الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية0%

الأخلاق الحسينية مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 368

الأخلاق الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر البياتي
الناشر: تكسوار حجاز
تصنيف: الصفحات: 368
المشاهدات: 38002
تحميل: 7071

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38002 / تحميل: 7071
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق الحسينية

الأخلاق الحسينية

مؤلف:
الناشر: تكسوار حجاز
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولا عتب» (1) .

ولم يجمعِ الإمامُ الحسينعليه‌السلام ذلك فحسب، إنَّما أضاف إليه الجائزةَ السنيّة ورحمةَ الحرِّيَّة.

وفي كلّ مواقفه (سلام الله عليه) كان يقدِّم عفوَه على غضبه، ويعرضُ العفوَ على مبغضيه وأعدائه علَّهم يهتدون، وإلى الحقِّ يؤوبون، وعن الباطل والضلال يرجعون، ومن فرصةِ السلام يستفيدون.

وهذا من الرحمةِ الحسينيّة التي استفاد منها الحرُّ بنُ يزيد الرياحيّ (رضوان الله عليه)؛ إذ لـمّا سمع كلامَ الحسينعليه‌السلام ، ودعوتَه الحقَّة أقبل على عمر بنِ سعد وقال له: أمُقاتلٌ أنتَ هذا الرجل؟

قال عمر: إي والله قتالاً أيسرُه أنْ تسقط فيه الرؤوس، وتطيحَ الأيدي.

فقال الحرّ: ما لكم في ما عرضه عليكم من الخصال؟

فقال عمر: لو كان الأمرُ إلَيَّ لقبِلتُ، ولكنَّ أميرَكَ أبى ذلك.

فتركه الحرُّ ووقف مع الناس، وكان إلى جنبهِ قُرَّةُ بنُ قيس، فقال لقُرّة: هل سقيتَ فرسَكَ اليوم؟

قال: لا.

قال: فهل تُريد أن تَسقيه؟

فظنَّ قُرَّةُ مِن ذلك أنَّه يُريد الاعتزال ويكرهُ أن يشاهدَه، فتركه، فأخذ الحرُّ يدنو من الحسين قليلاً، فقال له المهاجرُ بنُ أوس: أتريد أن تحمل؟

فسكتَ الحرُّ، وأخذتْه الرعدة، فارتاب المهاجرُ مِن هذا الحال، وقال له: لو قيل لي: مَنْ أشجعُ أهلِ الكوفةِ لما عدوتُك، فما هذا الذي أراه منك؟!

فقال الحرّ: إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنَّةِ والنار، والله لا أختارُ على الجنَّةِ شيئاً ولو حُرِّقتُ.

ثمَّ ضرب جوادَه نحو الحسين(2) ؛ منكِّساً رمحَه، قالباً ترسَه، وقد طأطأ برأسِه حياءً مِنْ آل الرسول بما أتى إليهم، وجعجعَ بهم في هذا المكان على غير ماءٍ ولا كلأ،

____________________

(1) بحار الأنوار 78 / 357، عن أعلام الدين / 307، رواه عن الإمام الرضاعليه‌السلام .

(2) تاريخ الطبريّ 6 / 244.

٢٨١

رافعاً صوته: اللَّهمَّ إليك اُنيب فتُبْ عَلَيَّ؛ فقد أرعبتُ قلوبَ أوليائك وأولادِ نبيِّك. يا أبا عبد الله، إنّي تائب، فهل لي من توبة.

فقال الحسينعليه‌السلام - وهو العفوُّ -:«نعم، يتوبُ الله عليك» (1) .

فسرَّه قولُه، وتيقَّنَ الحياةَ الأبديَّةَ والنعيمَ الدائم، ووضح له قولُ الهاتف لـمّا خرج من الكوفة، فحدّثَ الحسينَعليه‌السلام بحديثٍ قال فيه: لـمّا خرجتُ من الكوفة نُوديتُ: أبْشِرْ يا حُرُّ بالجَنَّةِ. فقلتُ: ويلٌ للحرِّ! يُبشَّرُ بالجنَةِ وهو يسير إلى حرب ابن بنتِ رسول الله(2) !

فقال له الحسينعليه‌السلام :«لقد أصبتَ خيراً وأجراً». وكان مع الحرّ غلامٌ له تركيّ(3) .

ثمَّ استأذنَ الحرُّ الحسينَعليه‌السلام في أنْ يكلِّمَ القوم، فأذِنَ له، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الكوفة، لأمَّكم الهبل والعبر! إذْ دعوتموه وأخذتُم بكظمه، وأحطْتُم به من كلِّ جانب فمنعتموه التوجّهَ إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمَنَ وأهلُ بيته، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وحَلأْتُموه ونساءَه وصبيتَه وصَحبَه عن ماءِ الفراتِ الجاري الذي يشربه اليهودُ والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السوادِ وكلابُه، وها هم قد صرعهمُ العطش، بئسما خلفتُم محمَّداً في ذرّيّته! لا سقاكمُ اللّهُ يومَ الظمأ.

فحملتْ على الحرّ رجَّالةٌ ترميه بالنبل، فتقهقر حتّى وقفَ أمامَ الحسينعليه‌السلام (4) .

____________________

(1) اللهوف / 58، أمالي الصدوق / 97، روضة الواعظين / 159.

(2) أمالي الصدوق / 93 - المجلس 30.

(3) مقتل الحسين - للخوارزميّ 2 / 9، مثير الأحزان - لابن نما / 31.

(4) الكامل 4 / 27.

٢٨٢

وهكذا يتحوّل الحرّ ببركة عفو سيّده الحسينعليه‌السلام إلى صفّ الإيمان والحقّ، والجهاد والشهادة، ويعلو صوتُه بدعوةِ أهل الكوفة إلى المعروف، ونهيهم عن منكرهم وضلالهم في قتالهم لسيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام .

وبعد شهادة حبيب بن مظاهر (رضوان الله عليه) خرج الحرُّ بن يزيد الرياحيّ ومعه زهيرُ بنُ القين يحمي ظهرَه، فكان إذا شدَّ أحدُهما واستلحم شدَّ الآخرُ واستنقذه، ففعلا ساعة(1) ، وإنَّ فرس الحرّ لمضروب على اُذُنَيه وحاجبَيْه، والدماءُ تسيل منه، وهو يتمثّل بقول عنترة:

ما زلتُ أرميهم بثغرةِ نحرِه

ولبانه حتّى تسربل بالدمِ

فقال الحصين ليزيد بن سفيان: هذا الحرُّ الذي كنتَ تتمنّى قتله.

قال: نعم.

وخرج إليه يطلب المبارزة، فما أسرع أن قتله الحرّ، ثمّ رمى أيُّوبُ بنُ مشرح الخيوانيّ فرسَ الحرّ فعقره، وشبّ به الفرس فوثب عنه كأنَّه ليث(2) ، وبيده السيف، وجعل يقاتل راجلاً حتّى قتل نيّفاً وأربعين(3) ، ثمَ شدَّتْ عليه الرجَّالةُ فصرعته، وحمله أصحابُ الحسينعليه‌السلام ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلونَ دونه، وهكذا يُؤتى بكلّ قتيل إلى هذا الفسطاط، والحسينُعليه‌السلام يقول:«قتلةٌ مْثلُ قتْلةِ النبيِّينَ وآل النبيّين» (4) .

ثمَّ التفتَعليه‌السلام إلى الحرّ، وكان به رمق، فقال له وهو يمسح الدمَ عنه:«أنت الحرّ كما سمّتْك اُمُّك، وأنت الحرُّ في الدنيا والآخرة».

ورثاه رجل من أصحاب الحسينعليه‌السلام ، وقيل: عليُّ بن الحسينعليه‌السلام (5) ، وقيل: إنَّها من إنشاء الحسينعليه‌السلام

____________________

(1) تاريخ الطبريّ 6 / 252، البداية والنهاية 8 / 183.

(2) تاريخ الطبريّ 6 / 248 و 250.

(3) المناقب 2 / 217.

(4) الغيبة - للنعمانيّ / 113، الطبعة الحجريّة، تظلّم الزهراءعليها‌السلام / 118.

(5) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 11.

٢٨٣

خاصّة(1) :

لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ بَني رِياحِ

صبورٌ عندَ مشتَبكِ الرماحِ

وَنِعْمَ الحرُّ إذْ فادى حسين

وجاد بنفسه عند الصباحِ

2 - الحِلْمُ الحُسَينِيّ

والحلم هو طمأنينةُ النفس، بحيث لا يُحرِّكها الغضب بسهولة، ولا يزعجُها المكروهُ بسرعة؛ فهو الضدُّ الحقيقيُّ للغضب؛ لأنَّه المانعُ من حدوثِه وبعدَ هيجانه.

والحلم أشرفُ الكمالاتِ النفسيّة بعد العلم، بل لا ينفع العلـمُ بدونه أصلاً؛ ولذا كلّما يُمدح العلـمُ أو يُسأل عنه يُقارَنُ به. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«اللَّهمَّ أغنني بالعلْم، وزيِّنِّي بالحلْم» .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إنَّ الله يُحِبُّ الحيّيَ الحليم» .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«ما أعزَّ الله بجهلٍ قطّ، ولا أذلَّ بحلمٍ قطّ» .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :«ليس الخيرُ أن يكثر مالُك ووُلْدُك، ولكنَّ الخيرَ أن يكثُرَ علـمُك ويَعظُمَ حِلْمُك» .

وقال عليُّ بنُ الحسينعليهما‌السلام :«إنَّه لَيُعجبُني الرجلُ أن يُدركَه حِلْمُه عند غضبه» .

وقال الرضاعليه‌السلام :«لا يكون الرجلُ عابداً حتّى يكون حليماً» (2) .

والحلم - كما يرى علماءُ الأخلاق - من آثارِ قوّةِ النفسِ وشجاعتِها،

____________________

(1) روضة الواعظين / 160، أمالي الصدوق / 97 - المجلس 30.

(2) جامع السّعادات 1 / 295 - 297.

٢٨٤

ولا يُعرف إلاّ في الموقف الصعب أو حالةِ الهيجان. قال الإمام الصادقعليه‌السلام :«ثلاثة لا تُعرف إلاّ في ثلاثة مواطن؛ لا يُعرف الحليم إلاّ عند الغضب، ولا الشجاع إلاّ عند الحرب، ولا أخٌ إلاّ عند الحاجة» (1) .

والحاجات تختلف؛ فمنها معنويّةٌ أخلاقيّة؛ إذ قد يحتاج الأخُ من أخيه أن يعفوَ عنه ويصفح، وأن يحلمَ عليه ولا يغضب. والشجاعة لا تقتصر على قوّةِ البدن واندفاعه في ساحةِ القتال؛ إذ منها إمساكُ النفس عن الغضب كما هو منها إمساكُ النفس عن الخوف والجُبن والوهن.

سألَ النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً أصحابَه:«ما الصرعةُ فيكم؟» .

قالوا: الشديدُ القويُّ الذي لا يُوضَعُ جنبُه.

فقال:«بل الصرعةُ حقّ الصرعة رجلٌ وكزَ الشيطانَ في قلبه، واشتدّ غضبُه وظهر دمُه، ثمَّ ذكرَ الله فصرعَ بحِلْمِه غضبَه» (2) .

وفي رواية أنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج وقومٌ يُدحرجون حجر، فقال:«أشدُّكم مَنْ ملكَ نفسَه عند الغضب، وأحلـمُكم مَنْ عفا بعدَ المقدرة» (3) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«ليس الشديد بالصرعة، إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسَه عند الغضب» (4) .

وجاء عن مولانا الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال:«أقوى الناس مَن قوِيَ على غضبهِ بحِلْمِه» (5) .

ورُوي عن مولانا الإمام الباقرعليه‌السلام قولُه:«لا قُوَّةَ كَرَدِّ

____________________

(1) بحار الأنوار 78 / 229 عن تحف العقول / 233.

(2) بحار الأنوار 77 / 150 عن تحف العقول / 39.

(3) تحف العقول / 37.

(4) تحف العقول / 39.

(5) غرر الحكم / 93.

٢٨٥

الغَضَبِ» (1) .

وصورة من صور الحلم الحسينيّ الشريف ما رواه للتاريخ عصام بن المصطلق، حيث قال: دخلتُ المدينةَ فرأيتُ الحسينَ بنَ عليّعليه‌السلام فأعجبني سمْتُه ورواؤُه، وأثارَ مِن الحسدِ ما كانَ يُخفيهِ صدري لأبيهِ من البُغض، فقلتُ له: أنتَ ابنُ أبي تراب؟

فقال:«نعم».

قال عصام: فبالغتُ في شتمِه وشتمِ أبيه (نعوذ بالله)، فنظر إلَيَّ نظرةَ عاطفٍ رؤوف، ثمّ قال:«أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمنِ الرحيم، ( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ) » (2) .

قال عصام: ثمّ قال لي:«خفّضْ عليك، أستغفر الله لي ولك، إنَّكَ لوِ استعنتَنا لأعنّاك، ولوِ استرفدتنا لرفدناك، ولوِ استرشدتنا لرشدناك».

قال عصام: فتوسّم منّي الندمُ على ما فرط منّي، فقال:« ( لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (3) .أمِن أهل الشامِ أنت؟» .

قلتُ: نعم.

فقال:«شنشنةٌ أعرفُها مِن أخزمِ (4) .حيّانا الله وإيّاك، انبسطْ إلينا في حوائجك وما يعرضُ لك تجدني عند أفضلِ ظنِّكَ إنْ شاء الله تعالى».

قال عصام: فضاقتْ عَلَيَّ الأرضُ بما رحُبتْ، ووددتُ لو ساختْ بي، ثمَّ سللْتُ منه

____________________

(1) بحار الأنوار 78 / 165 عن تحف العقول / 208.

(2) سورة الأعراف / 199 - 202.

(3) سورة يوسف / 92.

(4) مثلٌ يُشير إلى أصل الفتنة، وهو هنا معاوية الذي ضلّل أهل الشام وحملهم على بغض أهلِ البيتعليهم‌السلام .

٢٨٦

لواذاً وما على الأرضِ أحَبُّ إلَيَّ منه ومِن أبيه(1) .

فبالحلم أعزّ الإمامُ الحسينعليه‌السلام نفسَه وأكرمَها، وأنقذ هذا المسكين الذي أثّرتْ عليه دعاياتُ وافتراءاتُ بني اُميّة ضدَّ أهلِ بيت العصمة والطهارة (صلوات اللَّه عليهم)، حتّى إذا التقى بأحدهم - وهو الحسين (سلام اللَّه عليه) - وجدَ خلُقاً رفيعاً، وحلْماً عظيماً، وصدْراً رحباً واسعاً يتحمّل إساءاتِ الآخرين حتّى السبَّ منه.

وقد قالعليه‌السلام وهو الصادق، كما روى الزرنديُّ الحنفيّ في كتابه (نظم درر السمطين)(2) :«لو شتمني رجلٌ في هذه الأذُن - وأومىعليه‌السلام إلى اليُمنى -واعتذر لي في الاُخرى لقبِلْتُ ذلك منه؛ وذلك أنَّ أميرَ المؤمنين عليَّ بنَ أبي طالب (رض) حدّثني أنه سمع جَدّي رسولَ اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لا يرِد الحوضَ مَنْ لم يقبلِ العُذرَ من مُحقٍّ أو مُبطل» .

لقد كان صدرُ الإمام الحسينعليه‌السلام صدراً حليماً بحقّ، تحمّلَ وصبر وحلم على شتم الشاتمين، ولكن كيف يحقُّ لمسلمٍ أن يسبَّ مَن قال فيه رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«حسين منّي وأنا مِن حسين» كما روى الترمذي في صحيحه(3) ، وابنُ ماجة في الفضائل(4) ، والهندي في كنز العمال(5) ، وأحمد بنُ حنبل في مسنده(6) ، وغيرُهم كثير(7) ؟!

ألا بعد هذا

____________________

(1) سفينة البحار 2 / 116، عن نفثة المصدور / 614.

(2) ص 209، طبعة القضاء.

(3) ج 2 / 307.

(4) فضائل أصحاب رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(5) ج 6 / 221، و ج 7 / 107.

(6) ج 4 / 172.

(7) كالبخاري في الأدب المفرد - باب معانقة الصبيّ، والحاكم في المستدرك 3 / 177، وابن الأثير في اُسد الغابة 2 / 19 و 5 / 130. ورواه أئمة الحديث وأربابُ السنن من الفريقين.

٢٨٧

أنَّ شتمَ الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو مِن رسول اللَّه ورسولُ اللَّه منه، أنّه شتمٌ لرسولِ اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وهذا ما بدا من جيش يزيد بن معاوية بقيادة عبيد اللَّه بن زياد، وتنفيذ عمر بن سعد، وعلى ألسنةِ المرتزقة الذين لم يكفهم أنْ رماه أبو الحتوف الجعفيّ بسهم في جبهة الحسينعليه‌السلام ، ورماه رجلٌ بحجر في جبهته المقدسةِ أيضاً، ورماه آخَرُ بسهمٍ محدّدٍ له ثلاثُ شعب وقع في قلبه المقدِّس للَّه (عز ّوجلّ)، فأعياه نزفُ الدم، فجلس على الأرض ينوء برأسه، لم يكفهم هذا حتّى انتهى إليه في تلك الحال مالكُ بنُ النسر فشتمه، ثم ضربه بالسيف على رأسه، وكان عليه برنسٌ فامتلأَ البرنسُ دماً(1) .

فيالَحلم الحسين! ويالحلم اللَّه! وللَّه درُّ الحسين (سلام اللَّه عليه) وهو على تلك الحالة يُخرج السهمَ مِن قفاه، فينبعث الدمُ كالميزاب(2) ، ويضع يدَه تحت الجراح، فإذا امتلأتْ رمى به نحو السماء وقال:«هوّنَ عَليَّ ما نزل بي أنّه بعين اللَّه» . فلم يسقط مِن ذلك الدم قطرةٌ إلى الأرض(3) .

3 - المروءة الحسينيّة

والمروّة أو المروءة خلُقٌ يحمل عدّةَ معانٍ إنسانيّة وسلوكية، نستطيع أن نتبيّن ذلك من خلال الأحاديث الشريفة:

قال رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لرجلٍ من ثقيف:«يا أخا ثقيف، ما المروءةُ فيكم؟» .

قال: يا رسول اللَّه، الإنصافُ والإصلاح.

قال:«وكذلك هي

____________________

(1) الكامل 4 / 31، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزميّ 2 / 35.

(2) نفَس المهموم / 189، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 34، واللهوف / 68.

(3) تهذيب تاريخ مدينة دمشق 4 / 338، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزميّ 2 / 34.

٢٨٨

فينا» (1) .

وجاء عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال:«ثلاثٌ هنّ جماعُ المروءة؛ عطاءٌ مِن غير مسألة، ووفاءٌ مِن غير عهد، وجودٌ مع إقلال (2) .على قدْرِ شرف النفس تكونُ المروءة» (3) .

وخرجعليه‌السلام على أصحابه وهم يتذاكرون المروّة، فقال:«أين أنتم مِن كتاب اللَّه (عزّ وجلّ)؟» .

قالوا: يا أمير المؤمنين، في أيّ موضع؟

فقال:«في قوله (عزّ وجلّ): ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) ؛ فالعدل: الإنصاف، والإحسان: التفضّل» (4) .

وقال (سلام اللَّه عليه):«المروّة اسم جامع لسائر الفضائل والمحاسن» (5) .

وسألَ معاويةُ الحسنَ بنَ عليٍّعليه‌السلام عن الكرم والمروءة، فقال:«أمّا الكرم فالتبرعُ بالمعروف، والإعطاءُ قبل السؤال، والإطعامُ في المحلّ؛ وأمّا المروءة فحفظُ الرجلِ دينَه، وإحرازُ نفسِه مِن الدنس، وقيامه بضيفه، وأداء الحقوق، وإفشاء السّلام» (6) .

وقال عبد الرحمن بن عباس، رفعه، قال: سأل معاويةُ الحسنَ بن عليّعليهما‌السلام عن المروّة، فقال:«شُحُّ الرجلِ على دينه، وإصلاح ماله، وقيامُه بالحقوق» .

فقال معاوية: أحسنت يا أبا محمّد، أحسنتَ يا أبا محمّد.

فكان معاوية يقول بعد ذلك: وددتُ أنَّ يزيدَ قالها وإنه كان أعور(7) .

____________________

(1) كنز العمال - خ 8762.

(2) غرر الحكم / 160.

(3) غرر الحكم / 215.

(4) معاني الأخبار / 257، والآية في سورة النحل / 90.

(5) غرر الحكم / 58.

(6) كنز العمال - خ 8760.

(7) معاني الأخبار /257.

٢٨٩

وسُئل الإمام الحسنعليه‌السلام : ما المروّة؟

فقال:«حفظُ الدين، وإعزازُ النفس، ولين الكنف، وتعهّدُ الصنيعة، وأداء الحقوق، والتحبّبُ إلى الناس» (1) .

ورُويَ عن الإمام الصادقعليه‌السلام قولهُ:«الفتوّةُ والمروّة: طعامٌ موضوع، ونائلٌ مبذول، واصطناعُ المعروف، وأذىً مكفوف» (2) .

إلى ما يقرب من ذلك مِن معاني العفّة والشهامة، والتفضّل والرحمة، والإحسان والإصلاح، وإكرام النفس وإعزازها، والترفع عن الخسّةِ والدناءةِ والرذيلة.

والآن نأتي إلى مروءة الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) لنرى ماذا أبقى للناس مِن منزلتها:

فممّا روي فيها ما رواه القوم، منهم الحافظ محمد بن جرير الطبريّ في تاريخ الاُمم والملوك(3) قال: وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه:«اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً» .

فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم، وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطساس من الماء ثمَّ يُدنونها من الفرَس، فإذا عبّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا

____________________

(1) تحف العقول / 162.

(2) أمالي الصدوق / 329.

(3) ج 4 / 301، طبعة الاستقامة بمصر.

٢٩٠

آخَر حتّى سقوا الخيل كلّها.

وفي رواية اُخرى: قال هشام: حدّثني لقيط، عن عليّ بن طعان المحاربيّ [قال]: كنت مع الحرّ بن يزيد، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلمّا رأى الحسينُ ما بي وبفرسي من العطش قال:«أنخِ الراوية» . والراوية عندي السّقاء، ثمّ قال:«يابن أخي، أنخِ الجمل» . فأنختُه، فقال:«اشرب» . فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين:«اخنث السقاء» ، أي أعطفه. قال: فجعلت لا أدري كيف أفعل، قال: فقام الحسين فخنثه فشربت وسقيت فرسي(1) .

ومنهم ابن الأثير في (الكامل)(2) ، روى الحديث بعين ما تقدّم أوّلاً عن (تاريخ الإسلام)، لكنّه أسقط قوله: والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم(3) .

ومنهم أبو المؤيد موفّق بن أحمد في «مقتل الحسين»(4) : أخبرني الإمام الأجل مجد الدّين قوام السنّة أبو الفتوح محمّد بن أبي جعفر الطائيّ فيما كتب إليَّ من همدان، أخبرنا شيخ القضاة أبو عليّ إسماعيل بن أحمد البيهقي سنة اثنتين وخمسمئة بباب المدينة بمرو في الجامع، أخبرنا الإمام حقّاً وشيخ الإسلام صدقاً أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرّحمن الصابونيّ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن محمّد بهراة، أخبرنا أبو عليّ أحمد بن محمّد بن عليّ، حدّثنا عليّ بن خشرم، سمعت يحيى بن عبد الله بن بشير الباهليّ، حدّثنا ابن المبارك أو غيره - شكّ الباهليّ - قال: بلغني أنَّ معاوية قال

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 302.

(2) ج 3 / 279 - طبعة المنيرية بمصر.

(3) وروى الخوارزميُّ الحديثَ أيضاً نقلاً عن أحمد بن أعثم بمثل ما تقدّم في مقتل الحسينعليه‌السلام 1 / 229.

(4) ج 1 / 149 - طبعة الغريّ.

٢٩١

ليزيد: هل بقيت لذَّة من الدُنيا لم تنلها؟

قال: نعم، اُمّ أبيها هند بنت سهيل بن عمرو، خطبتها وخطبها عبد الله بن عامر بن كريز فتزوّجته وتركتني.

فأرسل معاوية إلى عبد الله بن عامر وهو عامله على البصرة، فلمّا قدم عليه قال: انزل عن اُمّ أبيها لوليّ عهد المسلمين يزيد.

قال: ما كنت لأفعل. قال: أقطعك البصرة، فإن لم تفعل عزلتك عنها. قال: وإن.

فلمّا خرج من عنده قال له مولاه: امرأة بامرأة، أتترك البصرة بطلاق امرأة؟! فرجع إلى معاوية فقال: هي طلاق. فردّه إلى البصرة، فلمّا دخل تلقّته اُمّ أبيها فقال: استترى. فقالت: فعلها اللّعين! واستترت.

قال: فعدّ معاوية الأيّام حتّى إذا انقضتِ العِدَّة وجّه أبا هريرة يخطبها ليزيد، وقال له: أمهرها بألف ألف. فخرج أبو هريرة فقدم المدينة، فمرّ بالحسين بن عليّعليه‌السلام ، فقال:«ما أقدَمك المدينة يا أبا هريرة؟» .

قال: اُريد البصرة أخطب اُمّ أبيها لوليّ عهد المسلمين يزيد.

قال:«فترى أن تذكرني لها» . قال: إن شئت. قال:«قد شئت» .

فقدم أبو هريرة البصرة، فقال لها: ياُمّ أبيها، إنَّ أمير المؤمنين يخطبك لوليّ عهد المسلمين يزيد، وقد بذل لك في الصّداق ألف ألف، ومررت بالحسين بن عليّ فذكرك.

قالت: فما ترى يا أبا هريرة؟ قال: ذلك إليك.

قالت: فشَفَةٌ قبّلها رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه وآله) أحبّ إليَّ.

قال: فتزوّجت الحسينَ بن عليّعليه‌السلام ، ورجع أبو هريرة فأخبر معاوية.

قال: فقال له: يا حمار، ليس لهذا وجّهناك.

قال: فلمّا كان بعد ذلك حجَّ عبد الله بن عامر، فمرّ بالمدينة فلقيَ الحسين بن عليّ، فقال له: يابن رسول اللَّه، تأذن لي في كلام اُمّ أبيها؟ فقال:«إذا شئت» .

فدخل معه البيت، واستأذن على اُمّ أبيها فأذنت له، ودخل معه الحسين، فقال لها عبد الله بن عامر: يا اُمّ أبيها، ما فعلت الوديعة الّتي استودعتُكِ؟

قالت: عندي. يا جارية، هاتي سفط كذا.

فجاءت به، ففتحته وإذا هو مملوء لآلي وجوهر يتلألأ، فبكى ابن عامر، فقال الحسين:«ما يبكيك؟» .

٢٩٢

فقال: يابن رسول اللَّه، أتلومني على أن أبكى على مثلها في ورعها وكمالها ووفائها؟

قال:«يابن عامر، نِعم المحلّل كنت لكما، هي طلاق». فحجّ، فلمّا رجع تزوّج بها.

ومنهم العلاّمة الشيخ تقيّ الدين أبو بكر بن عليّ الحنفيّ في (ثمرات الأوراق)(1) ، أورد الواقعة لكنّه ذكر اسم المرأة اُرينب بنت إسحاق، واسم زوجها عبد الله بن سلام.

هذه هي شهامة الحسينعليه‌السلام ومروءتُه ونُبلُه وإنسانيّتُه، وتلك كانتْ مواقفُه مع نساءِ المسلمين، فكيف كان خصومُه مع نسائه؟

قال المؤرّخون: لـمّا قُتل أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام مالَ الناسُ على ثقله ومتاعه، وانتهبوا ما في الخيام، وأضرموا النارَ فيها(2) ، وتسابق القومُ على سلب حرائر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففررنَ بناتُ الزهراءعليها‌السلام مسلّباتٍ باكيات(3) .

قال أبو مخنف (رحمه اللَّه): فلمّا ارتفع صياحُ النساء صاح ابنُ سعد: ويلكم! اكبسوا عليهنّ الخِبا، وأضرموهنّ ناراً فأحرقوها ومَنْ فيها.

فقال رجلٌ منهم: ويلك يابنَ سعد! أما كفاك قتلُ الحسينِ وأهلِ بيته وأنصاره عن إحراق أطفاله ونسائه؟! لقد أردتَ أنْ يخسفَ الله بنا الأرض؟! فتبادروا إلى نهبِ النساءِ الطاهرات(4) .

وبقين بناتُ الرسالة والأراملُ واليتامى ليلة الحادي عشر من المحرّم

____________________

(1) ج 7 / 174 - طبعة القاهرة.

(2) الكامل 4 / 22.

(3) تاريخ الطبري 6 / 260.

(4) مقتل أبي مخنف / 154.

٢٩٣

بعد شهادة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام في حلكٍ دامس مِن فقد تلك الأنوار الساطعة؛ بين رحْلٍ منتهَب، وخباءٍ محترق، وفرَقٍ سائد، وحُماةٍ صرعى، لا مُحامٍ لهنّ ولا كفيل. نعم، كان بينهنّ صراخُ الصبية، وأنينُ الفتيات، ونشيج الوالهات(1) .

ولمّا سيّر ابنُ سعدٍ الرؤوسَ - رؤوسَ شهداءِ الطفّ - أقام مع الجيش إلى الزوال من اليوم الحادي عشر، فجمع قتلاه وصلّى عليهم ودفنهم، وترك سيّد شبابِ أهل الجنّة وريحانة الرسول الأكرم ومَن معه من أهل بيته وصحبهِ بلا دفن(2) ، تسفي عليهمُ الصبا.

وبعد الزوال ارتحل إلى الكوفة ومعه نساءُ الحسين وصبيتهُ وجواريه وعيالات الأصحاب، وكنّ عشرينَ امرأة(3) ، وسيّروهنّ على أقتاب الجمال بغير وطاء كما يساق سَبيُّ التركِ والروم، وهنّ ودائعُ خير الأنبياء، ومعهنّ السجادعليه‌السلام وقد أنهكتْه العلّة(4) ، ومعه ولدُه الباقرعليه‌السلام وله سنتانِ وشهور(5) .

فقلن النسوة: باللَّه عليكم إلاّ ما مررتُم بنا على القتلى.

ولمّا نظرنَ إليهم مقطَّعي الأوصال، قد طعمتْهم سُمْرُ الرماح، ونهلتْ مِن دمائهم بيضُ الصفاح، وطحنتْهمُ الخيلُ بسنابكها، صحن(6) وصاحتْ زينب: يا محمّداه! هذا حسينٌ بالعراء، مرمّلٌ بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتُك سبايا، وذريّتُك مقتَّلَة. فأبكتْ كلَّ عدوٍّ وصديق(7) .

ثمّ بسطتْ يديها تحت بدنه المقدس ورفعتْه

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام - للمقرّم / 289.

(2) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 39.

(3) نَفَس المهموم / 204.

(4) الإقبال - للسيد ابن طاووسرحمه‌الله / 54.

(5) إثبات الوصية - للمسعودي / 143، وفي تاريخ أبي الفداء 1 / 203: له ثلاث سنين.

(6) مثير الأحزان - لابن نما / 41، واللهوف / 74، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزميّ 2 / 39، والمقتل - للطريحيّ / 332.

(7) الخطط المقريزية 2 / 280.

٢٩٤

نحو السماء وقالت: إلهي، تقبّلْ منّا هذا القربان(1) . واعتنقتْ سكينةُ جسدَ أبيها الحسينعليه‌السلام ولم يستطعْ أحدٌ أن يُنحّيها عنه حتّى اجتمع عليها عدّةٌ وجرّوها بالقهر(2) .

ولمّا اُدخلتْ بناتُ أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الكوفة اجتمع أهلُها للنظر إليهم، فصاحتْ اُمُّ كلثوم: يا أهلَ الكوفة، أما تستحون مِن اللَّهِ ورسوله أنْ تنظروا إلى حرم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) ؟!

وأشرفتْ عليهنّ امرأةٌ من الكوفيّات، ورأتهنّ على تلك الحالِ التي تُشجي العدوَّ الألد، فقالت: مِن أيّ الاُسارى أنتم؟ فقلن: نحن اُسارى آلِ محمّد(4) .

تلك كانت مروءةَ الحسين (صلوات اللَّه عليه)، دعتْه إلى الحفاظِ على الذمام، وحفظ العهود، والاستجابة إلى رسائل أهل الكوفة، والدعوة إلى الإصلاح في اُمّةِ جدِّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه أخلاقُ القوم؛ غدر، وتنكيل، وانتقام بلا مبرر، وطمع في دنيا غير دائمة وغير مضمونة، وهتكٌ للحرمات، وأسرٌ لاُسرةِ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه وآله) وتسييرُها إلى الكوفة ثمّ إلى الشام في تقييدٍ بالحبال، وحالةٍ من الجوعِ والعطش.

فحسْبُكمُ هذا التفاوتُ بينن

وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ

أو كما قال الشاعر:

يا اُمّةً نقضتْ عهودَ نبيِّه

أفمَنْ إلى نقض العهودِ دَعاكِ

____________________

(1) الكبريت الأحمر 3 / 13.

(2) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / 135.

(3) الدمعة الساكبة / 364.

(4) مثير الأحزان - لابن نما / 84، واللهوف / 81.

٢٩٥

لولاكِ ما ظفرتْ عُلوجُ اُميّةٍ

يوماً بعترةٍ أحمدٍ لولاكِ

وعليكِ خزْيٌ يا اُميّةُ دائمٌ

يبقى كما في النار دام بَقاكِ

فلقد حملتِ من الأَثامِ جهالةً

ما عنه ضاق لـمَن وَعاكِ وِعاكِ

هلاّ صفحتِ عن الحسينِ ورهطِه

صفحَ الوصيِّ أبيه عن آباكِ

وعففتِ يومَ الطفِّ عِفّةَ جَدِّه الـ

ـمبعوثِ يومَ الفتحِ عن طُلَقاكِ

أفهَلْ يدٌ سلبتْ إماءَكِ مثْلم

سلبتْ كريماتِ الحسين يَداكِ

أم هل بَرزْن بفتح مكّةَ حُسّر

كنسائهِ يومَ الطفوف نِساكِ

ما بينَ نادبةٍ وبين مَرُوعةٍ

في أسرِ كلِّ معاندٍ أفّاكِ

يا اُمّةً باءتْ بقتلِ هُداته

شُلّتْ يداكِ و ما بلغتِ مُناكِ

بئس الجزاءُ لأحمدٍ في آلهِ

وبنيهِ يومَ الطفّ كان جَزاكِ

يا عينُ ما سفحتْ دمُوعُكِ فلْيكُنْ

حزناً على سبطِ النبيّ بُكاكِ

وابكِ القتيلَ الـمُستضام ومن بَكتْ

لمصابهِ الأملاكُ في الأفلاكِ(1)

4 - التواضعُ الحسَيْني

والتواضع كما يعرّفه علماء الأخلاق: احترامُ الناس حسب أقدارهم، وعدمُ الترفّع عليهم. وهو خُلقٌ كريم، وخلّةٌ جذّابة تستهوي القلوب وتستثير التقدير. وناهيك في فضل التواضع أنَّ اللَّه تعالى أمرَ حبيبه وسيّد رسُلِه به، فقال (جلّ وعَلا):( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

وقد أشاد أهلُ البيتعليهم‌السلام بشرفِ هذا الخُلق، وشوّقوا إليه

____________________

(1) من قصيدةٍ للشيخ علي الشفهينيّ الحليّ - الدر النضيد / 240 - 241.

(2) سورة الشعراء / 215.

٢٩٦

بأقوالهمُ الحكيمة، وسيرتِهمُ المثالية، وكانوا رُوّادَ الفضائل، ومنارَ الخُلقِ الرفيع(1) .

قال النبيُّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله :«لا حسبَ كالتواضع» (2) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً:«إنّ التواضع يزيد صاحبَه رفعة، فتواضعوا يرفعْكمُ اللَّه» (3) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً قال:«إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم منيّ يوم القيامةِ مجلساً أحسنُكم خُلُقاً، وأشدُّكم تواضعاً...» (4) .

وقال أمير المؤمنين عليٌ (سلام اللَّه عليه):«التواضع زينة الحسب (5) .التواضع زكاة الشرف (6) .التواضع ينشر الفضيلة (7) .عليك بالتواضع فإنه مِن أعظم العبادة» (8) .

وجاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:«إنّ في السماء ملَكينِ موكَّلينِ بالعباد، فمَنْ تواضع للَّهِ رفعاه، ومَنْ تكبّر وضعاه» (9) .

وممّا قيل في التواضع قولُ أبي العلاء المعرّي:

فيا واليَ المِصر لا تظلِمَنْ

فكم جاءَ مثْلُك ثم انصرَفْ

تواضعْ إذا ما رُزقتَ العُل

فذلك مِمّا يزيد الشرفْ

____________________

(1) أخلاق أهل البيتعليهم‌السلام - للسيد مهدي الصدر / 49.

(2) بحار الأنوار 77 / 168، عن كنز الفوائد - للكراجكي.

(3) أمالي الطوسي 1 / 13.

(4) قرب الإسناد - للحميري / 46 ح 148.

(5) بحار الأنوار 78 / 80، عن كشف الغمة.

(6) غرر الحكم / 22.

(7) غرر الحكم / 32.

(8) أمالي الطوسي 1 / 6.

(9) الكافي 2 / 98 ح 2 - باب التواضع.

٢٩٧

وقد كان النبيُّ المصطفى الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثرَ الناسِ تواضعاً؛ يقعد في أدنى المجلس حيث يدخل، وكان يحلبُ شاتَه، ويرقع ثوبه، ويخصف نعلَه، ويخدم نفسه، ويحمل بضاعتَه في السوق، ويجالس الفقراء، ويواكل المساكين(1) .

عن أبي ذرّ الغِفاريّ (رضوان اللَّه عليه): كان رسولُ اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يجلس بين ظهرانيّ أصحابه، فيجيء الغريبُ فلا يدري أيُّهم هو حتّى يسأل، فطلبنا إليه أنْ يجعل مجلساً يعرفه الغريبُ إذا أتاه.

ورُويَ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في سفر، فأمر بإصلاحِ شاة، فقال رجل: يا رسولَ اللَّه، علَيّ ذبحها، وقال آخر: علَيّ سلخها، وقال آخر: علَيَّ طبخُها. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«وعلَيّ جمع الحطب».

فقالوا: يارسولَ اللَّه، نحن نكفيك.

فقال:«قد علمتُ أنكم تكفوني، ولكنْ أكرهُ أنْ أتميّزَ عليكم؛ فإنّ اللَّه يكرهُ مِن عبدِه أنْ يراه متميّزاً بين أصحابه». وقام وجمع الحطب(2) .

والإمام الحسينعليه‌السلام كان مِن سماتِه الواضحة بين الناس التواضع، فلم يجالسِ الطواغيت والمتكبّرين، وأصحابَ القلوبِ الميّتة والضمائر الفاسدة، والمغرورين بدُنياهم. كان ينصح، ولكنّه في الوقت ذاته كان يحبُّ الضعفاء والمساكينَ والفقراء، ويجالسهم ويواكلُهم ويحادثهم.

وممّا امتاز به تواضعه (سلامُ اللَّه عليه):

أوّلاً: أنّه كان خالصاً مخلصاً لوجهِ اللَّه تعالى، لا يبتغي به إلاّ مرضاته (جَلّ وعَلا)؛ لأنّ هناكَ مَنْ يتواضع للناس يطلبُ بذلك المدحَ والسمعة، يُرائي

____________________

(1) كتب السيرة النبويّة تذكر ذلك على وجه التفصيل والإجمال، منها مكارم الاخلاق - للطبرسي / 16.

(2) سفينة البحار - للشيخ المحقق عباس القمي 1 / 415.

٢٩٨

بتواضعه وينتظر أنْ يُثنى عليه، فاذا لم يحصل على ذلك عاد إلى كِبره، واذا طُلِبَ منه أنْ يُذعن للحقّ ظهرتْ عليه علاماتُ التجبّر والاستنكاف والتعالي.

أمّا الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) فكان متواضعاً لـمَنْ دونَه في الفضل، يطلبُ بذلك طاعةَ الرحمن (جَلّ جلالُه).

* حدّث الصوليّ عن الإمام الصادقعليه‌السلام في خبر أنه جرى بين الإمام الحسينعليه‌السلام وبين أخيه محمّد بن الحنفية كلام، فكتب ابنُ الحنفية إلى الحسينعليه‌السلام : أمّا بعدُ يا أخي، فإنَّ أبي وأباكَ عليٌّ، لا تفضلُني فيه ولا أفضلُك، واُمُّك فاطمةُ بنتُ رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو كان ملء الأرض ذهباً مُلك اُمّي ما وفَتْ باُمِّك، فاذا قرأتَ كتابي هذا فصِرْ إليَّ حتى تترضّاني فإنّكَ أحقُّ بالفضلِ منّي، والسّلام عليكم ورحمةُ اللَّه وبركاته.

ففعل الحسينعليه‌السلام ، فلم يَجْرِ بعد ذلك بينهما شيء(1) .

فالإمام الحسين (سلامُ اللَّه عليه) هو الأشرف مِن أخيه باعتراف أخيه، وهو الأفضل، ولكنّه كانَ الأسبقَ إليه؛ تواضعاً منه لأنّه الأسبق إلى اللَّه (عزّ وجلّ) في الطاعات وارتقاء الدرجات.

ثانياً: أنَّ تواضع الحسين (صلوات اللَّه عليه) كان عن عِزّةٍ وكرامةٍ وكمال، لا عن ذِلّةٍ أو ضعفٍ أو طمع حاشاه عن كلِّ ذلك؛ [إذ] (إنّ التواضعُ الممدوح هو المتّسم بالقصد والاعتدال، لا افراطَ فيه ولا تفريط؛ فالإسرافُ في التواضع داعٍ إلى الخسة والمهانة، والتفريط فيه باعثٌ على الكِبرِ والأنانية، وعلى العاقل أنْ يختار النهجَ الوسط بإعطاءِ كلِّ فردٍ ما يستحقّه من الحفاوة

____________________

(1) المناقب 4 / 66.

٢٩٩

والتقدير حسبَ منزلته ومؤهلاته؛ لذلك لا يحسن التواضعُ للأنانيّين والمتعالينَ على الناس بزهوهم وصَلَفِهم. إنّ التواضعَ - والحالةُ هذه - مدعاةٌ للذُّلّ والهوان، وتشجيعٌ على الأنانية والكِبر)(1) .

ولذلك - كما مرّ بنا - كان الحسينعليه‌السلام لا يتواضع للمتجبّرين كمعاوية ويزيد، ومراونِ بن الحكم وعمرو بن العاص والوليد بن عقبة، بل ترفّع عنهم، ولا للمستكبرين والمغرورين والمتعالين، حتّى قال له أحدُهم: إنّ فيكَ كِبْراً، فأجابه الحسينُعليه‌السلام :«كلُّ الكِبْرِ للَّه وحدَه، ولا يكونُ في غيره، قال اللَّهُ تعالى: ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) » (2) .

وتكملةُ الآية( وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) ، فحاشاه أنْ يكون الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) متكبّراً، ولكنّه العزيزُ الذي لا يذلّ.

وخيرُ التواضع ما كان عن عزّةٍ وترفّع، قال رسولُ اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«أفضل الناس مَنْ تواضع عن رفعة» (3) . وجاء عن الإمام عليّعليه‌السلام قولُه:«التواضعُ مع الرفعة كالعفوِ مع المقدرة» (4) .

فمع الكافرين العزّة، والتواضع إنّما يكونُ مع المؤمنين، وهكذا وصف اللَّه تعالى مَن يُحبّه( ... فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (5) ، [وهاتان] صفتانِ معربتانِ عن الاعتدال، وفي ذلك يقول المصطفى الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :«طوبى لمَنْ تواضع للَّه تعالى في غير منقصة، و أذلَّ نفسَه في غير مسكنة» (6) ، ويقول

____________________

(1) أخلاق أهل البيتعليهم‌السلام / 50.

(2) بحار الأنوار 44 / 198، عن كنز الفوائد، والآية في سورة (المنافقون) / 8.

(3) بحار الأنوار 77 / 179، عن أعلام الدين.

(4) غرر الحكم / 50.

(5) سورة المائدة / 54.

(6) بحار الأنوار 77 / 90، عن مكارم الأخلاق.

٣٠٠