الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي23%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55517 / تحميل: 10179
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فقهاء يتوفّرون على تأليف فقهي ) عملهم على اتخاذه ( متناً ) للتعليق، أو الشرح، أو الدراسة أساساً، أي: التأليف الفقهي في ضوء ( المتون ) الفتوائية، سواء كانت رسائل عملية أو مجرّد فتاوى، وهذا ما ألمح إليه المؤرِّخون عندما أشاروا إلى أنّ المتون الفقهية مرّت بمراحل متنوِّعة، بدئت بكتاب ( النهاية ) للشيخ الطوسي ( ولا نغفل أنّ الطوسي بدوره قد اعتمد في بعض ممارساته على ( مقنعة ) المفيد،... والمهم: أنّ الحوزة العلمية الرشيدة التي امتدّت أكثر من ألف سنة، كانت تعتمد ( النهاية ) متناً، ثم اتخذت ( الشرائع ) للمحقّق، ثم ( وسيلة العباد ) للجواهري، ثم ( العروة الوثقى ) لليزدي، وهو هذا الكتاب الذي نتحدث عنه.

وممّا تجدر ملاحظته ( وهذا ما ألمحنا إليه ونؤكِّده الآن ) أنّ المتن المذكور ( العروة الوثقى ) لعلّه أكثر المتون الفقهية اهتماماً من قبل فقهائنا المحدثين، حيث حظي من جانب باتخاذه ( متناً ) للممارسة الاستدلالية الشاملة، ( ولعلّ أوضح مصاديقها هو كتاب ( مستمّسك العروة الوثقى )، وغيره من الممارسات، كما أنّه - من جانب آخر - حظي بتعليقات تُعدّ بالعشرات، وهو ما يقتصر على مناقشة بعض المتون، من خلال ما يسمّى بـ ( الحاشية ) إمّا مناقشة فتوائيّة فحسب، أو مصحوبة بالاستدلال، وفي الحالتين، فإنّ الاهتمام بهذا المتن بالنحو المتقدّم، يجعل الدراسة لهذا الجانب تحمل مسوِّغاتها، حيث اضطلعت أكثر من مؤسّسة بتجميع آراء الآخرين حيال المتن المذكور، متفاوتة في عدد ( المعلّقين )،... إلاّ أنّ الكتاب الحالي يعدّ أكثر الكتب حشداً للآراء.. كما هو ملاحَظ.

تأسيساً على ما تقدّم، يجدر بنا أن نتناول بالدراسة: نشاط (السيّد اليزدي ) فقهيّاً وأُصوليّاً - أو على الأقل فقهياً بمستوييه: الفتوائي والاستدلالي ( بخاصّة: الأخير )؛ لأنّه ( الخلفية ) التي تستند ( فتاواه ) إليها... ولحسن الحظ، أنّ السيّد اليزدي ترك لنا جملة مؤلّفات استدلالية تتفاوت في حجومها، مثل: ( منجزات المريض ) و( الظن... ) و( تكملة العروة الوثقى )، بالإضافة إلى دراسة استدلالية قد اتخذت من ( متن ) سابق وهو: الكتاب المعروف بالمكاسب للشيخ الأنصاري، قد اتخذت منه: وسيلة لممارسة فقهية معمّقة ومفصّلة... هذا مضافاً إلى كتاب أُصولي ضخم يتحدث عن ظاهرة التضارب بين النصوص بنمطيها: الظاهري والباطني، أو كما يطلق على ذلك

١٠١

مصطلح ( التعارض )، ومصطلح ( التكافؤ ) أو ( التعادل )، ومصطلح ( التراجيح )، وهو أهم الأبحاث الأُصولية؛ لأنّه - بوضوح - أكثر المبادئ ( تطبيقاً ) بخلاف الغالبية من المبادئ الأُصولية التي تضؤل أهميّتها العملية ( أي: الثمرة العلمية ) بالقياس إلى باب ( التعارض ) أو ( التضارب ) - كما نسمّيه - سواء أكان التضارب على مستوى السطح بحيث يجمع بين المتضاربين ( كالجمع العرفي المألوف )، وسواه، أو كان على مستوى ( العمق ) بحيث لا مناص من طرح أحد الطرفين ( مثل موافقته للعامّة ) أو العمل بالآخر ( مثل موافقة الكتاب )، أو العمل بكليهما: على مستوى ( التخيير ) وليس الجمع، أو الطرح لكليهما.. أو التوقّف أو الاحتياط... إلى آخره... ويتميّز الكتاب المذكور بسعة حجمه، وبدخوله في تفصيلات يمكن الاستغناء عنها، بخاصّة أنّ بعض المعنيين بهذا الشأن المعرفي قد يكتفون بثلاثين صفحة من الكتاب، بينما تجاوز الكتاب الذي عرضنا له: الستمئة صفحة..

المهم: بما أنّ ( التطبيق ) لمبادئ التضارب لا يتجانس مع ( النظرية ) من حيث الحجم الذي يستخدمه المؤلِّف، لذلك لا ضرورة كبيرة تدفعنا إلى مدارسة هذا الكتاب بقدر ما نقتبس منه بعض الفقرات؛ لأنّ المهمّ هو: ما نلاحظه من الممارسة الفقهية التي تعتمد هذا المبدأ الأُصولي أو ذاك... أي: نعتمد الممارسة التطبيقية لما يطرح من عمليات ( الجمع العرفي ) أو ( الترجيح )... أو... إلى آخره... عبر هذه المسألة الفقهية أو تلك... بالإضافة إلى سائر المبادئ التي يتوكّأ عليها في استخلاص الظاهرة الشرعية بنحوٍ عام...

وهذا ما نبدأ به الآن:

* * *

إنّ المرحلة الأُولى من ممارسة (السيّد اليزدي ) للظاهرة الفقهية، هي: تصديرها بالبُعد ( اللغوي )، أي من حيث التعريف بالظاهرة: موضوعة البحث دلالياً، ومدى انسحاب العنوان المنتخب على الموضوع، يستوي في ذلك أن يكون البحث فقهياً أو أُصولياً. وممّا لا شكّ فيه، أنّ طبيعة البحث العلمي يتطلّب الإحاطة بجوانب الموضوع جميعاً، وفي مقدّمته الجانب اللغوي، ما دامت اللغة هي الواسطة في التعبير عن موضوع البحث، لكن ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ البعد اللغوي يظلّ ( أداةً توظيفية ) وليس

١٠٢

غاية، وهذا ما يقتادنا إلى ملاحظة مهمّة بالنسبة إلى مطلق البحوث، ومنها: البحث الفقهي، حيث نجد أنّ الباحثين لا يكتفون بتعريف الموضوع لغوياً واصطلاحيّاً، في نطاق ما هو ضروري، بل يسهبون في البحث عن جذر الكلمة واستخداماتها، و... إلى آخره، حتى ليحس القارئ أنّه أمام معجم لغوي، وليس أمام بحث لا علاقة له باللغة إلاّ بمقدار الإضاءة الضرورية...

وفي ضوء هذه الحقائق نتّجه إلى (السيّد اليزدي ) لملاحظة استخدامه للبعد ( اللغوي )، حيث نجد عناية خاصّة منه قد لا نجدها عند الآخرين، فهو يدقّق في المفردة الفقهيّة أو الأُصولية، وينقّب في حفريّاتها إلى درجة ملحوظة، حتى نحسب أنّ بعض ممارساته تحمل القارئ على الاستفسار عن مدى فائدة هذا الإسهاب أو التغلغل اللغوي...

المهم: خارجاً عن ذلك يجدر بنا الاستشهاد بنماذج من ممارساته، وهي نماذج إيجابية دون أدنى شك...

من ذلك، مثلاً: في بداية بحثه الأُصولي في باب ( التضارب ) بين الأخبار، أي ( التعارض ) وهو العنوان الذي انتخبه لبحث الظاهرة المذكورة، حيث صدّرها بهذه الفقرات:

( عنوان المسألة بباب ( التعارض ) كما صنّفنا، وفاقاً لبعض أولى من عنوانها بباب التعادل والتراجح؛ لما هو واضح من أنّها من عوارضه وأقسامه، إذ التعارض قد يكون مع التعادل، وقد يكون مع الترجيح، ومن المعلوم أنّ الكلّي المتعارض - مع غضّ النظر عن قسيميه - أحكاماً... مثل أولويّة الجمع مهما أمكن، وأنّ الأصل في المتعارضين ماذا؟ وغيرهما ) ثم يذكر جواباً لمَن يجد مسوّغاً للعنوان التقليدي، ويعترض على ما ورد في ( القوانين ) من العنوان القائل ( باب التعارض والتعادل والترجيح )... بعد ذلك يقول: ( لا يخفى أنّ التعبير بالتراجيح فيه مسامحة من وجوه، أحدها: أنّ معادل التعادل: التراجح لا التراجيح، إذ هو مأخوذ إمّا من العدل بمعنى الاستواء... إلى آخره )...

ثمّ يقطع صفحات متعددة لمواصلة بحثه عن مفردات المصطلح المذكور، بحيث يصل إلى ما يقارب عشر صفحات، وهو أمر قد لا نجد له ضرورة...

١٠٣

بغضّ النظر عمّا تقدّم، فإنّ مجرّد انتخاب عنوان شامل - كما صنع السيّد اليزدي يظلّ أفضل - بلا شك - من المفردات الثلاث، ممّا استخدمها الأُصوليّون قدامى وحديثين أيضاً...

وما دمنا نتحدث عن انتخاب ( العنوان ) وضرورة شموليّته وتعبيره عن الموضوع المبحوث عنه، نجد أنّ السيّد اليزدي يتّجه إلى مناقشة كثير من المفردات التي جعلها الفقهاء ( عنواناً ) لممارساتهم،... ومن ذلك مثلاً: ما نلاحظه في كتابه الاستدلالي التعليقي ( حاشية المكاسب ) حيث تعرّض لجملة من المفردات التي اعتبرها غير مفصحة عن طبيعة الموضوعات... ومن ذلك: عنوان ( حفظ كتب الضلال ) أو عنوان ( ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً ).. أو سواهما، حيث قال بالنسبة إلى العنوان الأخير:

( هذا العنوان إنّما يحسن إذا جعلنا المناط في النصوص ذلك، وتعدّينا إلى كلّ ما يكون كذلك، وأمّا على ما هو واقعه من الاقتصار على مواردها من السلاح أو مطلق آلات الحرب، فالأولى أن يقال ( وعدم بيع السلاح )، إذ المفروض خصوصيّة الموضع وعدم كون المناط ما ذكر من العنوان، فلا وجه للعنوان بما ليس موضوعاً ومناطاً... إلى آخره ).

والحقّ أنّ الملاحظة السيّد اليزدي صائبة، ما دمنا نعرف جميعاً: أنّ العنوان في البحوث العلمية يحتل أهمّيته الكبيرة من حيث انطوائه على موضوع محدّد وليس فضفاضاً... والأمر نفسه يمكننا ملاحظته في التعقيب على عنوان ( حفظ كتب الضلال ) حيث يتناول تعقيبه على العنوان المتقدّم مورداً آخر مضادّاً لسابقه هو: قصور العنوان عن استيعاب ما هو ( ضلال ) حيث لا يقتصر حظر الضلال على الكتب فحسب، بل يتجاوزه إلى المطلق؛ لذلك ينبغي تبديله إلى عنوان أشمل من الكتاب.

وفي هذا الصدد يقول: ( لا خصوصيّة للكتب في ذلك، فيحرم حفظ غيرها أيضاً ممّا من شأنه الإضلال.. فكان الأولى التعميم للعنوان ). هنا يحاول السيّد اليزدي توجيه العنوان المتقدّم بقوله: ( لعلّ غرضه المثال، لكون الكتب من الأفراد الغالبة لهذا العنوان، نعم يمكن الاستدلال على الخصوصية برواية ( الحذّاء ): ( مَن علّم باب ضلال كان عليه وزر مَن عمل به)... ونحن أيضاً يمكننا أن نوجّه إلى المؤلّف السيّد اليزدي نفس الإشكالية بالنسبة إلى

١٠٤

الرواية، حيث إنّ التعليم للضلال لا ينحصر في الكتاب، بل يشمل مطلق الخطاب الإعلامي من: خطبة أو كلام عادي... إلى آخره.

والمهم - في الحالات جميعاً - أن نشير إلى أنّ اهتمام السيّد اليزدي بالعنوان جعله يُعنى به من زوايا أُخرى مصحوبة بجملة نوافذ، ولعلّ تعقيبه أو تصدير ممارسته لظاهرة ( الوكالة ) - مثلاً - يوضح لنا منهجه في التعريف بالظاهرة من جانب، ثم مقارنة العنوان بما تماثله أو تخالفه من سوى ذلك، حيث إنّ تعريفه للظاهرة المبحوث عنها تفرض ضرورتها لكي تتبيّن دلالة الوكالة أو الهبة أو الوقف... إلى آخره، ولكنّ الأهم من ذلك هو: المقارنة مع غيرها من الظواهر في حالة ما إذا كانت ثمّة نقاط مشتركة بين العنوان المبحوث عنه وسواه، وهذا ما نلحظ في النص الآتي:

( الوكالة: وهي استنابة في التصرّف في أمرٍ من الأُمور في حال حياته، بخلاف الوصاية فإنّها بعد الموت. وقد يقال في الفرق بينهما: إنّ الوصاية إعطاء ولاية، وفي هذا الفرق تأمّل، بل منع. وأمّا الفرق بينهما وبين الوديعة فهو أنّها استنابة في الحفظ، بل لا يلاحظ فيها الاستنابة وإن استلزمتها، وأمّا بينها وبين العارية فواضح، وكذا المضاربة إذ حقيقتها ليست استنابة وإن تضمّنتها ( في الجملة ) ).

واضح من هذا النص أهميّة هذه الفوارق أو المشتركات بين الظواهر المشار إليها: العارية، الوصاية، الوديعة، المضاربة، حيث أوضح السيّد اليزدي السمات المشتركة المتمثّلة في ( الاستنابة ) بنحوٍ أو بآخر، مع الفوارق بين الاستنابة في مستوياتها وبين الوكالة، وبين ما ذكره من الظواهر...

على أيّة حال: ندع الآن هذا الجانب اللغوي بصفته مجرّد ( مقدّمة ) للدخول إلى الموضوع الرئيسي وهو: الممارسة الاستدلالية للظاهرة، واستخلاص حكمها، أو دلالتها، حيث نتجه إلى الخطوط التي تنتظم منهج السيّد اليزدي في ممارساته بنحو عام.

* * *

بالنسبة إلى الخطوط المنهجية، التي يمكن أن يستخلصها الدارس لممارسة السيّد اليزدي في تناوله للظاهرة الفقهيّة، تظل متفاوتة من ممارسة إلى أُخرى، بحسب ما يتطلّبه الموقف، فمثلاً: عندما يتناول الظواهر التي يعقّب بها على ( الأنصاري ) في حاشيته على

١٠٥

المكاسب، فإنّ تناوله يختلف بطبيعة الحال عن معالجته المستقلّة للظاهرة، كما هو ملاحظ في ( تكملة العروة ) حيث يتناول فيه الظاهرة استدلاليّاً بالقياس إلى العروة المتميّزة بفتاواها فحسب، كما يتناول الظاهرة استدلالياً في سائر نتاجه المتمثِّل في: ( منجزات المريض )، ( الظن ) ولكن بعامّة، ما دمنا نستهدف الإشارة إلى خطوط المنهج بحسب تسلسله؛ نلاحظ أنّ السيّد اليزدي بعد أن يتناول الظاهرة لغوياً، يتقدّم إلى طرح ( فتواه ) مصحوبة بالإشارة الإجمالية أوّلاً إلى الأدلة الرئيسة: الكتاب، السنّة، الإجماع، العقل. أو الأدلة الثانوية وفي مقدّمتها: ( الشهرة ) بحيث يعني بها بنحو ملحوظ، أو الدليل العملي... إلى آخره، ولكن ينبغي أن نشير إلى أنّ السيّد اليزدي عندما يتناول الظاهرة الفقهيّة العامة ( مثل: الأبواب الفقهيّة: الربا، الوكالة، الوقف، الضرر... إلى آخره ) فإنّه ليختلف عن معالجته لتفريعاتها أو مسائلها الجزئية، حيث يُعنى بالظاهرة العامة بالتعريف، وبتصدير ما يتطلّبه الباب من تعقيب أخلاقي، كما هو ملاحظ مثلاً في معالجته لظاهرة ( الربا ) حيث يعرض أوّلاً فتواه الذاهبة إلى التحريم، مشيراً إجمالاً إلى الأدلة الرئيسة على هذا النحو ( الربا المحرّم بالكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ) ثم يقول ( فمستحقّه داخل في سلك الكافرين، وأنّه يقتل.. )... إلى آخره، ثمّ يستشهد بروايات كثيرة تحوم جميعاً على إبراز العقاب المترتّب على ممارس الربا... وفي تصوّرنا أنّ تصدير ( الباب ) بأمثلة هذا البعد الأخلاقي؛ يجسّد ضرورة لا غنىً عنها من حيث أثرها على القارئ، حيث إنّ الهدف أساساً هو حمل الشخصية على معرفة الحكم وترتيب الأثر عليه، وهو: عدم ممارسة ما هو محرَّم أو مكروه... إلى آخره.

والآن، ما يهمّنا بعد الإشارة إلى مقدّمات الممارسة الفقهيّة من تحقيق لغوي وتعريف أخلاقي، ما يهمّنا هو: ملاحظة الأدوات الاستدلالية التي يستخدمها السيّد اليزدي في معالجته للظاهرة الفقهيّة، حيث تمثّل خطوط ممارسته على هذا النحو:

1 - تصدير الفتوى، مصحوبة بالأدلة الإجمالية في الغالب: كما لاحظنا في تصديره لظاهرة الربا، حيث قال: ( المحرّم بالكتاب والسنّة، وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ).. فهنا: إشارة إلى الأدلة الرئيسة.. جميعاً الكتاب والسنّة... إلى آخره، وقد يكتفي بدليل واحد: كالإجماع مثلاً، وهو ما يطبع غالبيّة نتاجه، مثل تصديره لظاهرة

١٠٦

وقف الكافر: ( لا يشترط في الواقف أن يكون مسلماً... بالإجماع ). أو السنّة مثل: ( الأقوى: صحّة وصيّة مَن بلغ عشراً للأخبار... ). أو بالعقل، أو بدليلين كالكتاب والسنّة، مثل: ( تعتد المتمتَّع بها... للآية:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ... ) والصحيح، أو بثلاثة: الكتاب، والسنّة، والإجماع ). لكن خارجاً عن هذه المستويات من الأدلّة ( الاستهلاليّة ) التي تتصدّر الفتاوى، فإنّ المهم هو: كيفيّة التعامل مع الأدلّة ذاتها، أي: كيفيّة تعامله مع الكتاب، مع السنّة، مع الإجماع، مع العقل، مع الشهرة، مع الأصل... إلى آخره.

بالإضافة إلى ( الأدوات ) التي يستخدمها في هذه الميادين، وفي مقدّمتها ( الظواهر اللفظية ) وسواها...

ونقف أوّلاً عند تعامله مع ( السنّة ) بخاصّة فيما يتصل بـ ( القول ) بصفته هو الغالب في التوكّؤ عليه بالقياس إلى ( التقرير ) و( الفعل )، وبصفته هو الغالب من الأدلّة بالقياس إلى الكتاب، والإجماع... إلى آخره، على أن نتّجه إليها فيما بعد...

إذن: لنتحدّث عن كيفيّة تعامل السيّد اليزدي مع ( الأخبار ) وهي - كما قلنا - المادة الغالبة في التعامل...

وهذا فيما يتصل بالأدلة الرئيسية: ( الكتاب، السنّة... إلى آخره )، أمّا ما يتصل بالأدلة الثانوية من: ( شهرة ) أو ( أصل )، فإنّ السيّد اليزدي يتوكّأ عليها بطبيعة الحال. أمّا استقلالاً أو ضمناً، أو توظيفاً، فمن أمثلته الأخيرة، مثلاً، بالنسبة إلى شرائط الواقف إذا بلغ عشر سنين ( المشهور على عدم صحّته لعموم ما دلّ... ) حيث إنّ السيّد اليزدي يوظّف دليل الشهرة ( وهو ثانوي ) لتجلية ( دليل رئيسي ) وهو: السنّة،... ولسوف نتحدث عن مستويات تعامله مع الأدلة المشار لها في حينه... سواء أكانت متصلة بالشهرة وأقسامها، أو بالأُصول العملية وسواهما، أمّا الآن فقد استهدفنا مجرّد الإشارة إلى أدوات السيّد اليزدي التي يستخدمها في ( استهلال ) أدلّته إجمالاً، حيث لاحظنا تفاوت ممارسته من حيث السعة وعدمها، بحسب متطلّبات المسألة ذاتها... والآن نتّجه إلى ملاحظة تعامله مفصّلاً مع ( الأخبار )، وفي هذا الميدان نقول:

يظلّ التعامل مع النص ( الأخبار ) - كما قلنا - أهم المحاور التي يرتكن إليها الفقهاء، يليها التعامل مع ( الأصل ) في أبواب بعض المعاملات أو غالبيّتها... ولكن ما يعنينا

١٠٧

الآن هو: التعامل مع النص... وأوّل ما يمكن ملاحظته هنا، هو: أنّ التعامل مع النص يندر أو يضؤل حجمه في حالة ما إذا كان الأمر مرتبطاً بتفسيره أو تأويله أي: استخلاص دلالته، ولكنّ العكس تماماً يتضخّم حجم التعامل مع النص في حالة ( تضاربه مع الآخر )، وهذا ما يجسّد غالبية الممارسات الفقهيّة... ولعلّ ما لاحظناه بالنسبة إلى السيّد اليزدي في جعل ممارساته الأُصولية منحصرة ( في نطاق التأليف ) في باب ( التعارض ) الذي قاربت صفحاته (600 )(1) ، يفسّر لنا أهميّته ومن ثمّ غالبيته الممارسة لهذا الجانب؛ لذلك، نحاول عرض المنهج الذي يتعامل السيّد اليزدي من خلاله مع النص ( المتضارب )، سواء أكان التضارب في نطاق الظاهر أي: التأليف بين الأخبار - الجمع العرفي أو نطاق الباطن ( التعارض ) المُفضي إلى طرح أحد المتضاربين - أو سقوطهما... إلى آخره.

ونبدأ أوّلاً بملاحظة تعامل السيّد اليزدي مع التضارب الظاهري، المُفضي إلى التأليف بين المتضاربين من خلال حمل أحدهما على الندب، أو الكراهة، أو التخصيص، أو التقييد، أو الحكومة، أو الورود... إلى آخره.

هنا، نجد أنّ ( السيّد اليزدي ) - امتداداً مع وجهة نظر ( الطوسي ) الذي عني عنايةً تامّة بمقولة: ( العمل بالخبر ما أمكن من الطرح ) حتى وصل به الأمر إلى أن يبالغ في تفسير أو تأويل المتضارب من النصوص، بما قد لا يحتمله النص، والمهم أنّ السيّد اليزدي يكاد يشدّد في هذا الجانب بنحوٍ ملحوظ، وهو ما نلحظه نظرياً ) في مقدّمة كتابه الأُصولي ( التعارض )، حيث يصرّح بذلك بسفور، أو ما نلحظه ( وهذا ) هو الأهم في تطبيقاته للقاعدة، حيث نجد أنّ كثيراً من الممارسين لا يسحبون نظريّاتهم الأُصولية على الممارسة التطبيقية فقهياً، وهو ما يحملنا على دراسة النص الفقهي التطبيقي، بدلاً من دراسة الخطوط النظرية لهذا المبنى الأُصولي أو ذاك.

ومع عودتنا إلى السيّد اليزدي في تعامله مع النصّين المتضاربين ظاهرياً، نجده - كما هو لدى الغالبية من الفقهاء - يُعنى بعملية الجمع العرفي ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهذا ما يمكننا أن نلاحظه من خلال النماذج الآتية، منها:

____________________

(1) انظر: بحث ( تصانيفه ومؤلَّفاته ).

١٠٨

الحمل على الاستحباب: مثل تأليفه بين الأخبار القائلة بعدم العدّة على غير المدخول بها، وبين القائل بها، حيث قال عن الأخير: ( وخبر عبيد محمول على الاستحباب... ). إنّ أمثلة هذا الحمل متوافرة بعدد هائل، إلاّ أنّ مستويات الحمل تظلّ متفاوتة من حين التوكّؤ على جملة عوامل،... منها: تأييد الحمل بأدلّة ثانوية من نحو العمومات والإطلاقات والأصل... إلى آخره، وهذا ما يمكن ملاحظته في ممارسته الذاهبة إلى عدم وجوب العدّة من السفاح، حيث ذهب صاحب الحدائق إلى وجوبها بموجب خبرين، فجاء الردّ على ذلك بقوله: ( وحمل الخبرين على الندب للأصل، وللعمومات، وإطلاق ما دلّ على جواز التزويج... إلى آخره )، ومن الواضح أنّ إرداف ( الحمل على الندب ) بأمثلة هذه الأدلّة، يمنح الممارسة ثقلاً أكبر من مجرّد الحمل غير المصحوب بالتعليل، وإن قلنا بأنّ الحمل العادي رسمه النص الشرعي ليس مجرّد مبنىً يعتمده هذا الفقيه أو ذاك من خلال تذوّقه... ومنها:

الحمل على الندب - أيضاً - لكن من خلال التردّد بين محامل متعددة، وهذا ما نلحظه في تأليفه بين الطائفة القائلة بتعدد العدّة مع تعدّد السبب، والقائلة بالتداخل، حيث ذهب المؤلّف إلى التداخل، وحمل الطائفة الأُولى على مترددين، قائلاً: ( فتحمل على الندب أو التقية... )، بيد أنّ السؤال هنا هو: هل أنّ الحمل على الندب يحمل مسوّغاته في هذا المورد؟ بخاصة أنّ المؤلّف عندما ردّد بين الندب وبين التقية، رجّح التقية على الندب، من خلال استشهاده بحادثة لأحد خلفاء العامّة، كما استشهد بخبرين من خلال تصريح المعصوم (عليه السلام) بالتداخل جواباً على القائل بتعدّد العدّة.

ومن البيّن أنّ هذه القرائن من حيث وضوح أرجحيّتها ( وهي: التقيّة ) حينئذٍ فإنّ الحمل على الاستحباب يفقد مسوّغه، إلاّ إذا انسقنا مع الاتجاه الفقهي الذاهب إلى أنّ التردّد أو تعدّد الأدلّة من رجحان بعضها على الآخر لا غبار عليه؛ لأنّه مجرّد فرضيّة يتطلّبها النقاش، أو مجرّد طرح يحتمل أحد مصاديقه: إمكانية الصواب.

خارجاً عن ذلك، إذا ذهبنا لمتابعة تعامل المؤلِّف مع ( الحمل على الندب ) في مستوياته المتنوّعة، نجد أنّه يعرض إمكانية الحمل على الندب، ولكنّه مع تحفّظ هو: استبعاده، ففي معالجته لعدّة المتمتَّع بها يطرح الأقوال المعروضة في الظاهرة، وهي أربعة أقوال، منها: القول الأوّل حيث رجّحه ( وأيضاً )، القول الثاني: وأسقط القولين

١٠٩

الآخرين وقال: ( الأقوى هو الأوّل، لرجحانه بالشهرة، وشذوذ الثاني، مع أنّ مقتضى الاستصحاب على فرض التكافؤ هو الأوّل، وإن كان يجوز الجمع بينهما بحمل أخبار الأوّل على الاستحباب لكنه بعيد... ). ما يهمّنا هو: فقرته الأخيرة الذاهبة إلى إمكانية الحمل على الاستحباب، واستبعاده ذلك..

وبغض النظر عن ترجحه بالشهرة، وطرح الآخر لشذوذه، وذهابه إلى اقتضائية ( الاستصحاب ) حيث سنتحدث عن هذه ( الترديدات ) في حينه - إن شاء الله - بغضّ النظر عن ذلك، فإنّ إمكانية حمل الخبر المتضارب مع الآخر على الندب، وفي نفس الوقت استبعاده يظلّ واحداً من أشكال التعامل مع ظاهرة ( الجمع العرفي ).

وما دام هذا النص من حيث استبعاده للحمل على الاستحباب، يشكّل تحفّظاً حيال الجمع العرفي المذكور، فإنّ المؤلّف في سياقات أُخرى، يتجاوز التحفّظ إلى الرفض: عندما يناقش الأقوال التي تحمل الخبر على الندب، في حالات لا يساعد السياق على ذلك، ومنه مثلاً: في معالجته للمتوفّى زوجها من حيث العدّة يستشهد بطائفتين، تتحدث أحدهما: عن أنّها تبدأ مع بلوغ المرأة خبر وفاته، والطائفة الأُخرى: عن غير ذلك، حيث جمع صاحب المسالك بينهما على الاستحباب، والحمل على التقيّة عند ابن الجنيد، وآخر: التفصيل.

وعقّب المؤلّف على الرواية الأُخرى: (... شاذّة محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها )، (... ولا الجمع بين الفرقتين بحمل المتقدّمة على الاستحباب... ).

إذن: يتفاوت المؤلّف في تعامله مع ظاهرة ( الجمع العرفي ) من خلال العمل على الندب: بين اليقين والترديد والتحفّظ والرفض بحسب متطلّبات السياق.

وإذا اتجهنا إلى الجمع العرفي المقابل للندب وهو الكراهة، حينئذٍ فإنّ العملية ذاتها نلحظها في ممارسات المؤلّف.

وهذا من نحو ممارسته التي تساءل فيها عن جواز أو عدم ذلك، بالنسبة إلى الوكيل الذي أمره موكِّله بأن يدفع مالاً إلى عنوان ينطبق عليه، حيث ذكر المؤلّف قولين في ذلك، كما ذكر روايتين متضاربتين لراوٍ واحد، موضِّحاً بأنّ المانعة لا تقاوم المجوِّزة، معقِّباً على المانعة: ( فينبغي أن تُحمل على الكراهة، بل هو مقتضى الجمع العرفي الدلالي )، وإذا كان السيّد اليزدي ينصّ على ( كراهة ) النص المضارب في الممارسة

١١٠

السابقة، فهو ( يحتملها ) في الممارسة القائلة: ( لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الربا في غير المكيل والموزون مطلقاً، بل يمكن حمل كلام المفصِّلين أيضاً على الكراهية... ).

وأمّا الترديد بينها وبين سواها، فيمكن ملاحظته في ممارسته القائلة ( في باب الوكالة ) بكراهة بيع ما لديه من المواد لموكِّله، حيث ينقل جواز ذلك للأخبار، ويضيف ( وأمّا الأخبار المانعة محمولة على الكراهة )، ثم يعلّل ذلك أنّ ذلك يعرّض الوكيل للتهمة والخديعة، قائلاً: ( كما يُشعر على فهم بعض تلك الأخبار، لكن الأحوط مع ذلك ).

فهنا نجد المؤلّف قد التجأ إلى ( الحمل على الكراهة ) ترديداً بينها وبين الاحتياط، حيث يعني: الاحتياط ترجيح الحرمة لديه... وفي هذه الممارسة نلحظ سوى الترديد بين استخلاصين، ظاهرة ثالثة لاحظناها أيضاً عندما تحدثنا عن ( الحمل على الاستحباب ) حيث أردف في بعض ممارساته: الحمل بتوضيح الأسباب المفضية إلى الجمع... هنا أيضاً: يردف حمله على الكراهة، بالركون إلى الأخبار الأُخرى التي توحي بدلالة الكراهة...

وإذا كان المؤلّف هنا يتردّد بين استخلاصين، فإنّه في الممارسة الآتية يتردّد بدوره، ولكن يتّجه إلى التعليل لأحد المتردّدين ممّا يشكّل سمة سلبية، كما لاحظنا ذلك عند حديثنا عن ( الحمل على الاستحباب ).. يقول المؤلّف عبر بحثه عن إحدى المسائل المتعلّقة بـ ( الربا ): ( فتحمل على الكراهة في النسيئة ) أو على التقيّة؛ لأنّ التفصيل مذهب العامّة. واضح أنّ الترديد هنا - كما لاحظنا في حمله الظاهر على محمل الندب. وتفصيله للآخر بين الكراهة وبين التقيّة، لا يجيء لصالح الكراهة بل التقيّة؛ لأنّ التعليل الذي قدّمه وهو: أنّ التفصيل هو مذهب العامّة، يفصح عن تفضيله للتقيّة، كما هو واضح؛ لذلك لا معنى لحمله على الكراهة، وهذا ما يسجّل على المؤلّف.

المهم: أنّ الخطوات التي قطعها المؤلّف في تعامله مع ( الحمل على الاستحباب ) يمارسها أيضاً في تعامله مع الحمل على الكراهة - كما لاحظنا ذلك - ومنها: ظاهرة ( التحفّظ ) أو الرفض لما يحتمله فقيه آخر في ممارساته، ومنهم: المقدّس الأردبيلي، في حمله على الكراهة في بعض مسائل الربا، وهي مسألة أنّ المواد

١١١

الأصلية والمتفرّعة من الشيء تتماثل حرمة الربا فيها، كالدقيق والسويق مثلاً، ومطلق ما هو أصل وفرعي، حيث استدلّ عليها بالأخبار مقابل أخبار معارضة، حيث حملها الأردبيلي على الكراهة، فقال: ( بحمل الأخبار المذكورة على الكراهة )، هنا عقّب المؤلّف على الحمل المذكور وسواه، بأنّ المراد ليست جميعاً محكومة بهذه السمة؛ لأنّ الحليب ومتنوّعاته مثلاً ليست كالدقيق والسويق؛ لذلك فإنّ الأظهر التفصيل بين المادتين... إلى آخره، وبذلك يكون المؤلّف قد رفض ذلك الحمل ( أي الكراهة ).

المهم: نكتفي بما ذكرناه من الظواهر المتّصلة بحمل أحد المتضاربين من الأخبار على الكراهة أو الندب، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.

* * *

أمّا الآن فنتّجه إلى حلّ آخر للتضارب الظاهري بين الأخبار، وهو الحمل المؤدّي بالتأليف بينها من خلال حمل المطلق والعام، والمجمل على المقيد، والخاص والمفصّل، وهو باب واسع من الأبواب البحثيّة التي يتوفّر الفقهاء عليها.

إذن: لنلاحظ تعامل السيّد اليزدي مع أمثلة هذه المحامل... طبيعياًَ، أنّ الحمل على المقيد والخاص والمبيّن، بالنسبة إلى الخبر المطلق والعام والمجمل، يختلف عن الحمل السابق، أي الندب أو الكراهة، من حيث إنّهما ( يفاضلان ) بين خبر على آخر، بينما نجد محامل المقيّد والخاص والمبيّن، تقوم على إلقاء الإضاءة من أحدهما على الآخر، حيث إنّ المقيّد يلقي بإنارته على المطلق، وهكذا سواه، فيتمّ التأليف بين المتضاربين على مستوى الدمج بين الروايتين، وليس الفصل بين فاضل ومفضول ( كما هو شأن الحمل على الندب أو الكراهة )...

المهم: يجدر بنا أن نستشهد ببعض الممارسات لدى السيّد اليزدي في هذا الميدان... ومنها، مثلاً: في ميدان الحمل البسيط للعام على الخاص، ذهابه ( وهو يناقش الأنصاري في مكاسبه ) بالنسبة إلى الأحكام المتّصلة بالأرض من حيث صلتها - حالة الفتح - بإذن الإمام (عليه السلام) أو عدمه، مستشهداً برواية ( خاصّة ) لابن وهب تذهب إلى أنّ الأرض المفتوحة إذا كانت بإذنه (عليه السلام) يأخذ الإمام (عليه السلام) الخمس، ويأخذ المقاتلون نصيبهم منه، و... ويعلّق على الرواية بقوله: ( فهي صالحة لتخصيص الآية ) أي آية الخمس:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... ) وأمّا في ميدان الممارسة

١١٢

المركّبة، فيمكننا ملاحظة ذلك في الممارسة الآتية التي يتوكّأ المؤلّف فيها على حمل المطلق على المقيّد، والمجمل على المفصّل، وهو يرتبط بعدّة المرأة التي فُقد زوجها، يقول السيّد اليزدي بعد نقله للأقوال، وإشارته إلى اختلاف الأقوال من أنّها راجعة إلى اختلاف الأخبار ذاتها، قائلاً: ( والحاصل أنّه يحمل المطلق منها على المقيّد، والمجمل على المفصّل فيصير الحاصل أنّ عند انقطاع خبره... ) إلى آخره. وهذا أُنموذج واضح لعمليّات التأليف بين النصوص، وتتميّز هذه الممارسة بأنّها تجمع بين أخبار متضاربة متنوّعة، وليس بين طائفتين فحسب؛ لذلك تجسّد ممارسة مركّبة وليس بسيطة لعملية التأليف بين النصوص، فهو يقول تعقيباً على طوائف الأخبار التي أوردها:

( إنّ مقتضى الجمع بين الأخبار المذكورة لزوم الطلاق بتقييد خبر سماعة بسائر الأخبار، ولزوم كون العدّة عدّة وفاة بتقييد أخبار الطلاق بخبر سماعة والمرسل، ولزوم رفع الأمر إلى الحاكم وكون ضرب الأجل بتعيينه، وكون ابتداء الأجل من حين ضربه، بتقييد خبر الحلبي وخبر أبي الصباح بخبر بريد وخبر سماعة ).

إنّ هذه الممارسة التي سمّيناها ( بالحمل المركّب ) مقابل الحمل المفرد أو البسيط الذي يحمل خبراً مطلقاً على خبر مقيّد، أو عامّاً على الخاصّ، أو المجمل على المفصّل؛ يكشف لنا عن براعة السيّد اليزدي في تأليفه الموفّق بين نصوص متضاربة.

هنا يحسن بنا أن نقدّم نموذجاً مفرداً بسيطاً لملاحظة ما قلناه من أنّ الحمل الذي يتوكّأ على إضاءة خبرين متضاربين بخبر ثالث، حيث يمكننا أن نستشهد بالممارسة الآتية، وهي: تأليف السيّد اليزدي بين نصّين متضاربين، يؤيّد أحدهما بأنّ المؤلّف بينهما من خلال الإشارة إلى نصٍّ ثالث وهو مرسلة ابن عمير، التي رسمت الفارق بين المرأة القرشية، وحدّدها بالستين، والعاميّة: وحدّدها بالخمسين.

المهم: أنّ أمثلة هذه التأليفات بين النصوص من خلال إلقاء أحدهما الإنارة على الآخر تقتادنا إلى أمثلة أُخرى، منها: ما يطلق عليه مصطلح ( الحكومة ) و( الورود )، حيث يعني الأوّل منهما أن تكون الرواية ( الحاكمة ) قبالة الأُخرى، محدّدة لموضوعها، والرواية ( الواردة ) رافعة للموضوع. وهذان المصطلحان يندر التوكّؤ عليهما في الممارسات الفقهيّة، حيث يردان على استحياء على ألسنة بعض الفقهاء، ويمكننا بالنسبة

١١٣

إلى ( الحكومة ) ملاحظة ما سبق أن استشهدنا به في ممارسته المرتبطة بالأرض المفتوحة بإذن المعصوم (عليه السلام)، أو عدمه، حيث يعقّب - بعد تخصيصه عموم الآية - باحتمال آخر هو ( حكومة ) الرواية المتحدثة عن إذن الإمام (عليه السلام) وعدمه، بالقول: ( بل يمكن دعوى حكومتها على العمومات الدالّة على كون ما أُخذت عنوة للمسلمين )...

* * *

تبتغي الإشارة سلفاً إلى أنّ التعادل التام يضؤل حصوله بالقياس إلى الأرجحية لخبر - دون مقابله: كالأرجحية - كما هو معروف - بأحد الوجوه المشار إليها.. وإذا كان ثمّة تفاوت لاحظناه بين الفقهاء بالنسبة إلى أرجحيّة أحد المرجّحات، في حالة عدم التعادل، فإنّ نظرات الفقهاء تتفاوت بدورها بالنسبة إلى التعادل بين طرفي المتضاربين، حيث يذهب بعضهم إلى التساقط، والآخر إلى التخيير... إلى آخره.

ويلاحظ أنّ السيّد اليزدي كما ذكر ذلك في كتابه الأُصولي - وكما لاحظناه في نص ممارساته التطبيقية - يجنح إلى ( التخيير )، ولكن بما أنّ التعادل - كما قلنا - يضؤل حصوله بالقياس إلى عدم التعادل، حينئذٍ فإنّ المهم هو: أن نتّجه إلى هذا الجانب من ممارسات السيّد اليزدي.

فماذا نستخلص؟

* * *

كما قلنا: السيّد اليزدي لا يُرجّح مرجّحاً على آخر إلاّ ما يتطلّبه السياق، حيث لا ترتيب بين المرجّحات.. هذا من جانب.. ومن جانبٍ آخر: يجدر بنا ملاحظة أي المرجِّحات يتكاثر على سواه في ممارساته.. حيث يبدو أنّ ( مخالفة العامّة ) و( الأشهرية ) يطغيان على المرجحين الآخرين: الأوثقية، والموافقة، مع تحفظنا على ما استخلصه من ( الأشهرية ) من الفتوى أو الرواية أو كلتيهما...

أمّا سبب ندرة الترجيح بموافقة الكتاب، فلأنّ الكتاب الكريم أساساًَ لا يتضمن جميع الأحكام وتفصيلاتها حتى يركن إليه في كل حادثة وهذا ما يتماثل فيه تناول السيّد اليزدي سواه... ولكن بالنسبة إلى ضئالة الترجيح بالأوثقية، فثمّة تفاوت بين السيّد اليزدي - ويشاركه آخرون كثيرون - بين آخرين من حيث التشدّد في السند وعدمه، ومن

١١٤

حيث الارتكان إلى مرجّح ( الشهرة ) أو عدمه، حيث يعدّ اليزدي من النمط الذي يُعنى بالشهرة في الفتوى غالباً - كما سنلاحظ - ويتوكّأ عليها كثيراً في ممارساته، ولا يُعنى بالأوثقيّة إلاّ في الدرجة الثانية، كما أنّ تعامله مع ( الأكثرية ) - الشهرة في الخبر - يشكّل في الدرجة الأدنى: مع أنّه يستخدمها - أي مرجّح الأوثقية والأكثرية - في سياقات خاصّة، ومنها: ما يتّصل بالاحتياط مثلاً، أو حتى في سياق سواه إذا كان اليزدي مناقشاً بالتفصيل أقوال الآخرين في المسألة، حيث يجعل من الأكثرية والأوثقية مرجّحاً ( مؤيّداً ) وحتى ( أصلياً ) في حالة عدم حصوله على مرجّح الأشهريّة أو المخالفة.

* * *

ما تقدّم، يجسّد ملاحظات على الممارسة الفقهيّة الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة ظاهرياً، حيث يتّجه الفقيه إلى الجمع الدلالي ما وجد إلى ذلك سبيلاً. أمّا الآن فيمكننا ملاحظة الممارسات الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة باطنياً أو داخلياً، حيث يتعادل المتضاربان المتضادان في خصائصهما الخبرية، بحيث لا يترجّح طرف على آخر، أو يترجّح أحدهما على الآخر، بخصّيصة أو أكثر، وهذا ما يشكّل - كما أشرنا - غالبية الممارسات الفقهيّة، بخاصّة: أن النصوص الشرعيّة كما هو واضح، رسمت للفقيه طرائق العلاج للخبرين المتضاربين المتضادين، عبر نصوص متنوّعة تتحدث حيناً عن المتكافئين، فترسم له حلولاً للتخيير أو التوقّف.. وترسم حلولاً للراجح منهما من خلال: الأوثقية والأشهرية، ومخالفة العامّة، وموافقة الكتاب؟.. وهذا ما يتوفّر الفقهاء عليه بطبيعة الحال، إلاّ أنّ التفاوت في وجهات النظر من حيث الأرجحية لأحد المرجّحات فيما بينها، فيما ذهب بعضهم إلى ترتيب خاص ورد في النص، وذهب البعض الآخر إلى عدم الترتيب، ومن ثمّ فإنّ الغالبية من الفقهاء تذهب إلى الرأي الثاني، بحيث تُقرّ أنّ الفقيه بحسب ما يراه السياقات المتنوّعة التي يرد فيها الخبران المتضاربان، حيث يتحرك بحسب خبرته الذوقية للنصوص، فربّما يبدأ بترجيح الأوثقية، أو الأشهرية، أو المخالفة، أو الموافقة.. وهذا في تصوّرنا هو الموقف الصائب؛ لسبب واضح وبسيط جداً هو: أنّ الأخبار العلاجية لا تقف عند نصيّ ابن حنظلة وزرارة اللذين ورد فيهما ترتيب خاص، بل ثَمّة نصوص متنوّعة أُخرى، لا تردّ فيها سلسلة المرجّحات المذكورة في الروايتين المذكورتين كالاقتصار مثلاً على

١١٥

مخالفة العامّة، أو غيرها من المرجّحات، ممّا يكشف ذلك من أنّ الأولوية لمرجّح دون آخر، في الحالات جميعاً، لا يمكن أن يكون صائباً..

وبالنسبة إلى السيّد اليزدي، نجده يذهب إلى الاتجاه ذاته من خلال كتابه الأُصولي الكبير ( التعارض ) حيث بحث ذلك نظرياً، من خلال ممارساته الفقهية، كما بحث ذلك تطبيقيّاً وهذه - أي البحوث التطبيقيّة - هو: ما نعتمد عليه الآن في ملاحظاتنا على ممارسة اليزدي، وأمّا كتابه النظري البالغ (600 ) صفحة فلا شغل لنا به لكونه ( نظرية ) وليس ( تطبيقاً ذا ثمرة عملية ).

إذن: لنتحدث عن هذا الجانب، أي: تعامل السيّد اليزدي مع ظاهرة ( التقيّة ) في الغالب مع ضم مرجّح آخر، كما يتعامل على مستوى الاحتمال حيالها، ويتعامل ثالثة مع التردّد حيالها، ويتعامل رابعة: مع رفضٍ لها عند مناقشته الآراء الفقهيّة... وأخيراً: يتعامل مع التقية عبر حالتين، إحداهما غير مشفوعة بالتعليل، بل لمجرّد مخالفة الخبر الذي يرجّحه لفتوى العامّة، والأُخرى يشفعها بقرينة أو بأكثر ويبرع فيها غالباً..

ونستشهد بنماذج في هذا الميدان؛ منها:

- فيما يرتبط بتعامله مع ( التقيّة ) مشفوعة بمرجّح آخر، ينتخبه غالباً من خلال ( الخبر الشاذ ) حيث إنّ إيمانه بالشهرة يدفعه إلى الثقة في رفض مقابله وهو: الشذوذ، وهذا ما نلحظه - مثلاً - في ممارسة تتّصل بعدّة الأمَة، حيث ينقل طائفتين وأقوالاً حيال ذلك، حيث رفض خبراً عمل به ابن الجنيد، ويعقّب على الرواية قائلاً: ( شاذّة، محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها كما عند ابن الجنيد... ).

- وأيضاً نلاحظ ممارسة أُخرى يحمل خلالها الرواية على التقيّة، مشفوعة بشذوذها، وهي تتّصل بعدّة المتمتَّع بها، والمتوفَّى عنها زوجها، حيث يرفض خبراً يقول بعدم العدّة في حالة عدم الممارسة، قائلاً: ( فلا عامل به، ومحمول على التقيّة ).

إلاّ أنّ السيّد اليزدي هنا يشفع حمل الرواية على التقيّة بتعليل يُستخلص من رواية أُخرى، وهو أمر يضفي الأهميّة على هذا الحمل، يقول: ( كما يظهر من خبر عبيد، عن زرارة، عن رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها، أعليها عدّة، قال: لا، قلت: المتوفّى عنها زوجها قبل أن يدخل عليها، قال: أمسك عن هذا، وفي خبر ( كفّ عن هذا ).. حيث إنّ التقيّة من الوضوح فيها بمكان كما قلنا: أمثلة هذا الاستخلاص يكشف عن البراعة

١١٦

في الممارسة الفقهيّة.

وإذا كان السيّد اليزدي في هذه الممارسة الفقهيّة يستخلص ( لغة التقيّة )، فإنّه في ممارسات أُخرى يكتفي - كما أشرنا - بمجرّد المخالفة، ولكنّه حيناً يصرّح بتوجيه ذلك من خلال السياق الذي ترد فيه فتوى العامّة، حيث نعرف بأنّ الأزمنة والأمكنة تتفاوت - من حيث حكّامها وفقهائهم وقضاتهم - فتتكيّف ( التقيّة ) تبعاً للسياق ذاته، فمن ذلك مثلاً: ما يجسّد فتاوى بعض من العامّة بالنسبة إلى عدّة الأمَة المتوفّى عنها زوجها، من حيث تضارب الأخبار حيث يعقّب: و( الأقوى الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقتها لعموم الكتاب ومخالفتها للعامّة؛ لأنّ مذهب جماعة منهم على التفصيل كما ذكر )... فهذا التعقيب الأخير يفصح بوضوح عمّا ذكرناه من أنّ السياقات المختلفة للموضوع تفرض أمثلة هذا الموقف.

ومع أنّ هذه الممارسة ذكرت إلى جانب مرجّح ( المخالفة ): مرجح الموافقة للكتاب، إلاّ أنّنا استهدفنا بمجرّد الاستشهاد بنماذج من ممارسات اليزدي بالنسبة إلى التعامل مع التقيّة وسياقاتها.

وهذا يقتادنا إلى مستوى آخر من الممارسة، هو - ما ألمحنا قبل سطورٍ إليه - ضمّ المرجّحات الأُخرى إلى مرجّح التقيّة، حيث لاحظنا خلال النماذج المتقدّمة، ضمّ الشهرة إليها، وضم الموافقة للكتاب، وسنرى عند حديثنا عن الحصيلة العامّة لممارسات السيّد اليزدي، من حيث توفّره حيناً على المسألة من وجوه شتّى، بحيث يستخدم أدوات الاستدلال الرئيسية والثانوية وكلّ ما وسعه من الأدلّة في ظاهرة واحدة، لكن حسبنا أن نشير الآن إلى ما يرتبط بموضوعنا وهو ( التقيّة ) بضم الأدلّة المتنوّعة للظاهرة التي يستهدف استخلاص الحكم من خلالها، ولكنّنا نؤجّل الحديث عن ذلك إلى فقرة أُخرى من بحثنا... لكن إذا كانت هذه المستويات من الحمل على التقيّد تجسّد مبنى هو: ( الضمّ )، فإنّ المبنى الآخر يجسّد ( احتمالاً ) فيها: أي الحمل على التقيّة، وهو أمر نلحظه بوضوح في ممارسات متنوّعة، ومنها: الممارسة الآتية التي تتضمّن ما لاحظناه في الممارستين السابقتين، من استخلاص التقيّة من خلال الإشارة إلى رواية أو قول يشكّلان قرينةً على ذلك، ففي الممارسة الآتية نلحظ الظاهرة ذاتها، مع مستوى آخر من مستويات الحمل على التقيّة هو: التردّد بين اثنين من المحامل أو

١١٧

أكثر، وهذا من نحو ما ورد في موضوع الربا من مناقشة جاء فيها التعقيب الآتي: ( فتحمل على الكراهة في النسيئة، أو على التقيّة... )، فهنا ( تردّد ) بين حملين، بينما لاحظنا في النصوص السابقة ( جمعاً من المحامل أو ضمّ بعضها إلى الآخر... )

ونتّجه إلى مستوى آخر من الممارسات، ومنها:

ثَمّة مستوى يتعامل مع التقيّة من خلال ( الاحتمال ) وهو مبنىً لاحظناه عند المؤلّف في تعامله مع الجمع الدلالي للنصوص، والمهم: يمكننا أن نستشهد بنموذج هنا، هو: ممارسته المتّصلة بباب الربا في أحد موضوعاته: ( فتناسب حملها على الكراهة، ويمكن حملها على التقيّة؛ لأن المنع مذهب العامّة... ).

إذن: لاحظنا أنّ مستويات التعامل مع ( التقيّة ) تظل متفاوتة من ممارسة أُخرى على النحو الذي تقدّم الحديث عنه.

ويمكننا أن ننتقل إلى مستوى آخر من تعامله مع التقيّة، وهو: أرجحيّة الخبرين كليهما، أحدهما على الأُخرى من خلال ( التقيّة )، مع كون الترجّح الآخر: احتمالياً، وهذا ما نلاحظه في ممارسة سبق أن استشهدنا بها، عندما قلنا أنّه يعللّ في قسم من ترجيحه لمخالفته العامّة، بالإشارة إلى أنّ قسماً من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر؛ فلذلك رفضه من خلال الحمل على التقيّة، ولكنّه من جانب آخر احتمل ( التقيّة ) أيضاً؛ لأنّ البعض الآخر من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر الذي رجّحه المؤلّف، وبهذا نستخلص نمطاً آخر من التعامل، حيث يمكننا أن نقول: إنّ قيمة هذه الممارسة تتحدّد بقدر ما يحمل ( الاحتمال ) من درجة...

لكن ينبغي ألاّ نغفل عن ملاحظة مستوى آخر هو: رفضه للحمل على التقيّة في بعض ممارسات الفقهاء، وهو أمر تجدر الإشارة إليه، بل لابدّ من الاستشهاد ببعض النماذج لملاحظة المسوّغات التي تدفعه إلى الرفض، بخاصّة أنّنا شاهدنا غالبية نماذجه يقرنها بما يتناسب مع الحمل المذكور، كالإشارة إلى أنّ ( المنع ) مذهب بعض العامّة، وأنّ التفصيل في العدّة على مذهب بعضهم، وأنّ الروايات ذاتها تتضمّن دلالة التقيّة... إلى آخره.

إذن: لنستشهد بما اعترض عليه من ممارسات الفقهاء بالنسبة إلى التقيّة... ومن ذلك:

١١٨

ما دام الحديث عن ( مخالفة العامّة ) يتداعى بالذهن إلى ملازمه وهو موافقة الكتاب، فإنّ الموقف يستلزم المرور عليه سريعاً؛ لأنّ الترجيح المذكور ذاته ( كما تمّت الإشارة إليه ) يظل محدوداً بمحدودية آيات الأحكام في القرآن... في نطاقات ما لاحظناه في ممارسات السيّد اليزدي، فإنّ الموافقة للكتاب تجيء لديه غالباً مقترنة بمرجّحٍ آخر: كمخالفة العامّة ذاتها، أو مقترنة بموافقة السنّة، حيث إنّ الأخبار العلاجية - كما هو معروف - تشير إلى المرجّح المذكور من خلال كونه سنّة قطعيّة بالقياس إلى ما يخالفها.

والمهم: يمكننا أن نستشهد بأمثلة هذه النماذج في ضوء استشهادنا ببعضها في فقرات سابقة من هذا البحث، ومنها:

ما يتصل بالخلاف الروائي في عدّة الأمَة المتوفّى زوجها، حيث رجّح المؤلّف العدّة المتمثلة في الأربعة أشهر وعشرة أيام، مقابل الخمسة والستّين يوماً، فيما عقب - كما لاحظنا سابقاً - قائلاً: ( الأقوى: القول الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقة الكتاب... و... ).

والأمر نفسه تمكّننا ملاحظته إلى ما سبقت الإشارة إليه، وهي الممارسة المتّصلة التي جمعت بين ترجيحات متنوّعة ملفتة للنظر حقّاً، ونعني بها: الممارسة التي تحدثت بالنسبة إلى موضوع ( منجّزات المريض ) وصلتها بما هو محظور أو مباح من التصرّفات، حيث رجّح أحد طرفي المسألة بجمّلة مرجّحات، ومنها المرجّح الآتي الذي يطلق عليه ( المرجّح المضموني ) متمثّلاً في موافقة الكتاب، حيث يقول بعد أن يتحدث عن المرجّحات الأُخرى: ( وأمّا من حيث المضمون فلتأيّدها - أي الأخبار التي رجّحها المؤلّف - بالقاعدة القطعية المستفادة من الكتاب و... ).

وإذا كان اليزدي في الممارستين السابقتين يجمع إلى الكتاب مرجّحات أُخرى، فإنّه في الممارسة الآتية يكتفي بمرجّح الكتاب، ولكن مع تحفّظ في الدلالات المستخلصة من النص القرآني الموافق لأحد طرفي الأخبار، يقول المؤلّف معقِّباً على رواية تسمح للزوجين بأن يرجع على الآخر في ( الهبة )، مقابل ما ذهب المؤلّف إليه من عدم جواز ذلك، تبعاً لنصوص تقرّر ذلك، ومنها: رواية صحيحة مقابل الصحيحة المانعة، يقول: ( ولكنّه - أي خبر صحيح - لا يقاوم الصحيحة السابقة ). بعد ذلك يحتمل

١١٩

دلالة خاصّة، ويضيف: ( مع أنّ الصحيحة موافقة للكتاب بناءاً على أنّ المراد بـ( ما آَتَيْتُمُوهُنَّ... ) أعم من الصدقة والهبة... ).

* * *

ولعلّ الترجيح بمصطلح ( الشهرة ) يظل من أكثر الترجيحات خلافاً بين الفقهاء، حيث فهم بعض منهم أنّ المقصود من ذلك: الشهرة الروائية، وفهم البعض الآخر: الشهرة في الفتوى بنمطيها: الفتوى المستندة إلى نص، وغير المستندة، ممّا يطلق عليها: الشهرة العملية في اصطلاح المعنيّين بهذا الشأن.

بَيْدَ أنّ الشهرة في الرواية تظل - هي الأكثر احتمالاً من غيرها، أو لنقل: إنّ الشهرتين الأُخريين: الفتوائية والعملية من الممكن أن تندرج ضمن مصطلح ( الشهرة )، وهو المصطلح الذي ورد في الأخبار العلاجية مثل: ( ما اشتهر )، ( المُجمع عليه )... إلى آخره، حيث إنّ الأمر بالمشهور أو المُجمع عليه بن الأصحاب هو: الراجح على الخبر الآخر...

وسبب الذهاب إلى أنّ الشهرة في الرواية تتصدّر الاحتمال هو: أنّ زمن المعصومين (عليهم السلام) لم يكن زمن ( فقهاء مجتهدين ) - كما هو في عصر الغيبة، بل زمن ( رواة ) عن المعصومين (عليهم السلام)، حيث إنّ الراوي يسمع من المعصوم (عليه السلام) كلاماً، فيسجّله أو ينقله إلى الآخرين، فيكون الكلام المنقول هو المادة التي يتوكّأ عليها المعنيّون بهذا الشأن... وبكلمة أكثر وضوحاً: إنّ ( الفتوى ) عصرئذٍ على ( متن ) الرواية، وليس اجتهاداً بالمعنى الاصطلاحي...

صحيح، أنّ بعض المبادئ أو القواعد الفقهيّة قد نثرها المعصوم (عليه السلام) أمام الراوي، كأن يأمر (عليه السلام) أحدهم بأن يجلس في المسجد ويفتي الناس، أو يخاطب أحدهم بأنّ علينا الأُصول وعليكم الفروع، أو يقرّر لأحدهم قاعدة نفي الحرج وأمثالها، وصحيح أنّ بعض الرواة كتب دراسة عن الأًُصول اللفظية: كما ينقل المؤرِّخون، إلاّ أنّ ذلك جميعاً لا يشكّل مبادئ نظرية كاملة، يعتمد عليه الأصحاب في استخلاص الحكم الشرعي...

وفي ضوء هذه الحقائق، يجيء الحديث عن ( الشهرة ) أو بحسب ما ورد من التعبير ( ما اشتهر ) أو ( المُجمع عليه )، منسحباً على المعنى المذكور، وهو: الفتوى على متن الرواية التي يتناقلها الأصحاب عن المعصوم (عليه السلام).. وليس الفتوى الاجتهادية،

١٢٠

معجزات الشهادة في ضمير الإسلام

ليتَ أشياخي ببدر شهدوا

جزعَ الخزرجِ من وقع الأسلْ

لأهلّوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيدُ لا تُشلْ

قد قتلنا القرمَ من ساداتِهمْ

وعدلناهُ ببدرٍ فاعتدلْ

لَعبتْ هاشمُ بالمـُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ(١)

____________________

(١) بعض المؤرّخين كالخوارزمي وابن أبي الحديد في شرح النهج / ٣٨٣، وابن هشام في واقعة اُحد ذكروا أن عدد هذه الأبيات ستة عشر بيتاً، وليس فيها ما ذكره ابن طاووس إلاّ الأوّل والثالث. وكان عجز الثالث في روايتهم (وعدلنا مَيل بدر فاعتدل )، وفي رواية أبي علي القالي في الأمالي / ١٤٢، والبكري في شرحه / ٣٨٧،وأقمنا ميل بدر فاعتدل.

١٢١

هذه مقولة يزيد أمام ركب السبي في دمشق، وأمام رأس الحسين الطاهر، وهي مقولة تدلّ على سدرة يزيد في كبريائه وغروره الذي عُرف به، وكان يتمنّى لو أنّ أشياخه الذين قضوا ببدر شهدوا انتصاره هذا، ويتنبّأ بأنّهم سيهلّون ويستهلّون فرحاً، ويباركون يمينه ويدعون لها بألاّ تشلّ على تعديل ميزان بدر بكربلاء.

وكانت مقولة فيها من غفلة المتغافل الشيء الكثير، يقابلها في الوعي المستشفّ للغد، خطبة العقيلة زينب المستلهمة عن لسان أبيها أمير المؤمنين (عليه السّلام): الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ) (١) .

أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الاُسارى، أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والاُمور متّسقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (٢)(٣) .

وكأنّ زينب في ردّها المفحم على يزيد الآثم كانت تصوّر له مستقبل الأيّام وما يخبّئه الغد لبني اُميّة من مخاز ونهايات، وتعرض أمام الحضور الجانب الواعي المستشرف لموقف يزيد المتغافل المتعامي عن رؤية الحقائق كما ستكون في القريب العاجل.

ولم تطلّ فرحة يزيد؛ إذ لم تنقضِ سوى ساعات معدودة على ذيوع الخبر في بيته

____________________

(١) سورة الروم / ١٠.

(٢) سورة آل عمران / ١٧٨.

(٢) جاء ذكر هذه الخطبة في بلاغات النساء / ٢١، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٦٤.

١٢٢

قبل أن ينتشر في عاصمة ملكه وباقي الأنحاء الإسلاميّة، حتّى كانت نساؤه تنحنِ مشفقات من هول ما بلغهنّ، وابن الحكم ينعى فعلة ابن زياد ويقول: حُجبتم عن محمّد يوم القيامة، لن اُجامعكم على أمر أبداً. وابنه معاوية يبكي، وإذا سُئل عن بكائه كان يجيب: نبكي على بني اُميّة لا على الماضين من بني هاشم.

وكانت أوّل صرخة لَوم وتأنيب بعد الشهادة أطلقتها زينب (عليها السّلام) في الكوفة، فاهتزّت لها الضمائر واستيقظت، وما قالته زينب ابنة علي للجموع الملتفّة حول ركب السبي له وَقْع الفجيعة ولائمة التقصير: الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار.

أمّا بعد، يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرّنة، وإنّما مَثَلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دَخَلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلاّ الصّلف النّطف؟! والعجب والكذب والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كقصّة على ملحودة، ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون!

وما أن سمع الجمع هذا القول حتّى أخذتهم العَبرة، ونشجوا في بكاء شديد وقد لمس كلام زينب (عليها السّلام) شغاف ضمائرهم، بينما أردفت (عليها السّلام) مكمّلة وسط نهنهاتهم ولومهم لأنفسهم، فقالت: أتبكون وتنتحبون؟! أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً. وأنّى ترحضون؟! قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة، ومدرة حجّتكم ومُنى محجّتكم، وملا خيرتكم ومفزع نازلكم وسيذّد شباب أهل الجنّة؟ ألا ساء ما تزرون.

١٢٣

فتعساً ونكساً وبُعداً لكم وسحقاً! فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟ وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟ وأيّ دمٍ له سفكتم؟ وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئاً إدّا، تكاد السموات يتفطّرن منه، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّا. ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض وملء السماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. فلا يستخفّنكم المهل؛ فإنّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإنّ ربّكم لبالمرصاد(١) .

وكان خطاب العقيلة المؤنّب ردّ فعل عنيف بين الحشد المعمى بصيرته بالخداع والمطامع، فحرّكت مكامن الخير في ضميره، فأحسّوا بما جنوا، وضربتهم حيرة أمام بلاغة العقيلة، فما حاروا إجابة.

وأمام بلاغة زينب (عليها السّلام) والتي تتالت لتوقظ الضمائر في مواقف شتّى، تتبدّى حكمة الله تعالى الذي أوحى للشهيد الحسين (عليه السّلام) بإشراك نساء آل البيت في ثورته، إذ ما توجّهن إلى دمشق حتّى بدأن حربهنّ النفسيّة بالكلمة البليغة والبيان المؤثّر، مكمّلات وثبة أسد كربلاء، ومواصلات إيصال صرخته في فلاتها: «أما من مغيثٍ يغيثنا، أما من ناصرٍ يعيننا».

فتتواصل بعدها استجابات الضمائر النائمة، كما استجابت ضمائر الأنصاريَين سعد بن الحارث وأخيه أبي الحتوف لصرخة الحسين، فاستنصراه مستجيبين لها حتّى قُتلا.

____________________

(١) ورد ذكر الخطبة في أمالي الشيخ الطوسي، واللهوف، وابن نما، وابن شهر آشوب، واحتجاج الطبرسي.

١٢٤

فإذا قيل في الإسلام: بدؤه محمدي وبقاؤه حسيني، فالأجدر أن يقال أيضاً: ثورة الحسين بدؤها حسيني واستمرارها زينبي(١) .

إذ ما كادت هذه الثورة المباركة تضع أوزارها عسكرياً بتساقط رؤوس آل البيت وسبي الحرائر والعقيلات والأطفال إلى دمشق، حتّى هبّت عقيلة بني هاشم، التي قيل فيها العالِمة غير المعلّمة، والفاضلة والكاملة، وعابدة آل علي، هبّت إلى استلام راية الثورة الحمراء من يد أخيها الحسين (عليه السّلام) ورفعتها فوق رؤوس الخلق بما علق عليها من دماء آل بيت النبي، وهتفت من تحتها ترثي أخاها الذبيح في فلاة كربلاء الموحشة:

على الطّفِّ السلامُ وساكنيهِ

وروحُ الله في تلك القبابِ

نفوسٌ قُدّست في الأرض قدساً

وقد خُلقتْ من النُّطفِ العِذابِ

مضاجعُ فتيةٍ عبدوا فناموا

هُجوداً في الفدافدِ والروابي

علتهمْ في مضاجعِهمْ كعابٌ

بأردانٍ مُنعّمةٍ رِطابِ

وصيّرتِ القبورَ لهم قصوراً

مناخاً ذاتَ أفنيةٍرحابِ (٢)

____________________

(١) هذا التعبير من وضعنا، وقد قصدنا به التركيز بإيجاز على دَور العقيلة زينب الذي لا يقلّ عن دور أخيها (عليه السّلام).

(٢) بطل العلقمي ٣ / ٣٣٥.

١٢٥

سليلةُ بيت النبوّة

وزينب الكبرى (عليها السّلام) سليلة أشرف نسب في الإسلام، فاُمّها فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلوات الله عليهما)، وأبوها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وقد ولدتها اُمّها بعد ولادة أشرف شهيدَين، سيّدا شباب أهل الجنّة الحسنين (عليهما السّلام)، فنشأت في بيت الوحي بعد أن رضعت القدسيّة من ثدي العصمة، ونهلت العلم والحِلم ومكارم الأخلاق وكلّ الخصال الحميدة التي اشتهرت عن آل البيت، وهي لمّا تزل صغيرة.

وقد أثبتت حوادث ما بعد الشهادة ومواقفها خلال فترة السبي، على رجاحة عقلها وقوّة حجّتها وحضور وحيها في أشدّ لحظات الخطر وأصعبها، إذ قادت بنفسها مسيرة ما تبقّى من الموكب، ودافعت عنه دفاع اللبوة عن أشبالها، فغدت مواقفها على مرّ الأيّام وتعاقب القرون مثالاً يحتذى به، وفخراً لثورة أخيها التي أكملتها بجهادها المستميت.

وقد ذكر الطبرسي أنّها (عليها السّلام) كانت شديدة الحبّ لأخيها الحسين منذ نعومة أظفارها، وكأنّ السرّ الإلهي كان يعدّهما لهدفٍ واحد يتقاسمان أعباءه. وهذا ما أكّده تواتر الأيّام؛ إذ شاركته مسيرته وكانت إلى جانبه في معمعان محنته، ولمّا سقط خرجت من فسطاطها ووقفت عند جسده ثمّ رفعت رأسه وقالت: اللّهم تقبّل منّا هذا القربان(١) .

وقيل: إنّها كانت قد وطّنت نفسها عند إحراق الخيم أن تقرّ في الخيمة مع النسوة، إن كان الله شاء إحراقهنّ كما شاء قتل رجالهنّ، وقد سألت زين العابدين عند اضطرام النار: يابن أخي، ما نصنع؟ مستفهمة منه مشيئة الله فيهنّ.

____________________

(١) الكبريت الأحمر ٣ / ١٣ عن الطراز المذهّب.

١٢٦

إنّها الروح المؤمنة ذاتها التي رفعت هتافها فوق جسد الحسين الطاهر، وتضرّعت لله أن يقبله كقربان، صرخت أمام يزيد الفاسق: أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههن، وصَحِلت أصواتهن، تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والشريف والدني، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي، ولا من حماتهنّ حمي؟!

وكيف ترتجى مراقبة ابن مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم داعياً بأشياخك: ليت أشياخي ببدر شهدوا! منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمحضرتك.

وكيف لا تقول ذلك؟! وقد نكأت القرحة واستأصلت الشّافة بإراقتك دماء ذرّية محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب، أتهتف بأشياخك؟! زعمت أنّك تناديهم فلترِدَنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت. اللّهمّ خذ لنا بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فوالله يا يزيد ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، ولترِدَنّ على رسول الله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم،( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) . وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً، وبجبريل ظهيراً. وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً! وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً!

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٩.

١٢٧

ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء وهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفّرها اُمّهات الفراعل(١) ، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدننا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك وما ربّك بظلاّمٍ للعبيد.

فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل، فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين؟ فالحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود وهو حسبنا ونِعم الوكيل.

هذه البلاغة والفصاحة لا يأتي بمثلها إلاّ مَن تربّى في بيت الطالبيّين، وهذه الشجاعة الفائقة لا يجسر عليها بشرٌ حيال يزيد، وقد جسرت عليها الحوراء، فبلبلت مجلس يزيد وأحدثت في أركانه هزّة، فلم يزد إلاّ أن قال:

يا صيحةً تُحمدُ من صوائحِ

ما أهونَ النوح على النوائحِ

ثمّ أمر بإخراج الحرم من المجلس إلى خربة، حيث أقاموا فيها ثلاث أيّام يندبون وينوحون على الحسين (عليه السّلام)(٢) .

____________________

(١) العواسل: جمع عسّال، وهو الذئب. والفراعل: جمع فرعل، وهو ولد الضبع.

(٢) اللهوف / ٢٠٧، وأمالي الصدوق / ١٠١.

١٢٨

وإنّها لحكمة إلهيّة أن يسار بالسبي إلى الكوفة ودمشق بهذا الشكل المهين على أقتاب الجمال، فيرى الناس في السبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا أو سمعوا في قتل الحسين، وهذا ما هدف له الشهيد بخروجه بالنساء والأطفال والرضّع ليكونوا شهوداً وألسنة تنطق بمظلمته.

وقد قامت العقيلة زينب بالدَور الأكبر في ثورة أخيها الحسين بحملها لواء الحرب النفسيّة التي تمّمت حرب أخيها العسكريّة، وشكّلت معها الوجه الآخر لهدفٍ واحد ألا وهو إحقاق الحقّ، وتقويض الدولة الاُموية التي مثّلت انتهاك السنّة وتحريف العقيدة، وفساد الحكم في كلّ زمان ومكان.

ولو لَم تقم زينب (عليها السّلام) بدَورها الصعب الذي قامت به لَما زادت الواقعة ونتائجها عن واقعة ونتائج أيّة معركة تدار فيها الأيدي والسّيوف، وتصهل فيها الخيل، والرأي الأمثل في هذه الحكمة - حكمة خروج الحسين بحرمه وما تلاها من استلام زينب لراية الكفاح - إنّما كان هو الهدف الذي سيتحقق بعده كلّ أهداف الثورة؛ إذ لولا خروج زينب وحرائر وعقيلات آل البيت هذا الخروج الدرامي المفجع لَما كان للهزّة الضميريّة هذا التوجّع المؤلم، ولم يكن ليتسنّى لها الدخول على ابن زياد في قصر الإمارة لتعلن أمام الحشد صرختها التي هي في مضمونها صرخة مشتركة مع صوت أخيها الحسين (عليه السّلام)، فتقول: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا(١) .

ولا كان بإمكانها الوقوف أمام يزيد وهو فوق متّكئ سلطانه وجبروته وإلقاء خطبتها البليغة التي تحمل عبق الصدق، فتتآلف لها النفوس، وتتألّب لها الضمائر وتتوغّر معها الصدور على يزيد وطغمته، فتكون بذلك قد بذرت بذرة الثورة في

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٢، واللهوف / ٩٠.

١٢٩

الصدور إلى أن يحين موعد انفجارها.

وسيّد الشهداء (عليه السّلام) كان ينظر إلى المستقبل نظرته إلى كتاب مفتوح، وكان عالِماً بأنّ خذلان شيعته لن يدوم أبد الدهر، وكان في خروجه وإخراج الحرم معه إنّما يراهن على حيويّة الضمائر الإسلاميّة التي لن تجد مندوحة ولا أعذاراً في لوم نفسها على التقصير، سواء عن سكوتها على مباغي الاُمويّين، أم في عدم نصرتها للثائر الحسين الذي قام يحطّم الوثنيّة الجاهليّة الجديدة التي امتطت الإسلام لتحقيق مآربها، ومحقت ذريّة الرسول صاحب هذه الرسالة باسم خلافة مزيّفة.

المعجزةُ الروحيّة

وهذه معجزة اُخرى من معجزات شهادة الحسين (عليه السّلام) معجزة تتّصل بالضمائر بمنفصم وثيق العرى، فتمسّها مسّاً مباشراً، فتتكهرب وتستيقظ على أمرٍ جلل قد وقع وهي لا مناص لها من التبصّر في كيفيّة وقوعه.

وعلى أنوار الشهادة السنيّة يتكشّف لهذه الضمائر ظروف تقصيرها، وبأنّها كانت غافلة نائمة مخدّرة بأطماع وقتيّة، وعلى صوت الحقّ الذي رفعته السبايا، تصحو العيون والقلوب والأسماع، فترى ما عميت عنه، وما تغافلته زمناً، وما امتنعت عن سماعه ردحاً.

وهذه المعجزة وما تلاها، بدأت بخطبة زينب الاُولى في الكوفة، وكهربتها للجموع التي أطلقت لعبرها العنان، وقد بانت عظمة هذه المعجزة التي حملتها وستكمل حملها الكلمات القدسيّة المحاجّة التي اختصّ الله بها أهل بيت النبوّة، والتي بدأت في الميدان وعلى لسان الشهيد نفسه حينما دوى صرخته التي

١٣٠

استمرّت حتّى وقتنا هذا تتردّد في الضمائر: «أما من مغيثٍ يغيثنا؟ أما من ناصرٍ يعيننا؟».

وقد لبّى استجابة الصرخة الحسينيّة الحرّ بن يزيد الرياحي الذي توجّه نحو الشهيد رافعاً صوته نادماً على خروجه لقتاله: أللّهم إليك اُنيب فتُب عليَّ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد نبيّك، يا أبا عبد الله إنّي تائب، فهل لي من توبة؟(١) .

فهذه اللحظات التي تمثّل رجعات الضمير من جبّ مآثمه، كان الحسين (عليه السّلام) يعوّل عليها كثيراً في إيصال مبادئ ثورته، وقد حملت زينب (عليها السّلام) عبء مهمة إيقاظ الضمائر تأهّباً لرجعتها، ساعدها في ذلك مشهد السبي المحزن الذي كان يفتّت أشدّ القلوب صلابة.

استجاباتٌ فوريّة

فعن كتاب (المنتخب): أنّ عبد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وعمرو بن الحجاج، وضمّ إليهم ألف فارس وأمرهم بإيصال السبايا والرؤوس إلى الشام.

وقال أبو مخنف: مرّ هؤلاء في طريقهم بمدينة (تكريت) وكان فيها عدد من النصارى، فلمّا حاولوا أن يدخلوها اجتمع القسّيسون والرّهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزناً على الحسين، وقالوا: إنّا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت

____________________

(١) اللهوف / ٥٨، أمالي الصدوق / ٩٧، روضة الواعظين / ١٥٩.

١٣١

نبيّهم، فلم يجرؤوا على دخول المدينة، وباتوا ليلتهم في البريّة، وكانوا يقابلون بالإعراض والكراهية كلّما مرّوا بدير من الأديرة أو بلد من بلدان النصارى.

ولمّا وصل الركب إلى (لينا) وكانت مدينة كبيرة تظاهر أهلها رجالاً ونساءً وشيباً وشبّاناً وهتفوا بالصلاة على الحسين وجدّه وأبيه، ولعنوا الاُمويّين وأشياعهم وأتباهم، وصرخوا في وجوه قوّاد الركب: يا قتلة أولاد الأنبياء، اُخرجوا من مدينتنا.

ولمّا حاذوا (جهينة) بلغهم أنّ أهلها تجمّعوا وتحالفوا على قتالهم إذا وطؤوا أرض بلدهم، فتراجعوا عن دخولها. وأتوا حصن (كفر طاب) فأغلق أهلها الأبواب في وجوههم، فطلبوا منهم ماء، فردّ عليهم أهل الحصن: والله لا نسقيكم قطرة، وأنتم منعتم الحسين وأصحابه من الماء.

ولمّا دخلوا حمص كانت واقعة كبرى إذ تظاهر أهلها وصاروا يردّدون: أكفراً بعد إيمان، وضلالاً بعد هدى؟! وهجموا عليهم فقتلوا ٣٦ فارساً رشقاً بالحجارة.

وكأنّ عقيلة بني هاشم تستقرئ المستقبل وهي واثقة من ارتداد الضمائر، إذ قالت وهي مسبيّة: المستقبل لذكرنا، والعظمة لرجالنا والحياة لآثارنا والعلوّ لأعتابنا والولاء لنا وحدنا. فسبحان المنطق القادر على إيصال الوحي إلى عقول ما جال بها إلاّ الحق، ومسيّره على ألسنةٍ ما نطقت إلاّ بالفصاحة القرآنيّة، إذ بلغ الأمر بيقظة الضمائر بعد انتهاء المذبحة بالمقتل وعودة السبي والدفن أن صارت حممها تتأجّج وتعلو لتنير كلّ ما حولها، وإذا بالولاء لأهل البيت سنّة سنّها الناس لأنفسهم، والتبرّك بعتباتهم العالية صار فرضاً على كلّ مؤمن، وذِكرهم يحيا سنةً

١٣٢

بعد أخرى وجيلاً بعد جيل، ومناقبهم تعلن من فوق المنابر، ومزاراتهم وقبورهم وكلّ مكان وطؤوه صارت محجّات للملايين من اُمّة الإسلام تحجّ إليها ضارعة مستغفرة، قارعة الصدور ندماً، ذائبة على آل البيت حبّاً من كلّ فجٍّ عميق.

وهذه إحدى معجزات الشهادة وما تلاها من خوارق أنزلها الله تعالى في الضمائر، فكيف استمرّت نيران هذه الشرارة التي قدحها سيّد الشهداء فوق أرض خلاء لا يراه فيها أحد، كيف استمرّت وتأجّجت وفردت سناها فوق رؤوس الخلائق في وقت انطفأت فيه نيران متأجّجة كثيرة؟

أليست معجزة الخالق التي خطّطت لهذه الثورة بهذه الكيفية، وما قول اُولئك الذين ما زالوا بعد كلّ هذا الفيض من الانتصارات الذي أحرزته ثورة فرخ النبي، يتصدّون لها بمقاييس تقليديّة تبعد بها أميالاً عن حقيقة جوهرها؟

إلاّ أنّ هذه الثورة رغم ما تعرّضت له على مرّ السنين من مغالطات وتشويه وتحريف ما ازدادت إلاّ سطوعاً وعلوّاً. وهذا ما تنبّأت به زينب (عليها السّلام) فيما قالته لابن أخيها الإمام السجّاد قبل أن يترك الركب أرض كربلاء في الحادي عشر من محرم: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك، إنّ قبر أبيك سيكون علماً لا يُدرَس أثره، ولا يُمحى رسمُه على كرور الليالي والأيّام، وليجتهد أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً(١) .

وهكذا شاءت العناية الإلهيّة أن تكون السيّدة الحوراء شاهدة على المجزرة التي لم

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٦١ باب فضل كربلاء وزيارة الحسين.

١٣٣

يكن فيها خصمان، بقدر ما كان فيها قاتل ومقتول، وجزّار وضحيّة، وأن تكون مواقفها وكلماتها بعد المجزرة مواقف وكلمات المُعايِنَة، المُعانِيَة بكلّ أعصابها وإحساسها النسوي الاُمومي، ولم يكن كزينب أهلٌ لهذه المهمّة الصعبة تناط بها، وهي التي شاهدت وفاة جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وعاشت محنة اُمّها الزهراء وندبها لأبيها في بيت الأحزان وانتهاك حرمتها ومنع إرثها وكسر جنبها وإسقاط جنينها وتلطيخ سمعتها وهي تنادي فلا تُجاب.

وهي التي شاهدت قتل أبيها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ورأت مكان الضربة في رأسه، وعاينت مظاهر سريان الدم في جسده، واحترقت بدموعه الطاهرة تفيض من عينَيه، وهو يقلّب طرفه فيها وبأخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام). وهي التي شاهدت أخاها الحسن وهو يجود بنفسه مصفرّ اللون، يلفظ كبده قطعاً قطعاً من تأثير السمّ، ورأت عائشة تمنع من دفنه مع جدّه وتركب بغلة وتصيح: والله لا يُدفن الحسن هنا أبداً.

أمّا مصيبة المصائب وخاتمة الأرزاء التي عاشتها ورأتها فكانت فيما عاشته إلى جانب أخيها الشهيد في كربلاء، وفيما عانته خلال مسار سبيها برفقة العليل والنساء والأطفال، كانت مصائب يعجز عن وصفها لسان، وأرزاء لا يحتملها بشر، فاقت في قوّتها وتأثيرها كلّ ما مرّ بها من محن وآلام في تتالي أيّامها المتخمة بالأحزان والمصائب. فكيف عاشت العقيلة هذه التجارب؟ وكيف تحمّلت كلّ هذه الآلام؟ وكيف صبرت على كلّ هذا القدر من البلاء الذي حلّ بها؟

المألوف هنا في مثل هذه المواقف أن تُتعتَع أشدّ العقول رزانة، وتعمى أشدّ البصائر رويَّة، فتتخبّط خبطاً عشواء تدلّ على اختلال الأعصاب التي لا تبقي على أي أثر للتعقّل أو الاتّزان.

١٣٤

فهل فَقَدت زينب (عليها السّلام) رباطة جأشها؟ هل ارتجّت أعصابها فاختلّ توازنها؟ هل تزعزعت ثقتها بنفسها وبإيمانها وبحكم ربّها؟ هل جدّفت أو رفعت رأسها إلى السماء تتساءل لِمَ هي دون غيرها يجب أن تتحمّل كلّ هذا؟ هل فَقَدت حسّ الاُمومة وإحساس القدسيّة والقدرة على التصرّف قولاً وفعلاً؟

أبداً، فإنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فابنة علي وفاطمة لم تتزعزع، حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) لم تفقد إيمانها، اُخت الحسنَين لم تكفر بحكمة الله، بل ما زادتها المحن والآلام إلاّ ثبات جنان ورجاحة عقل واعتصاماً بحكمة الخالق وإذعاناً لمشيئته.

وارثة مبادئ علي (عليه السّلام)

ولا عجب، فهي غذيّة حكمة أبيها أمير المؤمنين، ووارثة مبادئ آل البيت التي لقّنها إيّاها أبوها وهي لمّا تزل طفلة تحبو، حيث كانت تسمعه يجاهر بهذا المبدأ الذي حفر في وجدانها الغض: «إنّ أشدّ الناس بلاءً النبيّون، ثمّ الوصيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل، وإنّما يُبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة. فمَن صحّ دينه وحسن عمله، اشتدّ بلاؤه؛ ذلك أنّ الله لم يجعل الدنيا ثواباً للمؤمن ولا عقوبة للكافر. ومَن سخف دينه ضعف عمله وقلّ بلاؤه، وأنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض».

وإذا كنّا قد تكلّمنا حتّى الآن عن معجزات الشهادة الروحيّة التي ردّت إلى

١٣٥

الضمائر إحساسها البشري، وجعلتها تقف على فداحة تقصيرها تجاه الحسين (عليه السّلام) ودَور زينب (عليها السّلام) في إزكاء الحميّة في الرؤوس، وإيقاظ النفوس الهاجعة وحمل لواء النفسيّة التي هي تتمّة للحرب التي نفّذها أخوها الحسين (عليه السّلام) فوق ثرى كربلاء، فإنّ لبقيّة عقيلات آل البيت أدوارهن المكمّلة لدور الحوراء في تبيان الحقيقة، وإثارة شعور الندم في القلوب.

فها هي فاطمة بنت الحسين (عليها السّلام) ما أن رأت عمّتها زينب (عليها السّلام) تنتهي من خطبتها في جموع الكوفة حتّى وقفت تخطب في هذه الجموع وتوضّح لها دَورها المتخاذل عن نصرة أبيها، وحقدها على رسالة النبي، وحذّرتهم ألاّ يشتطوا كثيراً في فرحتهم بما أصابوا من دمائهم، ونبّهتهم إلى توقّع اللّعنة والعذاب من السماء، ولعنة الظالمين منهم.

وما أن أتمّت خطبتها حتّى ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب ندماً وحزناً، وصاحت الجموع بصوتٍ واحد: حسبكِ يابنة الطاهرين، فقد أحرقتِ قلوبنا وأنضجتِ نحورنا وأضرمتِ أجوافنا(١) .

وتلتها في اللوم والتقريع وإثارة الضمائر اُمّ كلثوم، فقرّعتهم على نزع الرحمة من قلوبهم، وحذّرتهم من لعنة الدماء الذكيّة التي سفكوها، ومن غضبة الله على قتلهم خير الرجالات بعد النبي.

فضجّ الجمع بالبكاء، ونشرت النساء شعورهنّ وخمشن وجوههنّ ولطمن خدودهنّ، ودعون بالويل والثبور، حتّى صار الجمع بين باكٍ ولاطمٍ.

____________________

(١) لقد ثبت علمياً أنّ مشاعر الغضب والحزن والندم، تُبدِّل كيماوية الجسم، فيشعر صاحبه بالحرقة في قلبه، والاكتواء في حجابه الحاجز، والتآكل في معدته.

١٣٦

بلاغة السجّاد (عليه السّلام)

ولمّا جيء بعلي بن الحسين (عليه السّلام) على بعير والجامعة في عنقه، والغلّ في يدَيه إلى عنقه، وأوداجه تشخب دماً، بادر الجمع بهذه الأبيات:

يا اُمّةَ السوءِ لا سُقياً لربعِكُمُ

يا اُمّةً لم تراعي جدَّنا فينا

لو أنّنا ورسولُ الله يجمعُنا

يومَ القيامةِ ما تقولونا

تُسيّرونا على الأقتاب عاريةً

كأنّنا لم نشيّد فيكُمُ دينا

وأومأ إلى الناس فسكتوا، بينما أخذ (عليه السّلام) يعرّفهم مَن هو قائلاً: «أيّها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. أنا ابنُ مَن انتهكت حرمته وسُلبت نعمته، وانتهب ماله وسُبي عياله، أنا ابنُ المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابنُ مَن قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً...».

ثمّ أخذ (عليه السّلام) يبيّن لهم كيف خانوا أباه بعد أن أعطوه من أنفسهم العهود والميثاق والبيعة، وقاتلوه. وسألهم بأيّة عين ينظرون إلى رسول الله بعد قتلهم لعترته وانتهاك حرمته؟ فارتفعت الأصوات ضاجّة بالبكاء وقالوا بأجمعهم: نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ولا

١٣٧

راغبين منك، فمُرنا بأمرك يرحمك الله؛ فإنّا حرب لحربك، وسِلم لسِلمك، نبرأ ممّن ظلمك وظلمنا.

ولكنّ الوقت كان قد فات، ولم يعد ينفع الندم، فردّ عليهم السّجّاد (عليه السّلام): «هيهات هيهات أيّها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم. أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل؟ كلاّ وربّ الراقصات؛ فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي بالأمس وأهل بيته، ولم ينسَ ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي»(١) .

وكان لهذه الخُطَب ردّ فعل قويّ في النفوس فانفعلت معها انفعالاً عميقاً، كان كفيلاً ببعث الروح النضاليّة الهامدة في جذوة جديدة، وهزّ الضمائر الميّتة هزّات أحيتها، فكان أن خطت ثورة الحسين الوليدة اُولى خطواتها في الدرب الذي طمحت للسير فيه، ففتحت عيون الناس على زيف الحياة الروحيّة التي كانت تحتويهم.

وبدأ الإطار الديني المغلّف لحكم الاُمويّين باسم الإسلام يتزعزع ويتشقّق تمهيداً لانهياره القادم، وتنبّهت النفوس إلى الروح الجاهليّة التي تغلغلت في أركان الحكم، وبدأ الشعور بالإثم يتفاعل داخل القلوب، وبدأت معه اُولى خطوات نقد الذات وتقويم المجتمع لنفسه، والبحث عن مناقبية جديدة للإنسان المسلم بعد أن فقد إنسانيّته، فجاءت ثورة الحسين (عليه السّلام) لتنبّهه إلى فقدان هذه الإنسانيّة.

وقد ساهمت معركة الطّفِّ وحوادث السبي في إيقاد جذوة الإيمان من جديد في وجدان الاُمّة، ساعدها في ذلك ما ظهر من وحشيّة الاُمويّين في مناجزة الحسين وقتله مع نخبة كريمة من آله وصحبه (عليهم السّلام)، وما رافق ذلك من مظاهر البربريّة المتمثّلة في حمل

____________________

(١) كلّ هذه الخطب ذكرها ابن طاووس في اللهوف، وابن نما في مثير الأحزان.

١٣٨

الرؤوس على الحراب إلى دمشق، وما برهن ذلك على تجرّد الاُمويّين من كلّ نزعة دينيّة وإنسانيّة.

وكانت اليقظة الروحيّة لاُمّة الإسلام هي الاُعجوبة الخارقة التي تشكّل أساس كلّ المعجزات التي أتتها الشهادة فوق أرض كربلاء، والتي شكّلت فيما بعد المحوَر الذي دارت عليه المعجزات المتتالية الاجتماعيّة منها والزمنيّة.

إذ كما هو متّفق عليه في نظريّات علم النفس أنّ يقظة الضمير وتفتّح البصيرة بعد موات وهمود من شأنه أن يقلب حياة الإنسان رأساً على عقب، ويجعله يحطّم كلّ ما يحيط به ويذكّره بهوانه وتقصيره الذي أدّى به إلى ما وقع له أو به(١) .

ولعلّ ما زاد في تأجّج عامل الندم في نفوس المسلمين تلك الفرص التي أتاحها لهم الشهيد، سواء ما كان منها قبل المعركة أو خلالها، للكفّ عن قتاله وتلويث أيديهم بدماء آل البيت وتجنيبهم الندم، كما سبق ذكره في متن الكتاب.

وعندما يبدأ التأجّج - كما عرف في علم الطبيعة والفيزياء - فإنّ الحمم تصبّ فوق بعضها، وتحمي ذرّات بعضها البعض، فيزداد اللهب وتتضاعف الحرارة. وكما قيل: فإنّ الإقناع يزداد كلّما كان الشاهد أقرب الى المشهود عليه(٢) ، وهذه نقطة مهمّة ودالّة على معجزات شهادة الحسين الروحيّة؛ فقد كشف همجيّة مجزرة الطفّ الجنود العائدون، وأذاعوا تفاصيلها في طول البلاد الإسلاميّة وعرضها، وكان لكلامهم وشهاداتهم أبلغ الأثر في تأجيج نار المشاعر ضدّ الذين فكّروا وقاموا بهذه المجزرة المشينة.

____________________

(١) لـ(سيجموند فرويد) رأي في كتابه (سيكولوجيّة الشذوذ النفسي) / ١٨٩ يقول فيه: إنّ يقظة ضمير الإنسان تحيل صاحبها إلى ديّان رهيب لا يخاف لوم ذاته ومعاقبتها بأقصى العقوبات الممكنة.

(٢) السيّد المسيح قال:«من فمِك اُدينك» .

١٣٩

مهزلةُ الخروج على الأئمّة

وعلى الرغم من نشاط فرقة (المرجئة) التي أنشأها النظام الاُموي لتغطية نشاطه السياسي، وإسباغ صفات دينية على تصرّفاته، فإنّ الغضبة التي اشتعل أوارها لم تكن لتهدأ إلاّ لتثور مجدّداً وبشكل أعنف.

وقد أعادت ملحمة كربلاء إلى الأذهان ما أفتى به الفقهاء الموظّفون: من أنّه لا يجوز الخروج على الأئمّة، وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين. ففتحت هذه الأذهان على عمليّات التمويه الرسميّة التي موّلها حكّام بني اُميّة لوأدّ كلّ مطالب عادلة، والوقوف أمام كلّ تحريف للسنّة، والسكوت عن مخارف الجَور والانتهاكات.

وفي مقابل تفتّح الأذهان على أضاليل فرقة المرجئة ومؤسّسيها الاُمويّين تفتّحت هذه الأذهان على مبدأ الإمام الشهيد (عليه السّلام) الذي قاله مخاطباً الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: «أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يُبايع مثله»(١) .

فهذه الكلمات على بساطتها تدلّ دلالة واضحة على جواز نقد الخليفة والثورة على أحكامه والخروج عليه، وتبيّن في الوقت ذاته أساليب المراوغة والتحريف التي

____________________

(١) مثير الأحزان - لابن نما الحلّي.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258