؤلاء المدّعين - بتخصيص النصوص السابقة - فهم وإعمال قيد العمل بكتاب الله على مطلق السمع والطاعة، طبقاً للحديث عن اُمّ الحصين، قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول: يا أيّها الناس، اتّقوا الله وإنْ أمر عليكم عبد حبشي مجدع، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله. رواه الترمذي.

٥ - للمالكيّة قاعدة في تخصيص العام، تقول: إنّ عمل أهل المدينة يعضد أو يضعف خبر الآحاد، وإلاّ فالعمل بالعام.

وهنا تجد عمل أهل المدينة يناقض خبر حذيفة ويعارض التخصيص المزعوم، ويؤكّد وجوب الخروج، فقد خرجوا عام ٦٣ هـ بعد عودة وفدهم من الشام، فحدّثوا الناس بفسق يزيد فخلعوه، وخلعوا عامله على المدينة عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ابن عمّ يزيد، وكان ممّا قاله الوفد لأهل المدينة(١) :

____________________

(١) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، مرجع سابق ٣ : ٤٤٩.

٣٢٣

قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب ويسمر عنده الخراب وهم اللصوص، وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه.

وقام عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، فقال: جئتكم من عند رجل لو لمْ أجد إلاّ بني هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت منه عطاءه إلاّ لأتقوّى به، فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة على خلع يزيد وولّوه عليهم.

وقال المنذر بن الزبير بن العوام: إنّه قد أجازني بمئة ألفٍ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره وأصدقكم عنه، والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة.

وحارب أهل المدينة جيش أهل الشام الذي بعثه يزيد، والذي جعل على رأسه مسلم بن عقبة، واتّخذ أهل المدينة خندقاً جعلوا عليه عبد الرحمن بن زهير بن عوف - ابن عمّ عبد الرحمن بن عوف - وعلى قريش عبد الله بن مطيع، وعلى المهاجرين الصحابي معقل بن سنان الأشجعي، وكان أمير الجماعة عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري.

وكان مما قاله عبد الله بن حنظلة لأهل المدينة أثناء القتال: أمَا إنّكم أهل النصرة ودار الهجرة، وما أظنّ ربّكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم، ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخط منه على هؤلاء الذين يقاتلونكم، وإنّ لكلّ امرئ منكم ميتة وهو ميّت بها لا محالة، ووالله، ما ميتة أفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها.

٣٢٤

وكان يقول(١) :

بعداً لمن رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمن إلاّ من عصى

وكان معقل بن سنان الصحابي، قد قال حين خروجه من عند يزيد(٢) : نرجع إلى المدينة فنخلع هذا الفاسق بن الفاسق، ونبايع لرجل من المهاجرين أو الأنصار.

ولمّا انهزم أهل المدينة، تتّبع جند يزيد الناس لقتلهم، ومنهم الصحابة فمنهم من استخفى ومنهم من وقع في أيديهم، وكان منهم جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو سعيد الخدري الذي لجأ إلى غار في جبل، وهمّ بقتل من لحقه من جند الشام، ولمْ ينجُ سعيد بن المسيب من أمر مسلم بن عقبة بقتله إلاّ بعد أنْ شهد رجل أنّه مجنون فخلى سبيله(٣) .

فهذا إذاً هو عمل أهل المدينة وفيهم بقيّة الصحابة والتابعون، وقد خرجوا على يزيد بن معاوية وخلعوه، ولمْ يرتضوا تخذيل عبد الله بن عمر لهم بترديده حديث: مَن نزع يداً من طاعة إنّه يأتي يوم القيامة لا حجّة له، ومَن مات مفارقاً الجماعة فإنّه يموت موتةً جاهليةً. فقد فهموا الطاعة على وجهها الحقّ أنّها في المعروف، وأنّها بشرط العمل بكتاب الله وهو قائم على العدل والطهر، لا على الجور والفسق، وكذلك كان فهمهم للجماعة أنّها جماعة الحقّ وإنْ قلّت، لا جماعة الباطل وإنْ كثرت، ولذلك تراهم يردون النعمان بن البشير حين

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٥ : ٤٩٠.

(٢) ابن الأثير، الكامل، مرجع سابق ٣ : ٤٦٠.

(٣) ابن كثير، البداية والنهاية، مرجع سابق ٧ : ٢٢٤.

٣٢٥

حاول تخويفهم، فيقول ابن المطيع: يا نعمان، ما عملك على فساد ما أصلح الله من أمرنا وتفريق جماعتنا؟.

٦ - وقد ثبت عن أبي حنيفة حثّه ومساعدته على الثورة على حكّام الجور من بني اُميّة، يقول أبو زهرة(١) : كانرضي‌الله‌عنه ، لنزعته العلويّة من غير تشيع، لا يرى لبني اُميّة أيّ حقّ في إمرة المؤمنين، ولكنّه ما كان ليثور عليهم، ولعلّه كان يهمّ أنْ يفعل.

ويُروى أنّه لمّا خرج زيد بن عليّعليه‌السلام بالكوفة على هشام بن عبد الملك، قال أبو حنيفة: ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر. فقِيل له: لمَ تخلّفت عنه؟ قال: حبستني ودائع الناس، عرضتها على ابن أبي ليلى فلمْ يقبل، فخفت أنْ أموت مجهلاً. ويُروي أنّه قال في الاعتذار عن عدم الخروج مع زيد: لو علمت أنّ الناس لا يخذلونه كما خذلوا جدّه لجاهدت معه؛ لأنّه إمام حقّ، ولكن أعينه بمالي. فبعث إليه بعشرة آلاف درهم، وقال للرسول: ابسط عذري له.

وعندما هلكت دولة بني اُميّة، وجاء العبّاسيّون ظنّ في البداية خيراً فيهم، ثمّ تبيّن له جورهم من بعد ممّا جعله يعين على الخروج عليهم كذلك محمّد النفس الزكيّة وأخاه إبراهيم.

وهكذا كان أبو حنيفة مشاركاً إنْ بالحض وإنْ بالمال على الخروج على حكّام الجور، ولمْ يكن مجرّد مكتف بإبداء الرأي بجواز الخروج.

ويردّ أبو بكر الجصاص قول من ادّعى: أنّ أبا حنيفة لمْ يُجيز الخروج، بقوله(٢) : وكان مذهبه مشهوراً في قتال الظلمة وأئمّة الجور، ولذلك قال لأوزاعي: احتملنا أبا حنيفة على كلّ شيء حتّى جاءنا بالسيف، يعني: قتال الظلمة، فلمْ

____________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلاميّة، مرجع سابق : ٣٦٨.

(٢) أحكام القرآن، مرجع سابق ١ : ٨٦.

٣٢٦

نحتمله. وكان من قوله: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول، فإنْ لمْ يُؤتمر له فبالسيف على ما روى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقضيّته في أمر زيد بن عليّعليه‌السلام مشهورة، وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سرّاً في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع مُحمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن.

وهذا إنّما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث الذين بهم فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى تغلّب الظالمون على أمور الإسلام. فمَن كان هذا مذهبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف يرى إمامة الفاسق؟

٧ - وزعموا أنّ الإنكار لا يكون إلاّ برفق، وفي حال القدرة، ولا يكون ذلك السلطان وإنّما لمَن دونه.

يذكر الشوكاني(١) : وقال غيره - غير النووي - إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلاّ إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصيّة على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لمْ يقدح في الولاية نازعه المعصيّة بأنْ ينكر عليه برفق ويتوصّل إلى تثبيت الحقّ له بغير عنف، ومحلّ ذلك إذا كان قادراً.

وممّن سار على ذات النهج ابن قتيبة في محاولته الجمع بين حديث: مَن قُتل دون ماله، فهو شهيد. وحديث كن حلس بيتك. فأراد ابن قتيبة(٢) أنْ يقصر معنى الحديث الأوّل على ( اللصوص ) دون السلطان، فيقول: مَن قتل دون ماله، فهو شهيد، مَن قاتل اللصوص عن ماله حتّى يُقتل في منزله وفي أسفاره.

____________________

(١) نيل الأوطار، المرجع السابق.

(٢) تأويل مختلف الحديث، مرجع سابق : ١٠٥.

٣٢٧

وهذا امتداد لرأيه في السلطان الفاجر، إذ يقول: لا تخرجوا عليه ولا تشقّوا العصا ولا تفارقوا جماعة المسلمين، وإنْ كان سلطانكم فاجراً.

ومن هؤلاء أيضاً ابن سيرين حين سأله بعض الناس عن قتال الحروريّة، فأجاب: ما علمت أنّ أحداً كان يتحرّج من قتل هؤلاء تأثيماً، ولا من قتل مَن أراد قتالك إلاّ السلطان، فإنّ للسلطان نحواً.

وقالت طائفة: إنّ السلطان في هذا بخلاف غيره، ولا يُحارب السلطان وإنْ أراد ظلماً.

ونحن ندع ابن حزم الذي أورد بعض أقوالهم السابقة ليردّ عليهم(١) : وأمّا مَن دعا إلى أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وإظهار القرآن والسنن، والحكم بالعدل فليس باغياً، بل الباغي من خالفه وبالله تعالى التوفيق، وهكذا من أريد بظلم فمنع من نفسه، سواء أراده الإمام أو غيره.

ويستشهد ابن حزم بما وقع من عبد الله بن عمرو بن العاص، فيما رواه أبو قلابة قال: أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى عامل له أنْ يأخذَ الوهط(٢) فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص، فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته، وقال: إنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول: مَن قُتل دون ماله، فهو شهيد.

ويعلّق ابن حزم على ذلك بقوله: رأى عبد الله بن عمرو أنّ ذلك ليس بحقّ، ولبس السلاح للقتال، ولا مخالف له في ذلك من الصحابةرضي‌الله‌عنهم . وهكذا جاء عن أبي حنيفة، والشافعي وأبي سليمان، وأصحابهم أنّ

____________________

(١) المحلّى، مرجع سابق ١١ : ٩٨.

(٢) الوهط: كانت أرضاً لعمرو بن العاص قدرت بعشرة ملايين درهمٍ - كما جاء في مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٣٢ - ومعلوم أنّ معاوية أعطى مصر طعمةً لعمرو ما بقي حيّاً، كشرط عمرو على مساعدته في حرب الإمام عليّعليه‌السلام ، فآلت هذه الأرض بعد موته إلى ابنه عبد الله.

٣٢٨

الخارجة على الإمام إذا خرجت سُئلوا عن خروجهم، فإنْ ذكروا مظلمةً ظلموها أنصفوا، وإلاّ دعوا إلى الفيئة، فإنْ فاؤوا فلا شيء عليهم، وإنْ أبوا قُوتلوا، ولا نرى هذا إلاّ قول مالك أيضاً، فلمّا اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أنْ نردّ ما اختلفوا فيه إلى ما افترض الله تعالى الردّ عليه، إذ يقول الله تعالى:( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ ) (١) . ففعلنا فلمْ نجد الله تعالى فرّق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره، بل أمر الله تعالى بقتال مَن بغى على أخيه المسلم عموماً حتّى يفيء إلى أمر الله تعالى وما كان ربّك نسياً. وكذلك قولهعليه‌السلام : مَن قُتل دون ماله، فهو شهيد. أيضاً عموم لمْ يخصّ معه سلطاناً من غيره.

وممّا قاله ابن حزم أيضاً، واحتجّ به عمر عبد الرحمن في محاكمته في قضيّة قتل السادات(٢) : ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره، والنصارى جنده، وحمل السيف على كلّ مَن وجد من المسلمين، وأعلن العبث به، وأباح المسلمات للزنى، وهو في كلّ ذلك مقرّ بالإسلام، معلن به لا يدع الصلاة؟

فإنْ أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملةً وانسلخوا منه، وإنْ قالوا: بل يُقام عليه ويُقاتل، فقد رجعوا إلى الحقّ، ولو على قتل مسلم واحد، أو على امرأة واحدة، أو على أخذ مال، أو على انتهاك بشرة بظلم، إنْ أنكروا كلّ ذلك رجعوا إلى الحقّ، والواجب إنْ وقع شيء من الجور وإنْ قلّ أنْ يكلّم الإمام في ذلك، ويمنع منه، فإنْ امتنع ورجع إلى الحقّ وأذعن فلا سبيل إلى خلعه وإنْ امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه، ولم يرجع وجب خلعه وإقامة غيره ممّن

____________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) د. عمر عبد الرحمن، كلمة حقّ، مرجع سابق : ٣٧.

٣٢٩

يقوم بالحقّ، لقول الله تعالى:( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى‏ وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْثمّ وَالْعُدْوَانِ ) ، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع، وبالله التوفيق.

٨ - ومن غريب تناقض هؤلاء الزاعمين بحجيّة عدم الخروج على الحاكم الظالم، احتجاجهم في الوقت ذاته بسنّة أبي بكر وعمر، وهُم ما فتئوا يرددون أقوالهم، مثل قول أبي بكر: فإنْ رأيتموني على الحقّ فأعينوني، وإنْ رأيتموني على الباطل فقوّموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإنْ عصيت فلا طاعة لي عليكم. ومثل قول عمر: إنْ رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوّموني. فيردّ عليه أحد الرعيّة: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا.

ولكنّهم يوردون هذه الأقوال في معرض المديح لأبي بكر وعمر وكأنّها للتزين فقط، في فصل تامّ لها عن أيّ ممارسة عمليّة، فإذا ما استدعيت في موقع ظلم تراجعوا على الفور، وعمدوا للولوج في دهاليز تأويلات ما أنزل الله بها من سلطان.

ثمّ ما قولهم في رأي أشدّ لعمر بصريح قوله لقوم أتوه(١) : أمَا والله، لوددت أنّي وإيّاكم في سفينة في لجّة البحر، تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجزَ الناس أنْ يولّوا رجلاً منهم، فإنْ استقام اتّبعوه، وإنْ جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: إنْ تعوّج عزلوه. فقال: لا، القتل أنكل لمَن بعده.

٩ - أيّهما أشدّ ضرراً: ظلم السلطان أمْ ظلم الرعيّة؟

إنّ العقل ليشهد، وإنّ الخبرة الإنسانيّة على مدى التاريخ لتصدق على الأنظمة

____________________

(١) الطبري، مرجع سابق ٣ : ٢١٣.

٣٣٠

الحاكمة أنّها كانت السبب الرئيس فيما عانته البشريّة من مآس، وإنّ ظلم الفرد من الرعيّة مهما بلغ لا يُقارن بحال، بحيود الحاكم ونظامه عن الحقّ.

ذلك أنّه من البديهي أنّ أمر الفرد مهما اتّسع فهو محدود، بينما أمر الحاكم عامّ وظلمه يستغرق الناس بغير حدّ، فكان حتماً أشدّ ضرراً.

ثمّ إنّ الحاكم قدوة لرعيّته، فإنْ ظلم تظالموا، وإنْ شذّ عن الحقّ شاع فيهم الباطل. يقول الأفوه الأودي الشاعر الجاهلي:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ولا جهل أكثر من اتّباع الهوى دون الحقّ، فيُؤدّي إلى الضلال الذي يعمّ الناس إذا أصاب حكّامهم.

ونذّكر بقول الله تعالى:( يَا دَاوُدُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ الناس بِالحقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَى‏ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (١) .

فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يقبلونه رأساً على عقب، فيعظّمون ظلم الرعيّة، ويتصاغرون بظلم السلطان وإنْ جلد الظهور وأخذ الأموال وضرب الأبشار، بل يبلغون المدى مثل الباقلاني القائل: وإنْ عطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وقتلوا النفس المحرّمة.

ثمّ ألمْ يقل عثمان: إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وفيه دليل على مدى خطورة منصب الحكم وآثاره.

ومن غريب تناقضهم كذلك ما زعمه قائلهم ابن قتيبة من تلك التفرقة، بينما هو يذكر(٢) : لا بدّ للناس من وزعة يريد سلطاناً يزعهم عن التظالم

____________________

(١) سورة ص : ٢٦.

(٢) تأويل مختلف الحديث، مرجع سابق : ١٠٥.

٣٣١

والباطل وسفك الدماء وأخذ الأموال بغير حقّ. فإذا كان مبرّر وجوده أصلاً منع التظالم على الوجوه التي ذكرها، فكيف إذا أتى هو ذاته بها؟

وقد تناول هذه المسألة تحديداً ابن خلدون، فذكر(١) :

ب - ذُكر على لسان الموبذان الفارسي: إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلاّ بالشريعة، والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلاّ بالملك، ولا عزّ للملك إلاّ بالرجال، ولا قوام للرجال إلاّ بالمال، ولا سبيل إلى المال إلاّ بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلاّ بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليفة نصبّه الربّ، وجعل له قيّماً وهو الملك.

ت - الظلم مخرّب للعمران، وأنّ عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض.

ث - واعلم أنّ هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامّة المراعاة للشرع، في جميع مقاصده الضروريّة الخمسة من حفظ: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلمّا كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لمَا أدّى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحرّيه مهمّاً وأدلته من القرآن والسنّة كثيرة أكثر من أنْ يأخذها قانون الضبط والحصر.

* * *

فلمّا كان قصد الشارع متعلّقاً تعلّقاً حتميّاً بالعدل، وأنّ الظلم مفوّت بالضرورة لهذا القصد، وباتّباع قاعدة أخفّ الضررين، كان الأخذ على يد الظالم وأطره على الحقّ أطراً وإلاّ خلعه أمراً وجوبيّاً.

____________________

(١) المقدّمة، مرجع سابق : ٢٤٠.

٣٣٢

وممّن فطن إلى هذا الماوردي الذي جعل الجرح في عدالة الإمام مخرجاً له من الإمامة، لمّا عدّه فسقاً لا تجوز معه الإمامة. فقال(١) : فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لمْ يعد إلى الإمامة إلاّ بعقد جديد.

وهذا أيضاً ابن قيم الجوزية الذي رفض فكرة تخصيص السلطان واستثنائه من عموم عدم الطاعة في المعصية، فذكر أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّما الطاعة في المعروف » .« لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ». « مَن أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه ». وعلّق على ذلك بقوله(٢) : فهذه فتوى عامّة لكلّ من أمره أمير بمعصية الله كائناً مَن كان، ولا تخصيص فيها البتّة.

١٠ - وبرّروا عدم الخروج بسبب أنّه يصاحبه فتنة هوجاء.

والحقّ أنّ الحقيقة السابقة التي أوجزها ابن خلدون في قوله: الظلم مؤذن بخراب العمران. ترد على ذلك الزعم، فهي تلخّص استقراء وقائع التاريخ، والنظر في أحوال الاُمم والملوك، وهو ما أكدته من قبل أدّلة القرآن والسنّة، فليست هناك فتنة أشدّ من الخراب على يد الظالمين، وليست هناك فتنة أشدّ من تعطيل أحكام الشرع واتّباع الهوى دون العدل.

إنّ الحاكم الظالم بما هو كذلك لا يرعوي عن إتيان كلّ منكر نزل الشرع لمنعه، والمسلم مطالب أساساً بالتمكين لإقامة دين الله في الأرض، وليس المقصود بحال هو مجرّد عيش الجماعة في ظلّ سلطان كيفما اتّفق، وإلاّ لكان من الممكن أنْ يعيش المسلمون الأوائل بعقيدتهم الجديدة في ظلّ السيادة

____________________

(١) الأحكام السلطانيّة، مرجع سابق : ١٩.

(٢) أعلام الموقعين ٤ : ٤٠٠ - بيروت - المكتبة العصريّة : ١٩٨٧ م.

٣٣٣

القرشيّة الجاهليّة، وكان من الممكن كذلك أنْ يمارسوا شعائرهم دون تعرّض من أحد، ولكن المشكل كان يكمن في سيادة نظام يحكم الناس بالعدل وفق المقرّرات الإلهيّة وليس وفق تصورات وأهواء البشر.

والحكم الظالم يدفع الناس دفعاً للوقوع في حبائل الفتنة، فتنة التعرّض للأذى في النفس والبدن والمال والعرض، وفتنة النفاق وفتنة فقدان المروءة، وفتنة الانطواء على الضيم، وفتنة الانكفاء على الذات طلباً للنجاة الفرديّة، وفتنة الركون إلى الظالمين، ثمّ تكون العاقبة لذلك كلّه فتنة التعرّض للغضب الإلهي.

يقول الله تعالى:( وَاتّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنّ الذينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خاصّة وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (١) .

ويفسّر سيّد قطب هذه الآية بقوله(٢) : والفتنة، الابتلاء أو البلاء، والجماعة التي تمسح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه في الحياة - ولا تقف في وجه الظالمين، ولا تأخذ الطريق على المفسدين، جماعة تستحقّ أنْ تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين. فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أنْ يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع - فضلاً على أنْ يروا دين الله لا يُتّبع، بل أنْ يروا اُلوهيّة الله تنكر وتقوم اُلوهيّة العبيد مقامها - وهم ساكتون، ثمّ هم بعد ذلك يرجون أنْ يخرجهم الله من الفتنة؛ لأنّهم هم في ذاتهم صالحون طيّبون.

____________________

(١) سورة الأنفال : ٢٥.

(٢) في ضلال القرآن، مرجع سابق ٣ : ١٤٩٦.

٣٣٤

وبعد، فللمرء أنْ يتساءل أيّ فتنة أشدّ على مجتمع يشيع فيه الظلم، وتستحلّ الحرمات وتنتهك المحارم، ولا يستشعر فيه أمن؟ أيُرجى من مثل هذا المجتمع خير؟ أيرجى خير من مجتمع تسلّط عليه معاوية وزبانيّته وعلى رأسهم جلاّده زياد بن سميّة، وقد كان شعار الناس يومئذ: انجُ سعد، فقد هلك سعيد.

وقد رأيت كيف شرط معاوية على حجر وأصحابه ليستبقيهم أنْ يلعنوا عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فلمّا أبوا ضرب أعناقهم.

أمْ يُرجى خير من مجتمع تسلّط عليه يزيد بن معاوية الذي قتل خيار الاُمّة واستبقى شرارها، واجتثّ عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى قال القائل:

سمية أمسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول الله ليس لها نسل

وعندما أراد سفّاحه ابن عقبة من أهل المدينة أنْ يُبايعوا يزيد على أنّهم خول ( عبيد ) له، قالوا: نُبايعك على كتاب الله وسنّة رسوله، ضرب أعناقهم.

ومن بعد، ترى عبد الملك بن مروان بن الحكم(١) يقول: لا أجد أحداً بعد مقامي هذا يقول: اتّق الله، إلاّ ضربت عنقه.

١١ - وأخيراً نُورد حديث جابر بن عبد الله، رواه الحاكم في مستدركه وهو يكاد يكون بذات ألفاظ حديث حذيفة، إلاّ أنّه ذو مفهوم مُغاير:

____________________

(١) عبد الملك قائل هذا، ترى ابن العربي يمتدحه في العواصم من القواصم، مرجع سابق : ٢٣٦. وكذلك يمتدحه محققّ الكتاب محيي الدين الخطيب، وينسب له مروءة وفتوى وقضاء، بينما يكفّره أبوبكر الجصاص بقوله: ولمْ يكن في العرب ولا آل مروان أظلم ولا أكفر ولا أفجر من عبد الملك، ولمْ يكن في عمّاله أكفر ولا أظلم ولا أفجر من الحجّاج، وكان عبد الملك أوّل من قطع ألسنة الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أحكام القرآن، مرجع سابق ١ : ٨٧.

٣٣٥

عن جابر بن عبد الله أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لكعب بن عجرة:« أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء ». قال: وما إمارة السفهاء؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« اُمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهديي، ولا يستنّون بسنّتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منّي ولست منهم، ولا يردون عليّ حوضي، ومَن لمْ يصدّقهم بكذبهم ولمْ يعنهم على ظلمهم، فأولئك منّي وأنا منهم وسيردون عليّ حوضي. يا كعب بن عجرة، الصوم جنّة، والصدقة تُطفئ الخطيئة، والصلاة قُربان أوبرهان » .

* * *

لِمَ كان الخلاف في حكّام الجور؟

إنّ هذا الخلاف في الواقع ليس مقصوراً على هذه المسألة بذاتها، وإنّما هو يعمّ كثيراً من المسائل الفقهيّة. فأنت تجد لمسألة بعينها إجابات متعدّدة وليست إجابة واحدة مغنية، وكلّ إجابة تستند إلى دليلها، وجلّ الأدلة مرجعها إلى أخبار الآحاد المنسوبة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذه الأخبار(١) تجد فيها الكثير المتناقض(٢) ، وكذلك المناقض لأصول قطعيّة على ما رأينا من قبل.

ومرجع ذلك كلّه إلى سبب أوّل، وهو عدم كتابة الحديث منذ البداية، وهنا أيضاً تجد الاختلاف في الحديث:

____________________

(١) توجد فتوى للأزهر بتاريخ ١ : ٢ : ١٩٩٠ تقول بعسر إثبات المتواتر، وكذلك بعدم يقينيّة أحاديث الآحاد، سواء ما جاء في الصحيحين أو غيرهما.

(٢) إذا رجعت إلى محاولات التوفيق بين الأحاديث المتناقضة كما فعل ابن قتيبة في ( تأويل مختلف الحديث ) لهالك منها التافت الشديد الذي لا يُقنع أحداً، فيه قال ابن الصلاح - في مقدمته، مرجع سابق : ٤٧٨ -: إنّه - ابن قتيبة - أساء في أشياء منه قصر باعه فيها.

٣٣٦

فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: لا تكتبوا عنّي شيئاً إلاّ القرآن، ومَن كتب عنّي شيئاً غير القرآن فليمحه.

بينما أخرج البخاري وكذلك مسلم في صحيحيهما، وأبو داود والنسائي وابن ماجة حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجاز الكتابة لأبي شاه اليمني، عندما التمس من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يكتب عنه من خطبته عام فتح مكّة، فقال: اكتبوا لأبي شاه.

وقد جمع السراج البلقيني(١) الأحاديث الواردة في إباحة الكتابة حتّى لا يدّعي أحد أنّ حديث أبي شاه واقعة عين، ونذكر منها حديث عبد الله بن عمرو قال، قلت: يا رسول الله، اكتب ما أسمعه منك؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم. قلت: في الغضب والرضا؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم، فإني لا أقول إلاّ حقّاً.

وقد قالوا(٢) في ذلك: إنّ حديث الإباحة ناسخ لحديث المنع، لمّا كثرت الأحداث والأحاديث وخِيف عليها الفوت. ولكن لا يُحتجّ بقول ابن قتيبة: إنّ ذلك اختصّ به عبد الله بن عمرو. لأنّك رأيت أنّ الرسول أجاز الكتابة لغيره كأبي شاه. وكذلك لا يُحتجّ بالرّأي الشائع، ذكره ابن الصلاح(٣) : نهى عن كتابة ذلك عنه حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف القرآن العظيم.

فهذا الرأي مردود بقول الله تعالى:( إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٤) . ثمّ إنّ هذا الرأي فيه تنقّص للقرآن - حاشا لله -؛ ذلك أنّ أحد وجوه إعجاز القرآن

____________________

(١) محاسن الاصطلاح على هامش مقدّمة ابن الصلاح، مرجع سابق : ٣٦٤.

(٢) تأويل مختلف الحديث، مرجع سابق : ١٩١.

(٣) مقدمة ابن الصلاح، مرجع سابق : ٣٦٧.

(٤) سورة الحجر : ٩.

٣٣٧

بيانه، وقد تحدّى الله تعالى أنْ يأتي أحد بآية من مثله، فكيف يزعم زاعم أنّ مثله شيء حتّى يُخاف عليه الاختلاط؟

فإذا كان الحديث قد أُبيحت كتابته، ولو في آخر الأمر، ولكن في وجود رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالسؤال لا يزال مطروحاً: لِمَ لمْ يُجمع ويُكتب في الصدر الأوّل؟

ولو أنّ ذلك حدث، ولو بعد الفراغ من جمع القرآن، لأزال عنّا حرجاً شديداً وقعت فيه الاُمّة واختلفت ولا تزال تعاني آثاره حتّى اليوم.

ولو أنّه جُمع بعد الفراغ من جمع القرآن في عهد أبي بكر، لمَا كان هناك مساغ للقول بالخوف من اختلاط الحديث بالقرآن.

ولو أنّه جمع في وجود جلّ الصحابة يومئذ، لتوفّرت شروط فرزه وتصحيحه تلقائيّاً، كما حدث في كشف تدليس أبي هريرة في رواية حديث الجنابة، وكما حدث في ردّ عائشة لحديث تعذيب الميّت ببكاء أهله.

ولو أنّه جُمع في هذا العهد المبكّر لمَا وكلّ إلى الذاكرة، وبالتالي لمَا تسربت إليه كلّ عوامل الضعف، ولمَا احتيج لإثبات صحّته إلى إثبات عدالة الرواة، بينما الذي يحكم بتعديل وجرح الرجال - هم بعد - رجال من الرجال.

ولو أحكم منذ البدء لمَا وجد الوضّاعون ثغرةً ينفذون منها إليه، ولمَا وجد أصحاب الزهد المزعوم مجالاً للتقوّل كذباً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم يبجحون أنّهم ما فعلوا ذلك إلاّ احتساباً لله بزعمهم، أو كذباً له وليس عليه بإفكهم تحريفاً لكلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مواضعه، إذ يقول:« مَن كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النار » . فيقولون: نحن نُكذّب له لا عليه، يذكر ابن الصلاح(١) .

____________________

(١) المرجع السابق : ٢٧٩.

٣٣٨

والوضّاعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضرراً قوم من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الأحاديث احتساباً فيما زعموا، فتقبّل الناس موضوعاتهم ثقةً منهم بهم وركنوا إليهم.

وآخرون تسلّلوا إلى القرآن فوضعوا الأحاديث في تفسيره بادّعاء الحسبة كذلك، مثلما فعل نوح بن أبي مريم وقد قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عبّاس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: إنّي رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق، فوُضعت هذه الأحاديث حسبةً.

على أنّنا في بحثنا عن إجابة مقنعة لسؤالنا عن أسباب عدم كتابة الحديث، وجدنا ما هو أشدّ خطراً بما يجعل المسألة أكثر غموضاً، ذلك أنّا وجدنا الخلفاء الثلاثة: أبا بكر وعمر وعثمان لا يقفون عند عدم كتابة الحديث، بل يتعدّون ذلك إلى الترغيب في عدم رواية الحديث، بل كادوا يمنعونه منعاً.

يروي الذهبي في تذكرة الحفاظ، عن أبي مليكة قوله: إنّ الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنّكم تُحدّثون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تُحدّثوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً، فمَن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه.

ويذكر الطبري(١) : أنّ عمر كان إذا استعمل العمّال، خرج يشيّعهم فيقول لهم فيما يقول: جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا شريككم.

____________________

(١) تاريخ الطبري، مرجع سابق ٤ : ٢٠٤.

٣٣٩

وذكر ابن عبد البرّ عن قرظة بن كعب قال(١) ، قال عمر: إنّكم تأتون أهل قرية لها دويّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدّوهم بالأحاديث لتشغلوهم، جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا شريككم. فلمّا قدم قرظة قالوا: حدّثنا. فقال: نهانا عمر.

وتابع عثمان أبا بكر وعمر في تقليص الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى كان يقول - فيما يذكر ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد -: سمعت عثمان بن عفّان على المنبر، يقول: لا يحلّ لأحد يروي حديثاً لمْ يُسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر.

وعلى العكس من ذلك تماماً كان موقف عليّعليه‌السلام الذي أباح وكتب وروى الحديث، وقد ذكر ابن الصلاح عنه ذلك(٢) . وجاء في طبقات ابن سعد: عن محمّد بن عمر بن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال، قِيل لعليّعليه‌السلام : مالك أكثر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حديثاً؟ فقالعليه‌السلام :« إنّي كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكت ابتدأني ».

وذكر الحاكم(٣) - وقال: على شرط الشيخين - أنّ عليّاًعليه‌السلام قال:« تذاكروا الحديث، فإنّكم إلاّ تفعلوا يندرس » .

وروى الحاكم كذلك عن عبد الله بن مسعود قوله:« تذاكروا الحديث، فإنّ ذكر الحديث حياته » .

وهنا يجب التوقّف طويلاً لفهم دوافع الخلفاء الثلاثة في موقفهم ذاك، من رواية حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) الحاكم النيسابوري، المستدرك ١ : ١٠٢ - بيروت - دار المعرفة، ب، ت.

(٢) مقدّمة ابن الصلاح، مرجع سابق : ٢٠٤.

(٣) المستدرك، مرجع سابق ٤ : ٩٥.

٣٤٠