الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي23%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55492 / تحميل: 10176
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الحسينُ يستوحي مقتله

قبل خروجه من مكّة وقف يخطب بما اُوحيَ له في قصّة استشهاده، حتّى كأنّه يقرأ مخطوطاً أمام ناظريه. قال (عليه السّلام): «الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوّة إلاّ بالله، وصلّى الله على رسوله. خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف. وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا اُجور الصابرين.

لن تشذّ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس؛ تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده. ألا ومَن كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى»(١) .

وحاول جماعة من أهل بيته وصحبه صرفه عن السفر والتريّث خوفاً من غدر أهل الكوفة، لكنّه (عليه السّلام) كان يصارح الجميع بما كتب له، وبما يوحى إليه، وكان شوقه للقاء أسلافه ينعكس نوراً سنيّاً فوق صفحة وجهه، فكان يخيّل للناظر إلى شيبته المقدّسة بأنّه لم يعد متواجداً على هذه الأرض إلاّ بجسده فقط، وأنّ تلهّفه للشهادة طار بوجدانه وفكره إلى حيث يريه الله تعالى مكانه في النعيم بعد قليل من الوقت؛ لذا فقد أجاب ابن الزبير: «إنّ أبي حدّثني أنّ بمكّة كبشاً به تُستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون ذلك

____________________

(١) اللهوف / ٣٣، وابن نما / ٢٠.

١٠١

الكبش، ولئن اُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليّ من أن اُقتل فيها. وايم الله لو كنت في ثقب هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم. والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت»(١) . وكان الوحي ينزل فوق رأسه فينقله إلى مطارح مصرعه، ولم يشأ (عليه السّلام) أن يتحدّث برؤاه لأحد حتّى يلقى ربّه ذا الجلال.

ولمّا أقام (عليه السّلام) في (الخزيمية) يوماً وليلة أقبلت إليه اُخته زينب (عليها السّلام) وقالت: إنّي سمعت هاتفاً يقول:

ألا يا عينُ فاحتفلي بجُهدي

فمَن يبكي على الشهداءِ بعدي

على قومٍ تسوقهُمُ المنايا

بمقدارٍ إلى إنجازوعدي

فقال: «يا اُختاه، كلّ الذي قضي فهو كائن»(٢) .

ومع عبارة (كلّ الذي قضي فهو كائن) يختتم الحسين (عليه السّلام) سلسلة رؤاه في كلّ ما سيبلوه الله به فوق أرض كربلاء، وبهذه العبارة ردُّ كافٍ على أهل المظنّة الذين نعتوا ثورته بـ (الغضبة العسكريّة) التي كان ينقصها التخطيط العسكري السّليم كي تبلغ النصر في ميزان النصر، وكأنّ السرّ الإلهي أعمى على قلوب هؤلاء فحجب عن بصائرهم فهم مغزى الثورة على حقيقتها. وبأنّ قوّتها تكمن في ضعفها العسكري، وبأنّ نصرها منبثق من انكسارها، وبأنّ فلاحها مستمدّ من خذلانها، وبأنّ عظمتها

____________________

(١) تاريخ مكّة للأزرقي ٢ / ١٥٠.

(٢) وردت في مجلّد ابن نما / ٢٣.

١٠٢

التي ما زادتها القرون إلاّ تأجّجاً، كانت من لُحمة العظمة الربّانيّة التي رسمتها بهذا الشكل الذي قضيت به، كي تكون نتائجها وآثارها بالشكل الذي آلت إليه.

فيا ليت اُولئك المتجرّئين على ردّ حقائق ثورة فرخ النّبي وريحانته، وسيّد شباب أهل الجنّة وأبي الشهداء في عمر البشريّة إلى غير منابعها ومصبّها! يا ليتهم يرعوون ويثوبون عن غيّهم وكفرهم قبل أن تنزل بهم العناية الإلهيّة غضبتها؛ نتيجة ما أوّلوا حكمتها - التي لا يرقى إليها عقل بشري - إلى تأويلات شتّى سداها الضعف البشري، ولُحمتها الكفر بالمسلّمات والبدهيّات العُلوية!

١٠٣

١٠٤

معجزاتُ الشهادة

المعجزات التي تعقب الشهادات العظيمة، ما هي إلاّ غضبة الخالق من عقوق خلقه الذي انتهى إلى قتل شهيده، وسبحانه يجري هذه المعجزات بشكل صاعق له ردّة الصدمة الكهربائية العنيفة؛ بهدف إيقاظ الضمائر لتنظر فيما جرى، بقتلها هذا الشهيد الذي لم يؤتَ على حياته بأيّة معجزات تنجيه من مصيره المحتوم، فكانت المعجزات بعد مماته شاهداً على قدرة الله، وتوكيداً على مكانة الشهيد المقدّس، وبأنّ ما قاله وبشّر به هو صوت الحقّ الإلهي الذي يتوجّب على الجميع إعادة سماعه إذا فاتهم ذلك والشهيد بينهم حيٌ بطبيعة بشريّة لم تكن كافية لمَن قست قلوبهم وغلظت ضمائرهم، كي تقنعهم بقوّة العدل الذي جاء يبشّر به.

وقد اشترك الأنبياء والشهداء بقواسم مشتركة عديدة، أفاضت على عقول الناس فيضاً من تشابه الرسالات السماويّة في جوهرها الأصلي، وإن اختلفت باختلاف أساليبها التي لو شاء المولى (عزّ وجلّ) لجعلها واحدة، لكنّ قوة إقناعها تكمن في اختلافها. وما دامت حياة الأبرار المختارين من الله تتشابه في ابتلائهم بشتّى الرزايا، وبصبرهم الواحد حيالها، وبنهاياتهم الأليمة التي لولاها لَما كان ثمّة أديان

١٠٥

حفظت لنا حتّى الآن. فإنّ الصدمات الإلهيّة التي تعقب استشهادهم هي من التشابه والقوّة بحيث لا تدع مجالاً للشكّ بأنّها الانطباعات الفوريّة والقويّة على مكانة الشهيد وعظم رسالته.

وإذا كنّا في صدد الحديث عن أوجه الشبه بين شهيدي المسيحيّة والإسلام عيسى والحسين (عليهما السّلام) فإنّا لواجدون هذا الشبه جليّاً في نوعيّة المعجزات التي أعقبت شهادتَيهما، بما تتلاءم مع قسوة ميتتيهما، وإذا كنّا راغبين في حصر هذا التشابه بين الشهيدين العظيمين، فذلك انسجاماً مع بحثنا لمدى فهم الفكر المسيحي خاصّة والإنساني عامّة لملحمة استشهاد الحسين، بإبراز كلّ نقاط التشابه التي تدنيها من ملحمة فداء عيسى.

حينما استشهد الحسين (عليه السّلام) اظلمّت الدنيا ثلاث أيّام واسودّت سواداً عظيماً حتّى ظنّ الناس أنّ القيامة قامت، وبدت الكواكب نصف النهار، ولَم يرَ نور الشمس ثلاثة أيّام كاملة، حيث كان سيّد شباب أهل الجنّة عارياً على وجه الصعيد(١) .

وحينما استشهد عيسى (عليه السّلام) انتشر ظلام شديد على الأرض كلّها منذ الساعة السادسة إلى التاسعة، حيث لفظ المسيح روحه وصرخ صرخة قويّة، وإذا ستار الهيكل قد انشقّ شطرَين من الأعلى إلى الأسفل، وزلزلت الأرض، وتصدّعت الصخور، وتفتّحت القبور(٢) .

هاتان المعجزتان العظيمتان تدلاّن على عظمة الشهيدَين، وعلى عظم غضبة

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، والخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، والصواعق المحرقة / ١١٦، والخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٩، وتذكرة الخواص / ١٥٥، ومقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي ٢ / ٩٠، وابن لهيعة عن أبي قبيل المعافري إذ قال: إنّ الشمس كسفت حتّى بدت النّجوم وقت الظهر، وإنّ الأرض أظلمت.

(٢) متّي ٢٧ / ٥١ - ٥٢.

١٠٦

الخالق سبحانه وتعالى، الذي أظلم الدنيا ثلاث أيّام طيلة بقاء سيّد الشهداء عارياً في فلاة كربلاء، وأظلمها ثلاث ساعات طيلة بقاء شهيد المحبّة عارياً في الجلجلة؛ كي لا تكشف عريهما المقدّس عين، ومن أجل إشراك الظواهر الطبيعيّة التي هي إحدى العلل في مجرى الكَون(١) ، والذي أوقف هذا المجرى شهادتا عيسى والحسين غضباً على مقتلهما، وإظهاراً لغضبة الخالق على خلقه الذين اضطهدوا وقتلوا الشهيدَين العظيمَين.

وعن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السّلام): «إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالاحمرار، والأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة»(٢) .

وبعد ثلاث أيّام من دفن عيسى حدث زلزال شديد وهبط ملاك الربّ نازلاً من السماء ودحرج حجر القبر الضخم وقعد عليه، وكان هذا إيذاناً بقيامة المسيح من بين الأموات صاعداً إلى السماء كما جاء في الآية التي نزلت يوم مولده(٣) .

وفي ذات الليلة رأت اُمّ سلمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام أشعث مغبّراً وعلى رأسه التراب، فقالت له: يا رسول الله، ما لي أراك أشعث مغبّراً؟! قال: «قُتل ولدي الحسين، ومازلت أحفر القبور له ولأصحابه»(٤) . فانتبهت فزعة ونظرت إلى

____________________

(١) استنكر بعض المؤرّخين حدوث مثل هذه الظواهر، ووصفها ابن تيمية في كتابه (رأس الحسين) ط القاهرة / ١٣٠، بالغلوّ في الإيراد، وفي المسيحية تقدير لهذه الظواهر كجزء من علل الكون المسيّر بعناية إلهية، فقد ورد في أعمال الرسل ٢ / ١٩ - ٢٠ قول عزّته: (وأجعل علوّاً أعاجيب في السماء، وسفلاً آيات في الأرض، فتتبدّل الشمس بنورها ظلاماً، والقمر دماً).

(٢) وردت في عدّة مصادر سأذكرها بدون ترقيم وهي: الخصائص الكبرى، تاريخ ابن عساكر، تذكرة الخواص، الإتحاف بحب الأشراف، المناقب لابن شهر آشوب، النجوم الزاهرة، كنز العمال، الصواعق المحرقة.

(٣) متّي ٢٧ / ٢ - ٣.

(٤) راجع أمالي الشيخ الطوسي / ٥٦، وتهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٦، وذخائر العقبى - المحب الطبري / ١٤٨، وتاريخ الخلفاء - السيوطي / ١٣٩، وسير أعلام النبلاء - الذهبي ٣ / ٢١٣.

١٠٧

القارورة التي فيها تراب أرض كربلاء فإذا به يفور دماً، وهو التراب الذي دفعه النبي (صلّى الله عليه وآله) إليها وأمرها أن تحتفظ به(١) ، وقد سمعت ليلتها صوتاً هاتفاً في جوف الليل ينعى الحسين (عليه السّلام) فيقول:

أيها القاتلونَ جهلاً حسيناً

أبشروا بالعذابِ والتنكيلِ

قد لُعنتمْ على لسان ابنِ داو

دَ وموسى وصاحبِ الإنجيلِ

كلّ أهل السماء يدعو عليكُمْ

من نبيّ ومرسلٍ وقبيل(٢)

وفي يوم عاشوراء رأى ابن عبّاس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أشعث مغبّراً، وبيده قارورة فيها دم، فقال له: بأبي أنت واُمّي ما هذا؟! قال: «هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل التقطه منذ اليوم»(٣) .

ويحدّث دعبل الخزاعي عن جدّه: أنّ اُمّه سعدى بنت مالك الخزاعيّة أدركت الشجرة التي كانت عند اُمّ معبد الخزاعيّة وهي يابسة، وببركات وضوء النبي (صلّى الله عليه وآله) في أسفلها أورقت وأثمرت كثيراً. ولمّا قبض النبي (صلّى الله عليه وآله) قلّ ثمرها، ولمّا قُتل أمير المؤمنين (عليه السّلام) تساقط ثمرها، وكانوا يتداوون بورقها.

____________________

(١) راجع مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٤، وكامل ابن الأثير الجزء ٣٨، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٩٥.

(٢) راجع تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤١ فقد ذكرت الأبيات الثلاثة، وفي تاج العروس ٧ / ١٠٣ ذكر البيت الأوّل والثالث - نقلاً عن المقرم.

(٣) تفرّد به الإمام أحمد / ٢٤٢ وإسناده قوي، وذكر في تاريخ بغداد للخطيب ١ / ١٤٢، وفي طرح التثريب / ٢٢.

١٠٨

وبعد برهة نظروا إليها وإذا بساقها ينبع دماً، فأفزعهم هذا الحادث، ولمّا أظلم الليل سمعوا بكاءً وعويلاً ولم يروا أحداً، وقائل يقول:

يابنَ الشهيدِ ويا شهيداً عمُّهُ

خيرُ العمومةِ جعفرُ الطيّارُ

عجباً لمصقولٍ أصابحدّهُ

في الوجهِ منك وقد علاك غبارُ

وقد أخذ البيت الثاني أحد شعراء الشيعة القدامى ونظمه في ثلاث أبيات، يقول فيها:

عجباً لمصقولٍ علاك فرندهُ

يومَ الهياجِ وقد علاك غبارُ

ولأسهمٍ نفذتكَ دونَ حرائرٍ

يدعون جدّكَ والدموعُ غزارُ

هلاّ تكسّرتِ السّهامُ وعاقها

عن جسمِكَ الإجلالُ والإكبارُ(١)

وإذا كانت الطبيعة والوحوش والأشياء قد انفلتت من إسارها، وانفعلت حزناً على الحسين، فإنّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) الذي قال: «حسين منّي وأنا من حسين». حضر المعركة التي عذّب فيها بضعته وريحانته، وشاهد ذلك الجمع الحاقد المتألّب على استئصال أهله من جديد الأرض وبمرأى منه عويل الأيامى ونشيج الفاقدات وصراخ الصبية من الظمأ، وقد سمع العسكر صوتاً

____________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٣٨٠.

١٠٩

هائلاً: ويلكم يا أهل الكوفة! إنّي أرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ينظر إلى جمعكم مرّة وإلى السماء اُخرى وهو قابض على لحيته المقدّسة. لكن الهوى والضلال المستحكم في نفوس ذلك الجمع المغمور بالأطماع، أوحى إليهم (إنّه صوت مجنون)، فصاح الجمع: لا يهولنّكم ذلك. وكان أبو عبد الله الصادق (عليه السّلام) يقول: «لا أراه إلاّ جبرائيل»(١) .

ولمّا حمل الرأس الشريف إلى دمشق ونصب في موضع الصيارفة وهناك لغط المارة وضوضاء المتعاملين، فأراد سيّد الشهداء توجيه النفوس نحوه ليسمعوا عظاته، فتنحنح الرأس تنحنحاً عالياً، فاتجهت إليه الناس واعترتهم الدهشة حيث لم يسمعوا رأساً مقطوعاً يتنحنح قبل يوم الحسين (عليه السّلام)، فعندها قرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى:( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ) (٢) .

وصُلب على شجرة فاجتمع الناس حولها ينظرون إلى النور الساطع فأخذ يقرأ:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٣)(٤) .

وقال هلال بن معاوية: رأيت رجلاً يحمل رأس الحسين (عليه السّلام) والرأس يخاطبه فرّقت بين رأسي وبدني، فرفع السوط وأخذ يضرب الرأس حتّى سكت(٣) .

ويحدّث ابن وكيدة: إنّه سمع الرأس يقرأ سورة الكهف فشكّ في أنّه صوته أو غيره، فترك (عليه السّلام) القراءة والتفت إليه يخاطبه: «يابن وكيدة، أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربّهم يرزقون؟».

____________________

(١) كامل الزيارات.

(٢) سورة الكهف / ١٣.

(٣) سورة الشعراء / ٢٢٧.

(٤) ابن شهر آشوب ٢ / ١٨٨.

(٥) شرح قصيدة أبي فراس / ١٤٨.

١١٠

فعزم على أن يسرق الرأس ويدفنه، وإذا الخطاب من الرأس الشريف: «يابن وكيدة، ليس إلى ذلك من سبيل؛ إنّ سفكهم دمي أعظم عند الله من تسييري على الرمح، فذرهم فسوف يعلمونإِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ »(١) .

وقال المنهال بن عمرو: رأيت رأس الحسين بدمشق على رمح وأمامه رجل يقرأ سورة الكهف حتّى إذا بلغ إلى قوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (٢) . نطق الرأس بلسانٍ فصيح: «أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي»(٢) .

ولمّا أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم حيث أنكر عليه فعلته، نطق الرأس الشريف بصوتٍ رفيع: «لا حول ولا قوة إلاّ بالله»(٣) .

وحدّث ابن ليهعة: أنّه رأى رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة يستغيث بربّه ثمّ يقول: ولا أراك فاعلاً. فأخذته ناحية وقلت: إنّك لمجنون! فإنّ الله غفور رحيم ولو كانت ذنوبك عدد القطر لغفرها لك. قال لي: اعلم كنت ممّن سار برأس الحسين إلى الشام، فإذا أمسينا وضعنا الرأس وشربنا حوله.

وفي ليلة كنت أحرسه وأصحابي رقود، فرأيت برقاً وخلقاً أطافوا بالرأس، ففزعت ودهشت ولزمت السكوت، فسمعت بكاءً وعويلاً، وقائلاً يقول: يا محمّد، إنّ الله أمرني أن أطيعك، فلو أمرتني أن أزلزل بهؤلاء الأرض كما فعلت بقوم لوط. فقال له: «يا جبرائيل، إنّ لي موقفاً معهم يوم القيامة بين يدي ربّي سبحانه».

____________________

(١) شرح قصيدة أبي فراس / ١٤٩.

(٢) سورة الكهف / ٩.

(٣) الخصائص - السيوطي ٢ / ١٢٧.

(٤) مقتل العوالم / ١٥١.

١١١

فصحت: يا رسول الله، الأمان. فقال لي: «اذهب فلا غفر الله لك». فهل ترى الله يغفر لي(١) ؟

وفي بعض المنازل وضعوا الرأس المطهّر فلم يشعر القوم إلاّ وقد ظهر قلم حديد من الحائط وكتب بالدم:

أترجو أمّةٌ قتلت حسيناً

شفاعةَ جدّه يومَ الحسابِ(٢) ؟ !

وقبل أن يصلوا الموضع بفرسخ وضعوا الرأس على صخرة هناك، فسقطت منه قطرة دم على الصخرة، فكانت تغلي كلّ سنة يوم عاشوراء، فيجتمع الناس هناك ويقيمون المأتم على الحسين حولها، وبقي هذا إلى أيّام عبد الملك بن مروان، فأمر بنقل الحجر فلم يرَ له أثر بعد ذلك(٣) .

وقد روى ابن قولويه في الكامل: أنّهم كانوا يسمعون نوح الجن في الليالي التي قُتل فيها الحسين (عليه السّلام)، ومن شعرهم:

أبكي ابنَ فاطمة الذي

مِن قتلهِ شاب الشعرْ

ولقتلِهِ زُلزلتموا

ولقتلِهِ انخسف القمرْ

____________________

(١) اللهوف / ٩٨.

(٢) مجمع الزوائد - لابن حجر ٩ / ١٩٩، والخصائص - السيوطي ٢ / ١٢٧، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤٢، وتاريخ القرماني / ١٠٨، ومثير الأحزان / ٥٣.

(٣) نفس المهموم / ٢٢٨، ونهر الذهب في تاريخ حلب ٣ / ٣٣، وكتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات / ٦٦.

١١٢

وذكر ابن نما عن أبي حباب الكلبي قال: لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) ناحت عليه الجنّ فكان الجصّاصون يخرجون بالليل إلى الجبّانة فيسمعون الجنّ يقولون:

مسح الحسينُ جبينَهُ

فله بريقٌ في الخدودِ

وأبوهُ من أعلا قريـ

ـشٍ جدُّه خيرُ الجدودِ

ويشير أبو العلاء المعرّي إلى قتل الحسين واحمرار السماء حزناً عليه في قصيدة يقول مطلعها:

علّلاني فإنَ بيضَ الأماني

فُنيتْ والظلامُ ليس بفانِ

وعلى الدهرِ من دماء الشهيديـ

ـنِ عليٍّ ونجلِهِ شاهدانِ

فهما في أواخر الليل فجرا

ن وفي أولياتهِ شفقانِ

ثبتا في قميصه ليجيء الحشـ

ـر مستعدياً إلىالرحمنِ

وممّا هو معروف أنّ المسيح كانت له سلطة على الجن والأرواح وجند الملائكة، فقد كانت تأتمر بأمره (عليه السّلام) فتنقله بلمحة طرف إلى أي مكان، ويأمرها فتنفّذ له ما يأمرها به، وعندما تبكي الجن على مقتل الحسين، فإنّ في هذه الحكمة الأعجوبة لمعجزة خارقة أتي بمثلها لعيسى (عليه السّلام).

١١٣

وإذا كنّا قد خلصنا إلى أوجه الشبه بين عيسى والحسين (عليهما السّلام)، وبين شهادتَيهما، والمعجزات الكونيّة الخارقة التي تلتهما مباشرة، فإنّا سنعرّج على أوجه الاختلاف القليل بين الشهيدَين العظيمَين.

١١٤

حكمةُ اختلاف الشهادتين

جاء عيسى (عليه السّلام) إلى اليهوديّة مبشّراً بالعهد الجديد بعد أن فسدت الضمائر، وحرّفت السنّة، وسنّت الشريعة، وقامت دولة الأحبار والشيوخ والفرّيسيّين والصدوقيّين، وقد أيّده الله سبحانه وتعالى بمعجزات لم يؤيّد بمثلها نبيّاً قبله أو بعده.

وقد لخّص (عليه السّلام) بعثه إلى اُمّة لعبت بوصاياها وحرّفت شرائعها حسب أهوائها واضطهدت كلّ الرسل الذين جاؤوا لهدايتها، فقال: (فبمَن أشبّه هذا الجيل، ومَن يشبهون؟ يشبهون أولاداً قاعدين في الساحة يصيح بعضهم ببعض، زمّرنا لكم فلم ترقصوا، ندبنا لكم فلم تبكوا).

جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً فقلتم: إنّ به مسّاً من الشيطان. وجاء ابن الإنسان - المسيح - يأكل ويشرب، فقلتم: هو ذا رجل أكول سكّير صديق للعشّارين والخاطئين، بَيْدَ أنّ الحكمة قد برّها جميع

١١٥

بنيها(١) .

وعيسى (عليه السّلام) اعتقله اليهود وعذّبوه وأهانوه وبصقوا عليه، وضفروا رأسه بإكليل شوك، وجلدوه وتهكّموا عليه، وسخروه بحمل صليبه على طريق الجّلجلة في فلسطين، وأخيراً قتلوه وطعنوا جنبه بحربة قبل أن يلفظ أنفاسه، وكانوا سيكسّرون رجليه لكنّهم وجدوه ميتاً فلم يفعلوا، لتتمّ الآية (لن يكسر له عظم)(٢) .

والحسين (عليه السّلام) جاء في زمن كانت الديانة التي بشّر بها جدّه الكريم وليدة تحبو بعد أن حقّقت فتوحات عظيمة، وأخضعت بقوّة تعاليمها وأخلاقيّاتها الاجتماعيّة العظيمة الشرق والغرب. وعندما شبّ عن الطوق لمس ما يعتري اُمّة جدّه من انحلال وتكالب على الأطماع الدنيويّة بما يناقض بعثها، فكان عليه أن يتصدّى لهذا الأمر الجلل، فكانت مهمّته أعمق غوراً، ورسالته أكثر تعقيداً من رسالة عيسى (عليه السّلام)، سيّما إذا نظرنا إلى نوعيّة الوسائل التي كانت بين يدَيه؛ إذ كما سبق وذكرنا لم تكن للحسين صفة نبويّة، بل كان عليه أن يلجأ إلى الوسائل البشريّة التي تسيّرها قوّة إلهيّة؛ وما ذلك إلاّ لكي تؤدّي رسالته الهدف المنشود منها، إذ لو جرت رسالته مجرى رسالة عيسى لما كان لها هذا الوقع المفجع، ولو قُتل وحده كما قُتل عيسى وحده لمّا كانت واقعة قتله لتؤجّج كلّ هذا التأنيب والشعور بالذنب والإحساس بالتقصير لدى كلّ مسلم.

وبرأيي أنّ ظرف اُمّة الإسلام في ذلك الزمن كان لا بدّ له من تضحية فائقة تقرب من التهلكة الجماعيّة؛ ليتسنّى لها الوقوف حيال تحلّل الاُمّة التي كان يتأكّلها من الداخل.

____________________

(١) لوقا ٧ / ٣١ - ٣٥.

(٢) يوحنا ١٩ - ٣٦.

١١٦

إذاً فالظرفان مختلفان بين مجيء عيسى وبين مجيء الحسين، وبين ما أعدّته العناية الإلهيّة لكلّ منهما، وما زوّدتهما به من اختلاف السّبل والإمكانات، سواء ما كان قبل الشهادة أو بعدها.

والحسين (عليه السّلام) لم يسلم عظمه كما سلم عظم عيسى، بل إنّ ما حاقه فوق ثرى كربلاء المقدّس كان أعظم من احتمال البشر، بل كان من نوع يقرّب سيّد الشهداء إلى قائمة الرسل والنبيّين.

فأيّ رسول زرع في جسده أكثر من مئة نبلة وأكثر من أربعين طعنة، وأيّ نبي قتله العطش مثل ما فعل بالحسين (عليه السّلام)؟ وها هو أمير الشهداء وسيّدهم يُرمى بسهم في جبهته، ويُضرب بحجر فيها، ويُطعن على قلبه بسهم ذي ثلاث شعب، ويُرمى في حلقه، ويُضرب على عاتقه، ويُطعن في ترقوته وبصدره وبنحره وبجنبه، ويُسلب وتُقطع إصبعه من أجل خاتم، وتُقطع يده اليمنى ثمّ اليسرى من أجل تكّة سروال، ويُحتزّ رأسه الشريف، ويوطأ بعشر من الخيل صدراً وظهراً، ثمّ يُحمل رأسه على سن رمح إلى دمشق، حيث يوضع بمهانة أمام الفاسق يزيد لينكت ثناياه بالقضيب، ويعلّق في سوق الصيارفة ويشرب الخمر حوله، ويقال الكفر أمام كرامته.

فهل يبقى للمقارن المتمعّن في هذه الميتة الأليمة تردّد في وضع شهادة الحسين (عليه السّلام) في المقام الأوّل بين كل الشهادات التي ذكرها التاريخ؟

وإذا كانت قيمة الشهادة منوطة بما يتحمّله الشهيد من أذى، فإنّه لا مراء فيه أنّ الشهادة التي تمّت في صحراء كربلاء ذات قيمة عليا، لا تبلغها أيّة قيمة اُخرى لأيّة شهادة، لا سابقة ولا لاحقة.

وهي شهادة أكبر في مقياس المعاناة من شهادة عيسى (عليه السّلام) ولئن تعادلت معها في مقياس النتيجة، فإنّ لها وقع أشدّ على القلوب، وإذا تذكّرتها العقول فإنّ

١١٧

لذكراها رنّة حزن وأسى تحفر في الحنايا والصدور أخاديد عميقة وأثلاماً لا تندمل.

وإذا كان غدر العدو متوقّعاً، ولا يثير وقوعه أيّة دهشة؛ فإنّ غدر القريب هو الغدر الأليم الوقع، والحسين غدره أقرب الناس إليه، وخذلته شيعته، وحاصرته وقتلته ومثّلت به جموع مسلمة محتسبة على دين محمّد، وقد حاربته باسم الإسلام الذي أنزل على جدّه الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله)، بينما قتل عيسى اليهود أعداء المسيحيّة، وعلى الرغم من قسوتهم وتسفيههم لرسول الإنسانيّة فإنّهم في مرآة الدمويّة والوحشيّة يبدون حملاناً وديعة بالمقارنة مع الذين قضوا على الحسين وآل بيته وأصحابه الأطهار.

فالوحشيّة التي شهدتها كربلاء ليس لها شبيه حتّى بين أشدّ الوحوش ضراوة، وكلمة (وحشيّة) لا تفيها حقّها من الدلالة عليها، فقد فاقت الوحشيّة بمراحل، وتقدّمت على الدمويّة بخطوات، وصار لزاماً أن يوجد لها تعبير يلائمها. لكن العقل البشري الذي وضع لكلّ مظهر حدوداً قصوى في الفعل والتعبير عن هذا الفعل، ولكلّ موقف أقصى ما يلائمه من كلمات تدلّل عليه، لم يستطع تخطّي تعبيري الوحشية والهمجيّة، مع أنّ الواقعة كانت تتخطّاهما بمراحل شاسعة.

ولعلّ خير شاهد على همجيّة ما جرى في كربلاء وبعدها هذه الحادثة الصغيرة في فعلها، الكبيرة في مرماها، والتي تدلّ بشكل واضح على موت كلّ ضمير وإحساس بشري في نفس صاحبها، وتفاقم كلّ أنواع الخسّة والوحشيّة في وجدان فاعلها.

فها هو خولي بن يزيد الأصبحي يسرح برأس الحسين بأمر من ابن سعد، وقد غدا به إلى قصر الإمارة حيث قابل ابن زياد ووضع الرأس بين يدَيه وهو يقول:

املأ ركابي فضّةً أو ذهبا

إنّي قتلتُ السيّدَ المحجّبا

١١٨

وخيرَهم مَن يذكرون النَّسبا

قتلتُ خير الناس اُمّاً وأبا(١)

هذا المسلم بالاسم الذي عافه الإسلام، يفخر بكلّ الخسّة التي يمكن أن يعمر بها قلب بشري، بأنّه قتل السيّد المحجّبا، وقضى على خير الناس اُمّاً وأباً، ويفتح باب نفسه التي باعها للشيطان ينتظر الفضّة والذهب.

ولكنّ ابن زياد الذي لا يقلّ عنه خسّة وضعة يستاء من قوله أمام الجمع، فيجيبه: إذا علمت أنّه كذلك فلِمَ قتلته؟ والله لا نلت منّي شيئاً.

وفي إجابته هذه لا يأخذنّ بك الظنّ أيها القارئ على أنّ ابن زياد قد تحرّك ضميره للحظات فنطق لسانه بما نطق.. لا، بل هو اغتاظ من وصف خولي أمام الجميع بأنّه قتل خير الناس اُمّاً وأباً، في وقت كان ينتظر منه أن يصف ويطنب ويلفّق ويسبّ على الحسين أمامه وأمام الجمع المستمع؛ لذا فقد حجب عنه الجائزة التي كان ينتظرها.

وتتالت المعجزات الخارقة بعد شهادة الحسين (عليه السّلام)، ولعلّ معجزات الطبيعة هي أبسطها، فالمعجزات الحقّة كانت تلك التي قلبت اُمّة الإسلام رأساً على عقب بعد فترة من الزمن، وسنأتي على ذكرها في مكان آخر من الكتاب.

وكانت المعجزات التي أنزلها الله تعالى بعد استشهاد عيسى والحسين (عليهما السّلام)، البدايات الأولى المادّية؛ لِما سيلي بعدها من معجزات على مستوى الروح والعقيدة

____________________

(١) اختلف المؤرّخون بقائل هذه الأبيات. فعند ابن جرير الطبري / ٢٦١، وابن الأثير / ٣٣ إنّه سنان بن أنس، أنشدها على عمر بن سعد، وفي شرح المقامات للشربشي / ١٩٣ أنّه أنشدها على ابن زياد، وفي كشف الغمّة للأربلي، ومقتل الخوارزمي / ٤٠ أنّ بشر بن مالك أنشدها على ابن زياد، وفي رياض المصائب / ٤٣٧ أنّ الشمر قائلها، وفي العقد الفريد / ٢١٣ سمّاه خولي بن يزيد الأصبحي وقد قتله ابن زياد لقوله الأبيات.

١١٩

والصراط، مما يدلّ دلالة واضحة على أن الأنبياء والشهداء إنما اُوذوا وصبروا من أجل أن يكشف سبحانه وتعالى للبشر قضايا الحقّ الاُولى، وأن يبرزها لبصائرهم، ويعلنها لهم على اختلاف أديانهم. على أنها قضايا واحدة لا تنفصم، وهي لا تتغير؛ لأنّ ناموس الطبيعة البشرية لا يتغير؛ ولأنّ السرّ الإلهي كلٌّ لا يتجزأ.

وعندما ينيخ الضعف على النفوس فتغدو العقيدة ضعفاً لا يتّصل بقوة، بعد أن كانت قوة لا تتصل بالضعف، فإن المصلحين الشهداء ينبتون من بين المجتمع المتفكّك كما تنبت الشجرة الخيّرة من بين العليق؛ فيشدّون على عوامل الضعف، وينشطون العقيدة بنفحة من روح تضحياتهم التي تختتم دوماً بالجود في نفوسهم بعد أن يكونوا قدّموا لوحاً جديداً لدستور أخلاقي تتفتح عليه البصائر المعمية فجأة بعد استشهادهم، فتبدأ كيمياء هذا الدستور تفعل فعلها في النفوس والضمائر حيث مكامن العقيدة؛ فتصلح العقائد وتسمو القلوب، وتدعم الشهادة التي أطلقت هذا الدستور بشهادات تليها وتشابهها قوة وعنفواناً. وإذا بانتفاضة الإيمان الجديدة تتأجج كلهب البراكين التي سدّت عليها المنافذ قروناً فتفجّرت بغتة بفعل زلزال مُخلخل.

ولم تكن ثورة فرخ النبي (عليه السلام) إلا هذا الزلزال الذي خلخل كيان الاُمة الإسلاميّة، فصدّع مداميك انحرافها، وردم فجوات إيمانها، فبدت بعده ناصعة متماسكة مغسولة بزوفى الشهادة، ومعمّدة بدم الطُّهر الذي جعلها بيضاء كالسوسن، ونقية كالزنبق، وشفافة كوردة في صباح مشرق.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258