المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 14310%

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431 مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 85

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الصفحات: 85
المشاهدات: 18406
تحميل: 4161


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 85 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18406 / تحميل: 4161
الحجم الحجم الحجم
المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء 1431

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فأَجابَهُ الشمرُ اللعينُ قائلاً: يابنَ أبي تُرابٍ، لو كانَ وَجهُ الأرضِ كلُّه ماءً، وهو تحتَ أيدينا، لمَا سَقَيناكم منهُ قَطرةً، إلَّا أنْ تدخُلوا في بَيعةِ يزيدَ. فرَجَعَ العباسُ إلى أخيهِ عليه السلام وأخبَرَه بمَقالةِ القومِ، فسَمِعَ الأطفالَ ومعَهم سُكينةُ بنتُ الحسينِ عليها السلام ينادُونَ: العطشَ العطشَ.

فلمْ يتحمَّلْ ذلكَ فرَكِبَ جوادَه، وأخذَ سيفَه والقِربةَ، وقَصدَ الفُراتَ، وركبَ الحسينُ عليه السلام يريدُ الفراتَ والعبَّاس أَخوهُ بينَ يَدَيه فاعترضَه خَيلُ ابنِ سَعد ثمَّ اقتطعوا العبَّاسَ عنه، فأحاطَ بالعبَّاس الموكَلُونَ بالفراتِ، ورَمَوْهُ بالنّبالِ، فلم يعبأْ بجَمعهم ولا رَاعَتْهُ كَثرتُهم، فكَشَفَهم عن وجههِ وقتلَ عدداً منهم، ودخلَ الفراتَ مطمئنّاً.

ثمَّ اغترفَ منَ الماءِ غُرفةً، وأدناها منْ فَمهِ ليشرب، فتذكَّرَ عَطشَ أخيهِ الحسينِ عليه السلام وعِيالهِ وأطفالهِ، فرمَى الماءَ منْ يَدهِ وقالَ:

يا نفسُ من بعدِ الحسين هُوني

وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني‏

هذا حسينٌ واردُ المَنون

وتَشْربينَ بارِدَ المَعينِ‏

٦١

تاللهِ ما هذا فِعالُ دِيني

ولا فِعَالُ صَادِقِ اليقينِ‏

اشلون اشرب واخوي احسين عطشان

وسكنة والحرم واطفال رضعان‏

وظن گلب العليل التهب نيران

يريت الماي بعده لا حله أومر‏

ثمَّ مَلأَ القِربةَ، ورَكِبَ جوادَه وتوجَّهَ نحوَ المُخَيَّمِ مسرعاً، فقطعَ الأعداءُ عليهِ الطريقَ، فجعلَ يصولُ في أوْساطِهم، ويضرِبُ فيهِمْ بسيفِهِ حتى أَكثرَ القتلَ فيهِم وكَشَفَهم عنِ الطريقِ وهُوَ يقولُ:

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ زَقَا

حتى أُوارى في المَصاليتِ لِقَى‏

نفسي لِسِبطِ المُصْطَفى الطُّهرِ وِقا

إنّي أنا العبَّاسُ أغْدُو بالسِقَا‏

ولا أخافُ الشرَّ يومَ المـُلتقى

فكَمَنَ له زَيدُ بنُ الرَّقّادِ الجهنيُّ من وراء نخلةٍ، وعاوَنهُ آخرُ، فضرَبهُ على يمينهِ بالسيفِ فبَرَاها.

فقالَ عليه السلام:

واللهِ إن قَطعتُمُ يميني‏

إنّي أحامي أبداً عن دِيني‏

وعنْ إمامٍ صادقِ اليقينِ

نجلِ النّبيِّ الطاهرِ الأمينِ‏

٦٢

وحَمَلَ على القومِ كالأسدِ الغضبانِ، فكمَنَ له حكيمُ بنَ الطُّفَيْلِ منْ وراءِ نخلةٍ أخرى وضربَهُ على شِمالهِ، فقطَعَها من الزَّندِ، فقالَ عليه السلام:

يا نفسُ لا تَخشَيْ منَ الكُفّارِ‏

وأبشِري برحمةِ الجبّارِ‏

معَ النّبيِّ المصطفى المختارِ‏

قدْ قطعوا ببَغْيِهم يَساري‏

فأَصْلِهِم يا ربُّ‏ِ حَرَّ النّارِ

وجَعَلَ يُسرِعُ ليوصِلَ الماءَ إلى المخيمِ، فلمّا نظرَ ابنُ سعدٍ إلى شِدّةِ اهتمامِ العبَّاسِ عليه السلام بالقِربةِ، صاحَ بالقومِ: ويلَكُم، ارْشُقوا القِربةَ بالنبلِ، فواللهِ إنْ شَرِبَ الحسينُ منْ هذا الماءِ أفناكُم عن آخرِكُم.

فأتتهُ السهامُ كالمطرِ وأصابتْهُ في صَدرهِ، وسهمٌ أصابَ إحدى عينيهِ فأطفأَها، وجَمَدَ الدمُ على عينهِ الأخرى فلم يُبْصِرْ بها، وأصابَ القِرْبةَ سهمٌ فأُريقَ ماؤُها. وضَرَبهُ لَعينٌ بالعمودِ على رأسهِ فَفَلَقَ هَامتَهُ وسقطَ على الأرضِ منادياً: «عليكَ منّي السلامُ أبا عبدِ اللهِ».

عَظّمَ اللهُ لكَ الأجْرَ سيّدي أبا عبدِ اللهِ..!

٦٣

الفارسُ عندَما يقعُ إلى الأرضِ يتلقّى الأرضَ بيدَيهِ، لكنْ إذا كانتْ يداهُ مقطوعتَينِ، والسهامُ في صدرهِ، فبأيّ حالٍ يقعُ إلى الأرضِ.!!

فأتاهُ الحسينُ عليه السلام مُسرعاً، ففرَّقَ القومَ عنه، وقتلَ منهم رجالاً وجَندلَ فُرساناً، حتّى إذا وصلَ إليهِ رآهُ مقطوعَ اليَدينِ، مَفْضوخَ الهامةِ، مُطفأَ العينِ، مُثخناً بالجراحِ، فأخذَ رأسَه الشريفَ ووَضَعَهُ في حِجْرِه، وجعلَ يَمْسَحُ الدمَ والترابَ عنهُ، وقالَ بَاكياً: «الآنَ انكسَرَ ظَهري، وقلَّتْ حِيلَتي، وَشمِتَ بي عَدُوِّي».

يخويه انكسر ظهري ولا اگدر اگوم‏

صرت مركز يخويه الكل الهموم‏

يخويه استوحدوني عگبك القوم‏

ولا واحد عليّه بعد ينغر‏

ثمَّ انْحَنَى عليهِ واعتَنَقَه وجعلَ يُقبِّلُ مَواضعَ السيوفِ من

٦٤

وَجههِ ونَحرهِ وصَدرهِ، ثمَّ فاضَتْ نَفْسُ العبَّاسِ المقدَّسةُ ورأسُهُ في حِجْرِ أخيهِ الحسينِ عليه السلام.

وتَركَ الحسينُ عليهِ السلامُ أخاهُ العبَّاسَ في مَكانهِ، وقامَ عنه، ولمْ يحمِلْهُ إلى الفُسطاطِ الذي كانَ يحمِلُ القَتلَى من أهلِ بيتهِ وأصحابِهِ إليهِ.

يخويه احسين خليني ابمكاني‏

يكله ليش يا زهرة زماني‏

يكله واعدت سكنة تراني‏

ابماي واستحي منها من اسدر‏

ورَجَعَ إلى المخيّمِ، وقدْ تَدافعَتِ الخيلُ والرجالُ على مخيّمِهِ، فنادَى: «أمَا منْ مُغيثٍ يُغيثُنَا؟ أما منْ مُجيرٍ يجيرُنَا؟ أما منْ طالبِ حقٍّ فينصرَنا؟ أما من خائفٍ منَ النّار فيَذِبَّ عنّا؟».

فأَتتْهُ سُكَينةُ وسألَتْه عنْ عمِّها، فأخبرَها بمَقتلِهِ، وسمِعَتْهُ زينبُ عليها السلام فصاحَتْ: واأخاه واعبَّاساه واضَعَيتنا بعدَك.

٦٥

شهادة الإمام الحسين عليه السلام:

ولمّا بَقِيَ الحُسَينُ عليه السلام وَحيدَاً فَرِيدَاً قَدْ قُتِلَ جَميعُ أَصحابِه وأَهلُ بَيتِه، وَرآهُم عَلى وجهِ الأَرضِ مُجزَّرينَ كَالأضَاحِي، وَلم يَجِدْ أَحَدَاً يَنْصُرُه وَيذبُّ عَن حَريمِه، وَهو إِذْ ذَاك يَسمعُ عَويلَ العيالِ وصُراخَ الأطفَال.

عندَ ذلك نَادَى بِأعلَى صَوتِه: «هَل مِنْ ذَابٍّ عَن حُرَمِ رَسُولِ اللهِ؟ هَل مِن مُوَحّدٍ يَخافُ اللهَ فِينا؟ هَل مِن مُغيثٍ يَرجُو اللهَ في إِغَاثَتِنا؟!».

فارتَفعتْ أَصواتُ النِّساء بِالبُكاءِ وَالعَويْلِ.

ونَهَضَ عَليُّ بنُ الحُسَين زينُ العَابدينَ عليه السلام وَخَرَجَ يَتوكَّأُ عَلَى عَصَاً وَيَجُرُّ سَيفَه، إِذْ لا يَقدِرُ عَلَى حَملِهِ لأنَّه كَانَ مَريضَاً لا يستطيعُ الحَرَكةَ.

٦٦

فَصَاحَ الحُسَينُ عليه السلام بأمِّ كُلثومٍ: «إِحبِسيهِ يَا أُختَاهُ، لِئَلاّ تَبقَى الأرضُ خَاليةً مِن نَسلِ آلِ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم».

فَقَالَ زينُ العَابدينَ: «يَا عَمَّتَاهُ، ذَرينِي أُقَاتِلْ بَينَ يَدَي ابنِ رَسُولِ اللهِ». فَأَخَذتْ أُمُّ كُلثومٍ تُمانِعُه، وتُنادِي خَلفَه: يا بُنيَّ ارجِعْ، حتَّى أَرْجَعتهُ إِلى فِراشِهِ.

٦٧

الوَداعُ:

ولمَّا عَزمَ الحُسينُ عليه السلام عَلَى مُلاقاةِ الحُتُوف، جَاءَ وَوَقَفَ بِبَابِ خَيمةِ النّساءِ مُوَدِّعاً لِحُرَمهِ مُخَدَّراتِ الرِّسَالةِ وَعَقائِلِ النُّبُوَّةِ، وَنَادَى: «يَا زَينبُ، ويَا أُمّ كُلثوم، ويَا فَاطِمةُ، ويَا سُكينةُ، عَليكُنّ مِنِّي السَّلامُ».

فَنَادته سُكينةُ: يَا أَبَه، إستسلَمتَ للِموتِ؟

فَقَال عليه السلام: «كيفَ لا يستسلمُ لِلموتِ مَن لا نَاصرَ لَه ولا مُعينَ؟!»

فَقَالت عليها السلام: رُدَّنا إِلى حَرمِ جَدِّنَا رَسُولِ اللهِ.

فَقَال عليه السلام: «هَيهَاتِ!! لَو تُرِكَ القَطا لَغَفَا وَنَام».

فَرفَعتْ سُكينةُ صَوتَها باِلبُكاءِ وَالنّحِيبِ، فَضَمَّها الحُسَينُ إِلى صَدرِه، وَمَسَحَ دُمُوعَها بِكُمِّهِ، وَكَانَ يُحبُّها حُبَّاً شَدِيدَاً، وَجَعَلَ

٦٨

يقولُ:

سَيطولُ بَعدي يَا سُكينةُ فَاعلَمِي‏

مِنكِ البُكاءُ إِذَا الحِمَامُ دَهَانِي‏

لا تُحرقِي قَلبِي بِدَمعِكِ حَسرَةً‏

مَا دَامَ مِنِّي الرُّوحُ فِي جُثمانِي‏

فَإِذَا قُتِلتُ فَأَنتِ أَولَى بِالَّذِي‏

تَبْكِينَه يَا خِيرةَ النسوانِ‏

٦٩

مصرعُ عبدِ اللهِ الرَّضيع:

ثمَّ تَقَدَّمَ الإمامُ الحسينُ عليه السلام إِلى بَابِ الخَيمة، وَدَعَا بِابنِه عَبدِ اللهِ الرَّضيعِ لِيودِّعَه، فأَجلَسَه فِي حِجرِهِ، وَأَخذَ يقبِّلُهُ وَيقُولُ:

«وَيلٌ لِهَؤُلاءِ القَومِ إِذَا كَانَ جَدُّكَ المُصطَفَى خَصمَهُم».

وفي بَعضِ المَقَاتِل: ثُمَّ أَتَى بِهِ نحوَ القومِ يطلُبُ لهُ المَاءَ، وقالَ: «إنْ لَمْ تَرحمونِي فارحَمُوا هَذَا الطِّفلَ».

فَرَمَاه حَرملَةُ بنُ كاهلٍ الأَسَديُّ بسهمٍ فَذَبَحَهُ - وَهُوَ فِي حِجرِ أَبيه - فَتَلقَّى الحُسَينُ عليه السلام الدَّمَ بِكَفِّه، وَرَمَى بِهِ نَحوَ السَّماءِ.

فَعَنِ الإِمَامِ البَاقِرِ عليه السلام «أَنَّه لَمْ يَسقُطْ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ قَطرةٌ إِلى الأَرضِ».

وعن الإِمامِ الحُجّة - كَمَا فِي الزّيارةِ المَنسوبةِ إِلى النّاحيةِ المقدّسة-: «السَّلامُ عَلَى عبدِ اللهِ بنِ الحُسَينِ الطّفلِ الرَّضيعِ، المَرمِيِّ الصَّريعِ، المتُشحِّطِ دَمَاً، المُصعَّدِ دَمُهُ فِي السَّماءِ، المَذبوحِ بِالسّهمِ فِي حِجرِ أَبيهِ..».

ثمَّ قَالَ الحُسَينُ عليه السلام: «هَوَّنَ مَا نَزَلَ بِي أَنَّه بِعينِ اللهِ، اللهمَّ

٧٠

لا يَكُن أَهونَ عَلَيكَ مِن فصيل (ناقة) صالحٍ، اللهمَّ إِنْ كُنتَ حَبَستَ عَنَّا النَّصرَ فاجْعَلْهُ لِمَا هُوَ خيرٌ مِنه، وَانتقِمْ لَنَا مِنَ الظَّالِمين..».

ثمَّ نَزَلَ عليه السلام عَن فَرَسِه، وَحَفَرَ لَه بِجَفْنِ سَيفِهِ، وَصَلَّى عَلَيه وَدَفَنَه مُزَمّلاً بِدَمِه. وَيُقال: وَضَعَه مَعَ القَتلى مِن أَهلِ بَيتِهِ.

يا ناس حتى الطفل مذبوح‏

دمّه على زند حسين مسفوح‏

وين اليساعدني ويجي ينوح‏

قلبي على فركاه مجروح‏

ثمَّ إِنَّه عليه السلام أَمَرَ عِيَالَهُ بِالسُّكوتِ، وَوَدَّعَهم..

ثمَّ تَقَدَّمَ عليه السلام نَحوَ القَومِ مُصْلِتاً سَيفَه، عَازِمَاً عَلَى الشَّهادَةِ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى البِرَازِ، فَلَم يَزَلْ يَقْتُلُ كلَّ مَن بَرَزَ إِليه حَتَّى قَتَلَ جَمعاً كَثيرَاً.

ثمَّ حَمَلَ عَلَى المَيمَنَةِ، وَهَوَ يقولُ:

المَوتُ أَولَى مِنْ رُكُوبِ العَارِ‏

وَالعَارُ أَولَى مِنْ دُخُولِ النَّارِ‏

ثمَّ حَمَلَ عَلَى المَيسَرةِ، وَهَوَ يَقولُ:

أَنَا الحُسَينُ بنُ عَلي‏

آليتُ أَنْ لا أنْثني‏

أَمضِي عَلَى دِينِ النَّبِي‏

أَحمِي عِيالاتِ أَبِي‏

قَالَ بعضُ مَنْ حَضَرَ المعرَكَةَ: «فَوَاللهِ، مَا رأيتُ مَكثورَاً قَطُّ، قَد

٧١

قُتلَ وِلْدُه وَأهلُ بيتِه وَصحبُه أَربطَ جَأْشَاً مِنه، وَلا أَمضَى جِنانَاً وَلا أَجْرأَ مَقدَمَاً، وَلَم أَرَ قبلَه وَلا بَعدَه مثلَه، وَلقد كَانتِ الرِّجالُ لَتَشُدُّ عَلَيه، فَيشُدُّ عَلَيها، فَتَنكشفُ بينَ يَديه...».

ولَقَد كَانَ يَحمِلُ فِيهِم، وَقَد تَكامَلَوا ثَلاثِينَ أَلفَاً، فَينهزِمونَ بينَ يَديه كَأنَّهم الجَرَادُ المنتشرُ، وَلَم يَثْبُتْ لَه أَحَدٌ، ثمَّ يَرجِعُ إِلى مَركَزِه وَهَوَ يقولُ: «لا حولَ وَلا قوّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظيمِ»، حتَّى قَتَل مِنهم مَقْتلةً عَظِيمَةً، فعندَ ذلك صاحَ عمرُ بنُ سعدٍ بقومهِ: الويلُ لكُم، أَتدرون مَن تُقاتِلون؟..فَاقصدُوه بِنَفسِه فَلَعمْري لَهوَ كفوءٌ كريم. فَقَصَدَهُ القومُ واشتدَّ القِتَالُ، وجَعَلَ يَحْمِلُ عليهم ويحمِلونَ عليهِ، وقَدْ اشتدَّ بهِ العطَشُ، وكلَّمَا حمَلَ بفرسِهِ على الفراتِ حمَلوا عليهِ حتى أجلَوْه عنهُ.

ودنَا من الفراتِ ثانياً فرمَاهُ الحُصينُ بنُ نُمَيرٍ بسهمٍ وقعَ في فمِهِ الشريفِ، فجعَلَ يتلقّى الدمَ مِن فمِهِ، ويرمي بهِ نحوَ السماءِ.

٧٢

وداعٌ آخر:

ثمَّ إنَّه عليه السلام عادَ إلى الخَيمَةِ، وودَّعَ عِيالَهُ وأهلَ بيتِهِ مرَّةً أخرى وأمرَهمْ بالصبرِ، وقالَ لهُم: «اِستعدّوا للبلاءِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ تعالى حاميكُمْ وحافِظُكُمْ، وسيُنجيْكُم مِنْ شرِّ الأعداءِ، ويَجْعلُ عاقِبةَ أمرِكُم إلى خَيرٍ، ويعذِّبُ عَدوَّكُم بأنواعِ العذابِ، ويعوّضُكم عن البليَّةِ بأنواعِ النِّعمِ والكرامةِ، فلا تَشُكُّوا، ولا تقولُوا بأَلسنَتِكُم ما يُنقِصُ مِنْ قَدرِكُم».

فصاحَ عُمرُ بنُ سعدٍ بقومِهِ: «ويحكُم، اهجمُوا عليهِ ما دامَ مَشغولاً بنفسهِ وحرَمِهِ، واللهِ، إنْ فَرَغَ لكُمْ لا تمتازُ مَيمَنَتُكُم عنْ مَيْسَرَتِكُم».

فَحَمَلوا عليهِ يَرْمونَه بالسِّهامِ، حتى تخالَفَتِ السِّهَامُ بينَ أطنابِ المخيَّمِ، وشكَّ سهمٌ بعضَ أُزُرِ النساءِ، فدُهِشنَ وأُرعِبنَ وصِحْنَ

٧٣

ودَخلْنَ الخيمةَ، وهنَّ ينظُرْنَ الحسينَ عليه السلام كيفَ يصنعُ.

فحَمَلَ على القومِ كاللَّيثِ الغضبانِ، فلا يلحَقُ أَحداً إلَّا بعَجَهُ بسيفِهِ فقتلَهُ، أو طعنَهُ برمحِهِ فصَرَعَهُ، والسِهامُ تأخذُهُ منْ كلِّ جانبٍ وهو يتَّقيْهَا بصدرِهِ ونحرِهِ، ويقولُ: «يا أُمَّةَ السُوءِ، بئسَمَا خلّفتُمْ محمّداً في عِترتِهِ، أمَا إنَّكُم لنْ تَقتلُوا بَعديْ عَبداً مِنْ عبادَ اللهِ فتهابُوا قتلَهُ، بلْ يهونُ عليكُم ذلكَ عندَ قتلِكُم إيَّايَ، وأيمُ الله إنّي لأَرجو أَن يُكرمَني الله بالشَّهادةِ ثمَّ ينتقِمُ ليْ منكُم مِنْ حيثُ لا تَشعُرونَ».

ورَجَعَ عليه السلام إلى مركزِهِ، وهو يُكثِرُ مِنْ قَولِ: «لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيمِ».

ورماهُ أبو الحتوفِ الجُعفيُّ بسَهمٍ وقَعَ في جبهتِهِ المقدّسةِ فنَزَعَهُ، وسالَتِ الدماءُ على وجهِهِ وكريمتِهِ، فقالَ: «اللهُمَّ إنَّكَ تَرى مَا أَنَا فيهِ مِن عبادِكَ هؤلاءِ العُصَاةِ، اللهمَّ أحصِهمْ عَدَداً، واقتُلْهمْ بَدَدَاً، ولا تذَرْ على وجهِ الأرضِ منهمْ أحَداً، ولا تغفرْ لهُم

٧٤

أبَداً».

ثمَّ لمْ يَزَلْ يُقاتِلُ حتَّى أصابتْهُ جِراحاتٌ كثيرةٌ ولمَّا ضعُفَ عن القتالِ وقفَ ليستريحَ ساعةً، فبينمَا هو واقفٌ إذ رمَاهُ رجلٌ بحَجَرٍ وقعَ في جبهتِهِ الشريفةِ، فسَالتْ الدماءُ على وجهِهِ، فأخذَ الثوبَ ليمسحَ الدمَ عنْ وجهِهِ وعينَيهِ، إذ رمَاهُ لَعينٌ آخرُ مِنَ القومِ بسهمٍ محدَّدٍ مسمومٍ لهُ ثَلاثُ شُعَبٍ وقعَ على صدرِهِ...

شال الثوب يمسح دم جبينه‏

او شابح للخيم والحرب عينه‏

اتاري احسين امعينينه‏

رموه ابسهم لكن ناجع ابسم‏

فقالَ الحسينُ عليه السلام: «باسمِ اللهِ وباللهِ وعلى ملَّةِ رسولِ اللهِ».

ورفَعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقالَ: «إلهي، إنَّكَ تعلمُ أنّهمْ يقتلونَ رجلاً ليسَ على وجهِ الأرضِ ابنُ (بنت) نبيٍّ غيرَه».

ثمَّ أخذَ السَّهمَ فأخرجَهُ... فانبعثَ الدمُ كالميزابِ..

فوضَعَ يدَهُ تحتَ الجرحِ، فلمَّا امتلأَتْ دَماً رمَى بهِ نحوَ السماءِ

٧٥

وقالَ: «هوَّنَ مَا نَزَلَ بي أنَّهُ بعينِ اللهِ». فلَمْ تَسقُطْ من ذلكَ الدمِ قطرةٌ إلى الأرضِ.

ثمَّ وضعَ يدَهُ ثانياً، فلمَّا امتلأَتْ لطَّخَ بهِ رأسَهُ ووجهَهُ، وقالَ: «هكَذَا أكونُ حتَّى ألقَى اللهَ وجَدِّي رسولَ اللهِ وأنَا مخضوبٌ بدَمِي، وأقولُ: يَا جدِّي قتَلَنِي فلانٌ وفلانٌ».

ولمَّا أُثخِنَ بالجراح طَعَنَه صَالحُ بنُ وَهَب المُرِّي في خَاصرتهِ طَعنةً فَسَقَطَ عن فَرَسِه إِلى الأَرضِ على خدِّهِ الأَيمن وهوَ يقول: «بِسمِ اللهِ وبالله وعَلَى مِلَّةِ رسولِ الله..».

وأَعياهُ نزفُ الدمِ، فجلسَ على الأرضِ... فانتهَى إليهِ مالكُ بنُ النِّسْرِ الكِنْدِيُّ في تلكَ الحالِ، فشتَمَ الإمامَ عليه السلام ثمَّ ضربَهُ على رأسِهِ بالسيفِ، فامتَلأَ البُرنُسُ دَماً..

٧٦

مصرعُ عبدِ اللهِ بنِ الحسنِ عليه السلام:

ثمَّ إنَّهم لبِثوا هُنيئةً وعادوا إلى الحسينِ عليه السلام وأحاطوا بهِ وهوَ جالسٌ على الأرضِ لا يستطيعُ النهوضَ، فنظرَ عبدُ اللهِ بنُ الحسَنِ السِّبْطِ عليه السلام وله إحدى عَشرةَ سنةً إلى عمِّهِ وقد أحدقَ بهِ القومُ، فأقبلَ يشتدُّ نحوَ عمِّهِ، فصاحَ الحسينُ بأختِهِ العقيلةِ زينبَ: «إحبسيهِ يا أختاهُ»، فلحِقتْهُ زينبُ عليها السلام وأرادتْ حبسَهُ فأفلَتَ من بينِ يدَيها، وأَبَى عليها، وقالَ: «لا - واللهِ- لا أُفارقُ عَمِّي»، وجاءَ حتَّى وقفَ إلى جنبِ عمِّهِ الحسينِ عليه السلام.

وبينمَا هوَ كذلِكَ إذْ جاءَ أبحرُ بنُ كَعبٍ وأَهوَى إلى الحسينِ عليه السلام بالسيفِ ليضربَهُ، فصاحَ الغلامُ: «ويلَكَ يا ابنَ الخبيثةِ، أتقتلُ عمِّي؟». فضربَهُ أبحرُ بالسيفِ، فاتّقاها الغلام

٧٧

بيدِهِ، فأطنَّها إلى الجلدِ، فإذا هيَ معلّقةٌ، فصاحَ الغلامُ: يا عمَّاهُ!! فأخذَهُ الحسينُ عليه السلام وضمَّهُ إلى صدرِهِ، وقالَ: «يا بنَ أخي، إصبرْ على ما نزَلَ بِكَ، واحتسِبْ في ذلكَ الخيرَ، فإنَّ اللهَ تعالى يُلحِقُكَ بآبائكَ الصالحينَ».

فرماهُ حَرْمَلةُ بنُ كاهلٍ الأسديُّ بسهمٍ فذبحَهُ، وهوَ في حِجْرِ عمِّهِ الحسينِ عليه السلام.

آه يشبان بالله لا تونون‏

تصدعون قلبي من تلوجون‏

بعيونكم ليه تديرون‏

مدري يبعد اهلي اشتردون‏

فرفعَ الحسينُ عليه السلام يدَيهِ إلى السماءِ قائلاً: «اللّهمَّ، إنْ متَّعتَهُم إلى حينٍ، ففرِّقهُم فِرَقاً، واجعلْهُم طرائقَ قِدَداً، ولا تُرضِ الوُلاةَ عنهُم أبَداً، فإنَّهُم دَعَوْنَا ليَنصُرُونَا فعَدَوا علَينا يُقاتِلونَنا».

٧٨

الحسينُ عليه السلام على وجهِ الثرَى

قالوا: ومكَثَ الحسينُ عليه السلام طَويلاً من النَّهارِ مَطروحَاً عَلَى وَجهِ الأرضِ وهوَ مغشيٌّ عليهِ، ولو شَاؤوا أنْ يقتلوهُ لَفعلُوا، إلَّا أنَّ كلَّ قبيلةٍ تتَّكِلُ على الأُخرى وتكرَهُ الإقدامَ.

فعندَها صاحَ شِمرُ بالناسِ: ويحَكُمْ، مَا وقوفُكُمْ؟! ومَا تنتظرونَ بالرجلِ؟! وقدْ أثخنَتْهُ السهامُ والرماحُ، احملُوا عليهِ، اقتلوهُ، ثكلتْكُمْ أمُّهاتُكُمْ.

فحَمَلُوا عليهِ مِنْ كلِّ جانبٍ:

فضَربَهُ لعينٌ على كفِّهِ اليُسرَى فقَطعَها...

وضربَهُ آخرُ على عاتقِهِ المُقَدَّسِ...

وطعنَهُ سِنانٌ بالرمحِ على تُرقُوَتِهِ، ثمَّ انتزعَ الرمحَ وطعنَهُ في بواني صدرِهِ، ثمَّ رماهُ بسهمٍ وَقَعَ في نحرِهِ..

فَنزعَ السهمَ مِن نَحرهِ وَقَرَنَ كفّيهِ جَميعَاً فلمَّا امتلأتَا مِن دِمائِه خَضَّبَ بِهمَا رأسَه ولِحيتهِ وهوَ يقول: «هكَذَا ألقَى الله مُخَضَّباً

٧٩

بِدَمي مَغصُوباً عَليَّ حَقّي..».

يقولُ هِلالُ بنُ نافعٍ: كنتُ واقفاً نحوَ الحسينِ وهوَ يجودُ بنفسِهِ، فواللهِ، ما رأيتُ قتيلاً قطُّ مضمَّخاً بدمِهِ أحسنَ وجهاً ولا أنوَرَ ولقدْ شَغلَنِي نورُ وجهِهِ عن الفِكرةِ في قتلِهِ..

ولمّا اشتدَّ بهِ الحالُ رفعَ طَرْفَهُ إلى السماءِ وقالَ: «اللهُمَّ أنتَ متعالي المكانِ، عظيمُ الجبروتِ، شديدُ المِحالِ، غنيٌّ عَنِ الخلائقِ، عريضُ الكِبْرياءِ، قادرٌ علَى مَا تشاءُ، قريبُ الرَّحمةِ، صادِقُ الوعْدِ، سابغُ النّعمةِ، حَسَنُ البلاءِ، قريبٌ إذا دُعِيتَ، مُحيطٌ بما خَلَقْتَ، قابِلُ التوبةِ لمن تابَ إليك، قادرٌ على ما أردتَ، تُدرِكُ ما طَلَبتَ، شَكورٌ إذا شُكِرتَ، ذَكورٌ إذا ذُكِرتَ، أدعوكَ مُحتَاجاً وأرغبُ إليك فَقيراً، وأفزَعُ إليك خائِفاً، وأبكي مَكروباً، وأستعينُ بك ضعيفاً، وأتوكّل عليك كافِياً.

اللهُمَّ احكُمْ بَينَنَا وبينَ قومِنَا، فإنَّهم غرُّونَا وخَذَلُونَا، وغدَرُوا بِنَا وقتلونا، ونحنُ عِترةُ نبيِّكَ، وَوِلدُ حبيبِكَ محمَّدٍ الذي اصطفيتَه بالرسالةِ، وائتمنتَهُ على الوحيِ، فاجعَل لنَا من أمرِنا فرَجاً ومخرَجاً

٨٠