الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي0%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أنطوان بارا
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 258
المشاهدات: 49344
تحميل: 7575

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49344 / تحميل: 7575
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

معجزات الشهادة في ضمير الإسلام

ليتَ أشياخي ببدر شهدوا

جزعَ الخزرجِ من وقع الأسلْ

لأهلّوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيدُ لا تُشلْ

قد قتلنا القرمَ من ساداتِهمْ

وعدلناهُ ببدرٍ فاعتدلْ

لَعبتْ هاشمُ بالمـُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ(1)

____________________

(1) بعض المؤرّخين كالخوارزمي وابن أبي الحديد في شرح النهج / 383، وابن هشام في واقعة اُحد ذكروا أن عدد هذه الأبيات ستة عشر بيتاً، وليس فيها ما ذكره ابن طاووس إلاّ الأوّل والثالث. وكان عجز الثالث في روايتهم (وعدلنا مَيل بدر فاعتدل )، وفي رواية أبي علي القالي في الأمالي / 142، والبكري في شرحه / 387،وأقمنا ميل بدر فاعتدل.

١٢١

هذه مقولة يزيد أمام ركب السبي في دمشق، وأمام رأس الحسين الطاهر، وهي مقولة تدلّ على سدرة يزيد في كبريائه وغروره الذي عُرف به، وكان يتمنّى لو أنّ أشياخه الذين قضوا ببدر شهدوا انتصاره هذا، ويتنبّأ بأنّهم سيهلّون ويستهلّون فرحاً، ويباركون يمينه ويدعون لها بألاّ تشلّ على تعديل ميزان بدر بكربلاء.

وكانت مقولة فيها من غفلة المتغافل الشيء الكثير، يقابلها في الوعي المستشفّ للغد، خطبة العقيلة زينب المستلهمة عن لسان أبيها أمير المؤمنين (عليه السّلام): الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ) (1) .

أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الاُسارى، أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والاُمور متّسقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (2)(3) .

وكأنّ زينب في ردّها المفحم على يزيد الآثم كانت تصوّر له مستقبل الأيّام وما يخبّئه الغد لبني اُميّة من مخاز ونهايات، وتعرض أمام الحضور الجانب الواعي المستشرف لموقف يزيد المتغافل المتعامي عن رؤية الحقائق كما ستكون في القريب العاجل.

ولم تطلّ فرحة يزيد؛ إذ لم تنقضِ سوى ساعات معدودة على ذيوع الخبر في بيته

____________________

(1) سورة الروم / 10.

(2) سورة آل عمران / 178.

(2) جاء ذكر هذه الخطبة في بلاغات النساء / 21، ومقتل الخوارزمي 2 / 64.

١٢٢

قبل أن ينتشر في عاصمة ملكه وباقي الأنحاء الإسلاميّة، حتّى كانت نساؤه تنحنِ مشفقات من هول ما بلغهنّ، وابن الحكم ينعى فعلة ابن زياد ويقول: حُجبتم عن محمّد يوم القيامة، لن اُجامعكم على أمر أبداً. وابنه معاوية يبكي، وإذا سُئل عن بكائه كان يجيب: نبكي على بني اُميّة لا على الماضين من بني هاشم.

وكانت أوّل صرخة لَوم وتأنيب بعد الشهادة أطلقتها زينب (عليها السّلام) في الكوفة، فاهتزّت لها الضمائر واستيقظت، وما قالته زينب ابنة علي للجموع الملتفّة حول ركب السبي له وَقْع الفجيعة ولائمة التقصير: الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار.

أمّا بعد، يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرّنة، وإنّما مَثَلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دَخَلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلاّ الصّلف النّطف؟! والعجب والكذب والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كقصّة على ملحودة، ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون!

وما أن سمع الجمع هذا القول حتّى أخذتهم العَبرة، ونشجوا في بكاء شديد وقد لمس كلام زينب (عليها السّلام) شغاف ضمائرهم، بينما أردفت (عليها السّلام) مكمّلة وسط نهنهاتهم ولومهم لأنفسهم، فقالت: أتبكون وتنتحبون؟! أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً. وأنّى ترحضون؟! قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة، ومدرة حجّتكم ومُنى محجّتكم، وملا خيرتكم ومفزع نازلكم وسيذّد شباب أهل الجنّة؟ ألا ساء ما تزرون.

١٢٣

فتعساً ونكساً وبُعداً لكم وسحقاً! فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟ وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟ وأيّ دمٍ له سفكتم؟ وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئاً إدّا، تكاد السموات يتفطّرن منه، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّا. ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض وملء السماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. فلا يستخفّنكم المهل؛ فإنّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإنّ ربّكم لبالمرصاد(1) .

وكان خطاب العقيلة المؤنّب ردّ فعل عنيف بين الحشد المعمى بصيرته بالخداع والمطامع، فحرّكت مكامن الخير في ضميره، فأحسّوا بما جنوا، وضربتهم حيرة أمام بلاغة العقيلة، فما حاروا إجابة.

وأمام بلاغة زينب (عليها السّلام) والتي تتالت لتوقظ الضمائر في مواقف شتّى، تتبدّى حكمة الله تعالى الذي أوحى للشهيد الحسين (عليه السّلام) بإشراك نساء آل البيت في ثورته، إذ ما توجّهن إلى دمشق حتّى بدأن حربهنّ النفسيّة بالكلمة البليغة والبيان المؤثّر، مكمّلات وثبة أسد كربلاء، ومواصلات إيصال صرخته في فلاتها: «أما من مغيثٍ يغيثنا، أما من ناصرٍ يعيننا».

فتتواصل بعدها استجابات الضمائر النائمة، كما استجابت ضمائر الأنصاريَين سعد بن الحارث وأخيه أبي الحتوف لصرخة الحسين، فاستنصراه مستجيبين لها حتّى قُتلا.

____________________

(1) ورد ذكر الخطبة في أمالي الشيخ الطوسي، واللهوف، وابن نما، وابن شهر آشوب، واحتجاج الطبرسي.

١٢٤

فإذا قيل في الإسلام: بدؤه محمدي وبقاؤه حسيني، فالأجدر أن يقال أيضاً: ثورة الحسين بدؤها حسيني واستمرارها زينبي(1) .

إذ ما كادت هذه الثورة المباركة تضع أوزارها عسكرياً بتساقط رؤوس آل البيت وسبي الحرائر والعقيلات والأطفال إلى دمشق، حتّى هبّت عقيلة بني هاشم، التي قيل فيها العالِمة غير المعلّمة، والفاضلة والكاملة، وعابدة آل علي، هبّت إلى استلام راية الثورة الحمراء من يد أخيها الحسين (عليه السّلام) ورفعتها فوق رؤوس الخلق بما علق عليها من دماء آل بيت النبي، وهتفت من تحتها ترثي أخاها الذبيح في فلاة كربلاء الموحشة:

على الطّفِّ السلامُ وساكنيهِ

وروحُ الله في تلك القبابِ

نفوسٌ قُدّست في الأرض قدساً

وقد خُلقتْ من النُّطفِ العِذابِ

مضاجعُ فتيةٍ عبدوا فناموا

هُجوداً في الفدافدِ والروابي

علتهمْ في مضاجعِهمْ كعابٌ

بأردانٍ مُنعّمةٍ رِطابِ

وصيّرتِ القبورَ لهم قصوراً

مناخاً ذاتَ أفنيةٍرحابِ (2)

____________________

(1) هذا التعبير من وضعنا، وقد قصدنا به التركيز بإيجاز على دَور العقيلة زينب الذي لا يقلّ عن دور أخيها (عليه السّلام).

(2) بطل العلقمي 3 / 335.

١٢٥

سليلةُ بيت النبوّة

وزينب الكبرى (عليها السّلام) سليلة أشرف نسب في الإسلام، فاُمّها فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلوات الله عليهما)، وأبوها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وقد ولدتها اُمّها بعد ولادة أشرف شهيدَين، سيّدا شباب أهل الجنّة الحسنين (عليهما السّلام)، فنشأت في بيت الوحي بعد أن رضعت القدسيّة من ثدي العصمة، ونهلت العلم والحِلم ومكارم الأخلاق وكلّ الخصال الحميدة التي اشتهرت عن آل البيت، وهي لمّا تزل صغيرة.

وقد أثبتت حوادث ما بعد الشهادة ومواقفها خلال فترة السبي، على رجاحة عقلها وقوّة حجّتها وحضور وحيها في أشدّ لحظات الخطر وأصعبها، إذ قادت بنفسها مسيرة ما تبقّى من الموكب، ودافعت عنه دفاع اللبوة عن أشبالها، فغدت مواقفها على مرّ الأيّام وتعاقب القرون مثالاً يحتذى به، وفخراً لثورة أخيها التي أكملتها بجهادها المستميت.

وقد ذكر الطبرسي أنّها (عليها السّلام) كانت شديدة الحبّ لأخيها الحسين منذ نعومة أظفارها، وكأنّ السرّ الإلهي كان يعدّهما لهدفٍ واحد يتقاسمان أعباءه. وهذا ما أكّده تواتر الأيّام؛ إذ شاركته مسيرته وكانت إلى جانبه في معمعان محنته، ولمّا سقط خرجت من فسطاطها ووقفت عند جسده ثمّ رفعت رأسه وقالت: اللّهم تقبّل منّا هذا القربان(1) .

وقيل: إنّها كانت قد وطّنت نفسها عند إحراق الخيم أن تقرّ في الخيمة مع النسوة، إن كان الله شاء إحراقهنّ كما شاء قتل رجالهنّ، وقد سألت زين العابدين عند اضطرام النار: يابن أخي، ما نصنع؟ مستفهمة منه مشيئة الله فيهنّ.

____________________

(1) الكبريت الأحمر 3 / 13 عن الطراز المذهّب.

١٢٦

إنّها الروح المؤمنة ذاتها التي رفعت هتافها فوق جسد الحسين الطاهر، وتضرّعت لله أن يقبله كقربان، صرخت أمام يزيد الفاسق: أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههن، وصَحِلت أصواتهن، تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والشريف والدني، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي، ولا من حماتهنّ حمي؟!

وكيف ترتجى مراقبة ابن مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم داعياً بأشياخك: ليت أشياخي ببدر شهدوا! منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمحضرتك.

وكيف لا تقول ذلك؟! وقد نكأت القرحة واستأصلت الشّافة بإراقتك دماء ذرّية محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب، أتهتف بأشياخك؟! زعمت أنّك تناديهم فلترِدَنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت. اللّهمّ خذ لنا بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فوالله يا يزيد ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، ولترِدَنّ على رسول الله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم،( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (1) . وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً، وبجبريل ظهيراً. وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً! وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً!

____________________

(1) سورة آل عمران / 169.

١٢٧

ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء وهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفّرها اُمّهات الفراعل(1) ، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدننا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك وما ربّك بظلاّمٍ للعبيد.

فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل، فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين؟ فالحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود وهو حسبنا ونِعم الوكيل.

هذه البلاغة والفصاحة لا يأتي بمثلها إلاّ مَن تربّى في بيت الطالبيّين، وهذه الشجاعة الفائقة لا يجسر عليها بشرٌ حيال يزيد، وقد جسرت عليها الحوراء، فبلبلت مجلس يزيد وأحدثت في أركانه هزّة، فلم يزد إلاّ أن قال:

يا صيحةً تُحمدُ من صوائحِ

ما أهونَ النوح على النوائحِ

ثمّ أمر بإخراج الحرم من المجلس إلى خربة، حيث أقاموا فيها ثلاث أيّام يندبون وينوحون على الحسين (عليه السّلام)(2) .

____________________

(1) العواسل: جمع عسّال، وهو الذئب. والفراعل: جمع فرعل، وهو ولد الضبع.

(2) اللهوف / 207، وأمالي الصدوق / 101.

١٢٨

وإنّها لحكمة إلهيّة أن يسار بالسبي إلى الكوفة ودمشق بهذا الشكل المهين على أقتاب الجمال، فيرى الناس في السبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا أو سمعوا في قتل الحسين، وهذا ما هدف له الشهيد بخروجه بالنساء والأطفال والرضّع ليكونوا شهوداً وألسنة تنطق بمظلمته.

وقد قامت العقيلة زينب بالدَور الأكبر في ثورة أخيها الحسين بحملها لواء الحرب النفسيّة التي تمّمت حرب أخيها العسكريّة، وشكّلت معها الوجه الآخر لهدفٍ واحد ألا وهو إحقاق الحقّ، وتقويض الدولة الاُموية التي مثّلت انتهاك السنّة وتحريف العقيدة، وفساد الحكم في كلّ زمان ومكان.

ولو لَم تقم زينب (عليها السّلام) بدَورها الصعب الذي قامت به لَما زادت الواقعة ونتائجها عن واقعة ونتائج أيّة معركة تدار فيها الأيدي والسّيوف، وتصهل فيها الخيل، والرأي الأمثل في هذه الحكمة - حكمة خروج الحسين بحرمه وما تلاها من استلام زينب لراية الكفاح - إنّما كان هو الهدف الذي سيتحقق بعده كلّ أهداف الثورة؛ إذ لولا خروج زينب وحرائر وعقيلات آل البيت هذا الخروج الدرامي المفجع لَما كان للهزّة الضميريّة هذا التوجّع المؤلم، ولم يكن ليتسنّى لها الدخول على ابن زياد في قصر الإمارة لتعلن أمام الحشد صرختها التي هي في مضمونها صرخة مشتركة مع صوت أخيها الحسين (عليه السّلام)، فتقول: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا(1) .

ولا كان بإمكانها الوقوف أمام يزيد وهو فوق متّكئ سلطانه وجبروته وإلقاء خطبتها البليغة التي تحمل عبق الصدق، فتتآلف لها النفوس، وتتألّب لها الضمائر وتتوغّر معها الصدور على يزيد وطغمته، فتكون بذلك قد بذرت بذرة الثورة في

____________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 262، واللهوف / 90.

١٢٩

الصدور إلى أن يحين موعد انفجارها.

وسيّد الشهداء (عليه السّلام) كان ينظر إلى المستقبل نظرته إلى كتاب مفتوح، وكان عالِماً بأنّ خذلان شيعته لن يدوم أبد الدهر، وكان في خروجه وإخراج الحرم معه إنّما يراهن على حيويّة الضمائر الإسلاميّة التي لن تجد مندوحة ولا أعذاراً في لوم نفسها على التقصير، سواء عن سكوتها على مباغي الاُمويّين، أم في عدم نصرتها للثائر الحسين الذي قام يحطّم الوثنيّة الجاهليّة الجديدة التي امتطت الإسلام لتحقيق مآربها، ومحقت ذريّة الرسول صاحب هذه الرسالة باسم خلافة مزيّفة.

المعجزةُ الروحيّة

وهذه معجزة اُخرى من معجزات شهادة الحسين (عليه السّلام) معجزة تتّصل بالضمائر بمنفصم وثيق العرى، فتمسّها مسّاً مباشراً، فتتكهرب وتستيقظ على أمرٍ جلل قد وقع وهي لا مناص لها من التبصّر في كيفيّة وقوعه.

وعلى أنوار الشهادة السنيّة يتكشّف لهذه الضمائر ظروف تقصيرها، وبأنّها كانت غافلة نائمة مخدّرة بأطماع وقتيّة، وعلى صوت الحقّ الذي رفعته السبايا، تصحو العيون والقلوب والأسماع، فترى ما عميت عنه، وما تغافلته زمناً، وما امتنعت عن سماعه ردحاً.

وهذه المعجزة وما تلاها، بدأت بخطبة زينب الاُولى في الكوفة، وكهربتها للجموع التي أطلقت لعبرها العنان، وقد بانت عظمة هذه المعجزة التي حملتها وستكمل حملها الكلمات القدسيّة المحاجّة التي اختصّ الله بها أهل بيت النبوّة، والتي بدأت في الميدان وعلى لسان الشهيد نفسه حينما دوى صرخته التي

١٣٠

استمرّت حتّى وقتنا هذا تتردّد في الضمائر: «أما من مغيثٍ يغيثنا؟ أما من ناصرٍ يعيننا؟».

وقد لبّى استجابة الصرخة الحسينيّة الحرّ بن يزيد الرياحي الذي توجّه نحو الشهيد رافعاً صوته نادماً على خروجه لقتاله: أللّهم إليك اُنيب فتُب عليَّ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد نبيّك، يا أبا عبد الله إنّي تائب، فهل لي من توبة؟(1) .

فهذه اللحظات التي تمثّل رجعات الضمير من جبّ مآثمه، كان الحسين (عليه السّلام) يعوّل عليها كثيراً في إيصال مبادئ ثورته، وقد حملت زينب (عليها السّلام) عبء مهمة إيقاظ الضمائر تأهّباً لرجعتها، ساعدها في ذلك مشهد السبي المحزن الذي كان يفتّت أشدّ القلوب صلابة.

استجاباتٌ فوريّة

فعن كتاب (المنتخب): أنّ عبد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وعمرو بن الحجاج، وضمّ إليهم ألف فارس وأمرهم بإيصال السبايا والرؤوس إلى الشام.

وقال أبو مخنف: مرّ هؤلاء في طريقهم بمدينة (تكريت) وكان فيها عدد من النصارى، فلمّا حاولوا أن يدخلوها اجتمع القسّيسون والرّهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزناً على الحسين، وقالوا: إنّا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت

____________________

(1) اللهوف / 58، أمالي الصدوق / 97، روضة الواعظين / 159.

١٣١

نبيّهم، فلم يجرؤوا على دخول المدينة، وباتوا ليلتهم في البريّة، وكانوا يقابلون بالإعراض والكراهية كلّما مرّوا بدير من الأديرة أو بلد من بلدان النصارى.

ولمّا وصل الركب إلى (لينا) وكانت مدينة كبيرة تظاهر أهلها رجالاً ونساءً وشيباً وشبّاناً وهتفوا بالصلاة على الحسين وجدّه وأبيه، ولعنوا الاُمويّين وأشياعهم وأتباهم، وصرخوا في وجوه قوّاد الركب: يا قتلة أولاد الأنبياء، اُخرجوا من مدينتنا.

ولمّا حاذوا (جهينة) بلغهم أنّ أهلها تجمّعوا وتحالفوا على قتالهم إذا وطؤوا أرض بلدهم، فتراجعوا عن دخولها. وأتوا حصن (كفر طاب) فأغلق أهلها الأبواب في وجوههم، فطلبوا منهم ماء، فردّ عليهم أهل الحصن: والله لا نسقيكم قطرة، وأنتم منعتم الحسين وأصحابه من الماء.

ولمّا دخلوا حمص كانت واقعة كبرى إذ تظاهر أهلها وصاروا يردّدون: أكفراً بعد إيمان، وضلالاً بعد هدى؟! وهجموا عليهم فقتلوا 36 فارساً رشقاً بالحجارة.

وكأنّ عقيلة بني هاشم تستقرئ المستقبل وهي واثقة من ارتداد الضمائر، إذ قالت وهي مسبيّة: المستقبل لذكرنا، والعظمة لرجالنا والحياة لآثارنا والعلوّ لأعتابنا والولاء لنا وحدنا. فسبحان المنطق القادر على إيصال الوحي إلى عقول ما جال بها إلاّ الحق، ومسيّره على ألسنةٍ ما نطقت إلاّ بالفصاحة القرآنيّة، إذ بلغ الأمر بيقظة الضمائر بعد انتهاء المذبحة بالمقتل وعودة السبي والدفن أن صارت حممها تتأجّج وتعلو لتنير كلّ ما حولها، وإذا بالولاء لأهل البيت سنّة سنّها الناس لأنفسهم، والتبرّك بعتباتهم العالية صار فرضاً على كلّ مؤمن، وذِكرهم يحيا سنةً

١٣٢

بعد أخرى وجيلاً بعد جيل، ومناقبهم تعلن من فوق المنابر، ومزاراتهم وقبورهم وكلّ مكان وطؤوه صارت محجّات للملايين من اُمّة الإسلام تحجّ إليها ضارعة مستغفرة، قارعة الصدور ندماً، ذائبة على آل البيت حبّاً من كلّ فجٍّ عميق.

وهذه إحدى معجزات الشهادة وما تلاها من خوارق أنزلها الله تعالى في الضمائر، فكيف استمرّت نيران هذه الشرارة التي قدحها سيّد الشهداء فوق أرض خلاء لا يراه فيها أحد، كيف استمرّت وتأجّجت وفردت سناها فوق رؤوس الخلائق في وقت انطفأت فيه نيران متأجّجة كثيرة؟

أليست معجزة الخالق التي خطّطت لهذه الثورة بهذه الكيفية، وما قول اُولئك الذين ما زالوا بعد كلّ هذا الفيض من الانتصارات الذي أحرزته ثورة فرخ النبي، يتصدّون لها بمقاييس تقليديّة تبعد بها أميالاً عن حقيقة جوهرها؟

إلاّ أنّ هذه الثورة رغم ما تعرّضت له على مرّ السنين من مغالطات وتشويه وتحريف ما ازدادت إلاّ سطوعاً وعلوّاً. وهذا ما تنبّأت به زينب (عليها السّلام) فيما قالته لابن أخيها الإمام السجّاد قبل أن يترك الركب أرض كربلاء في الحادي عشر من محرم: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك، إنّ قبر أبيك سيكون علماً لا يُدرَس أثره، ولا يُمحى رسمُه على كرور الليالي والأيّام، وليجتهد أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً(1) .

وهكذا شاءت العناية الإلهيّة أن تكون السيّدة الحوراء شاهدة على المجزرة التي لم

____________________

(1) كامل الزيارات / 261 باب فضل كربلاء وزيارة الحسين.

١٣٣

يكن فيها خصمان، بقدر ما كان فيها قاتل ومقتول، وجزّار وضحيّة، وأن تكون مواقفها وكلماتها بعد المجزرة مواقف وكلمات المُعايِنَة، المُعانِيَة بكلّ أعصابها وإحساسها النسوي الاُمومي، ولم يكن كزينب أهلٌ لهذه المهمّة الصعبة تناط بها، وهي التي شاهدت وفاة جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وعاشت محنة اُمّها الزهراء وندبها لأبيها في بيت الأحزان وانتهاك حرمتها ومنع إرثها وكسر جنبها وإسقاط جنينها وتلطيخ سمعتها وهي تنادي فلا تُجاب.

وهي التي شاهدت قتل أبيها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ورأت مكان الضربة في رأسه، وعاينت مظاهر سريان الدم في جسده، واحترقت بدموعه الطاهرة تفيض من عينَيه، وهو يقلّب طرفه فيها وبأخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام). وهي التي شاهدت أخاها الحسن وهو يجود بنفسه مصفرّ اللون، يلفظ كبده قطعاً قطعاً من تأثير السمّ، ورأت عائشة تمنع من دفنه مع جدّه وتركب بغلة وتصيح: والله لا يُدفن الحسن هنا أبداً.

أمّا مصيبة المصائب وخاتمة الأرزاء التي عاشتها ورأتها فكانت فيما عاشته إلى جانب أخيها الشهيد في كربلاء، وفيما عانته خلال مسار سبيها برفقة العليل والنساء والأطفال، كانت مصائب يعجز عن وصفها لسان، وأرزاء لا يحتملها بشر، فاقت في قوّتها وتأثيرها كلّ ما مرّ بها من محن وآلام في تتالي أيّامها المتخمة بالأحزان والمصائب. فكيف عاشت العقيلة هذه التجارب؟ وكيف تحمّلت كلّ هذه الآلام؟ وكيف صبرت على كلّ هذا القدر من البلاء الذي حلّ بها؟

المألوف هنا في مثل هذه المواقف أن تُتعتَع أشدّ العقول رزانة، وتعمى أشدّ البصائر رويَّة، فتتخبّط خبطاً عشواء تدلّ على اختلال الأعصاب التي لا تبقي على أي أثر للتعقّل أو الاتّزان.

١٣٤

فهل فَقَدت زينب (عليها السّلام) رباطة جأشها؟ هل ارتجّت أعصابها فاختلّ توازنها؟ هل تزعزعت ثقتها بنفسها وبإيمانها وبحكم ربّها؟ هل جدّفت أو رفعت رأسها إلى السماء تتساءل لِمَ هي دون غيرها يجب أن تتحمّل كلّ هذا؟ هل فَقَدت حسّ الاُمومة وإحساس القدسيّة والقدرة على التصرّف قولاً وفعلاً؟

أبداً، فإنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فابنة علي وفاطمة لم تتزعزع، حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) لم تفقد إيمانها، اُخت الحسنَين لم تكفر بحكمة الله، بل ما زادتها المحن والآلام إلاّ ثبات جنان ورجاحة عقل واعتصاماً بحكمة الخالق وإذعاناً لمشيئته.

وارثة مبادئ علي (عليه السّلام)

ولا عجب، فهي غذيّة حكمة أبيها أمير المؤمنين، ووارثة مبادئ آل البيت التي لقّنها إيّاها أبوها وهي لمّا تزل طفلة تحبو، حيث كانت تسمعه يجاهر بهذا المبدأ الذي حفر في وجدانها الغض: «إنّ أشدّ الناس بلاءً النبيّون، ثمّ الوصيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل، وإنّما يُبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة. فمَن صحّ دينه وحسن عمله، اشتدّ بلاؤه؛ ذلك أنّ الله لم يجعل الدنيا ثواباً للمؤمن ولا عقوبة للكافر. ومَن سخف دينه ضعف عمله وقلّ بلاؤه، وأنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض».

وإذا كنّا قد تكلّمنا حتّى الآن عن معجزات الشهادة الروحيّة التي ردّت إلى

١٣٥

الضمائر إحساسها البشري، وجعلتها تقف على فداحة تقصيرها تجاه الحسين (عليه السّلام) ودَور زينب (عليها السّلام) في إزكاء الحميّة في الرؤوس، وإيقاظ النفوس الهاجعة وحمل لواء النفسيّة التي هي تتمّة للحرب التي نفّذها أخوها الحسين (عليه السّلام) فوق ثرى كربلاء، فإنّ لبقيّة عقيلات آل البيت أدوارهن المكمّلة لدور الحوراء في تبيان الحقيقة، وإثارة شعور الندم في القلوب.

فها هي فاطمة بنت الحسين (عليها السّلام) ما أن رأت عمّتها زينب (عليها السّلام) تنتهي من خطبتها في جموع الكوفة حتّى وقفت تخطب في هذه الجموع وتوضّح لها دَورها المتخاذل عن نصرة أبيها، وحقدها على رسالة النبي، وحذّرتهم ألاّ يشتطوا كثيراً في فرحتهم بما أصابوا من دمائهم، ونبّهتهم إلى توقّع اللّعنة والعذاب من السماء، ولعنة الظالمين منهم.

وما أن أتمّت خطبتها حتّى ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب ندماً وحزناً، وصاحت الجموع بصوتٍ واحد: حسبكِ يابنة الطاهرين، فقد أحرقتِ قلوبنا وأنضجتِ نحورنا وأضرمتِ أجوافنا(1) .

وتلتها في اللوم والتقريع وإثارة الضمائر اُمّ كلثوم، فقرّعتهم على نزع الرحمة من قلوبهم، وحذّرتهم من لعنة الدماء الذكيّة التي سفكوها، ومن غضبة الله على قتلهم خير الرجالات بعد النبي.

فضجّ الجمع بالبكاء، ونشرت النساء شعورهنّ وخمشن وجوههنّ ولطمن خدودهنّ، ودعون بالويل والثبور، حتّى صار الجمع بين باكٍ ولاطمٍ.

____________________

(1) لقد ثبت علمياً أنّ مشاعر الغضب والحزن والندم، تُبدِّل كيماوية الجسم، فيشعر صاحبه بالحرقة في قلبه، والاكتواء في حجابه الحاجز، والتآكل في معدته.

١٣٦

بلاغة السجّاد (عليه السّلام)

ولمّا جيء بعلي بن الحسين (عليه السّلام) على بعير والجامعة في عنقه، والغلّ في يدَيه إلى عنقه، وأوداجه تشخب دماً، بادر الجمع بهذه الأبيات:

يا اُمّةَ السوءِ لا سُقياً لربعِكُمُ

يا اُمّةً لم تراعي جدَّنا فينا

لو أنّنا ورسولُ الله يجمعُنا

يومَ القيامةِ ما تقولونا

تُسيّرونا على الأقتاب عاريةً

كأنّنا لم نشيّد فيكُمُ دينا

وأومأ إلى الناس فسكتوا، بينما أخذ (عليه السّلام) يعرّفهم مَن هو قائلاً: «أيّها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. أنا ابنُ مَن انتهكت حرمته وسُلبت نعمته، وانتهب ماله وسُبي عياله، أنا ابنُ المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابنُ مَن قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً...».

ثمّ أخذ (عليه السّلام) يبيّن لهم كيف خانوا أباه بعد أن أعطوه من أنفسهم العهود والميثاق والبيعة، وقاتلوه. وسألهم بأيّة عين ينظرون إلى رسول الله بعد قتلهم لعترته وانتهاك حرمته؟ فارتفعت الأصوات ضاجّة بالبكاء وقالوا بأجمعهم: نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ولا

١٣٧

راغبين منك، فمُرنا بأمرك يرحمك الله؛ فإنّا حرب لحربك، وسِلم لسِلمك، نبرأ ممّن ظلمك وظلمنا.

ولكنّ الوقت كان قد فات، ولم يعد ينفع الندم، فردّ عليهم السّجّاد (عليه السّلام): «هيهات هيهات أيّها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم. أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل؟ كلاّ وربّ الراقصات؛ فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي بالأمس وأهل بيته، ولم ينسَ ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي»(1) .

وكان لهذه الخُطَب ردّ فعل قويّ في النفوس فانفعلت معها انفعالاً عميقاً، كان كفيلاً ببعث الروح النضاليّة الهامدة في جذوة جديدة، وهزّ الضمائر الميّتة هزّات أحيتها، فكان أن خطت ثورة الحسين الوليدة اُولى خطواتها في الدرب الذي طمحت للسير فيه، ففتحت عيون الناس على زيف الحياة الروحيّة التي كانت تحتويهم.

وبدأ الإطار الديني المغلّف لحكم الاُمويّين باسم الإسلام يتزعزع ويتشقّق تمهيداً لانهياره القادم، وتنبّهت النفوس إلى الروح الجاهليّة التي تغلغلت في أركان الحكم، وبدأ الشعور بالإثم يتفاعل داخل القلوب، وبدأت معه اُولى خطوات نقد الذات وتقويم المجتمع لنفسه، والبحث عن مناقبية جديدة للإنسان المسلم بعد أن فقد إنسانيّته، فجاءت ثورة الحسين (عليه السّلام) لتنبّهه إلى فقدان هذه الإنسانيّة.

وقد ساهمت معركة الطّفِّ وحوادث السبي في إيقاد جذوة الإيمان من جديد في وجدان الاُمّة، ساعدها في ذلك ما ظهر من وحشيّة الاُمويّين في مناجزة الحسين وقتله مع نخبة كريمة من آله وصحبه (عليهم السّلام)، وما رافق ذلك من مظاهر البربريّة المتمثّلة في حمل

____________________

(1) كلّ هذه الخطب ذكرها ابن طاووس في اللهوف، وابن نما في مثير الأحزان.

١٣٨

الرؤوس على الحراب إلى دمشق، وما برهن ذلك على تجرّد الاُمويّين من كلّ نزعة دينيّة وإنسانيّة.

وكانت اليقظة الروحيّة لاُمّة الإسلام هي الاُعجوبة الخارقة التي تشكّل أساس كلّ المعجزات التي أتتها الشهادة فوق أرض كربلاء، والتي شكّلت فيما بعد المحوَر الذي دارت عليه المعجزات المتتالية الاجتماعيّة منها والزمنيّة.

إذ كما هو متّفق عليه في نظريّات علم النفس أنّ يقظة الضمير وتفتّح البصيرة بعد موات وهمود من شأنه أن يقلب حياة الإنسان رأساً على عقب، ويجعله يحطّم كلّ ما يحيط به ويذكّره بهوانه وتقصيره الذي أدّى به إلى ما وقع له أو به(1) .

ولعلّ ما زاد في تأجّج عامل الندم في نفوس المسلمين تلك الفرص التي أتاحها لهم الشهيد، سواء ما كان منها قبل المعركة أو خلالها، للكفّ عن قتاله وتلويث أيديهم بدماء آل البيت وتجنيبهم الندم، كما سبق ذكره في متن الكتاب.

وعندما يبدأ التأجّج - كما عرف في علم الطبيعة والفيزياء - فإنّ الحمم تصبّ فوق بعضها، وتحمي ذرّات بعضها البعض، فيزداد اللهب وتتضاعف الحرارة. وكما قيل: فإنّ الإقناع يزداد كلّما كان الشاهد أقرب الى المشهود عليه(2) ، وهذه نقطة مهمّة ودالّة على معجزات شهادة الحسين الروحيّة؛ فقد كشف همجيّة مجزرة الطفّ الجنود العائدون، وأذاعوا تفاصيلها في طول البلاد الإسلاميّة وعرضها، وكان لكلامهم وشهاداتهم أبلغ الأثر في تأجيج نار المشاعر ضدّ الذين فكّروا وقاموا بهذه المجزرة المشينة.

____________________

(1) لـ(سيجموند فرويد) رأي في كتابه (سيكولوجيّة الشذوذ النفسي) / 189 يقول فيه: إنّ يقظة ضمير الإنسان تحيل صاحبها إلى ديّان رهيب لا يخاف لوم ذاته ومعاقبتها بأقصى العقوبات الممكنة.

(2) السيّد المسيح قال:«من فمِك اُدينك» .

١٣٩

مهزلةُ الخروج على الأئمّة

وعلى الرغم من نشاط فرقة (المرجئة) التي أنشأها النظام الاُموي لتغطية نشاطه السياسي، وإسباغ صفات دينية على تصرّفاته، فإنّ الغضبة التي اشتعل أوارها لم تكن لتهدأ إلاّ لتثور مجدّداً وبشكل أعنف.

وقد أعادت ملحمة كربلاء إلى الأذهان ما أفتى به الفقهاء الموظّفون: من أنّه لا يجوز الخروج على الأئمّة، وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين. ففتحت هذه الأذهان على عمليّات التمويه الرسميّة التي موّلها حكّام بني اُميّة لوأدّ كلّ مطالب عادلة، والوقوف أمام كلّ تحريف للسنّة، والسكوت عن مخارف الجَور والانتهاكات.

وفي مقابل تفتّح الأذهان على أضاليل فرقة المرجئة ومؤسّسيها الاُمويّين تفتّحت هذه الأذهان على مبدأ الإمام الشهيد (عليه السّلام) الذي قاله مخاطباً الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: «أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يُبايع مثله»(1) .

فهذه الكلمات على بساطتها تدلّ دلالة واضحة على جواز نقد الخليفة والثورة على أحكامه والخروج عليه، وتبيّن في الوقت ذاته أساليب المراوغة والتحريف التي

____________________

(1) مثير الأحزان - لابن نما الحلّي.

١٤٠