الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي23%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55496 / تحميل: 10177
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الأوَّل

نشأةُ التشيّع

٢١

٢٢

تقديمٌ

لقد تناول كثير مِن الباحثين في قضايا الفكر والمذاهب والآراء الإسلامية، الكيان الشيعي بالبحث والدراسة مِن حيث النشأة والبُنية والمحتوى والأثَر السياسي والحضاري في تاريخ الإسلام، غير أنّ مِن المؤسف أنّ معظم تلك الدراسات، لا سيّما دراسات المستشرقين والمتتلمذين على أفكارهم، حملَت الدسّ والتشويه والخلْط بعيداً عن الإنصاف والموضوعية العِلمية، فكانت تعبّر في كثير مِن فصولها عن جهل الكاتب أو تعصّبه، أو تسخير فكره وقلَمِه لخدمة الأغراض الاستعمارية، التي اكتشفت جوانب القوّة والفاعلية في الفكر والموقف الشيعي، على مدى التاريخ الإسلامي.

ويهمّنا في هذا الفصل مِن الكتاب أن نعرّف بنشأة التشيّع، كمصطلحٍ وبذرةٍ في إطار الحياة الإسلامية، وتطوّر هذه البذرة إلى كيانٍ فكريٍّ وسياسيٍّ على يد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؛ ليصبح مِن أكثر الكيانات المذهبيّة والاتّجاهات المدرسيّة الإسلامية أثراً وفاعليةً، في حياة المسلمين وحركة تاريخهم ووضْعهم الحضاري.

٢٣

معنى الشيعة في اللغة:

قال ابن منظور: (والشيعة: القوم الذين يجتمعون على أمْرٍ، وكلّ قومٍ اجتمعوا على أمْرٍ فهُم شيعة، وكلّ قومٍ أمْرهُم واحد يتبع بعضهم رأي بعض...

قال الزجّاج: والشيعة، أتباع الرجُل وأنصاره...

قال الأزهري: والشيعة، قوم يهْوون هوى عترة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ويوالونهم.

وقد غلَب هذا الاسم على مَنْ يتولّى عليّاً وأهل بيته (رضوان الله عليهم أجمعين)، حتّى صار لهم اسماً خاصّاً، فإذا قيل: فلان مِن الشيعة عُرف أنّه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا، أي عندهم، وأصل ذلك مِن المشايعة، وهي المتابعة والمطاوعة) (1) .

وفي قاموس المعجم الوسيط:

(الشيعة: الفرقة والجماعة، والأتباع والأنصار، ويقال هم شيعة فلان، وشيعة كذا مِن الآراء.

والشيعة: فرقة كبيرة مِن المسلمين، اجتمعوا على حبِّ عليٍّ وآله وأحقّيتهم بالإمامة).

ولقد استعمل القرآن الكريم كلمة الشيعة بمعنى الأنصار والأتباع الفِكريّين، فقال: ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ) (2) .

وهكذا نعرف أنّ معنى الشيعة في اللغة: هُم الأتباع المجتمعون على فكرٍ

____________________

(1) لسان العرب 8: 188 - 189 (مادّة شيع).

(2) سورة الصافّات: آية 83.

٢٤

واحدٍ، وموقفٍ موحّد.

وإذا كان هذا هو معنى (الشيعة في اللغة)، وأنّ علماء الأُمّة المنصفين، وأصحاب الفكر والمعرّفين الموضوعيّين للألفاظ والمصطلحات والمعاني قد عرّفوا الشيعة: بأنّهم أتباع أهل البيت وأحباؤهم، فلنتابع التشيّع وتطوّره في الحياة الإسلامية.

٢٥

البذرة الأُولى

لقد تجنّى كثير مِن الباحثين على نشأة التشيّع وبدْء ولادته، حتّى قاد البعض هذا التجنّي إلى اتّهام الشيعة: بأنّهم فِرقة أُسّست بأفكارِ عبد الله بن سَبأ اليهودي الأصل والمحتوى، بينما ذهب بعض الباحثين إلى أنّ التشيّع نشأ في خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

وذهب فريق آخَر إلى أنّ التشيّع وُلِد بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم انعقاد السقيفة، حيث اجتمع عدد بارز مِن الصحابة في بيت عليٍّ وفاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، تؤيّدهم فاطمة بنت محمّد، والعبّاس بن عبد المطّلب عمّ الرسـول (صلّى الله عليه وآله)، فكان هذا الاجتماع أوّل تشيّع ظهر حَول عليٍّ وأهل بيته.

ويذهب فريق آخَر إلى أنّ التشيّع نشأ حَول عليٍّ في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو الذي أطلق هذا الاسم على مؤيّدي عليٍّ وأتباعه.

نذكر مِن تلك الآراء ما نقله السيّد محسن الأمين عن أبي محمّد الحسن بن موسى النوبختي في كتابه الفِرق والمقالات: (الشيعة هُم فِرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون بشيعة عليّ في زمان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وما بعده، معروفون بانقطاعهم إليه، والقول بإمامته) (1) .

أمّا أبو حاتم السجستاني، فيقول: (إنّ لفظ الشيعة كان على عهد رسول الله، لقَبٌ لأربعةٍ مِن الصحابة، سلمان وأبي ذرّ والمقـداد وعمّـار) (2) .

____________________

(1) السيّد محسن الأمين / الشيعة بين الحقائق والأَوهام: ص41.

(2) المصدر السابق.

٢٦

أمّا العالِم المفسّر السيوطي، فيقول في تفسير قوله تعالى: ( أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، يقول: (أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فأقبل عليّ، فقال النبيّ: والذي نفْسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، قال وأخرج ابن مردويه عن عليٍّ، قال: قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألمْ تسمع قول الله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (1) ، أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين) (2).

ونقل ابن الأثير ما نصّه: (وفي حديث عليّ (عليه السلام): ستقدم على الله أنت وشيعتُك، راضين مرضيّين، ويقدِم عليَّ عدوَّك غِضاباً مقمحين، ثمّ جمَع يده إلى عُنقه، يريهم كيف الإقماح) (3).

ونقل الشبلنجي أنّ ابن عبّاس (رضي الله عنه) قال: (لمّا نزلت هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعليٍّ: هو أنت وشيعتُك تأتي يوم القيامة أنت وهُم راضين مرضيّين، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمَحين) (4).

وتحدّث ابن حجر عن نُطق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بهذا المصطلح، فقال: (الآية الحادية عشرة قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .

أخرج الحافظ جمال الدِين الزرندي عن ابن عبّاس: أنّ هذه الآية لمّا نزلت،

____________________

(1) سورة البينة: آية 7.

(2) جلال الدين السيوطي / الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 6: 279.

(3) ابن الأثير / النهاية في غريب الحديث والأثَر 4: 106 (باب القاف مع الميم).

(4) الشبلنجي / نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار: ص80.

٢٧

قال (صلّى الله عليه وآله) لعليٍّ (عليه السلام): هو أنت وشيعتُك يوم القيامة، راضين مرضيّين، ويأتي عدوّك غضاباً مقمَحين) (1) .

أمّا الشهيد الصدر فيتحدّث عن نشأة التشيّع وظهور الشيعة، ككيانٍ حَول عليٍّ (عليه السلام)، فيوضّح أنّ هناك اتّجاهين نشآ في صفوف الصحابة في عهد الرسول الكريم:

الأوّل: اتّجاه يتقيّد بالنصّ في كلّ مجالٍ مِن مجالات الحياة، ولا يرى مِن حقّ أحدٍ بعد البيان النبويّ أن يجتهد مقابل النصّ، سواء في مجال العبادة أو السياسة أو شؤون الحرب... الخ.

الثاني: اتّجاه يؤمن بإمكانية الاجتهاد مقابل النصّ في بعض المجالات.

وهذان الاتّجاهان قد تجسّدا بشكل تيّارَين، عندما واجَها النصّ النبويّ على أطروحة إمامة عليٍّ (عليه السلام)، فاجتهد ذلك الفريق مقابل النصّ، والتزم الفريق الآخَر بالنصّ، وبذا وُلِد الكيان النصّي مِن حَول الإمام عليّ (عليه السلام).

ثمّ يوضّح ذلك بنصّ قوله: (وهذان الاتّجاهان اللذان بدأ الصراع بينهما في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، قد انعكسا على موقف المسلمين مِن أطروحة زعامة الإمام عليّ (عليه السلام) للدعوة بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فالممثّلون للاتّجاه التعبّدي وجدوا في النصّ النبويّ على هذه الأطروحة سبباً مُلزماً لقبولها دون توقّف أو تعديل.

وأمّا الاتّجاه الثاني، فقد رأى أنّه بإمكانه أن يتحرّر مِن الصيغة المطروحة مِن قِبَل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، إذا أدّى اجتهاده إلى صيغةٍ أُخرى أكثر انسجاماً في تصوّره مع الظروف، وهكذا نرى أنّ الشيعة وُلدوا منذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مباشرةً، متمثّلين في المسلمين الذين خضعوا عمليّاً

____________________

(1) ابن حجر / الصواعق المحرقة: 161.

٢٨

لأطروحة زعامة الإمام عليّ (عليه السلام) وقيادته، التي فرَض النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الابتداء بتنفيذها مِن حين وفاته مباشرةً.

وقد تجسّد الاتّجاه الشيعي منذ اللحظة الأُولى، في إنكار ما اتّجهت إليه السقيفة مِن تجميدٍ لأطروحة زعامة الإمام عليّ (عليه السلام)، وإسناد السلطة إلى غيره) (1).

وبذا يرى الشهيد الصدر (قدّس سرّه) أنّ المسلمين الذين تحوّلوا عن زعامة الإمام عليّ (عليه السلام)، كان تحوّلهم يعود إلى منهج التفكير وطريقة التعامل مع النصّ، وتجويز الاجتهاد مقابل هذا النصّ الذي تواتر لدى المسلمين على هذه الأطروحة.

وهكذا نصل إلى حقيقةٍ كبرى في معرفة جذور التشّيع، ونشأة المصطلح وميلاده على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ مشاهير علماء المسلمين مِن محدّثين ومفسّرين ولُغَويّين يوضّحون: أنّ الشيعة هُم أتباع أهل البيت وأولياؤهم، وأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي سمّى أتباع عليٍّ بهذا الاسم.

مِن ذلك نفْهم أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يمهّد للتعريف، وإلفات النظر إلى مستقبل الأحداث والتطوّرات في حياة أُمّته مِن بعده، كجزءٍ مِن البيان والتبليغ؛ ليحدّد للمتنازعين مِن بعده أين يجب أنْ يقفوا، ولمَن يشايعون، ومَن يتّبعون.

إنّ هذه الحقائق العلميّة تلغي كلّ تفسيرٍ وتخرّصٍ وتشويهٍ لنشأة التشيّع وهويّته الحقيقية. فالبذرة الأُولى لنشأة التشيّع إذن، نشأتْ على عهد رسول الله

____________________

(1) الشهيد الفقيه السيّد محمّد باقر الصدر / بحث حَول الولاية: ص78 - 79.

٢٩

(صلّى الله عليه وآله)، غير أنّه تطوّر يوم وفاته (صلّى الله عليه وآله) إلى تكتّلٍ سياسيٍّ، وخطٍّ فكريٍّ حَول الإمام عليّ (عليه السلام) يستلهم مِن ذلك البيان النبويّ فِكرَه وموقفَه، فسمّي هذا التكتّل بالشيعة.

٣٠

ظهور التكتّل الشيعي

بدأ اسم عليٍّ يظهر خارج السقيفة كمرشّح للخلافة، وكأحقِّ شخصٍ بها، كما ظهر في داخل السقيفة، وفي وسط المتحاورين، فبعد أن خرج المهاجرون والأنصار المجتمعون في دار رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لانتشار خبر السقيفة، قام الفضل بن العبّاس، فخطَب الناس المجتمعين هناك قائلاً: (يا معشر قريش، إنّه ما حقّت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم وصاحبنا(*) أَولى بها منكم) (1) .

وهكذا بدأ التكتّل حَول عليٍّ، والمناداة بإمامته في اليوم الأوّل مِن وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبدأ التشيّع الفكري والسياسي يظهر ككُتلةٍ وكيانٍ، يحدّثنا اليعقوبي عن ذلك بقوله:

(وتخلّف عن بيعة أبي بكرٍ قوم مِن المهاجرين والأنصار، ومالوا مع عليّ بن أبي طالب، منهم العبّاس بن عبد المطّلب، والفضل بن العبّاس، والزبير بن العوّام بن العاصّ، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذرّ الغفاري، وعمّار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأُبيّ بن كعب) (2) .

وبدأ هذا التكتّل المتشيّع لعليٍّ يواصل مساعيه السياسية واجتماعاته، ويطالب بإعادة النظر فيما جرى في السقيفة. ويحدّثنا المؤرّخون عن الاجتماع السياسي، الذي جرى في بيت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ للتباحث في موضوع الخلافة والإمامة بعد الذي جرى في سقيفة بني ساعدة، فقد نقل

____________________

(*) وصاحبنا: يعني عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 124.

(2) المصدر السابق.

٣١

اليعقوبي ذلك بقوله:

(وبلَغ أبا بكر وعُمَر أنَّ جماعة مِن المهاجرين والأنصار، قد اجتمعوا مع عليِّ ابن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتَوا في جماعةٍ، حتّى هجموا الدار..) (1).

أمّا ابن قتيبة، فقد روى خبر هذا الاجتماع السياسي بالنصّ التالي:

(وإنّ أبا بكر (رضي الله عنه) تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليٍّ (كرَّم الله وجهه)، فبعث إليهم عمَر، فجاء فناداهم، وهُم في دار علـيٍّ، فأبَوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب، وقال: والذي نفْس عمَر بيده لتخرُجُنَّ أو لأحرقَنّها على مَن فيها) (2) .

وإذن، نستطيع أن نؤرّخ لظهور التشيّع ككيانٍ سياسيٍّ وفكريٍّ متميّز منذ الساعات الأُولى، التي تلَت وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حينما احتدم الجدَل حَول المرشّح للخلافة والإمامة، وبذا نفْهم أنّ التشيّع وُلِد في صفوف الصحابة في المدينة المنوّرة؛ وحفظاً لوحدة المسلمين وتماسكهم آثَر عليّ (عليه السلام) الانسحاب مِن المواجهة السياسية، ومال إلى العزلة أيّام الخليفتَين أبي بكرٍ وعمَر، واكتفى بإبداء النُّصح والمشورة، والمشاركة في تسديد المسيرة الإسلامية.

ولقد سجّل له التاريخ أروَع تعبيرٍ عن التضحية والإيثار، حين عَبّر عن موقفه بقوله: (والله لأسلمنّ ما سلِمت أمور المسلمين) (3) .

غير أنَّ الاتّجاه والرؤى والجماعة المُشايعة لعليٍّ بدأت بالظهور، كقوّةٍ سياسيةٍ وفكريةٍ، وكحزبٍ له وجْهات نظرٍ في سياسة الدولة وجهازها الحاكم، عندما تسلّم عثمان الخلافة، وتسلّط الحزب الأمويّ على السلطة، فاستأثر بخيرات الأُمّة

____________________

(1) المصدر السابق: ص126.

(2) ابن قتيبة الدينوري / الإمامة والسياسة 1: 19.

(3) نهج البلاغة / الخطبة 74.

٣٢

وكوّن طبَقةً متميّزةً، وبدأ النقْد مِن الصحابة في المدينة المنوّرة، وبقية المسلمين في الأقطار الإسلامية كمصر والعراق، فانضمّ إلى موقف النقْد والمعارضة لسياسة عثمان: كتلةُ عائشة زوج الرسول، وطلحة والزبير، فكانوا أشدّ الناس نقْداً لسياسة عثمان وتحريضاً عليه، وقد ذكَر اليعقوبي ذلك بقوله: (وكان أكثر مَن يؤلِّب عليه طلحة والزبير وعائشة) (1).

وروي أيضاً: (فإنَّ عثمان يوماً ليخطب، إذ دلّت عائشة قميص رسول الله، ونادت يا معشر المسلمين: هذا جلباب رسول الله لمْ يَبْلَ، وقد أبلى عثمان سنّته) (2) .

وكانت تقول لمروان، عندما طلب منها أن تتدخّل لإصلاح الأمْر بين عثمان وحركة المعارضة الواسعة، التي اشترك فيها أهل المدينة ومصر والعراق يقودهم طلائع الصّحابة، وفيهم الأنصار والمهاجرون، ردّت عليه قائلة: (لعلّك ترى أنّي في شكٍّ مِن صاحبك، أما والله لوَددتُ أنّه مقطّعٌ في غرارة مِن غرائري، وأنّي أُطيق حمْله، فأطرحه في البحر) (3) .

وهكذا كان الجوّ السياسي مكْفَهرّاً، والصراع محتدماً بين عثمان والحزب الأمويّ مِن جهةٍ، وبقيّة المسلمين مِن جهةٍ أُخرى، وكان طوال فترة حُكم عثمان التي ظهر فيها التراجع عن التطبيق الإسلامي، وعبَث الحزب الأمويّ بشؤون المسلمين، كان أبو ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي والمقداد ابن عمرو ومحمّد بن أبي بكر ومالك الأشتر، وهُم مِن أركان المتشيّعين للإمام عليّ، كانوا مِن قادة المعارضة السياسية لعثمان والتسلّط الأمويّ على شؤون الأُمّة، فنفى

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 175.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق: 176.

٣٣

عثمان أبا ذرّ الغفاري إلى الربذة، ومات هناك وحيداً إلى جوار ابنته.

ومع اشتداد المعارضة ازداد تجمّع الصحابة وتشيُّعهم لعليٍّ (عليه السلام)، وقد وَصف اليعقوبي تلك الظاهرة بقوله: (ومالَ قوم مع عليِّ بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان) (1) .

وصوّر ابن الأثير اجتماع المعارضة، ولجوءها إلى عليٍّ بقوله:

(فاجتمع الناس فكلّموا عليَّ بن أبي طالب، فدخَل على عثمان، فقال له: الناس ورائي، وقد كلّموني فيك) (2) .

غير أنّ الإمام عليّاً لمْ يشارك في عملية الصراع هذه، وحاول أن ينصح عثمان، ويدفع محنة الصراع الدموي، والتمزّق عن وحدة الأمّة.

إنّ دراسة وتحليل بُنية المرتكزات الأساسيّة للتشيّع والمتشيّعين لعليٍّ (عليه السلام) في تلك المرحلة، توصلنا إلى أنّ هذه المرتكزات تتلخّص في:

1 - الإيمان بأحقّية عليّ بالخلافة والإمامة، ووجوب البيعة له.

2 - الدعوة إلى العمل بكتاب الله وسنّة رسول الله، ويمثّل هذان المبدآن المرتكز الأساس للمعتقد الشيعي على امتداد التاريخ، وهما خلاصة التشيّع وجوهره.

وقد ظهر ذلك واضحاً جليّاً في تصريحات وجوه الصحابة، الذين أجمعوا على البيعة لعليٍّ بعد مقتل عثمان، وفي تصريحات عليٍّ وولَديه الحسن والحسين مِن بعده ومَن شايعهم مِن الصحابة والتابعين.

____________________

(1) المصدر السابق: ص163.

(2) ابن الأثير / الكامل في التاريخ 2: 275.

٣٤

مصطلح التشيُّع في لُغة السياسة

وبعد مقتل عثمان، واندفاع الأُمّة بالبيعة لعليٍّ، وإجماع الصحابة والأقطار الإسلامية على ذلك، عدا معاوية الذي انفرد بالشام وشقَّ عصا الطاعة على إمام المسلمين، الذي تمَّت له البيعة والخلافة. بعد ذلك تميّزَت (شيعتان)، هما: شيعة (أتباع) بني أميّة، وشيعة آل البيت، وكثُر استعمال كلمة (شيعة) لكِلا الفريقين، نذكر فيما يلي بعضاً مِن هذه الاستعمالات التاريخية:

وقع حوار بين معاوية بن أبي سفيان، وبين الإمام السبط الشهيد الحسين بن عليّ بن أبي طالب [ عليه السلام ]، وكان كلٌّ منهما يستعمل كلمة (شيعة):

(وقال معاوية للحسين بن عليّ: يا أبا عبد الله، أعلمتَ أنّا قتلنا شيعة أبيك، فحنّطناهم، وكفّنّاهم وصلّينا عليهم، ودفنّاهم؟

فقال الحسين (عليه السلام): حِجرك وربِّ الكعبة، لكنّا والله إنْ قتلنا شيعتك ما كفّنّاهم، ولا حنّطناهم، ولا صلّينا عليهـم، ولا دفنّاهم) (1) .

ومِن هذه الاستعمالات:

(وروي أنّه - أي زياد بن أبيه - كان أحضر قوماً، بَلَغَهُ أنّهم شيعة لعليٍّ؛ ليدعوهم إلى لعْن عليٍّ والبراءة منه، أو يضرب أعناقهم، وكانوا سبعين رجُلاً) (2) .

ومِن الاستعمالات التاريخية لهذا المصطلح، ما ورَد في كتاب أهل العراق سنة (50 هـ) إلى الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام)، قال اليعقوبي:

____________________

(1) المصدر السابق: ص231.

(2) المصدر السابق: ص235.

٣٥

(ولمّا توفّيَ الحسن بن عليّ وبلَغ الشيعة ذلك، اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صُرَد، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة، فكتبوا إلى الحسين بن عليّ يعزّونه على مصابه بالحسن: بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن عليّ، مِن شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين، سلام عليك، فإنّا نحمَد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد:

فقد بلَغَنا وفاة الحسن بن عليّ، يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيّاً، غفر الله ذنبه، وتقبّل حسناته، وألحقه بنبيِّه، وضاعف لك الأجْر في المُصاب به، وجبَر بك المصيبة مِن بعده، فعند الله نحتسبه، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ما أعظم ما أصيب به هذه الأُمّة عامّة، وأنت وهذه الشيعة خاصّة...) (1) .

وعندما تولّى يزيد بن معاوية الخلافة بالقوّة والوراثة خلافاً لمبدأ الحُكم في الشريعة، ورفض الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) والشخصيّات الإسلامية البارزة آنذاك، بيعة يزيد؛ لعدم أهليته للخلافة، وانحرافه عن الخطّ الإسلامي القويم، اجتمع زعماء أتباع أهل البيت في العراق، فكتبوا للإمام الحسين (عليه السلام):

(بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن عليٍّ، مِن شيعته المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد فحيّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعجَل ثمّ العجَل والسّلام) (2) .

وتحدّث ابن الأثير عن تلك الأحداث، فقال:

(ولمّا بلَغَ أهل الكوفة موت معاوية، وامتناع الحسين وابن عُمَر وابن الزبير عن البيعة، أرجفوا بيزيد، واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فذكروا مسير الحسين إلى مكّة، وكتبوا إليه عن نفرٍ، منهم: سليمان بن صُرَد الخزاعي،

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 228.

(2) المصدر السابق: ص 242.

٣٦

والمسيّب بن نَجَبة، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وغيرهم) (1) .

وفي كتاب عبد الله بن مسلم الذي كتَبه إلى يزيد بن معاوية، وهو مِن أنصار بني أُميّة، نقرأ في هذا الكتاب استعمال مصطلح (شيعة)، وهو يُطلقه على ذلك الكيان والتكتّل الذي بايع الحسين.. جاء في الكتاب:

(وأمّا بعد فإنّ مسلم بن عقيل قد قدِم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكُ لك في الكوفة حاجة، فابعث إليها رجُلاً قويّاً...) (2) .

وهذا معاوية بن أبي سفيان يستعمل كلمة (شيعة)، ويصف أتباع عثمان بأنّهم شيعته، عندما أوصى المغيرة بن شعبة يوم ولاّه الكوفة سنة (41هـ)، جاء في تلك الوصيّة:

(... ولست تاركاً إيصاءك بخصلةٍ: لا تتحامَ عن شتْم عليٍّ وذمّه، والتّرحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب عليّ، والإقصاء لهم، وترْك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان (رضوان الله عليه) والإدناء لهم، والاستماع منهم) (3) .

وهذا يزيد بن معاوية عندما كتب إلى عبيد الله بن زياد، وعيّنه والياً على الكوفة، نجده يستعمل كلمة (شيعة) معبّراً بها عن أتباعه وشيعته (شيعة بني أُمية)، ممّا يؤيّد استعمال هذا المصطلح في تلك الفترة، بمعنى التكتّل السياسي والأنصار العقائديّين، جاء في هذا الكتاب:

(أمّا بعد، فإنّه كتَب إليّ شيعتي مِن أهل الكوفة، يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها يجمع الجموع...).

____________________

(1) ابن الأثير / الكامل في التاريخ 2: 533.

(2) الشيخ المفيد / الإرشاد: ص 205.

(3) تاريخ الطبري 4: 188 / حوادث سنة 51 هـ.

٣٧

وجاء في نصّ اليعقوبي: (وخلّف أهل الشام عبد الملك، فأقبل مسرعاً إلى دمشق؛ خوفاً مِن وثوب عمرو بن سعيد، واجتمع الناس عليه، فقال لهم: إنّي أخاف أن يكون في أنفسكم منّي شيء، فقام جماعة مِن شيعة مروان، فقالوا: والله لتقومَنَّ إلى المنبر، أو لنضربَنَّ عُنقك، فصعد المنبر وبايعوه) (1) .

وهكذا يتّضح لنا أنّ معنى التشيّع: هو متابعة أهل البيت (عليّ وبَنِيه)، وأنّ بذرته الأُولى قد وُلدَت على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ ظهر في المدينة المنوّرة في صفوف الصحابة الأوائل، حَول عليّ وفاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كتكتّل يدعو إلى أحقّية عليّ بالخلافة، بعد أن كان حبّاً ووَلاءً لشخصه في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ امتدّ مذهباً عقيدياً وفقهيّاً وسياسيّاً؛ نتيجةً لِما يحمِل مِن فهْمٍ ووعْيٍ متميّزٍ للإسلام، استمدّه مِن فهْم ووعي الإمام عليّ وبَنِيـه (عليهم السلام)، فتبلوَر هذا المنهج العقيدي والفقهي، على يد الإمامين محمّد الباقر وولده جعفر الصادق (عليهما السلام)، المعاصرَين لأبي حنيفة ومالك بن أنس وغيرهما مِن أصحاب المذاهب الفقهية.

وينبغي أنْ نشير هنا إلى أنّ المذهب: هو عبارة عن طريقةٍ ومنهجٍ لفَهْم الإسلام، والكشف عن محتواه في المجالات العقيدية والتشريعية والسياسية.

وعندما تبلور هذا الكيان الشيعي، واتّسع عند اشتداد الصراع بين عليٍّ (عليه السلام) ومعاوية، انضمّ إلى صفوف عليٍّ البدريون والمهاجرون والأنصار، وأصحاب بيعة الرضوان، وقاتلوا معه معاوية بن أبي سفيان في معركة صِفّين... ذكَر اليعقوبي ذلك بقوله: (وكان مع عليٍّ يوم صِفّين مِن أهل بدْر سبعون رجُلاً، وممّن بايع تحت الشجرة سبعمئة رجُل، ومِن سائر المهاجرين والأنصار أربعمئة رجُل، ولمْ يكن مع

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 258.

٣٨

معاوية مِن الأنصار إلاّ النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلّد...) (1) .

وقد انقسم الصفّ الإسلامي آنذاك إلى أربعة أحزاب سياسية هي:

1 - الحزب الأُمَويّ، ويقوده معاوية بن أبي سفيان.

2 - حزب عائشة وطلحة والزبير بن العوّام.

3 - حزب الخوارج الذين انفصلوا عن جيش الإمام عليٍّ؛ ولذا عدّهم أصحاب الفِرق مِن الشيعة.

4 - حزب عليّ بن أبي طالب، الذي كان يمثّل الخلافة الشرعية ويقود الأُمّة.

وبعد استشهاد عليٍّ (عليه السلام) استمرّ التشيّع كحزبٍ سياسيٍّ، وخطٍّ فكريٍّ حَول الحسن بن عليّ (عليه السلام)، فبايعه المسلمون، وتجمّعوا حَوله، غير أنّ الظروف السياسية اضطرّت الإمام الحسن إلى مصالحة معاوية، والتنازل عن الخلافة له (2) ، وفْق شروطٍ ومبادئ اتّفق عليها الطرفان، فنكث معاوية عهده هذا، ونصّب ابنه يزيد خليفةً للمسلمين، خلافاً للعهد الذي أبرمه مع الإمام الحسن (عليه السلام)، وخلافاً لمبدأ الحُكم الذي نصَّت عليه الشريعة الإسلامية.

ونقرأ في كتاب الصُلح بين الحسن بن عليّ ومعاوية بن أبي سفيان شرطاً، اشترطه الحسن لحماية شيعة آل البيت، ودفْع التسلّط الأمويّ عنهم، ويكشف هذا الكتاب امتداد كتلة التشيّع، كقوّة سياسية وفكرية يحرص أهل البيت على حمايتها، والحفاظ عليها؛ لأنّها كانت قوّة المعارضة المستهدَفة مِن قِبَل الحزب الأمويّ.

غير أنّ معاوية لمْ يفِ بذلك، وعانت شيعة أهل البيت أشدّ المعاناة مِن الإهانة والقتْل والتعذيب والملاحقة والحرمان، ما ضجَّ به التاريخ... فقد قتَل معاوية عدداً

____________________

(1) المصدر السابق 2: 188.

(2) جلال الدِين السيوطي / تاريخ الخلفاء، اشترط الإمام الحسن على معاوية (على أن تكون له الخلافة مِن بعده... فأجابه معاوية إلى ما طلب): ص179.

٣٩

مِن طلائع شيعة عليّ (عليه السلام) الذين كانوا مِن أفضل الصحابة والتابعين، نذكر منهم حجْر بن عدي وستة معه مِن أصحابه، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الله بن يحيى الحضرمي، ورشيد الهجري، وجويرية بن مهر العبدي، وأوفر بن حصين، وكثير غيرهم.

وعندما بدأ الحزب الأمويّ يُسلِّط الإرهاب على شيعة آل البيت في عهد الحسن والحسين، كان الاحتجاج يصدر مِن السبطين، ولكن دون جدوى... فلمّا استشهد الحسن بن عليّ (عليهما السلام) مسموماً على يد معاوية بن أبي سفيان، تجمّع الشيعة حَول الإمام الحسين، وطالبوه بالثورة على معاوية، إلاّ أنّه رفض ذلك، وطلب منهم الالتزام بعهد الصُلح، حتّى موت معاوية، غير أنّ معاوية خالف ميثاق الصلح، وعقد البيعة لابنه يزيد، وحوّل الحُكم الإسلامي إلى حُكمٍ ملَكيٍّ وراثي في الحزب الأمويّ، فرفض الحسين ووجوه الصحابة والتابعون بيعة يزيد.

وبدأت المواجهة المسلّحة، وأعلن الحسين بن عليّ (عليهما السلام) الثورة على حكومة يزيد بعد موت معاوية، وقاد الكفاح كإمامٍ للمسلمين ومسؤولٍ عن حفظ الأُمّة والرسالة.

ونشاهد مصطلح الشيعة يتكرّر في هذه الحقبة، ويبرز التشيّع كتكتّلٍ سياسيٍّ وخطٍّ فكريٍّ معارض مِن حَول الإمام الحسين بن عليّ، كما كان يتحرّك مِن حَول أبيه عليٍّ وأخيه الحسن (عليهم السلام)، ويجسّد هذا الوجود السياسي الكتاب الذي وجّهه أهل العراق إلى الإمام الحسين بن عليّ، فقد جاء فيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، مِن شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام): فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجَل يا ابن رسول الله، فقد اخضرّ الجَنَاب، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فاقدِم علينا إذا شئت، فإنّما تقدِم على جُندٍ مجنَّدة لك، والسّلام

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

يزيد بين القيان والجواري، ويزيد بين نساطرة الشام. الحسين يَهَب مال بيته للفقراء، ويزيد يحشو فم شاعرٍ باللؤلؤ.

علي: «ليس مَن طلب الحقّ فأخطأه كمَن طلب الباطل فأدركه».

زينب تهتف بوجه يزيد: فوالله ما فريت إلاّ جلدك ولا حززت إلاّ لحمك.

يزيد يقول لعلي بن الحسين: ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم.

معاوية يدسّ السمّ لخصومه السياسيّين.

الحسين مقطوع الرأس في كربلاء.

يزيد يأمر بمنع الماء عن الحسين.

يزيد يشير إلى الرأس الشريف ويسأل: أتدرون من أين أتي هذا؟

الحسين بين اُمّه فاطمة الزهراء وأبيه علي. ويزيد بين اُمّه ميسون وأبيه معاوية.

معاوية يحتضر ويكذب بأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كساه قميصاً وقلّم أظفاره يوماً.

الحسين يهتف: «ألا من ناصرٍ... ألا من معينٍ...».

الحسين يستعطف قوماً غلظت قلوبهم لجرعة ماء لرضيع.

معاوية في غبش الرؤيا، خفيّ المعالم، غامض المبادئ والمواقف.

الحسين المقتول سبط الرسول الكريم.

يزيد القاتل ابن معاوية الثعلب.

١٦١

علي جامع الفضائل وحامل راية الإسلام من يد النبي.

معاوية يغتصب الخلافة لابنه عنوةً.

آل البيت أحقّ بالخلافة من بني اُميّة.

يزيد شارب الخمر معلن بالفسق.

الحسين سيّد شباب أهل الجنّة، وطالب الإصلاح في اُمّة جدّه.

يزيد جعل الخلافة الإسلاميّة بيد السفهاء والقيان والفهّادين والغلمان. والحسين استشهد مع عترة النبي دفاعاً عن عقيدة الإسلام.

* * *

وفي مثل هذه المواقف التي وجد المسلم بها نفسه، تعصف به رياح الشكّ والندم فيما كان وقف متأمّلاً على مفترق عدّة طرق، وقف بعد أن أجّجت ضميره عصفة غثر عصفة من عواصف المُثل الثوريّة الجديدة، فدفعته إلى التساؤل بينه وبين نفسه، وكان يسمع إجابات داخليّة تربّت حيناً، وتدغدغ حيناً آخر، وتدقّ مراراً.

وقف يسأل على مفترق طرق قبل أن يقرّر سلوك إحداها ليصل إلى ما يعزم عليه، وإلى الهدف الذي يتبدّى له أصلح من غيره نتيجة ما يتجمّع في قناعاته، وما يتولّد من أفكاره ومبادئه، وما تفرزه الأحداث والخضّات التي أصابته في الصميم.

سأل نفسه: مَن أنا؟ أجابته نفسه:

١٦٢

أنت مسلم ما بعد الثورة.

وما كُنته قَبْلَها إذاً؟

لم تكن شيئاً، فقد بعتني للشيطان وقبضت الثمن.

كيف؟

رأيت الباطل فسكتّ عنه.

لم أكن أعرف أنّه باطل.

بل عرفت، ورأيت الحقّ يُداس فلم ترفع إصبعاً.

لم ألحظ هذا الأمر.

بلى، لحظته وتعامَيت.

لم يصل إلى مسمعي.

بلى، وصل وتصاممت.

ما كان عليّ أن أفعل؟

أن تهبّ وتقتلع.

اقتلع ماذا؟

الزيف، الظلم، الضنك وانتهاك العقيدة.

ومن أين لي القدرة وأنا الضعيف؟

لست ضعيفاً، بل قويّاً، تعاميك وصممك قوة.

وهل أقدر على الطغاة؟

أجل، بنصرتك رافعي لواء الحق.

ومَن هم هؤلاء؟

الحسين.

وأين كنتُ سألقاه لأنصره؟

في قلبك وداخل مأوى عقيدتك

١٦٣

لو أدركته لنصرته.

ما دمت سكتّ عن يزيد فلن تنصر حسيناً.

وهل نُصرتي كانت ستفيده؟

عندما تنصره تضيف لسيوفه سيفاً جديداً

لا أكذّب، فلم أعِ ذلك في حينه.

ألم أقل لك بأنّك تعاميت وتصاممت. فلم تعد ترى ولا تسمع؟

ولكنّي مسلم. وطاعة الخليفة واجب عليَّ.

الخليفة الذي قتل سبط النبي باسم إسلام جدّه؟

لقد اشتريت دنياك بآخرتك.

أنا نادم بعد أن علمتُ بما جرى.

وما يفيد ندمك الآن أيّها المسلم؟

ألا يفيد بشيء؟ ألا يمكنني فعل شيء؟

بلى، يمكنك مقايضة دنياك بآخرتك.

أنا مستعدّ لهذه المقايضة. علّ أن يرتاح ضميري.

إذاً فهل تُقِرّ بأنّك لم تنصر الحسين؟

اُقِرّ.

وبأنّك نصرت يزيد بسكوتك على مخازيه؟

اُقِرّ.

وهل لديك فكرة عن كيفيّة إراحة ضميرك.

بأن أنصر الحسين واُناجز يزيد.

ولكن الحسين قُتل ولم يبقَ إلاّ مبادئه وشعارات ثورته.

سأسير إذاً على هذه المبادئ منذ الآن فصاعداً.

١٦٤

وهل بمَكنَتِك وأنت خارج للتوّ من معمعة تخاذلك؟

يا نفسي ارحميني، كنتُ ضالاًّ فاهتديتُ، وكنتُ طمّاعاً فشفيت.

لثورة الحسين شعارات لا يحتملها إلاّ المؤمن.

أنا مؤمن، أنا مؤمن.

وكيف ستبرهن على إيمانك؟

بكَوني مسلماً، وبعملي بمبادئ الحسين منذ التوّ.

لا يكفي هذا، فقد كنت مسلماً حينما خذلت الحسين.

يا نفسي، رحماك، أشيري بما يتوجّب عليَّ فعله وسأفعله.

أولاً: أن تلزم نفسك بكلّ كلمة نطق بها سيّد الشهداء.

سأفعل، سأفعل.

وأن تعمل بكلّ مبادئه مهما لحقك من أذى.

لم تعد تهمّني حياتي، بل راحة ضميري كمسلم.

وأن تبدأ منذ الآن بهدم أصنام مجتمعك وأخلاقك.

سأهدمها، واُفتّتها.

وأن تنصر الحسين.

تقصدين مبادئه التي أعلنها؟

أجل، وقصدي أن ترعى بنفسك ما زرعه في داخلك، وتُتمّم ما بدأه فيك.

هلاّ أخبرتِني بما زرعه لأكون على بيّنة؟

زرع فيك حبّ الخير، وعشق الحقّ، وسلامة العقيدة، والثورة على الظلم، والتصدّي لمحرّفيّ السنن، وزارعي الفتنة، ومحقّري الرسالات السماويّة.

يا ويلي، يا ويلي من لقاء وجه ربّي! كلّ هذا كان ونحن عنه

١٦٥

غافلون؟

أجل، ولهذا ثار الحسين، ولهذا قُتل مع ذريّة الرسول.

كفى يا نفسي، كفى، أكاد أذوب حسرة.

وأنت ساكت عن كلّ ذلك.

آه، إنّي حزين ونادم، ليتني أفقت قبل ذلك، كنت نائما مخدّراً قبل أن رأيت رأس سبط الرسول على سنّ رمح كرأس قاطع طريق أو مجرم.

أتعرف مَن فعل ذلك؟

أعرف، أعرف، يا ويلك يا يزيد من انتقامي!

لقد قُتل ابن فاطمة الزهراء وابن علي وحفيد محمّد وشقيق زينب ووالد سكينة والسجّاد. هؤلاء أخيار الله من عترة نبيّك الذي هداك إلى رسالته.

سحقاً لك يا يزيد وسحقاً لي ولكلّ مَن سكت عنك! ولكن صبراً، فلن تفلت من انتقامنا.

لو قلت هذا مع حسين لما تحمّلت وزر دمه الطاهر.

ليتني قلته معه.

كنت خنوعاً وقتها، ذليلاً، مساوماً على إنسانيّتك لشيطان أطماعك، مؤثّراً السلامة على سلامة دينك، فقبحاً لك!

* صوت بكاء ونشيج ولطم على الخدود.

عشرون عاماً بعد مقتل أمير المؤمنين علي، وأنت صامت حيال التّقتيل والظلم وسرقة الأموال واستباحة الأعراض، وتحريف السنّة.

* صوت البكاء يعلو ويزداد لطم الخدود

١٦٦

كنت مغرماً بعشق ذاتك حتّى بَلا الله خيارك، فوجدت نفسك كاذباً في موطن ابن بنت نبيّك، فبخلت عنه بنفسك حتّى قُتل أمام عينَيك، وأنت لا تمدّ لنصرته يداً، ولا تجادل عنه بلسانك، ولا تقوّيه بمالك، فما عذرك عند ربّك ساعة لقاء نبيّك؟

* عويل وصراخ كصراخ الذبيح وقرع على الصدور.

لقد وَنيتَ، وتربّصت، وانتظرت حتّى قُتل فيك ولد نبيّك وسلالته وبضعة لحمه ودمه، وريحانته، وسيّد شباب أهل الجنّة، فحقّ عليك سخط ربّك.

كفى يا نفسي، فأنا راغب في الموت تكفيراً عن إثمي، فأرشديني.

لا عذر لك أمام نبيّك يوم القيامة، إلاّ عندما تقتل قاتلي ابن نبيّك، فلا ترجع إلى أهلك وأطماعك الدنيويّة حتّى ترضي الله ونبيّه بالانتقام من قاتلي شهيد كربلاء.

لن يهدأ ضميري حتّى أقضي بما تَشْرِين.

إذاً هيّا أصلح مجتمعك وأخلاقك وطهّرهما.

وهل سأكون وحدي؟

عندما تخطو وحدك ستلتقي خطواتك بخطوات مسلم آخر على الدرب.

وإلى أين يقودنا الدرب؟

إلى عرش يزيد، وإلى صرح كلّ طاغية وظالم

وإذا سقط يزيد. هل يصلح الإسلام.

ثورة الحسين لم تقم لإسقاط عرش يزيد. بل لدكّ عروش البغي في كلّ زمان ومكان.

١٦٧

لم أفقه شيئاً.

ستفقه كلّ ذلك بعد أن تؤدّي ضريبة دينك وعقيدتك. وتكفّر عن إثمك، وتبرهن عن ندمك بخذلانك الحقّ والسكوت عن الباطل، عندها ستفتّح بصيرتك وتفهم كلّ شيء.

ومبادئ ابن النبي الأكرم لن تستعصي على ضميري اللهوف إلى تشرّبها؟

أجل، لن تستعصي بعد أن تفعل ما أمرتك به.

وهذا المفترق، بأيّ طريق أسلك منه لأصل إلى خلاص نفسي؟.

اسلك هذا الطريق الذي قلّ السالكون به؛ لأنّه طريق الحقّ الذي عناه أمير المؤمنين علي.

وهذا الطريق سيمكّنني من إراحة ضميري والتكفير عن تقصيري وإعادتي إلى حظيرة نبيّي محمّد، والانتقام من قاتلي سبطه وذريّة بيته؟

أجل، وسيستردّني من الشيطان الذي بعتني له.... أنا نفسك.

وما اسم هذا الطريق؟

طريق الحسين.

١٦٨

معجزات الشهادة الزمنية

فيا لك حسرةً ما دمتُ حيّاً

تَردّد بين حلقي والتراقي

فلو فلق التلهف قلبَ حيٍّ

لهمّ اليوم قلبي بانفلاقِ

فقد فاز الاُلى نصروا حسيناً

وخاب الآخرون إلى النفاق(١)

هكذا كان يقول لسان حال مسلم ما بعد الثورة، فهو بعد خذلانه لبطل الطفّ صار يحسّ نقيصة تفري ضعفه الباطني، جعلته يتفرّس طويلاً في خيالات اُولئك الأشاوس الذين قضوا فوق ثرى كربلاء دون الحقّ الذي رفع رايته أسد الحقّ وسار بها إلى حيث المصارع والحمام وهو عالِم بما ستؤول إليه حركته.

____________________

(١) أبيات قالها عبيد الله بن الحر الجعفي ندماً على قعوده عن نصرة الحسين (عليه السّلام).

١٦٩

وحركة الحسين (عليه السّلام) كان لها هدفان لا ثالث لهما:

الأول: إحداث رجّة عنيفة في كيان الاُمّة الإسلاميّة، وهذا هدف مبدئي وليس مرحلي أو نهائي.

الثاني: وضع الاُسس النهائيّة والمبادئ الضروريّة لحفظ كيان العقيدة إلى الأبد، محاذراً بها أن تزل أو تضعف أو تضمحل على يد أفراد أو سلاطين، وهذا هو هدفها الجوهري والرئيس والأساسي.

وليس في سدى الحركة أو لحمتها ما ينبئ عن هدفٍ ثالث، وكلّ الذين وضعوا لهذه الحركة هدفاً ثالثاً إنّما كانوا يرتدّون بها من حيث لا يدرون، ويقصدون إلى مسار آني مرحلي لا يملك من مبرّرات وجوده إلاّ الوقت الزائل بزوال أسبابه.

فما ذهب إليه إذاً مؤرّخو الحركة من إسناد هدف إسقاط عرش يزيد أو حكم بني اُميّة لثورة الحسين كهدف بحدّ ذاته قامت الثورة لأجله، كان في معظمه إسناد لا يتكّئ على الحقيقة الجوهريّة للثورة.

فسقوط عرش يزيد كان واحدة من معجزات الثورة الزمنيّة أي تلك المتعلّقة بأشكال الحكم القائمة، أو بالأفراد الذين يسوسون الاُمّة في تلك المرحلة، وإذا كان لهذه المعجزة من سبب وهدف فليس إلاّ لأنّها متمّمة للمعجزتين (الروحيّة والاجتماعيّة) اللتَين كانتا الهدف الأسمى لثورة الشهيد.

وبتحديد أدقّ كانت المعجزة على مستوى ضمير اُمّة الإسلام هي الهدف الأوحد لثورة الحسين الذي به قوّمت الاُمّة وعقيدتها، والتي شكّلت أساس كلّ المعجزات الاُخرى التي لا بدّ وأن تتحقّق من أجل استكمال صورة المعجزة الروحيّة بتمامها، فتصبح لها سنداً وعضداً وعاملاً مكمّلاً.

فإذا نظرنا إلى ما ذهب إليه البعض في إسناد هدف إسقاط عرش يزيد بالذات إلى حركة الحسين، وإذا قمنا بدراسة متعمّقة لأفكار ومبادئ ومواقف هذه الثورة

١٧٠

منذ انبعاثها شرارة صغيرة حتّى اكتمالها حريقاً هائلاً يأكل هيكل الاُمّة الإسلاميّة المنخور ليشيّد على أنقاضه هيكلاً سليماً، لَما وجدنا أيّة إشارة لكون الحركة تضع مشكلة إسقاط عرش يزيد كهدف، سواء كمرحلي أو مبدئي أو نهائي ضمن أهدافها.

فالثورة لم تكن ثورة لفرديّة مجتمع أو لشريعة حكم، بل كانت ثورة الإنسان وشرائع الفطرة الدينيّة السليمة، ما دام الإنسان هو المستفيد منها، فلا يحيد عن سنّته مهما تبدّلت وتنوّعت شرائع الحكم والمجتمعات، وله في هذا الناموس مرشداً:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (١) .

إنّ الرمز العميق في ثورة الحسين لآية تنحت في الفطرة الإلهيّة الأزليّة التي لا زمان ومكان وأحكام تقيّدها، فإذا كانت ثمّة من تبدّل أو إكمال لهذا الرمز في بعض مواقع وظروف، فليس معنى ذلك صيرورته رمزاً ظرفيّاً أو زمنيّاً صرفاً، بل إنّ الظرفيّة والزمنيّة تنجرفان أمامه أو تلتصقان به بحكم مروره فيهما أو فوقهما.

وعندما جاءت هذه الثورة لم تطلب من الإنسان أن يأخذ بجزئيّاتها وتفاصيلها، بل دعته للنظر إليها بمنظور شمولي، وأن يقف بعيداً عنها مسافة كافية ليتبيّنها جيّداً، فهي شكّلت الإطار والصورة معاً، ومن الإغماط لها كثورة قدسيّة أن ننظر إليها كصورة فحسب أو كإطار وحده.

فلو نظرنا إليها بهذه السطحيّة لكنّا كمَن يخضب الفطرة الإلهيّة بالصنعة البشريّة، ولوجب علينا أن ننظر على مقياسها إلى موقعة كربلاء، نظرة مادّية صرفة

____________________

(١) سورة الروم / ٣٠.

١٧١

تقودنا إلى اعتبارها موقعة عسكريّة ليست إلاّ.

فهي في شكلها المادّي الصرف موقعة عسكريّة صرفة، هزمت فيها الكثرةُ القلّة، وفي مضمونها لا تحتوي على أدنى شَبه بالمعارك العسكريّة.

وكرمز روحي، وكعبرة زمنيّة موحى بها من السرّ الإلهيّ كانت معركة كربلاء من جانب الحسين رمزاً لوقفة الحقّ على ضعف وسائله لا لحمته، ومن جانب يزيد كانت رمزاً لجَولة الباطل الذي يفوز بوسائله على بطلانها.

فمن هذه النقطة بالذات يتاح لنا النظر إلى إكمال المعجزة الروحيّة الأساسيّة للثورة بمعجزة زمنيّة، تتجلّى في سقوط عرش يزيد بواسطة ذلك الحقّ ضعيف الوسائل، ذاته الذي كانت له الغلبة عليه في كربلاء بأنّها عكس لدورة الحقّ والباطل، وتبيان للقوّة الحقيقيّة لكلّ منهما. وفي هذا سرّ فوق بشري تقدّمه العناية الإلهيّة لمَن شكّكت نفوسهم، وتهاوت عزائمهم أمام نجاح جولة الباطل، كما حدث للضحّاك بن عبد الله المشرقي الذي لازَمَ الحسين منذ بدء ثورته، ولمّا لَم يبقَ فوق أرض المعركة إلاّ اثنان كان هو ثالثهما. استأذن الحسين بالذهاب تاركاً إيّاه أمام قوّة الباطل، نافذاً بجلده مستشعراً ضعف وسائل الحقّ التي يحارب بها.

وفي موقف الضحّاك عكس لموقف الحرّ بن يزيد الرياحي، الذي انضمّ إلى الحسين عن وعيٍ تامّ بغلبة الباطل على الحقّ، فترك صفّ الباطل المنتصر، وانضمّ إلى صفّ الحقّ المتهيّئ للهزيمة.

وفي مقولة الرسول الأعظم: «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنّة وأغصانها في الدنيا، فمَن تمسّك بنا اتّخذ إلى ربّه سبيلاً»، دلالة كافية على حتميّة التمسّك بالشريعة التي هي سبيل إلى الربّ، لا لغاية زمنيّة اُخرى.

إلاّ أنّ معجزة الشهادة الزمنيّة فرضتها حتميّة الشهادة بذاتها، فالحسين عندما ثار

١٧٢

لم يقل: إنّي خرجت لإسقاط يزيد أو دكّ عروش بني اُميّة، بل قال: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي».

خرج لطلب الإصلاح في اُمّة محمّد، ولإحقاق الحقّ في المجتمع الإسلامي(١) ، ولرفع الظلم والضنك عن كاهل الفرد المسلم، ولإحلال مناقبيّة أخلاقيّة جديدة تحلّ محلّ تلك المناقبيّة المدجّنة التي ربضت في النفوس، ولذبّ أذى المنتهكين عن العقيدة الوليدة، كان هذا هدفه، وكان ضمير الاُمّة مرمى كرته.

لم يكن عرش يزيد إذاً كهدف بحدّ ذاته سعى الحسين بثورته إليه، بل كان هدفاً مكمّلاً لهدفٍ أسمى لا دخل له بالعروش الزمنيّة بقدر ما كان دخله بأنماط الحُكم في كلّ زمان ومكان، وبأنماط الشخصيّة الإسلاميّة، وبأساليب أخذها للسنّة والعمل بها، كما لم تكن موقعة كربلاء معركة عسكريّة انتهت في العاشر من محرّم بانتصار وانكسار، بل كانت رمزاً لموقف أسمى لا دخل له بالصراع بين القوّة والضعف، بين العضلات والرماح، بقدر ما كان ذا صلة بالصراع الحقيقي بين قوّة وضعف النفوس، بين الشكّ والإيمان، بين المسلم وعوامل إبعاده عن عقيدته.

وهو رمز يصلح لكلّ موطن وجِدَ فيه حاكم ظالم، ولكلّ زمن اهتزّت فيه العقيدة، ولعلّ أفضل ما يصوّر كون هذا الرمز ناموساً لكلّ العصور والأكوان هذا البيت من الشعر:

كأنّ كلَّ مكانٍ كربلاء لدى

عيني وكلَّ زمانٍ يومُ عاشورا

____________________

(١) راجع نصوص الآيات الكريمة التالية: سورة الأعراف / ١٨١، سورة آل عمران / ١١٠، سورة الأعراف / ١٥٦ - ١٥٧.

١٧٣

ولكن القوّة لا تعمل إلاّ في حدود القوّة، ولا تجد فرصتها إلاّ في مسالكها، أمّا الشعور فبمكمن لا يتصّل به طغيان طاغية، ولا تحامل باطل، وفي هذا المكمن زرعت بذرة ثورة الحسين، وامتدّت فروعها فصارت فيئاً يستظلّه المضطهدون والمظلومون، فيجدون في فيئه الراحة والسكينة.

والثورة قدّمت طوق النجاة للمسلم الذي يريد الفوز بمرضاة الله، فصار واحداً من اُولئك الذين عناهم الرسول الأعظم بقوله: «مَثَل أهل بيتي كسفينة نوح؛ مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق».

وليس المقصود في هذا القول الكريم (مَن ركبها) ركوباً مادّياً في حينها، أو (تخلّف عنها) تخلّفاً مادّياً في ساعتها، بل يشمل هذا المغزى كلّ الأجيال التي تُولد مؤمنة تستلهم سيرة أهل البيت وتسير على هَديها؛ فتكون كمَن تركب سفينتها لتنجو في أيّ وقت صحّت عزيمتها.

وثورة الحسين (عليه السّلام) هي السفينة التي مخرت عباب الباطل، ولم تزل في اليمّ حتّى الآن في رحلة بدأت أزليّة وتنتهي سرمديّة بانتهاء الدهور. وعجباً أن تكون هذه السفينة في العباب كلّ هذه القرون، لم تزدها حمولتها التي تثقل يوماً بعد آخر وسنة بعد اُخرى إلاّ خفّة ومضاء.

وفي رغبة الإنسان - أيّ إنسان كان - أن يركب هذه السفينة، معناه حمل لراية الكفاح التي رفعها الحسين، وهي راية للمسلم كما لغيره. فالرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يحدّد هويّة مَن يركب السفينة بالمسلم فحسب، بل بـ «مَن ركبها نجا، ومَن تخلف عنها غرق». وفي هذا التعميم شموليّة لبني الإنسان عامّة.

والمعنى المجازي في قولة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ينفي الحرفيّة الكيفيّة عن القولة، فركوب سفينة آل البيت يتجلّى في رغبة العمل بمبادئ ثورة الحسين، والغرق بعيداً عن السفينة معناه

١٧٤

السكوت عن الظلم وتحريف العقيدة والعمل بروح بعيدة عن روح ثورة الشهيد، أمّا السفينة فهي المبادئ ذاتها التي نادى بها الحسين، فكان لها وَقْعَاً صارخاً في الضمائر جعلها تهبّ دفعة واحدة من سباتها العميق.

وعلى الرغم من تقادم العهد منذ قيام الثورة فإنّ الإنسان يسترجعها حارّة أمامه إذا ما نزعت نفسه إلى أخلاقيّاتها، متى دعته الحاجة وحلّت به المصائب وأناخت على خلقه مظالم حكّامه، فتعود إليه كما لو كانت متفجّرة لتوّها، فيشارك فيها مكافحاً بصبره على بلائه، ووقوفه في وجه الظالمين، وبرفضه لمنطق الهدم، فيكون بمقياس المعنى النبوي المقصود مشاركاً ثائراً كالقاسم وأخيه، والعباس وإخوته، وآل عقيل وعابس، والحَجّاج والسويد، وبرير والحرّ، وكلّ الذين جاهدوا جهاداً مادّياً إلى جانب الحسين وسقوا غرسة الشهادة في صحراء كربلاء بدمائهم الزكيّة.

وقد أخرج ابن ماجة وأبو يعلى عن الحسين (عليه السّلام) قال: «سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة وإن قدم عهدها، فيحدث لها استرجاعاً إلاّ أعطاه الله ثواب ذلك».

وفي عصر الضنك والظلم والتحريف هذا الذي نعيشه ما أحرانا لأن نتشرّف بالأخذ بالمبادئ الحسينيّة، ونجعلها لنا قانوناً حياتيّاً وأخلاقيّاً؛ فكم من يزيد الآن فوق سطح هذه الكرة الأرضيّة؟ وما أدرانا أن يكن أحدنا ابن زياد، أو ابن سعد، أو الشمر من حيث لا يدري إذا كان في ممارساته العصريّة ما يقرّبه من بعيد أو قريب لهؤلاء الشياطين المردة(١) ، فيكون كابن زياد عصره بعزوفه عن مبادئ

____________________

(١) في كثير من الأحيان نواجه نوعيّات شيطانيّة متلبّسة هيئات بشريّة. نتأكّد معها بأن يزيد وشمر وابن زياد وغيرهم يتكرّرون مجدّداً في كلّ عصر وزمن، ينتهكون الحقّ ويحلّون الحرام ويحرّمون الحلال. بينما ليس ثمّة حسين واحد فلنتأمّل في هذا.

١٧٥

الحسين، وكابن سعد زمانه بتهاونه مع الظالمين، وكشمر مكانه في عمله ضدّ مبادئ الحقّ والعدل، فيقتل الحسين من جديد في كلّ مرّة يقف فيها مع الباطل والزائف؟

فمبادئ الثورة الحسينيّة ليست شكلاً للحفظ فقط، تأخذ شاكلتها كأنّها مذهب صوفي أو تعليم نظري، بل هي شيء كالاستحواذ تتمدّد في القلب وتختلط في الفكر، فيغدو صاحبها قلباً وفكراً؛ لذا فإنّ أوّل ما مسّت هذه المبادئ من نفس الإنسان مسّت شعوره الإنساني وقلبه وفكره، فأيقظت هذه المكامن، فأحسّ بشعوره بالندم. وبقلبه بالتوبة وبفكره بضرورة التغيير.

وإذا كنت قد أسهبت في هذه المقدّمة قبل الخوض في معنى معجزات الثورات الزمنيّة التي اجترحتها شهادة الحسين؛ فذلك لاُبيّن مدى ما تفعله طفرة الإيمان الصادق في قرارة النفس البشرية، ولأوضّح على أنّ من معجزات الشهادة الاُخرى أنّها لا تقنع من أمرها بما حقّقته على مستوى ضمير الاُمّة وروحيّتها ومجتمعها، بل هي تكمل ذلك كلّه بتغيير الإطار الذي غيّرت في داخله هذه الصور الثلاث، ووجهتها الكمال تبغي من ورائه رفع الحقيقة بكامل جوانبها أمام الأعين، فلا تترك مجالاً لمشكّك ولا فرصة لمتخرّص.

وفي كمال الشهادة لحظة جلوة العقول والأنفس والضمائر آخر مرحلة من مراحل معجزاتها، حينما ترفع آخر غلالة شفافة فتبدو الحقائق أشدّ وضوحاً، فتنيل القائمين على أخذها شعوراً بالرضى عن ذواتهم.

ونِعْمَ الرضى إذا كان فيه ما يستوجب الشهادة مجدداً، فمعجزة الشهادة قد تتطلّب شهادة اُخرى، أو شهادات متواترة تفعل فعل النار فوق الحديد لا تنفكّ

١٧٦

تتأجّج حتّى يحمى الحديد ويصير قابلاً للمعالجة.

وكما بدأت الاستجابات الفوريّة لثورة الحسين على مستوى الشعور بالهزّة المبدئي، ثمّ تلتها مرحلة التبصّر في النفس والظروف والدوّامات، إلى أن وصلت إلى فترة الانفجار بعد أن مرّت بمرحلة كمون نفسي وضميري، فإنّ شكل الاستجابات للتغيير الزمني اتّخذ نفس مسار أصداء الثورة الاُولى.

وهكذا خفّ المتنادون من كلّ مكان وفي أحداقهم بقايا الكابوس الذي رانَ ثمّ عَبَر، وتوافدوا إلى مصدر النداء يذوبون في مجهوله دون معرفتهم بكُنهه إلى حيث يعالجون فيه داء ضمائرهم في انتفاضة تعيد لها العافية، وإلى حيث يجدّدون ثوابهم مع الله على نُصرة حُسينه في مبادئه، بعد أن خذلوه في خروجه المادّي للثورة.

وكان أوّل الملبّين لنداء المجهول جماعة أطلقت على نفسها (حركة التوّابين) حيث تلاقت وتشاورت وخرجت بنتيجة: أنّها قد أخطأت بترك الحسين دون نصرة، ورأى أنصار هذه الحركة أنّه لا مندوحة لهم من التكفير عن مقتل سبط النبي وذلك لا يحقّقه إلاّ قتل قتلته، وفزعوا لهذه الغاية إلى خمسة من وجهاء الشيعة بالكوفة وهم: سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الغزاري، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن وال التميمي، ورفاعة بن شداد البجلي.

وقد تداول الفزعون والمفزوع لهم بأمر ما كان من غرامهم بتزكية أنفسهم حتّى بَلا الله خيارهم، فوجدوا أنفسهم كاذبين في موطنين من مَواطن ابن بنت نبيّهم (صلّى الله عليه وآله) بعد أن بلغتهم كتبه، وقَدِمت عليهم رسله، وأعذر إليهم يسألهم نصرته عوداً وبدءاً، وعلانية وسرّاً، وما كان من موقفهم حيث بخلوا عنه بأنفسهم حتّى قُتل إلى جانبهم، فلا هم نصروه بأيديهم، ولا جادلوا عنه بألسنتهم، ولا قوّوه بأموالهم.

وفي جلسة المقارعة هذه مع الضمائر، صاح في الجمع سليمان بن صرد الخزاعي

١٧٧

الذي تولّى منصب الزعامة، قائلاً: ألا انهضوا، فقد سخط ربّكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتّى يرضى الله، وما أظنّه راضياً حتّى تناجزوا مَن قتله أو تبيروا، ألا لا تهابوا الموت فوالله ما هابه امرؤ إلاّ ذل، كونوا كالأُوَل من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيّهم: إنّكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم ذلك خير لكم عند بارئكم.

وكانت صيحة سليمان بن صرد بمثابة إشارة البدء لانتفاضات لم تكن لتهدأ أو تخمد بالقوّة حتّى تتأجّج في مكان آخر.

وكانت (ثورة التوّابين) أوّل ردّة فعل لاستيقاظ الضمائر في اُمّة الإسلام، تَنادى لها شيعة المدائن والبصرة، وجمعت أنصاراً لها نفراً بعد آخر، ولم تكد تمضي باستدعائها فترة وجيزة حتّى مات يزيد، فاتّخذت الدعوة شكل الجهر بعد أن كانت سرّية.

حتّى إذا ما انقضت أربع سنين على تنادي التوابين للثورة، وخمس على استشهاد الحسين (عليه السّلام)، حتّى هبّوا هبّة ضمير واحد ورجل واحد يتناوحون ويبكون ندماً في ليلة جمعة على قبر الحسين (عليه السّلام)، ليندفعوا بعدها نحو الشام حيث أعملوا التقتيل في جيوش الاُمويّين حتى أُبيدوا عن آخرهم(١) .

والتهبت نار الثورات بعد حركة التوّابين التي اعتبرت حركة فجّرها الشعور بالتقصير والندم والرغبة الصادقة في التكفير، فلم تكن لتهدف وهي بهذا المنطلق إلاّ للانتقام، وقد شاركهم نفر من غير الشيعة آملين في تغيير الحكم الاُموي البغيض.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٤٢٦ - ٤٣٦.

١٧٨

وإذا كان لهذه الانتفاضة من تأثير فإنّها أفلحت في شحن جماهير الكوفة وإيغار الصدور ضدّ الحكم الاُموي، وهذا ما ترجم بعد تفشّي خبر موت يزيد إلى ثورة على العامل الاُموي في الكوفة عمرو بن حريث وإخراجه من قصر الإمارة، وتنصيب عامر بن مسعود الذي بايع لابن الزبير، وفي تنصيبه انحسر سلطان الاُمويين لفترة من الزمن عن أرض العراق.

وبانحسار ثورة التوّابين بدا أنّ جرائر يوم عاشوراء بدأت في تصفية حساباتها والأخذ بحقّها وثاراتها.

ثورةُ المدينة

دأبت العقيلة زينب (عليها السّلام) منذ وصلت إلى المدينة بعد مقتل أخيها الحسين (عليه السّلام) على إلهاب الخواطر وشحن النفوس للثورة والتأليب على حُكم يزيد، ممّا دفع بعمرو بن سعيد الأشدق والي يزيد على المدينة لأن يكتب لسيّده عن نشاط زينب معتبراً وجودها بين أهل المدينة مدعاة لتهيّج الخواطر، ووصفها له بأنّها فصيحة عاقلة لبيبة(١) .

كان وجود العقيلة زينب في المدينة أحد الأسباب الرئيسة، ولكنّه لم يكن السبب المباشر للثورة، فقد تولّد هذا السبب بعد أن وَفَدَ إلى دمشق وفدٌ من أهل المدينة وأشرافها بأمر من عثمان بن محمّد بن أبي سفيان والي يزيد، وقد أكرمهم يزيد أيّما إكرام، ولكنّهم ما أن عادوا من لدنه حتّى أعلنوا استنكارهم لحكم يزيد وجاهروا بشتمه ولعنه وقالوا: قَدِمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب

____________________

(١) هذه الرواية ذكرت في (أخبار الزينبيّات) وأوردتها بنت الشاطئ في (بطلة كربلاء).

١٧٩

الخمر، ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الخرّاب، وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه.

وقام عبد الله بن حنظلة الأنصاري وكان زعيمهم وقال: جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني، وما قبلتُ عطاءه إلاّ لأتقوّى به.

وهبّت المدينة واشتعلت ثورتها، فسلّط يزيد على الثوّار رجلاً اشتهر بحبّه للدماء وهو مسلم بن عقبة المري، وطلب منه أن يسوم الثائرين البيعة سوماً، فاستباح المدينة ثلاثة أيّام وهتك الأعراض وقتل الاُلوف من الأنصار والمهاجرين وافتضّ أكثر من ألف عذراء. كلّ ذلك من أجل أخذ البيعة التي أعلنها، إنّهم يبايعون أمير المؤمنين على أنّهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم ما شاء(١) .

وقد وصف ابن كثير المفاسد التي أنزلها مسلم بن عقبة بأهل المدينة بقوله: من المفاسد العظيمة في المدينة النبويّة ما لا يحدّ ويوصف، ولم يكتفِ بالقتل بل عمد إلى التنكيل وإثارة مخاوف قتلاه قبل قطع رؤوسهم بالسيف. ويُحكى: أنّه لمّا جاؤوه بمعقل بن سنان أحد أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هشّ له وأطعمه ثمّ سأله: أعطشت يا معقل؟ حوّصوا له شربة من سويق اللوز الذي زوّدنا به أمير المؤمنين. فلمّا شربها قال له بلؤم: أمَا والله لا تبولها من مثانتك أبداً، وضرب عنقه.

وقد مات هذا الجزّار وهو في طريقه إلى مكّة ليكمل ما بدأه من وحشيّة وإجرام في المدينة، فدفن في الطريق. ولكن بعض الغاضبين من أهل المدينة تعقّبوه واستدلّوا على قبره حيث نبشوه وأحرقوا جثّته.

____________________

(١) الطبري، ثورة المدينة ٤ / ٣٦٦ - ٣٨١.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258