الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 38001
تحميل: 7070

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38001 / تحميل: 7070
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ناتئَ الصدغ أعقفَ الأنف مُسْـ

ـودَّ الثنايا مشوَّهَ القسَماتِ

صِيغ من جبهةِ القرود وألو

انِ الحرابي وأعينِ الحيّاتِ

منتن الريح لو تنفّس في الأسـ

ـحار عاد الصباحُ للظلماتِ

يستر الفجرَ أنفُه ويولّي

إن يصعّدْ أنفاسَه المنتِناتِ

ذلك المسخ لو تصدّى لمر

ة ٍ لَشاهتْ صحيفةُ المرآةِ

رعبَ الاُمَّ حين مولده المشـ

ـؤوم والاُمُّ سُحنةُ السَّعَلاةِ

ودعاه (ذو الجوشن) النذل شمر

لم يشمّرْ إلاّ عن الـمُوبِقاتِ

لم يحرّك يداً لإتيان خيرٍ

فإذا هَمَّ هَمَّ بالسيّئاتِ(1)

فالإمام الحسينعليه‌السلام حاشاه أن يرجو من هؤلاء خيراً، لكنّه التكليفُ يستدعي أن يبلّغ حتّى يقطع على كلّ ذي عذرٍ عذرَه؛ فيعلّم الجاهل، ويخبر الغائب، وينبّه الغافل، ويضع الحجّة البالغة والمحجّة الناصعة الدامغة أمام أعين الناس. وإلاّ فهو يعلم أنّه مقتول، فلمّا أشار عليه عمرو بن لوذان بالانصراف عن الكوفة إلى أن ينظر ما يكون عليه حال الناس، قالعليه‌السلام :«لن يخفى عَلَيّ الرأي، ولكنْ لا يُغلب على أمر الله، وإنّهم لا يدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلَقَة مِن جوفي» (2) .

وهذا هو الصبر، ولا ينافيه أن تسحّ عيناه الكريمتان بالدموع الغزيرة في مواقف عديدة؛ فالبكاء معبّرٌ عن حزن رحمة، وعن رقّةِ قلب، وسخاء عاطفة. وقد عُرف به الأنبياء والمرسلون (صلوات الله عليهم). يقول أحد الشعراء في اُرجوزةٍ له:

انظر إلى بكاءِ حضرةِ الصفي

آدمَ بعد مَخدعٍ وقد خُفي

____________________

(1) عيد الغدير / 287 - 288.

(2) مقتل الحسينعليه‌السلام - للمقرّم / 65.

٢٤١

بكاؤُه أيضاً على هابيل

في أربعينَ ليلةً قتيلا

أمَا سمعتَ من بكاءِ يوسُفِ

في السجن بعد قولهِ المتّصفِ

وانظر إلى البكاء من يعقوبه

ذَهابَ عينهِ على محبوبه

انظر إلى الحقّ إلى خليلهِ

بكاءَه بكاء إسماعيلهِ

انظر إلى الخِضر إلى بكائهِ

لأجل آلِ الله عن بلائهِ

وانظر إلى بكاء حضرة النبي

السيّدِ المكرّمِ المنتجَبِ

دموع عينيهِ على رُقيّهْ

معروفةٌ مشهورةٌ مرويّهْ

انظر إلى بكائه وغمّهِ

لابن أبي طالب ابن عمّهِ

لجعفر الشهيد عند موتهِ

ولابنه الصغيرِ بعدَ فوتهِ

لاُمّه الفاطم بنتِ الأسدِ

كاُمّه زوجةِ عمٍّ أمجدِ

اسمع بكاءَه على النجاشي

سلطانِ حبشانٍ بلا تحاشي

انظر إلى دموعه في الحادثهْ

لموت إبراهيمَ وابن الحارثهْ

انظر إلى دموعه المطهَّره

لذكر اُمّ المؤمنين الطاهره

فالحزن والبكاء من طبائع النفس البشريّة، والأنبياء والأولياء أرقُّ الناس عاطفة؛ فبكى آدمعليه‌السلام على ولَده هابيل وحزن عليه، وبكى يعقوبعليه‌السلام على ولده يوسف حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، وأمّا المصطفى الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله - وكان الأصبرَ في الشدائد والمصائب، والأثبتَ في النوائب - فقد بكى وحزن، ولم يكن ذلك جزعاً من نازلة، أو اعتراضاً على قضاء الله، أو سخطاً على أمره، حاشاه.

في صحيح البخاريّ(1) ، عن أنس بن مالك قال: دخلنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(1) ج 2 / 105.

٢٤٢

على أبي سيف القين، [وكان ظئراً لإبراهيم، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إبراهيم فقبّله وشمّه](*) ثمّ دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيمعليه‌السلام يجود بنفسه، فجعلتْ عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله تبكي!

فقال:«يابن عوف، إنّها رحمة». ثمّ أتبعها باُخرى، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«[إنّ] العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربَّنا، وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

يقول الشهيد الثاني زين الدين عليّ بن أحمد الجُبعي العاملي (رضوان الله عليه): اعلم أنَّ البكاء بمجرّده غير منافٍ للصبر ولا للرضا بالقضاء، وإنّما هو طبيعةٌ بشريّة، وجِبلّةٌ إنسانيّة، ورحمةٌ رحميّة أو حبيبيّة، فلا حرج في إبرازها، ولا ضرر في إخراجها ما لم تشتمل على أحوالٍ تأذن بالسخط، وتنبئ عن الجزع(1) .

والحسين (سلام الله عليه) بكى على مَن قُتل من أهل بيته، وعلى من ظمئ منهم. يقول الشيخ التستري: إنَّ الطبائع البشريّة موجودةٌ فيهم ( في أهل البيتعليهم‌السلام )، فيعرضهم الجوع والعطش عند أسبابه، وتحترق قلوبهم لما يرد عليهم(2) .

وقد بكى على ابن أخيه القاسم بن الحسن - وهو غلام لم يبلغ الحلم - حينما برز إلى الحرب، فاعتنقه حتّى غُشي عليه، وبكى على ولده عليٍّ الأكبر حين برز إلى الميدان، وحين استُشهد، وبكى على أخيه العبّاس حين وجَده قطيعَ اليدين، مُطفأ العينين؛ واحدةٌ قد نبت فيها السهم، والاُخرى قد جمد عليها الدم، والرأس مفضوخٌ بعمودٍ قد نثر دِماغه على كتفَيه، والسهام تجمّعت على بدنه الشريف.

وهنا نقف على صبر الإمام الحسينعليه‌السلام في خصائصه؛ فالصبر

____________________

(*) أثبتنا ما بين المعقوفتين من أصل المصدر، هذا بالإضافة إلى تبديل ضمير المفرد المتكلم إلى ضمير الجمع حسب ما ورد في صحيح البخاري نفسه. ولكن نقول: ربما اعتمد الأخ المؤلِّف على نسخة اُخرى غير التي بين أيدينا فكانت خالية من بعض ما أشرنا إليه.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

(1) مسكّن الفؤاد / 92.

(2) الخصائص الحسينيّة / 40.

٢٤٣

الحسينيّ امتاز عن غيره، وتفرّد في أحايين كثيرة، فلنتأمّل في ذلك:

الخصّيصة الاُولى

إنَّ الصبر عادةً تُعرف درجته من خلال عظم المصيبة وشدّة الموقف؛ فمَن صبر على فقد مال غيرُ مَن صبر على فقد الولد، ومَن صبر على نازلة الموت وهو على فراشه يحيط به أبناؤه وأهله غيرُ مَن صبر على القتل الفضيع في ساحة المعركة وأهلُ بيته ينظر إليهم أشلاءَ ضحايا، مجزَّرين على صعيد المنايا، ويرى مصارع الشهداء من عشيرته، وأبنائه وإخوته، وأصحابه وبني عمومته. ومَن صبر على تكليف إبلاغ الحقّ غيرُ مَن صبر على القتال دونه.

ولقد خُصّ الصبر الحسينيّ بأنّه كان على أمرٍ عظيم، وتكليف جسيم، وقضيّةٍ مهولة، ومسؤوليّةٍ تأريخيّة تنوء بها الجبال، ويتعيّن بها شأن الدين والاُمّة. يقول الشيخ جعفر التستريّ: قد اختُصَّ ( الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ) بخصوصيّةٍ في الجهاد؛ فاُمر بجهادٍ خاصٍّ في أحكامه لم يؤمَر به أحدٌ قبله بالنسبة إلى أحكامه، وذلك من وجوه:

الأوّل: من شرائط الجهاد في أوّل الأمر أن يكون الواحد بعشرة لا بأزيد، فيلزم ثبات كلّ واحد في مقابل عشرٍ من الكفار. ثمّ خفّف الله عنهم وعلم أنَّ فيهم ضعفاً، فجعل شرط الوجوب أن يكون الواحد باثنين؛ فإذا كان عدد العدوّ زائداً على المئة بالنسبة إلى العشرة بعد نسخ الأوّل لم يجب الجهاد. ولكن قد كتب عليه ( أي الإمام الحسينعليه‌السلام ) مقاتلته وحده في مقابل ثلاثين ألفاً أو أزيد.

الثاني: لا جهاد على الصبيان، ولا على الهِمِّ وهو الشيخ الكبير. وقد شُرّع الجهاد في واقعته على الصبيان مثل القاسم، وابن العجوز، بل مثل عبد الله بن الحسن، وعلى الشيخ الكبير كحبيب بن مظاهر.

٢٤٤

الثالث: أن لا يظنّ الهلاك، وهناك قد علمعليه‌السلام بأنّه يُقتل، فقال لأصحابه:«أشهد أنّكم تُقتلون جميعاً، ولا ينجو أحدٌ منكم إلاّ ولدي عليّ» ، أي السجّاد زين العابدينعليه‌السلام .

ثمّ إنّهم (أي أعداؤه) قد خالفوا في السلوك معه أحكام السلوك التي جعل الله للكفّار حين الجهاد، وهي كثيرة:

- منها: في الشهر الحرام، ولكن حيث قاتلوه فيه قاتلهم فيه.

- ومنها: أن لا يُقتل فيه صبيّ ولا امرأة من الكفّار، وقد قتلوا ( أي أعداء الحسينعليه‌السلام ) منه صبياناً، بل رضعاناً؛ فرضيعٌ حين أراد تقبيله، ورضيعٌ حين أراد منهم سقيَه.

- ومنها: أن لا يُحرَق زرعُهم (أي مِن قِبل الكفّار)، وقد حُرق بعضُ خيامهعليه‌السلام حين حياته، وأرادوا حرقها مع مَن فيها، وحرقوها بعد قتله.

- ومنها: أن لا يهجموا دفعةً...(1) .

ثمّ يقول مضيفاً: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهعليه‌السلام من ذلك قسمٌ لم يكلَّف به غيره؛ فإنّه كُلّف به مع العلم بالضرر، له كيفيّات...(2) .

كلّ هذه التكاليف، والمصاعب والأتعاب، والهموم والآلام، والمصائب والفجائع، والحسينعليه‌السلام صبر ولم يهن ولم يضعف، ولم يشكّ ولم يخفّف على نفسه طاعةً لله (جلّ وعلا)، فأيُّ صبرٍ ذاك!

الخصّيصة الثانية

قد يصبر المرء ولكن على ذلّةٍ وهوان، أو يرى الصبر في السكوت والقعود، والتنحّي عن ساحة الصراع المرير. وقد رأينا بعض الصحابة والتابعين

____________________

(1) الخصائص الحسينيّة / 30 - 31.

(2) الخصائص الحسينيّة / 33.

٢٤٥

حينما كُلّفوا بالوقوف في وجه الكفر والظلم اتّخذوا لأنفسهم مساجد ومحاريب، أو صوامع يتعبّدون فيها؛ فتطير أخبار صلاحهم في البلدان، ويأمنون بعد ذلك سطوة السلطان. فلا يُعرَفون إلاّ بالزهد وعناء العبادة وترك الدنيا، في حين أنَّ زهدهم لم يكن بالأموال، بل زهدوا بالثواب العظيم، وأنَّ عبادتهم تلك كانت معاصيَ؛ إذ لم يكلّفهم بها الله تعالى، إنّما كلّفهم بالكلمة الحقّة العادلة في وجه السلطان الظالم الجائر، فتركوا ذلك ولم يأتمروا، وعصوا الله، والعبادة هي الطاعة.

كذا لم يكن مكثهم في المساجد والمحاريب تعبيراً عن ترك حبّ الدنيا، بل كان تعبيراً عن حبّ الدنيا؛ لأنّهم حين قبعوا في زواياهم تلك أرادوا الحفاظ على أنفسهم، والإبقاء على حياتهم ودنياهم وإن مات الدين وسُحقت كرامة المسلمين. لكنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) كان ممّن عُرف بصبره على طاعة الله، وفي الوقت ذاته عُرف بصبره عن معصية الله، وكان الانزواء في تلك المرحلة التأريخيّة من أكبر المعاصي؛ إذ يمكّن الكفرَ من الشريعة، ويمكّن الطغاةَ من رقاب الناس.

وكان من صبر الحسين (صلوات الله عليه) أن اقتحم ساحة المواجهة ضدّ رؤوس الضلال والفساد والظلم، وجابه الطواغيتَ بجميع صورهم وقواهم، وعرّض نفسه المقدّسة للصعاب من أجل إنقاذ الرسالة الإسلاميّة والاُمّة الإسلاميّة؛ فبهجومه هجم على كلّ انحراف، وببريق سيفه كشف كلّ حقيقة، وبنهضته نبّه كلَّ غافل ونائم؛ فكان صبره متحلّياً بالإباء لا بالخنوع، وبالوعي والعزّة لا بالانزواء والخضوع.

وقد شهدت له ساحة الطفّ أنّه الصبور؛ فمع قلّة العدد، وخذلان الناصر، وكثرة العدوّ، وشدّة الموقف، وذلك العطش القاتل، وحراجة الحال،

٢٤٦

وسوء حال العيال من الأرامل واليتامى والأطفال، هجم الحسينعليه‌السلام على أعدائه المتجمّعين آلافاً متراصّةً فشتّتهم، وكرّ عليهم فكشفهم مرّات، وسيفه المنتضى يقرأ على مسامع الأوباش خطب العزّة والكرامة والإباء، والشجاعة والصبر والفداء.

طمِعت أن تسومه القوم ضيم

وأبى الله والحسامُ الصنيعُ

كيف يلوي على الدنيّة جِيد

لِسوى الله ما لواه الخضوعُ

ولديه جأشٌ أردُّ من الدرْ

ع لظمأى القنا وهُنَّ شروعُ

وبه يرجع الحفاظ لصدرٍ

ضاقت الأرضُ وهي فيه تضيعُ

فأبى أن يعيش إلاّ عزيز

أو تجلَّى الكفاحُ وهو صريعُ

فتلقّى الجموع فرداً ولكن

كلُّ عضوٍ في الرَّوع منه جُموعُ

رمحُه مِن بَنانهِ وكأنْ مِن

عزمهِ حدُّ سيفه مطبوعُ

زوّجَ السيفَ بالنفوس ولكن

مهرُها الموت والخضابُ النجيعُ

بأبي كالئاً على الطفّ خدر

هو في شفرة الحسام منيعُ(1)

فأيُّ صبرٍ هذا في موقف كذاك!

الخصّيصة الثالثة

إنَّ أشدَّ الشجعان صبراً لا يقْدم على ساحةٍ يتأكّد أنّه مقتول عليها، إنّما يخطو إلى معركةٍ يتفاءل فيها بالنصر أو يحتمله ولو قليلاً على أقلّ الفروض. أمّا أن يقْدم مبارزٌ على معركةٍ لا يتفاءل بها إلاّ بالشهادة، ولا يرى إلاّ أنّه مقتول هو وأهل بيته، ثمّ يخطو بحزم، ويتقدّم بعزم، فذلك هو الصبر في أعلى درجاته.

____________________

(1) الدرّ النضيد / 212 - 213، والقصيدة للسيّد حيدر الحلّيّ.

٢٤٧

لمّا عزم الحسينعليه‌السلام على الخروج من المدينة أتته اُمّ سلمة (رضي الله عنها)، فقالت: يابنيَّ، لا تُحزنّي بخروجك إلى العراق؛ فإنّي سمعت جدَّك يقول:«يُقتل ولدي الحسين بأرض العراق، في أرضٍ يقال لها: كربلا» .

فقال لها:«يا اُمّاه، وأنا والله أعلم ذلك، وإنّي مقتولٌ لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه، وأعرف مَن يقتلني، وأعرف البقعة التي اُدفن فيها، وإنّي أعرف مَن يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردتِ يا اُمّاه اُريك حفرتي ومضجعي».

ثمّ أشارعليه‌السلام إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره، وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت اُمُّ سلمة بكاءً شديداً، وسلّمت أمرَه إلى الله، فقال لها:«يا اُمّاه، قد شاء الله (عزّ وجلّ) أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً» (1) .

وقد نقلتْ لنا كتب الحديث عشرات الروايات من عشرات المصادر عن طرقٍ عديدة لجميع المذاهب الإسلاميّة في شأن إخبار الله تعالى أنبياءه ونبيّنا (صلوات الله عليهم) بشهادة الحسينعليه‌السلام ، وإخبار الرسول وأمير المؤمنين والحسنعليهم‌السلام بشهادتهعليه‌السلام ، ما يجتمع لها كتابٌ كبير(2) .

____________________

(1) بحار الأنوار 44 / 331 - 332.

(2) يراجع من أراد التفصيل والمزيد: عوالم العلوم - للشيخ عبد الله البحرانيّ 17 / 95 - 157، ومعالم المدرستين - للسيّد مرتضى العسكريّ 3 / 26 - 44، وحول البكاء على الإمام الحسينعليه‌السلام - للشيخ محمّد علي دانشيار / 14 - 63، بالإضافة إلى بحار الأنوار 43 / 217 - 268، وإحقاق الحقّ - ملحقاته للسيّد المرعشيّ النجفيّ ج 11.

٢٤٨

فإنْ يقْدم الرجل على موتٍ محقّق، وقتلٍ مؤكّد ثمّ لا يهتزّ ولا يتردّد فذلك هو الصبر في أرسخ مواقفه وأشمخ وقفاته. وأن يتقدّم الرجل إلى ساحةٍ رهيبةٍ يعلم يقيناً أنَّ فيها مصرعه فتلك هي الشجاعة في أبهى صورها وأعزّ أوصافها. وتلك هي الصلابة الحسينيّة، وذلك هو ربط الجأش وشدّة العزيمة، وليست الشجاعة الحقيقيّة عند من دخل معركة يحتمل فيها النصر والغلبة، ويتوقّع الخروج منها سالماً غانماً.

إنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام تقدّم لا يعبأ بالموت؛ إذ كان أصبر عليه في طاعة الله وسبيله من الحياة الذليلة مع الظالمين، بل كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وهو القائل:«وأيم الله، ليقتلوني» (1) ، يجد أنَّ في الحياة موتاً، وأنَّ في الموت حياة إذا كان العيش ذلّة، والموت بعد جهادٍ شرفاً وعزّة. وقد أثبت الإمام الحسينعليه‌السلام ذلك بصبره، ولله درُّ القائل فيه:

وجدَ الردى في العزّ عينَ حياتهِ

ورأى مع الذُّلِّ الحياةَ مَماتا

ما مات بل غنم الحياةَ مشيَّعٌ

تحت الصوارمِ والأسنّةِ ماتا(2)

وكذا لله درّ القائل فيهعليه‌السلام :

نفسي الفداءُ لسيّدٍ

خانت مواثقَه الرعيّهْ

رامت اُميّةُ ذُلَّه

بالسِلم لا عزّت اُميّهْ

حاشاه مِن خوف المنيّـ

ـة والركونِ إلى الدنيّهْ

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 1 / 226، واللهوف / 62.

(2) الدرّ النضيد / 60، من قصيدة للسيّد محسن الأمين العامليّ.

٢٤٩

فأبى إباءَ الاُسْد مخـ

ـتاراً على الذُلِّ المنيّهْ(1)

وأجاد الاُستاذ أحمد حسن لطفي في كلمته: إنَّ الموت الذي كان ينشده ( الحسينعليه‌السلام ) فيها كان يمثّل في نظره مُثُلاً أروع من كلّ مثُل الحياة؛ لأنّه الطريق إلى الله الذي منه المبتدأ وإليه المنتهى؛ لأنّه السبيل إلى الانتصار وإلى الخلود، فأعظم بطل ينتصر بالموت على الموت(2) .

الخصّيصة الرابعة

إنَّ من مقامات الصبر الرضا بالمقدّر، والرضا بقضاء الله تبارك وتعالى، وهذه هي درجة الزاهدين. جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:«إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه؛ فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه» (3) .

ومن مقامات الصبر صبر الصدّيقين الذين يحبّون ما يصنع به مولاهم؛ يرضون ويبتهجون ويتلذّذون بورود المكروه من الله سبحانه، ويعتبرون ذلك التفاتاً من المحبوب، وكلُّ ما يفعله المحبوب محبوب.

نزل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في منزل شقوق في مسيره إلى كربلاء، فأتاه رجلٌ من العراق فسأله، فأخبره بحاله، ثمّ قالعليه‌السلام :«إنَّ الأمر لله يفعل ما يشاء، وربُّنا تبارك كلَّ يومٍ هو في شأن؛ فإن نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر...» ، ثمّ أنشد:

فإن تكنِ الدنيا تُعدّ نفيسةً

فدارُ ثوابِ الله أعلا وأنبلُ(4)

____________________

(1) الدرّ النضيد / 353، والأبيات للشيخ حسن قفطان النجفي.

(2) الشهيد الخالد الحسين بن عليّعليه‌السلام / 47.

(3) مسكّن الفؤاد / 80.

(4) المناقب 4 / 91، وتاريخ مدينة دمشق / 64، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 1 / 23.

٢٥٠

فكلّ شيءٍ يقضيه الله تعالى خيرٌ ورحمةٌ حتّى الموت، بل حتّى القتل طاعةً له سبحانه. وقد تعجّب الناس كيف استقبل الإمام الحسينعليه‌السلام ذلك القتل الرهيب بصدرٍ ملؤه الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، وهذه صفةٌ عرفت فيه، وخلقٌ ظهر عليه.

عن إسماعيل بن يحيى المزنيّ قال: سمعت الشافعيّ يقول: مات ابنٌ للحسينعليه‌السلام فلم يُرَ به كآبة(1) ، فعوتب على ذلك فقال:«إنّا أهل البيت نسأل الله (عزّ وجلّ) فيعطينا، فإذا أراد ما نكره فيما يحبّ رضينا» (2) .

ولمّا سقط الحسينعليه‌السلام ونالته السهام والسيوف والرماح ما نالته، قال هلال بن نافع: كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلاً قطُّ مضمَّخاً بدمه أحسنَ منه وجهاً ولا أنور! ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله(3) .

ولمّا اشتدّ به الحال، رفع طرفه إلى السماء وقال:«اللّهمّ متعالي المكان، عظيمُ الجبروت، شديد المحال، غنيٌّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريبُ الرحمة، صادق الوعد، سابق النعمة، حسَن البلاء، قريبٌ إذا دعيت، محيطٌ بما خلقت، قابل التوبة لمَن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، شكورٌ إذا شُكرت، ذكورٌ إذا ذُكرت. أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكّل عليك كافياً.

اللّهمّ احكم بيننا وبين قومنا؛ فإنّهم غرّونا وخذلونا، وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترةُ نبيّك،

____________________

(1) في اللغة: كئب كآبة: تغيّرت نفسه وانكسرت من شدّة الهمّ والحزن.

(2) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 1 / 147.

(3) مثير الأحزان - لابن نما / 39.

٢٥١

وولْدُ حبيبك محمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنتَه على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين (1) .

صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك يا غياثَ المستغيثين (2) ،ما لي ربٌّ سواك، ولا معبود غيرك. صبراً على حكمك يا غياث مَن لا غياث له، يا دائماً لا نفاد له، يا محييَ الموتى، يا قائماً على كلِّ نفسٍ بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» (3) .

وهذا هو التسليم لله (جلّ وعلا)، وعين الرضا بقضائه وإن كان قتلاً مؤلماً، وذلك هو الصبر الذي دونه كلُّ صبر، ومَن يقوى أو يثبت على موقف كهذا؟!

فإن يك إسماعيلُ أسلمَ نفسَه

إلى الذبحِ في حِجر الذي هو راحمُهْ

فعاد ذبيحُ الله حقّاً ولم تكنْ

تصافحُه بيضُ الظُّبا وتسالـمُهْ

فإنَّ حسيناً أسلَم النفسَ صابر

على الذبح في سيفِ الذي هو ظالـمُهْ

ومِن دون دين الله جاد بنفسِه

وكلّ نفيسٍ كي تُشاد دعائمُهْ

ورضّت قراه العادياتُ وصدرَه

وسِيقت على عُجف المطايا كرائمُهْ(4)

____________________

(1) مصباح المتهجّد - للشيخ الطوسيّ / 574، والإقبال - للسيّد ابن طاووس / 185، عنهما البحار 101 / 348 ح1.

(2) أسرار الشهادة / 423.

(3) رياض المصائب / 33.

(4) من قصيدة للعلاّمة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.

٢٥٢

الخصّيصة الخامسة

إنَّ الصبور - مهما صبر - قد لا يُوفَّق أن يقضي عمره وهو راسخ القدمين على ساحة الصبر، فلا بدّ أن يعتريه الوهن والضعف، والضجر والملل، والتأفّف والتضجّر في موقفٍ ما، أو في حالةٍ عصيبةٍ لا تتحمّلها نفسه.

أمّا أن يبدأ بالصبر، ويواصل حياته على ما فيها من نكبات في صبر، ويختمها في أشدّ المحن بصبر، فذلك عُرف به الحسين (صلوات الله عليه). وقد كشف الصبرَ الحسينيَّ تلك المصائبُ المهولة، وساحة كربلاء قد ذُهلت من صبر سيّد الشهداء وشجاعته. يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :«ثلاثةٌ لا تُعرف إلاّ في ثلاثة مواطن؛ لا يُعرف الحليم إلاّ عند الغضب، ولا الشجاع إلاّ عند الحرب، ولا أخٌ إلاّ عند الحاجة» (1) .

فقد ينجح المرء في دخول الأمر الصعب ولكنّه لا يقوى على المواصلة في التحمّل، وقد يواصل لكنّه لا يستطيع الثبات؛ فتراه يهتزّ ويسقط. وقد يثبت حيناً لكنّه لا يختم حياته بذلك، والخاتمة هي المعوّل عليه. قال النبيُّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله :«خير الاُمور خيرها عاقبة (2) . ملاك العمل خواتيمه (3) .الاُمور بتمامها، والأعمال بخواتمها» (4) .

ولكي نتعرّف على صور مهيبةٍ من صور الصبر الحسينيّ تعالوا نقف عند هذه الواقعة: يقول المؤرّخون بعد ذكر شهادة الأصحاب وأهل بيت

____________________

(1) بحار الأنوار 78 / 229، عن تحف العقول / 233.

(2) أمالي الصدوق / 292.

(3) الاختصاص / 342.

(4) بحار الأنوار 77 / 165، عن غوالي اللآلي 1 / 289.

٢٥٣

الحسينعليه‌السلام ، وبقائه وحيداً في ساحة المعركة: تقدّم الحسينعليه‌السلام نحو القوم مصلتاً سيفه، فدعا الناسَ إلى البراز، فلم يزل يقتل كلَّ مَن برز إليه حتّى قتل جمعاً كثيراً(1) .

وبعد أن قتل مقتلةً عظيمة صاح عمرو بن سعد: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، احملوا عليه من كلّ جانب. فصوّبت نحوه أربعة آلاف نبلة، فحملعليه‌السلام على الميمنة حملة ليثٍ مغضب، وجراحاته تشخب دماً، ثمّ حمل على الميسرة(2) فتطاير العسكر من بين يديه، واتّجهوا نحو الخيام... ثمّ ازدحم عليه العسكر، واستحرى القتال وهو يقاتلهم ببأسٍ شديد، وشجاعةٍ لا مثيل لها.

قال عبد الله بن عمّار بن يغوث: فوالله ما رأيتُ مكثوراً قطّ قد قُتل ولْدُه وأهلُ بيته وصحبه أربطَ جأشاً منه، ولا أمضى جَناناً، ولا أجرأَ مقْدماً! ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدَّ فيها، ولم يثبت له أحد(3) .

وفي روايةٍ اُخرى: فوالله ما رأيت مكسوراً قطّ قد قُتل ولْده وأهل بيته وأصحابه أربطَ جأشاً ولا أمضى جَناناً منه، ولا أجرأ مقدماً! والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله؛ أن كانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدَّ فيها الذئب(4) .

قال ابن الأثير: المكثور: المغلوب، وهو الذي تتكاثر عليه الناس(5) .

____________________

(1) مثير الأحزان - لابن نما / 37، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 2 / 33.

(2) المناقب 2 / 223.

(3) تاريخ الطبريّ 6 / 259، ونسبه الخوارزميّ في مقتله 2 / 38 إلى بعض من شهد الواقعة.

(4) تاريخ الاُمم والملوك - للطبريّ 4 / 345، مطبعة الاستقامة بمصر.

(5) البداية والنهاية 4 / 10.

٢٥٤

وقال آخر: ولقد كان يحمل فيهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً، فينهزمون مِن بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول:«لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم» (1) .

هكذا حتّى غدروا به بالحجارة والسهام من بعيد، فصبر وصابر:

إلى أن أتاه السهمُ مِن كفِّ كافرٍ

ألا خاب باريها وضَلَّ المصوِّبِ

فخرَّ على وجهِ الترابِ لوجهِه

كما خرّ مِن رأس الشناخيب أخشبِ

وأعياه النزف، فجلس على الأرض ينوء برقبته(2) ... لا يرى منه إلاّ الصبر والرضا عن الله تعالى في جميع قضائه.

قال الشيخ التستري: وأمّا صبرهعليه‌السلام كما ورد؛ ولقد عجِبتْ من صبره ملائكةُ السماوات. فتدبّرْ في أحواله وتصوَّرها حين كان مُلقىً على الثرى في الرمضاء، مجرّحَ الأعضاء بسهامٍ لا تعدُّ ولا تحصى، مفطور الهامة، مكسورَ الجبهة، مرضوضَ الصدر من السهام، مثقوب الصدر بذي الثلاث شعب؛ سهمٌ في نحره، وسهم في حنكه، وسهمٌ في حلقه.

اللسان مجروحٌ من اللَّوك، والكبِد محترق، والشفاه يابسة من الظمأ، القلب محروقٌ من ملاحظة الشهداء في أطرافه، ومكسورٌ من ملاحظة العيال في الطرف الآخر، الكفُّ مقطوعٌ من ضربة زرعة بن شريك، والرمح في الخاصرة، مخضّب اللحية والرأس، يسمع صوتَ الاستغاثات من عياله، والشماتات من أعدائه، بل الشتم

____________________

(1) اللهوف / 67.

(2) الكامل - لابن الأثير 4 / 31، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 2 / 35.

٢٥٥

والاستخفاف من الأطراف، ويرى بعينه إذا فتحها القتلى الموضوعة بعضها على بعض، ومع ذلك كلّه لم يتأوّه في ذلك الوقت، ولم تقطر من عينه قطرة دمع، وإنّما قال:«صبراً على قضائك، لا معبودَ سواك يا غياث المستغيثين» . وفي الزيارة:«ولقد عجبتْ من صبرك ملائكة السماوات» .

وروي عن السجّادعليه‌السلام :«كلّما كان يشتدّ الأمر كان يشرق لونه، وتطمئنُّ جوارحه، فقال بعضهم: انظروا كيف لا يبالي بالموت؟!» (1) .

____________________

(1) الخصائص الحسينيّة / 39 - 40.

٢٥٦

الرحمة الحسينيّة

٢٥٧

٢٥٨

الرحمة الحسينيّة

الرحمة: كلمة تقع على القلب موقع الاطمئنان والسرور والمحبّة، وهي خلقٌ إنسانيّ أوجب الله تعالى - وهو أرحم الراحمين - أن يرحم من تخلّق به؛ إذ الرحمة من أخلاقه سبحانه (عزّ وجلّ)؛ ولذا نسمع رسول الله، نبيّ الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:«الراحمون يرحمهمُ الرحمنُ يومَ القيامة. ارحمْ مَن في الأرض يرحمْك مَن في السماء» (1) .

وجاء رجلٌ فقال له: أحبّ أن يرحمني ربّي. فقال له المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله :«ارحم نفسَك، وارحم خلْقَ الله يرحمْك الله» (2) .

أمّا أمير المؤمنينعليه‌السلام فقد كان له كلمات اُخرى تدعو إلى الرحمة وترغّب فيها، وتبيّن عوائدها الطيّبة، من ذلك قوله (سلام الله عليه):«أحْسِن يُحسَنْ إليك. ارحم تُرحم (3) .اِرحم مَن دونَك يرحمْك مَن فوقَك، وقس سهوه بسهوك، ومعصيته بمعصيتك لرّبك، وفقرَه إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربّك (4) . عجبت لمَن يرجو رحمة من فوقه كيف

____________________

(1) بحار الأنوار 77 / 167.

(2) كنز العمال - الخبر 44154.

(3) بحار الأنوار 77 / 383.

(4) غرر الحكم / 66.

٢٥٩

لا يرحم من دونه» (1) .

وفي موجبات الرحمة الإلهيّة قال (عليه أفضل الصلاة والسّلام):«ببذل الرحمة تستنزل الرحمة (2) .رحمة الضعفاء تستنزل الرحمة (3) .أبلغُ ما تُستدرُّ به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة» (4) .

وهذا خلق الأنبياء والأوصياء، وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أرحم الناس بالناس، فنصح لهم وهداهم سبيل الخير والصلاح، ودعاهم إلى السّلام والأخلاق الطيّبة، وأخذ بأيديهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، إلاّ من أبى، حتّى قال الله تعالى فيه:( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (5) .( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (6) .

فكان من أوصافهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه يشقُّ عليه ضرُّ الناس أو هلاكهم، وأنّه حريصٌ عليهم جميعاً؛ من مؤمنٍ أو غير مؤمن، وأنّه رؤوفٌ رحيمٌ بالمؤمنين منهم خاصّة. وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله رحمةً لأهل الدنيا؛ لأنّه أتى بدين فيه سعادتهم، وهو القائل:«إنّما أنا رحمةٌ مهداة» (7) .

وتلك سيرته الشريفة العاطرة تشهد برحمته التي طبّقت الآفاق، وشملت الناس جميعاً، فكان يحنو على الأطفال واليتامى والأرامل، والفقراء والمساكين، ويشفق على الصبيان والبنات، والمظلومين والمحرومين، ويرحم أصحابه

____________________

(1) غرر الحكم / 218.

(2) غرر الحكم / 148.

(3) غرر الحكم / 187.

(4) غرر الحكم / 99.

(5) سورة التوبة / 128.

(6) سورة الأنبياء / 107.

(7) تفسير نور الثقلين 3 / 466 ح 197.

٢٦٠