المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 14310%

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431 مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 85

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الصفحات: 85
المشاهدات: 18418
تحميل: 4164


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 85 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18418 / تحميل: 4164
الحجم الحجم الحجم
المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قالَ الراوي: فَرَماهُ شِمرُ بْنُ ذي الجَوشَنِ بسهمٍ وقالَ: اُسْكُتْ، أسْكَتَ اللهُ نَأمَتَكَ، أَبْرَمْتَنا بكَثرةِ كلامِكَ. فقالَ لَهُ زُهيرٌ: «ما إيَّاكَ أخاطِبُ... ما أظُنُّكَ تُحْكِمُ منْ كتابِ اللهِ آيتَيْنِ، فأبشِرْ بالخِزْيِ يومَ القيامةِ والعذابِ الأليمِ».

فقالَ لهُ شِمرُ: إنَّ اللهَ قاتِلُكَ وصاحِبَكَ عنْ ساعةٍ. قالَ: «أفَبِالموتِ تُخوِّفُني؟ فواللهِ، لَلْموتُ معَهُ أحَبُّ إليَّ مِنَ الخُلْدِ مَعَكُم». ثُمَّ أقبلَ زهيرٌ على الناسِ رافِعاً صوتَهُ فقالَ: «عبادَ اللهِ، لا يَغُرَّنَّكُمْ عنْ دِينِكُم هذا الجَلِفُ الجَافي وأشباهُهُ، فواللهِ، لا تَنالُ شفاعةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم قوماً أراقُوا دِماءَ ذرِّيَتِهِ وأهلِ بيتِهِ وقتَلُوا مَنْ نصَرَهُمْ وذبَّ عنْ حريمِهِم». فناداهُ رَجلٌ فقالَ لَه: إنَّ أبا عبدِ اللهِ عليه السلام يقولُ لكَ: «أقبِلْ، فلَعَمْري لئنْ كانَ مؤمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ نصَحَ لقومِهِ وأبلَغَ في الدُعاءِ، لقَدْ نصحْتَ لهؤلاءِ وأبلغْتَ لو نَفَعَ النُّصْحُ والإبلاغُ».

٢١

خطبة الإمام الحسين عليه السلام الثانية:

ثمَّ إنَّ الحسينَ عليه السلام رَكِبَ فَرسَهُ وأخذَ مِصْحفاً ونَشَرَه على رأسِه، وتقدَّمَ نحو القَومِ، فاستَنصَتَهم، فأنصَتُوا، فَحَمِدَ اللهَ وأثنى عليهِ، وصلّى على النبيِّ محمّدٍ وآلهِ وعلى الملائكةِ والأنبياءِ والرُّسُلِ، وأبلغَ في المَقالِ ثمَّ قالَ: «يا قومُ، إنّ بيني وبينَكُم كتابَ الله وسنَّةَ جدّي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أُنْشِدُكُمُ اللهَ هل تعرِفونني»؟ قالوا: اللهُمَّ نَعَم. قالَ عليه السلام: «فَبِمَ تستحِلُّونَ دَمي، وأبي الذائِدُ عنِ الحَوضِ، يذودُ عنهُ رجالاً كما يُذادُ البَعيرُ الصادِرُ عنِ الماءِ، ولِواءُ الحمدِ في يدِ أبي يومَ القيامةِ».

قالوا: قد علِمنا ذلك كلَّهُ، ونحن غيرُ تارِكيك حتى تذوقَ الموتَ عطَشاً.

وتقدَّمَ الحسينُ عليه السلام ورأَى صفوفَهُم كالسَّيْلِ فخَطَبَ فقالَ:

٢٢

«تَبّاً لكم أيّتُها الجماعةُ وتَرَحاً، أَحِينَ اسْتَصْرَختُمُونا والِهينَ فأَصْرَخناكُم مُوْجِفين، سَللتُم عَلينا سَيفاً لنا في أَيْمانِكم، وحَشَشْتُم علينا ناراً اقْتَدَحْناها على عدوِّنا وعدوِّكُم، فأصبحتُم إلْباً لأعدائِكُم على أوليائِكُم، ويَداً عليهم لأعدائِكم، بغيرِ عَدلٍ أفشَوْهُ فيكُم، ولا أمَلٍ أصبحَ لكُم فيهم، إلَّا الحرامَ من الدّنيا أَنَالُوْكُم وخَسِيسَ عَيْشٍ طَمِعْتُم فيهِ، من غيرِ حَدَثٍ كانَ منّا، ولا رأيٍ تَفيَّل لَكُم، فهَلاَّ لكُمُ الوَيلاتُ إذْ كَرِهتُمونا، تركْتُمونا، والسيفُ مَشِيْمٌ، والجأشُ طامِنٌ، والرأيُ لَمَّا يُستَحْصَفْ، ولكنْ أسرعتُم إليها كَطَيْرَةِ الدُّبَى، وتهافتُّم عليها كتَهافُتِ الفَرَاشِ، ثمَّ‏ نَقَضْتُموها، فسُحقاً لكُم يا عَبيدَ الأُمَّةِ، وشُذَّاذَ الأحزابِ، ونَبَذَةَ الكِتابِ، ومُحرِّفي الكَلِمِ، ونَفْثَةَ الشيطانِ، وعُصْبَةَ الآثامِ، ومُطفِئي السُّننِ، وقَتَلةَ أولادِ الأنبياءِ، ومُبيرِي عِترةِ الأوصياءِ، ومُلحِقي العَهَارِ بالنَّسَبِ، ومؤذِي المؤمنينَ، وصُرَّاخَ

٢٣

أئمةِ المستهزئينَ،( الَّذينَ جَعَلوا القرآنَ عِضِينَ ) (1) ،( وَلَبِئْسَ ما قدَّمتْ لَهم أنفسُهُم أن سخط الله عليهم وفي العذابِ هُم خالدُون ) (2) . وأنتُمُ ابنَ حَربٍ وأشياعَهُ تَعْتَمِدُونَ، وعنّا تتخاذَلُونَ. أجَلْ واللهِ غَدْرٌ فيكُم قَديمٌ، وَشَجَتْ عَليهِ أصولُكُم، وتأزَّرَتْ عليه فروعُكم، وثبتَتْ عليهِ قُلوبُكُم، وغَشِيَتْ صدورُكُم، فكنتُم أخبَثَ ثَمَرٍ، شَجىً للناظرِ، وأُكْلَةً للغاصِبِ. ألَا لعنةُ اللهِ على الناكِثينَ، الذينَ ينقضُونَ الأَيْمانَ بعدَ توكيدِهَا، وقد جعلتُمُ اللهَ عَليكُم كَفيلاً، فأنتم وَاللهِ هُمْ. ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ، يأبَى اللهُ لنا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مِنْ أنْ نُؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ. ألَا وَقَدْ أُعْذِرتُ وأَنْذَرْتُ، ألَا وإنِّي زاحِفٌ بهذِهِ الأُسرةِ على قلَّةِ العَدَدِ، وكَثرةِ العدُوِّ، وخِذلانِ الناصرِ».

____________________

1- الحجر: 91.

2- المائدة:80.

٢٤

ثمَّ قال عليه السلام: أمَا واللهِ، لا تلبَثونَ بعدَها إلَّا كَرَيثَما يُركَبُ الفَرَسُ، حتى تدورَ بِكُم دَوَرانَ الرَّحى، وتقلقَ بِكم قَلقَ المِحْوَرِ، عهدٌ عَهِدَهُ إليَّ أبي عن جدّي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم( فأَجْمِعُوا أمرَكُمْ وشركاءَكُمْ ثمَّ لا يكُنْ أمرُكُمْ عليكم غُمَّةً ثمَّ‏ اقْضوا إليَّ ولا تُنْظِرُونِ ) (1) ،( إنّي توكَّلْتُ على اللهِ ربِّي ورَبِّكُمْ ما من دابةٍ إلَّا هو آخذٌ بناصيتِها إنَّ‏ رَبِّي على صراطٍ مستقيمٍ ) (2) .

ثمَّ رفعَ يدَيهِ إلى السماءِ وقالَ: «اللهمَّ احبِسْ عنهم قَطْرَ السماءِ، وابعثْ عليهم سنينَ كسِنيِّ‏ يوسُفَ، وسلِّطْ عليهم غُلامَ ثقيفٍ يسقيهم كأساً مُصَبّرةً، فإنَّهم كذَّبونا وخَذَلونا، وأنت ربُّنا عليكَ توكَّلنا وإليكَ أَنَبْنَا وإليك المصيرُ».

واستدعى الحسينُ عليه السلام عُمرَ بنَ سَعدٍ وكانَ كارِهاً لا يُحبُّ أنْ يأتيَهُ فلمّا حضرَ قالَ لهُ: «أَيْ عُمَرَ، أتزعَمُ أنّكَ تقتُلُنِي ويُوَلِّيكَ الدعيُّ ابنُ الدعيِّ بلادَ الرَّيِّ وجُرجانَ؟ واللهِ لا تهنأُ بذلكَ أبَداً،

____________________

1- يونس:71.

2- هود:56.

٢٥

عهدٌ مَعهودٌ، فاصنعْ ما أنتَ صانعٌ، فإنَّكَ لا تَفرحُ بعدي بِدُنياً ولا آخرةٍ، وكأنِّي برأسِكَ على قَصَبةٍ قد نُصِبَ بالكوفةِ، يتراماه الصِبيانُ ويتّخذونَهُ غَرَضاً بينهم». فغضِبَ ابنُ سعدٍ من كلامهِ، وصَرفَ وجهَهُ عنهُ، ثمَّ نادى بأصحابهِ: ما تنتظرونَ به، إحملوا بأجمعِكم، إنّما هيَ أَكلةٌ واحدةٌ. ثمَّ أخذَ الحسينُ عليه السلام يُنادي:

«أَمَا مِنْ مُغيثٍ يغيثُنا لوجهِ اللهِ، أَمَا مِنْ ذابٍّ يذُبُّ‏ عن حُرَمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم».

٢٦

موقف الحرّ الرياحيّ:

ولَمَّا رأى الحرُّ بْنُ يزيدَ الرياحيُ أنّ القومَ مصمِّمونَ على قتالِ الحسينِ عليه السلام وسمعَ استغاثتَه، أقبلَ على ابنِ سعدٍ وقالَ لهُ: أَمُقاتِلٌ أنتَ هذا الرجل؟

قالَ: إي واللهِ، قِتالاً أيْسَرُهُ أنْ تَسقُطَ فيهِ الرؤوسُ وتطيحَ الأيدي.

قالَ الحرُّ: أمَا لكم في واحدةٍ من الخِصالِ التي عَرَضَها عليكم رِضىً؟

قالَ ابنُ سعدٍ: لو كانَ الأمرُ إليَّ لَفَعلتُ، ولكنَّ أميرَكَ قد أبى ذلكَ. فتَرَكَهُ، وأقبلَ حتى وقفَ معَ الناس.

وأخذَ الحرُّ يدنو منِ الحسينِ عليه السلام قليلاً قليلاً، فقالَ له المهاجرُ بنُ أوسٍ: أتريدُ أن تحمِلَ؟ فسكتَ، وأخذَتْه مثلُ الرَعْدة!

٢٧

فقالَ له المهاجرُ: واللهِ إنّ أمرَك لَمُريبٌ، واللهِ ما رأيتُ منكَ في موقفٍ قَطُّ مثلَ ما أراه الآنَ، وَلَو قيلَ لي: مَن أشجعُ أهلِ الكوفةِ لَمَا عَدَوْتُكَ، فما هذا الذي أرى منك؟

فقالَ له الحرُّ: إنّي واللهِ أُخيّرُ نفسي بينَ الجنّةِ والنّارِ، ولا أختارُ على الجنَّة شيئاً، وَلَو قُطِّعتُ وحُرِّقت.

ثمَّ ضربَ جوادَه، وأقبلَ نحوَ الحسينِ عليه السلام واضعاً يدَه على رأسهِ، مُنكِّساً رُمحَه، قالباً تِرْسَه، وقد طَأطأَ برأسهِ حَياءً من آلِ الرسولِ صلى الله عليه وآله وسلم رافعاً صوتَه بقولهِ: اللهُمَّ إليك أُنيبُ، فتُبْ عليَّ، فقد أرعبْتُ قلوبَ أوليائكَ وأولادِ بنتِ نبيِّك.

ثمَّ سلَّمَ على الحسينِ عليه السلام وقالَ لهُ: «جَعَلنِيَ اللهُ فِداكَ يا ابنَ رسولِ اللهِ، أنا صاحِبُكَ الذي حبَسْتُكَ عنِ الرجوعِ وسايَرْتُكَ في الطريقِ، وجعْجَعْتُ بكَ في هذا المكانِ. واللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هوَ، ما ظننْتُ أنَّ القومَ يَرُدُّونَ عليكَ ما عرَضْتَ عليهِمْ أبداً ولا يبلُغُونَ منكَ هذهِ المَنْزِلةَ. فقلْتُ في نفسي: لا أبالي أنْ أُطِيعَ القومَ في بعضِ أمرِهِم ولا يَرَوْنَ أنِّي خرَجْتُ منْ طاعتِهِم. وأمَّا

٢٨

هُمْ فسيَقْبَلُونَ منْ حُسينٍ هذهِ الخِصالَ التي يَعْرِضُ عليهِم، وَوَاللهِ، لوْ ظنَنْتُ أنَّهُمْ لا يقبَلُونَها مِنكَ ما رَكِبْتُها مِنكَ، وإنّي قدْ جئتُكَ تائباً ممَّا كانَ منِّي إلى ربّي، ومُواسِياً لكَ بنفسي حتَّى أموتَ بينَ يديْكَ، أفترَى ذلكَ لي توبةً؟».

قال عليه السلام: «نعَمْ يَتُوبُ اللهُ عليكَ ويغَفِرُ لكَ..»، «..إنزِلْ».

قالَ: «أنا لكَ فارِساً خيرٌ مِنِّي راجلاً، أقاتِلُهُمْ على فرَسي ساعةً وإلى النُزولِ يَصِيرُ آخرُ أمري».

قالَ الحسينُ عليه السلام: «فاصنَعْ - يرْحَمُكَ الله - ما بَدا لكَ».

فاستقدَمَ أمامَ أصحابِهِ ثُمَّ قالَ: «يا أهلَ الكوفةِ، لأُمِّكُمُ الهَبَلُ والعِبَرُ إذْ دعَوْتُموهُ حتَّى إذا أتاكُمْ أسْلَمتُمُوهُ، وزعَمْتُمْ أنَّكُمْ قاتلُو أنفسِكُم دونَهُ ثُمَّ عَدَوْتُم عليهِ لِتَقْتلُوه. أَمسكتُمْ بنفسِهِ، وأخذْتُمْ بكَظْمِهِ، وأحطْتُمْ بهِ منْ كلِّ جانبٍ فمنَعْتُمُوهُ التوجُّهَ في بلادِ اللهِ العَريضةِ حتَّى يأْمَنَ ويأمنَ أهَلُ بيتِهِ، وأصبحَ في أيديكُمْ كالأسيرِ لا يَمْلِكُ لنفسِهِ نَفْعاً ولا يَدْفَعُ عنْها ضَرَّاً، وحَلأْتُموهُ ونساءَهُ وصِبْيَتَهُ وأصحابَهُ عنْ ماءِ الفُراتِ الجاري (...)، وها

٢٩

هُم قد صَرَعَهُمُ العطَشُ، بِئْسَما خَلَّفْتُمْ مُحمَّداً في ذريَّتِهِ، لا سَقاكُمُ اللهُ يومَ الظَمَأ إنْ لم تتُوبوا وتَنْزِعُوا عمَّا أنتُمْ عليهِ مِنْ يومِكُم هذا في ساعتِكُمْ هذِهِ».

فحمَلَتْ عليهِ رَجَّالةٌ لهُم ترميهِ بالنَّبْلِ، فتقهقرَ حتَّى وقَفَ أمامَ الحسينِ عليه السلام.

٣٠

شهادة أصحاب الحسين عليه السلام

وتقدّمَ عُمَرُ بنُ سعدٍ نحو عسكرِ الحسينِ عليه السلام، فوضعَ سَهماً في كَبِدِ قَوسِه ورمى وقالَ: اشهدوا لي عندَ الأميرِ أنِّي أوَّلُ مَن رمى، ثمَّ رمى الناسُ، وأقبلتِ السهامُ منَ القومِ كأنَّها المطرُ، فلم يبقَ من أصحابِ الحسينِ عليه السلام أحدٌ إلَّا أصابَهُ منْ سهامِهِم.

فقالُ الحسينُ عليه السلام لأصحابِه: «قوموا رحِمَكُم اللهُ إلى الموتِ الذي لا بدَّ منه، فإنّ هذه السهامَ رُسُلُ القومِ إليكم».

فحمَلَ أصحابُه حَملةً واحدةً، واقتتلوا ساعةً منَ النهارِ، فما انجلَتِ الغَبَرةُ إلَّا عنْ خمسينَ صَريعاً.

ولَمَّا قُتلَ من أصحابِ الحسينِ عليه السلام في هذهِ الحَملةِ مَن قُتلَ صارَ يبرُزُ الرجُلُ والرجلانِ، ويستأذنونَ الحسينَ عليه السلام ويقاتلونَ ثمَّ يُقتلونَ، فخَرجَ منْ عسكرِ ابْنِ سعدٍ يَسارٌ مولى زيادٍ، وسالمٌ مولى ابْن زيادٍ، فَطَلبا المبارزةَ، فوَثَبَ حبيبٌ وبُرَيرٌ، فلمْ يأذنْ

٣١

لهما الحسينُ عليه السلام.

فقامَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَيرٍ واستأذنَ الحسينَ عليه السلام في البِرازِ، فنظرَ إليهِ الحسينُ عليه السلام، وقالَ: «إنّي أحسَبُهُ لِلأَقرانَ قتَّالاً».

فبرزَ إليهِما، وقاتلَهما حتى قتَلَهُما مَعاً ثمَّ أقبلَ إلى الحسينِ عليه السلام فأخذتِ امْرأتُه أمُّ وَهَبٍ عَموداً وأقبلتْ نحوَه، وهِيَ تقولُ: فداكَ أبي وأمِّي، قاتِلْ دونَ الطيّبينَ ذرَّيةِ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فأرادَ أنْ يرُدَّها إلى النساءِ فلمْ تطاوِعْهُ، وأخذتْ تجاذِبُه ثوبَهُ، وتقولُ: لنْ أدَعَكَ دونَ أنْ أموتَ مَعَكَ.

فناداها الحسينُ عليه السلام: «جُزِيتُم منْ أهلِ بيتِ نبيِّكُم خَيراً، إرجِعي رحِمَكِ اللهُ فإنَّه ليسَ على النساءِ قِتالٌ». فرجَعَت إلى النساءِ.

ولَمّا حمَلَ الشمرُ اللعينُ في جماعةٍ منْ أصحابِه على مَيسَرةِ أصحابِ الحسينِ عليه السلام، فثَبتوا لهم وكشفوهم، قاتَلَ عبدُ اللهِ بْنُ عُمَيرٍ، فقتلَ رِجالاً، وصَرعَ آخرينَ، وقاتَلَ قِتالاً شَديداً، حتى قُطِعَت يدُهُ اليُمنى وساقُه فقُتلَ، وقيلَ: أُخِذَ أسيراً إلى ابْنِ سَعدٍ، فقتَله صَبراً.

وبرزَ وَهَبُ بنُ عبدِ اللهِ، فأَحسَنَ في الجِلادِ، وبالغَ في الجهادِ،

٣٢

وكانت معَه أمُّه وزوجتُه، فقالت له أمُّه: قُمْ يا بُنَيَّ، وانصُرْ ابنَ بنتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقالَ: أفعلُ يا أمّاهُ ولا أُقصِّرُ، إنْ شاءَ الله.

ثمَّ برزَ فلم يزَلْ يقاتلُ حتى قتلَ منهم جماعةً، فرجَعَ إلى أمِّهِ وامرأتِه، فوقفَ عليهما، فقالَ: يا أمّاهُ، أرَضيتِ عنّي أم لا؟

فقالتْ أمُّهُ: ما رضِيتُ حتى تُقتلَ بينَ يَدي الحسينِ عليه السلام.

وقالتِ امرأتُه: بالله عليكَ لا تفجَعْني بنفسِكَ.

فقالتْ أمُّهُ: يا بُنَيَّ أُعْزُبْ عن قَولِها، وارجِعْ فقاتلْ بين يدَي ابنِ بنتِ رسولِ اللهِ، تنَلْ شفاعةَ جدِّهِ يومَ القيامةِ.

فتقدَّمَ إلى الحربِ، ولم يزَلْ يقاتلُ حتى قُطعتْ يَداه، فأخذتِ امرأتُه عَموداً، وأقبلتْ نحوَه وهِيَ تقولُ: فداكَ أبي وأمّي، قاتلْ دونَ الطيّبينَ حُرَمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم.

فقالَ لها: الآنَ كنتِ تَنْهَينَني عنِ القتالِ، فكيفَ جئتِ تقاتلينَ مَعِي؟

فقالتْ: يا وهَبُ لا تلُمْني إنَّ واعيةَ الحسينِ كسرَتْ قلبي.

فقالَ: ما الذي سمعتِ منهُ؟

قالتْ: رأيتُه جالساً ببابِ الخيمةِ، وهُوَ ينادي: واقِلَّةَ

٣٣

ناصِراه!!

فبكى وهَبٌ بُكاءً كثيراً، وقالَ لها: ارجِعي إلى النساءِ رَحِمَكِ اللهُ، فأبَتْ، فصاحَ وهبٌ: سيّدي أبا عبدِ اللهِ رُدَّها إلى الخيمةِ، فردَّها الإمامُ عليه السلام، فانصرفَتْ إليها.

ولمّا قُتِلَ رِضوانُ اللهِ علَيهِ، مَشتْ أمُّهُ إليهِ وجلستْ عندَ رأسِه، تمسَحُ الدمَ والترابَ عنه، وتقولُ: هنيئاً لكَ الجنّةُ، أَسألُ اللهَ الذي رزقَكَ الجنَّةَ أنْ يَصحَبَني مَعَكَ.

فقالَ الشمرُ لغلامِه (رُستُمَ): اضرِبْ رأسَها بالعَمودِ، فَضَرَبَ رأسَها بالعَمودِ فشدَخَهُ، فماتتْ في مكانِها، وهِيَ أوَّلُ امْرأةٍ استُشهِدَت في كربلاء.

ولَمّا حمَلَ عَمرُو بنُ الحَجّاجِ فيمَن معَهُ مِن أصحابِه على مَيمنةِ أصحابِ الحسينِ عليه السلام ثَبتوا له، وجَثَوْا على الرُّكَب، وأشرَعوا الرماح، فلم تُقدِمِ الخيل، فلمَّا ذهبتِ الخيلُ لترجع، رشَقَهم أصحابُ الحسينِ عليه السلام بالنَّبْلِ، فصَرعوا منهم رجالاً، وجَرحوا آخرينَ.

ثمَّ حمَلَ عَمرُو بنُ الحَجّاجَ مرّةً أخرى منْ نحوِ الفُراتِ على أصحابِ الحسينِ عليه السلام، بعدَ أنْ حرَّضَ الناسَ على قِتالهِم،

٣٤

وفي هذه الحملة قاتلَ مسلمُ بْنُ عوسجةَ فبالَغَ في قتالِ الأعداءِ، وصَبَرَ على أهوالِ البلاءِ، حتى سقَطَ إلى الأرضِ وبهِ رَمَقٌ، فمَشى إليه الحسينُ عليه السلام، ومَعَهُ حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ، فقالَ لهُ الحسينُ عليه السلام:

«رَحِمَكَ اللهُ يا مُسلمُ»، وتلا قولَه تعالى:( فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) (1) .

ودنا منه حبيبٌ وقالَ: عَزَّ عليَّ مصرَعُك يا مسلمُ، أَبْشِرْ بالجنَّةِ.

فقالَ له مسلمٌ بصوتٍ ضعيفٍ: بشَّرَكَ الله بخيرٍ.

فقالَ له حبيبٌ: لولا أنّني أعلمُ أنِّي في الأثَرِ لاحقٌ بكَ، لأَحببْتُ أنْ تُوصيَني بكلِّ ما أَهَمَّكَ.

قالَ مسلمٌ: أُوصيكَ بهذا، وأشارَ إلى الحسينِ عليه السلام، أنْ تموتَ دونَهُ.

گربت يبن ظاهر منيتي

ما وصّيك بعيالي او بيتي

انكان نيتك مثل نيتي

بالحسين واعياله وصيتي

قالَ حبيبٌ: أَفعلُ وربِّ‏ الكعبةِ، ولأُنْعِمَنَّكَ عَيناً.

____________________

1- الأحزاب:23.

٣٥

فَما أَسرعَ مِنْ أنْ فاضَتْ نَفْسُه بينهما، وقَضَى نحبَه رِضوانُ اللهِ علَيهِ.

ولَمّا نظرَ مَن بَقيَ من أصحابِ الحسينِ عليه السلام إلى كَثرةِ مَن قُتِلَ منهم، أخذَ الرجُلانِ والثلاثةُ والأربعةُ، يستأذنونَ الحسينَ عليه السلام في الذبِّ عنهُ، والدَّفعِ عن حُرَمِه، وكلٌّ يحمي الآخَرَ من كيدِ عدوِّهِ.

فخَرَجَ الجابريّانِ باكيَيْنِ، فقالَ لهما الحسينُ عليه السلام: «ما يُبكيكُما، فواللهِ إنّي لَأرجو أنْ تكونا عنْ ساعةٍ قَريرَي العَينِ».

قالا: جَعَلنا اللهُ فداكَ، واللهِ ما على أنفُسنا نبكي، ولكنّا نبكي عليكَ، نَراكَ قد أُحيطَ بكَ، ولا نقدِرُ أنْ ندفعَ عنك ونمنَعَكَ.

فقالَ الحسينُ عليه السلام: «جَزاكُما اللهُ يا ابنَي أَخي بِوَجْدِكُما منْ ذلكْ، ومُواساتِكُما إيّايَ بأنفُسِكما، أَحسَنَ جزاءِ المتَّقين».

ثمَّ استَقْدَما أمامَ الحسينِ عليه السلام، فقاتَلا جميعاً قتالاً شديداً، حتى قُتلا في مكانٍ واحدٍ.

وجاءَ الغفاريَّانِ وسلَّما على الحسينِ عليه السلام وقالا: قدْ حَازَنا العدوُّ إليكَ، فأحببنا أنْ نُقتَلَ بين يدَيك فنَمنَعَك ونَدفعَ عنك، قالَ: «مرحباً بكما، أُدْنُوَا منِّي، فدَنَوَا منه، فجعلا يقاتلانِ قريباً منه حتى قُتلا».

٣٦

وكانَ أبو الشعثاءِ الكنديُّ معَ ابنِ سعدٍ، فلمّا رَدُّوا الشروطَ على الحسينِ عليه السلام صارَ مَعَه، وكانَ رامياً مُهَدِّفاً، فجَثا على رُكبتَيهِ بين يدَي الحسينِ عليه السلام، ورمَى بمَايةِ سهمٍ، والحسينُ عليه السلام يدعو له قائلاً: «اللهُمَّ سدِّدْ رَميتَه واجعلْ ثوابَه الجنّةَ».

فلمّا نَفِدَتْ سِهامُه، قامَ وهُو يقولُ: لقدْ تبيَّنَ لي أنِّي قَتلتُ منهم خمسةً، ثمَّ حمَلَ على القومِ، فلم يزَلْ يُقاتلُ حتى قَتَلَ منهم تسعةَ نَفَرٍ، ثمَّ قُتلَ رِضوانُ اللهِ علَيهِ.

وحمَلَ الشمرُ على فُسطاطِ الحسينِ عليه السلام وطعَنَهُ بالرُّمحِ، وقالَ: عَليّ‏َ بالنّارِ لِأُحرِقَهُ على أهلِه. فتَصايَحَتِ النساءُ، وخرَجْنَ منَ الفُسطاطِ، وناداهُ الحسينُ عليه السلام: «يابْن ذي الجَوْشَنِ، أنتَ تدعو بالنّارِ لتُحرِقَ بيتي على أهلي؟ أحرَقَك اللهُ بالنَّارِ».

ثمَّ جاءَ إليهِ شِبثُ بنُ رِبْعي، وقالَ لهُ: أَمُرعِباً للنساءِ صِرْتَ؟ ما رأيتُ مَقالاً أَسوأَ منْ مَقالَتِكَ، ولا مَوقِفاً أقبحَ من مَوقِفِكَ.

فاسْتَحَى الشمْرُ وهَمَّ بالانصِرافِ فَحَمَلَ عليهِ وعلى جماعتِهِ زُهيرُ بْنُ القَينِ في عَشَرةٍ من أصحابِه فكَشفُوهم عنِ الخِيامِ،

٣٧

وقُتِلَ أبو عَزرةَ الضِبابيُّ من أصحابِ الشمرِ. وكانَ يُقتَلُ منْ أصحابِ ابْنِ سعدٍ العشَرةُ وأكثرُ، فلا يَظهَرُ عليهم لِكَثرَتهِم.

وكانَ إذا قُتلَ منْ أصحابِ الحسينِ الرجُلُ والرجُلانِ يَبِينُ النقصُ فيهِم لِقِلَّتِهم.

ولَمّا كَثُرَ القتلُ في أهلِ الكوفةِ، صاحَ عَمْرُو بْنُ الحَجّاجِ بأصحابِه: وَيحَكُم يا حُمَقاءُ أتَدرونَ مَنْ تقاتلونَ؟ تقاتلونَ فُرسانَ المِصرِ، وأهلَ البصائِرِ، وقوماً مُستميتينَ، لا يبرُزُ إليهم أحدٌ منكم إلَّا قَتلوهُ على قِلّتهم. واللهِ لَو لَم تَرموهُم إلَّا بالحِجارةِ لَقَتلْتموهُم.

فقالَ ابنُ سعدٍ: صَدَقْتَ، الرأيُ ما رأيتَ، أرسِلْ في الناسِ مَن يَعزِمُ عليهم أنْ لا يبارزَهم رَجُلٌ منهم، ولَوْ خَرَجتم إليهم وُحْداناً لَأَتَوا عليكم مبارَزةً.

وقاتلَ أصحابُ الحسينِ عليه السلام قِتالاً شَديداً، وأخذَتْ خَيلُهم تحمِلُ، وما حمَلتْ على جانبٍ من خَيلِ أهلِ الكوفةِ إلَّا كَشَفتْهُ.

٣٨

صلاة الظهيرة

واشتدَّ القتالُ بين الفريقَينِ حتى الزوالِ، فالتفَتَ أبو ثُمامةَ الصائديُّ إلى الشمسِ قد زالتْ، فقالَ للحسينِ عليه السلام: نَفسي لكَ الفداءُ، إنِّي أرى هؤلاءِ قد اقتربوا منكَ، لا واللهِ لا تُقتَلُ حتى أُقتلَ دونَك إنْ شاءَ اللهُ، وأُخضَّبَ بدمي، وأُحِبُّ أنْ ألقَى ربِّي وقد صلّيتُ معَكَ هذه الصلاةَ التي دَنَا وقتُها.

فرفَعَ الحسينُ عليه السلام رأسَه إلى السماءِ، وقالَ: «ذكرتَ الصلاةَ، جَعَلَكَ اللهُ من المصلّينَ الذاكرينَ، نعم هذا أوّلُ وقتِها، سَلُوا القومَ أنْ يَكُفُّوا عنّا حتّى نصلّي».

ففعلوا.

فقالَ الحُصينُ بنُ نُمَيرٍ: إنَّها لا تُقبَلُ.

٣٩

فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ: زَعَمتَ أنّها لا تُقبَلُ من آلِ الرسولِ وتُقْبَلُ منك..؟!

فحمَلَ عليهِ الحُصَينُ، فضربَ حبيبٌ وجهَ فرسِه بالسيفِ، فشبَّ‏ به الفرسُ، ووقَعَ عنه، وحمَلهُ أصحابُه واستنقذوهُ.

وقاتَلَهم حبيبٌ بشَجاعةٍ وبطولةٍ فقَتلَ منهم عدداً كبيراً. وبينما هو يقاتلُ حمَلَ عليه بَديلُ بنُ صريمٍ، فضرَبهُ حبيبٌ بالسيفِ على رأسِه فقَتَلَهُ، وحمَلَ على حبيبٍ رجلٌ آخرُ من تميمٍ، فطَعَنه بالرُّمحِ، فسقطَ حبيبٌ إلى الأرضِ فذَهَبَ لِيقومَ، وإذا الحُصَينُ يضرِبهُ بالسيفِ على رأسهِ، فسقطَ لِوجهِه يخورُ بدمهِ، ونزِلَ التميميُّ فاحْتَزَّ رأسَه، فهدَّ مقتلُهُ الحسينَ عليه السلام واسترجعَ كثيراً، وقالَ: «عِندَ اللهِ أَحتَسِبُ نفسي وحُماةَ أصحابي».

ولمّا قُتِلَ حبيبٌ أخَذَ الحرُّ يقاتِلُ راجلاً، فحمَلَ على القومِ معَ زهيرِ بنِ القَيْنِ، فكانَ إذا شَدَّ أحدُهُما فاستلْحَمَ شدَّ الآخَرُ واستنقذَهُ، ففعَلا ذلكَ ساعةً.

٤٠