الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي23%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55501 / تحميل: 10177
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشّيعة وفنون الإسلام

تأليف: المرجع الدّيني الأكبر آية الله السيد حسن الصّدر

مؤلّف كتاب تأسيس الشّيعة لعلوم الإسلام

قدّم له

الدكتور سليمان دنيا

أُستاذ الفلسفة بكليّة أُصول الدين

مطبوعات النجاح بالقاهرة

١

الطبعة الرابعة

١٣٩٦ هـ. - ١٩٧٦ م

حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

مطبعة دار المعلم للطباعة

٨ شارع جنان الزهرى - المبتديان

السيدة زينب

٢

تقديم الكتاب

للدكتور سليمان دنيا

أُستاذ الفلسفة بكليّة أصول الدين

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول اللّه خير الخلق، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين.

أمّا بعد فمنذ بضعة أعوام خلت كتبت رسالة صغيرة بعنوان ( بين الشيعة وأهل السنّة ) ضمنتها أملاً كبيراً، ورغبة ملحّة، في أن يتلاقى الشيعة وأهل السنّة، عند مبادئ الأُخوّة والمحبّة، والمودّة، والمصافاة، ونبذ ما غرسه أعداء الفريقين في النفوس من عوامل الفرقة والشقاق.

ودعوت إلى أن ينظر كل فريق إلى وجهه نظر الفريق الآخر، نظرة العالم الذي يبحث عن الحق، ويدرك أنّ الحق أحق أن يُتّبع.

وقلت: إنّه إذا كان الأثر الذي توارثناه عن سلفنا الصالح قد أكّد ضرورة الحرص على الحق أين وُجد، وأعلن أنّ الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها التقطها ولو من فم كافر، وأوضح أنّ العاقل لا يُعرف الحق بالرجال، وإنّما يُعرف الحق بالدلائل والبراهين، فإذا عرفه عرف به أهله، فقد أصبح لزاماً علينا - نحن أبناء هذا الجيل - أن نحرص على الحق، وأن نأخذ أنفسنا للدعوة إليه، وأن نجتمع حوله، غير ناظرين إلى مَن دعانا إليه وعرّفنا به، اللّهمّ إلاّ نظرة إكبار وإعظام وإجلال.

ومن المسلّم به لديهم أيضاً ضرورة احترام كل واحد من الباحثين لوجهة نظر الآخرين في المسائل المتحملة لضروب من العراك الفكري، حتى أنّهم ليختلفون ويكونون في ذات الوقت أصدقاء وأحبّاء وأصفياء. ورحم اللّه مَن يقول:( اختلاف الرأي لا يُفسد للودّ قضيّة ) .

٤

ولقد رفع الإسلام راية السماحة عالية، فقال في كتابه الكريم:( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

وإذا كان الإنسان يحب لنفسه أن يستمتع بالحرية، فيقول ويعلن ما يهديه إليه بحثه وتفكيره، فلا يليق به أن ينكر على إنسان مثله حقّه في أن يقول ويعلن ما يهديه إليه بحثه وتفكيره كذلك.

وحسب المسلمين فخاراً أنّهم اجتمعوا على أصول دينهم لم يختلفوا فيها: فالإلوهية في أسمى مكان من التقديس في نفوس المسلمين.

وعقيدة البعث، والإقرار بالنبوّة، وحاجة البشر إليها، وختامها بسيد ولد آدم ( محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).

وصدق القرآن الكريم، وما صح منه حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.

كل أُولئك يحتل من نفوس جميع المسلين مكانة لا تطاولها قداسة أيّ دين آخر في نفوس أتباعه.

قلت ذلك وأكثر من ذلك في رسالتي ( بين الشيعة وأهل السنّة ) رغم أنّي لم أقل في هذه الرسالة كل ما أُحب أن أقوله؛ نظراً لظروف الطبع وقت ذاك.

والآن يسعدني أن تتاح لي فرصة التقديم لكتاب: (الشيعة وفنون الإسلام ) الذي نحا فيه مؤلّفه السيد الشريف (الحسن أبو محمد ) منحى ربّما يبدو غريباً لدى أهل السنّة. وكنت أريد أن أدرس الكتاب دراسة موضوعية؛ لأتبيّن بالدلائل والشواهد مبلغ صدق القضية التي يعالجها الكتاب، ولكنّي رأيت الأمر فوق طاقتي؛ لأنّ المؤلّف - رضي اللّه عنه - واسع الاتباع غزير الاطلاع، يعرض لسائر العلوم الإسلامية والعربية، ويحكم عليها حكم المحيط بها، الواقف على أسرارها، العارف بعوامل نشأتها، ومراحل نموّها. ومتابعة هذه العوامل، وتلكم المراحل تتطلّب حشد

٥

المتخصّصين في هذه العلوم، ليتابع كل متخصص مادّة تخصّصه، ويوافق المؤلّف عن بينة، أو يخالفه عن بينة.

وإذا فاتني أن أخوض في هذا المجال، وإن أعرض لموضوع الكتاب عرضاً تحليلياً اتكالاً على همّة المتخصّصين الذين أطمع في أن يتناولوا الكتاب بكل ما هو جدير به منه عناية واهتمام، فما أحب أن يفوتني أن أقول كلمة ما أراها إلاّ متابعة لما جاء في رسالتي ( بين الشيعة وأهل السنّة ) تلكم هي أنّ المؤلّف - رضي اللّه عنه - يدّعي سبق الشيعة في تأسيس العلوم الدينية والعربية ويقدّم بين يدي دعواه أدلّة تبرّرها، ويدور كتابه حول بسط هذه الدعوى، وإيضاح أدلّتها.

والناس أمام هذه الدعوى فريقان:

فريق المتعلّمين: وهؤلاء لا يهتمّون بواضع العلوم ومؤسّسيها، وإنّما يهتمون بالعلوم نفسها، ويستوي لديهم أن يكون المؤسّسون لهذه العلوم هم الشيعة وحدهم أو هم أهل السنّة وحدهم، أو هؤلاء وهؤلاء.

وفريق العلماء: وهؤلاء كما يهتمون بالعلوم ذاتها، يهتمون بنشأتها ومنشئيها والأطوار التي تواردت عليها، إذ إنّ العلوم لها نشأة كنشأة عظماء الرجال؛ لهذا كان لها تاريخ كتاريخ عظماء الرجال كذلك.

ولهؤلاء أقول: إنّ كتاب ( الشيعة وفنون الإسلام ) جهد مشكور قام به صاحبه رضي الله عنه مساهمة منه في المهمّة المنوطة بأعناق علماء الإسلام تلكم هي التاريخ لعلوم الإسلام، وما تستتبعه من علوم أخرى فلا ينبغي أن يقابل هذا الجهد الجبّار بنظرة سطحيّة تعتمد على عدم المبالاة وعدم الاكتراث. لا ينبغي أن يقال مثلاً ( هذه عصبية ) أو ( هذا تحدٍّ ) أو نحو ذلك من أساليب القول التي يحتمي بها مَن لا يريد أن يجشّم نفسه مشقّة البحث والنظر. نعم، لا ينبغي أن يقال هذا ولا شيء منه؛ لأنّه لا داعي للعصبية، ولا داعي للتحدّي؛ لأنّ الشيعة كأهل السنّة مسلمون،

٦

واختلافهم مع أهل السنّة إنّما هو في مسائل لا ترتقي إلى مستوى الأصول، وإذن فهم إخوة مسلمون، وسبقهم في بعض العلوم إنّما هو كسبق الأخ لأخيه، إن أثار تنافساً، فإنّه لا يثير خصومة، ولا عداء.

وإذن فلا مناص من إحدى اثنتين:

إمّا أن نطأطئ الرأس إجلالاً واحتراماً، لما بذل المؤلّف من جهد، ولما انتهى إليه من نتائج.

وإمّا أن نقابل الجهد بجهد مثله. ونتقدّم بما نظفر به من نتائج مؤيّدة بأدلة سليمة مقبولة.

وإنّي أتوجّه إلى الله جلّت قدرته راجياً أن يطهّر النفوس ممّا علق بها من شوائب، وأن يملأها بمعاني الحب والتعاطف والتآخي، وأن يعيد للمسلمين وحدتهم، وأن يفقّههم في دينهم، ويبصّرهم بعاقبة أمرهم، ويوفّقهم للاهتداء بهدى الإسلام في سلوكهم ومعاملاتهم، ولتبليغ دعوة دينهم إلى خلق الله كافة، مبرهنين على جمالها وكمالها بالتزامهم لها ووقوفهم عند حدودها.

وفي هذا المقام يحلو لي أن أشير إلى مفخرة من مفاخر المسلمين، يحق لنا أن نعتني بها ونفاخر، تلكم هي كتب السيد (محمد باقر الصدر ) التي ما أظن أنّ الزمان قد جاء بمثلها في مثل الظروف التي وجدت فيها، لقد أنتجت عبقريته الفذة الكتب الآتية: (فلسفتنا ) و (اقتصادنا ).

تلكم الكتب التي تعرض عقيدة الإسلام، ونظم معاملاته، عرضاً تبدو إلى جانبه الآراء التي تشمخ بها أنوف الكفرة والملاحدة من الغربيين وأذنابهم ممّن ينتسبون إلى الإسلام وهو منهم براء، وكأنّها فقاقيع قد طفت على سطح الماء، ثم لم تلبث أن اختفت وكأنّها لم توجد.

٧

ألا فليقرأ هذه الكتب أولئكم الذين حشوا رؤوسهم بهراء من القول وزيف من الخيال؛ ليتطهّروا بطهور الحق من رجس الباطل، وليبصروا نور الوجود، بعدما ضلّوا في بيداء العدم، وليجدوا أنفسهم بعد أن فقدوا.

ألا فليقرأ هذه الكتب شباب الإسلام المخدوع ببريق المدينة الكاذبة، وكيف يتيسّر لهم قراءتها، وقد شغلوا بالهزل عن الجد، وبالباطل عن الحق؛ لأنّ الهزل والباطل قد اقتحما عليهم عقولهم وقلوبهم في غفلة من الجد والحق.

ألا فليتعرف على هذه الكتب المربون ليقوّموا بها نفوساً قد اعوجّت، وقلوباً قد أظلت، وعقولاً قد أقفرت وأجدبت حتى هانت الدنيا على أصحابها، فسخروا منها لأنّهم لم يحسّوا لها طعماً، ولم يعرفوا لها قدراً، فساءت أحوالهم، وانحرف بهم سلوكهم وضلّت عنهم آمالهم، وأصبحوا بحالة تستوجب أن يخلقوا خلقاً جديداً.

وأنّه لا يسعني في ختام هذه الكلمة إلاّ أن أشكر الأخ الفاضل السيد ( مرتضى الرضوي ) صاحب مكتبة النجاح، بالنجف الأشرف، بالجمهورية العراقية، على جهوده الموفّقة المشكورة في نشر العلم، والتعريف بكنوزه الدفينة، وعلى ما أتاح لي من فرصة الاطلاع على هذا السِّفْر القيّم (الشيعة وفنون الإسلام ) ويقيني أنّ هذا الكتاب سوف يكون موضوع دراسة هامّة من أهل العلم، حينما تصل إلى أيديهم طبعته الجديدة إن شاء الله.

كتبه

سليمان دنيا

أوّل يناير ١٩٦٧

٨

حياة المؤلّف

بقلم:

صاحب السماحة آية الله الشيخ مرتضى آل يس

رئيس جماعة العلماء في النجف الأشرف

٩

١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة المؤلّف

ولادته:

تولّد - دام ظلّه - في بلد الكاظمية عند الزوال من يوم الجمعة، الموافق ليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك من سنة ١٢٧٢ هجرية.

اسمه ونسبه:

هو الحسن أبو محمد الشهير بالسيد حسن صدر الدين ابن السيد هادي ابن السيد محمد علي ابن السيد صالح ابن السيد محمد ابن السيد زين العابدين ابن السيد نور الدين ابن السيد علي ابن السيد حسين ابن السيد علي ابن السيد محمد أبي الحسن عباس بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن حمزة الأصغر بن سعد الله بن حمزة الأكبر بن محمد أبي السعادات ابن أبي الحرث محمد ابن أبي الحسن علي ابن أبي طاهر عبد الله ابن أبي الحسن محمد المحدث ابن أبي الطيب طاهر بن الحسين القطعي ابن موسى أبي سبحة ابن إبراهيم الأصغر ابن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه وعليهم الصلاة والسلام.

نشأته:

نشأ - أيّده الله - منشأً راقياً قلّما رقته قدم الاجتهاد، ولو لم يكن ذلك باقتضاء من فطرته السامية فقط؛ إذ إنّ الفطرة بمفردها لا تساعد إلاّ حيث تصادف محيطاً مناسباً وإلاّ فإنّها قد تفسد بالعرض، في حين أنّها صالحة بالذات.

كان ذلك باقتضاء منها، ومساعدة من حجر أبيه السيد العلاّمة معاً، ذلك الحجر المدرسي الذي شذّ ما وجد في الآباء نظيره، وحسبه فضلاً أن نجد مثل السيد

١١

المؤلّف خريجاً لتلك المدرسة الراقية، التي جعلته مثالاً لتربيتها الصحيحة، ونموذجاً لتهذيبها المتين.

وهكذا تتلمذ السيد المؤلّف على السيد العلاّمة أبيه، حتى شبّ وترعرع وبلغ من العمر مبلغ الفتى الصغير، وعند ذاك نزعت نفسه الشريفة إلى طلاّب العلم وتحصيل الفضل، وكذلك النفوس الكبيرة فإنّها تنزع العمل بلا باعث، كما أنّها تنتقي بذاتها أحسن العمل، ومن حينه لبّى دعوتها بالارتياح وأنعمها جواباً بالقول الصراح، ثم أكبّ على العلم مجتهداً في التحصيل والاشتغال، حتى كان من أمره اليوم أنّه أمسى فاقد الندّ وعديم المثال.

اجتهاده في التحصيل:

ليس الاجتهاد ممّا يفهمه الكثيرون، بل لم يكن هو في حين من الدهر مفهوماً واضحاً لكل أحد، بل إنّ ما يزعمه الكثيرون اجتهاداً ليس من الاجتهاد في شيء، وهذا الزعم هو الذي ذهب بفضل المجتهد الصادق، وجعل الأمر ممّا يشكل بينه وبين المجتهد الكاذب، حتى صار لقب المجتهد ممّا يكال كيل المتاع بكل لسان، لكل إنسان.

أجل إنّ الاجتهاد الصحيح ممّا يعسر فهمه على النفوس الصغيرة، فأحرى بها ألاّ تستطيع إلى اتخاذه سبيلاً، فعبثاً أن تنتحل لقب المجتهد لأنفسها باطلاً، ما دامت تنظر إلى ما حولها، فتجد هناك رجال الجد والعمل، كيف يجدون ويجتهدون؟

بل إنّهم كيف يلقون إليها دروساً من العمل الصادق، ما لو أنّها كانت تقتنع، لأقنعتها هي ببطلان ذلك الزعم الفاسد منذ زمن بعيد.

تلك هي النفوس الكبيرة، بل أُولئك هم رجال الجد والاجتهاد، ومن تلك النفوس نفس سيّدنا المؤلّف الكبير، الذي أصبح مصداقاً واضحاً لذلك المفهوم المشكل، لقد كنت أسمع من السيد المؤلّف زمان كان شاباً قويّ العضلات أنّه كان لا يكاد ينام الليل في سبيل تحصيله، كما أنّه لا يعرف القيلولة في النهار.

١٢

ولكنّي بدل أن أسمع ذلك عنه في زمن شبيبته، فقد شاهدت ذلك منه بأُمّ عيني في زمن شيخوخته، وإنّ مكتبته التي يأوي إليها الليل والنهار، ويجلس هناك بيمناه القلم وبيسراه القرطاس؛ لهي الشاهد الفذ بأنّ عيني صاحبها المفتوحتين في الليل لا يطبق أجفانها الكرى في النهار، ولئن جاءها الكرى فإنّما يجيئها حثاثاً لا يكاد يلبث حتى يزول.

حقّاً أقول: إنّ السيد المؤلّف قد نام ربعاً من عمره الشريف، وسهر الباقي، ولكنّ الكثير الأكثر من الناس قد سهروا الربع وناموا الباقي.

علومه ومعارفه:

قلّ ما يوجد في علماء الدين رجل متفنّن، يجمع بين علم الأحكام وغيره، وإنّي لا أعرف لذلك سبباً مقبولاً، يصلح لأن يكون عاذراً لجميعهم عند المعترض؛ لأنّ علم الأحكام، وإن كان عميق الغور، بعيداً ما بين طرفيه، بيد أنّ ذلك لا يكاد يعترض طريق الهمام، فإنّ الصعاب مهما كبرت لا تكون إلاّ مسترذلة عند كبار النفوس، ولعلّ المستقبل يكفينا مؤنة الدعوة والاستنهاض، فيضطرّهم يوماً ما إلى التفنّن في معارفهم بالرغم من إرجاف المتساهلين، فتصبح أفواههم عند ذلك تتدفّق عسلاً ولبناً.

على أنّ الواجب الديني اليوم هو الذي يدعوهم إلى التوسّع في المعلومات، فإنّ العلم الواحد لا يصلح أن يكون مروّجاً للديانة أبداً، في حين أنّ الظروف لا تكاد تكون واحدة، فكما تتفاوت الظروف يجب أن تتفاوت رجال العلم في العلوم، وليس علم الأحكام اليوم ممّا يقوم بمفرده في ترويج الديانة ترويجاً معجباً، ما لم يصافح قسماً من الفنون الضرورية، فإنّ الحالة الدينية اليوم غير الحالة الدينية بالأمس، كما قد علم ذلك بسطاء العامّة، فضلاً عن المفكّرين من الخاصة.

فعسى أنّ جماعة العلماء يلفتون إلى ذلك بعض النظر، كما التفت إليه قبل اليوم

١٣

شرذمة منهم يسيرة لا تبلغ عدد الآحاد، نهضت بأعباء الدين، وقامت بواجب الإسلام والمسلمين.

وكان من تلك الشرذمة المباركة حضرة سيّدنا المؤلّف الكبير - أيّده الله - فإنّه لم يقصر همّه على تحصيل علم الأحكام فقط، بل قد ضمّ إليه كثيراً من العلوم المتنوّعة، اللاتي يستغربها غيره من العلماء الدينيين، فكان ما حصل عليه من العلوم: النحو، والصرف، والمنطق، والمعاني، والبيان، والبديع، والهيئة، والحساب، والتفسير، والرجال، والتأريخ، والحكمة، والكلام، والأخلاق، والحديث، والفقه، وأُصول الفقه.

أساتذته في القراءة:

أوّل مَن قرأ عليه النحو والصرف هو: الشيخ الثقة الشيخ باقر(١) ابن حجّة الإسلام الشيخ محمد حسن آل يس، ثم قرأهما على السيد الفاضل السيد باقر(٢) ابن السيد حيدر.

وقرا: ( علم المعاني والبيان والبديع ) على الشيخ أحمد العطار(٣) .

( والمنطق ) على الشيخ محمد(٤) ابن الحاج كاظم، وعلى الميرزا باقر(٥) السلماسي.

وفرغ من هذه العلوم وهو في الرابعة عشرة من سني عمره، وبعد أن فرغ منها طفق يقرأ متون الفقه، وعلم ( أصول الفقه )؛ وكان يومئذ بعد لم يرتحل عن مسقط رأسه ( الكاظمية ) فقرأهما على علمائها حتى فرغ من قراءة ( الشرائع )،

____________________

(١) توفّي عام ١٢٩٠ هـ.

(٢) توفّي عام ١٢٩٧ هـ.

(٣) توفّي عام ١٢٩٩ هـ.

(٤) توفّي عام ١٣١٤ هـ.

(٥) توفّي عام ١٣٠١ هـ.

١٤

و( الروضة ) في الفقه والمعالم ( والقوانين ) في الأصول، وهو إذ ذاك ابن ثماني عشرة سنة، وعندئذ تاقت نفسه إلى ( النجف الأشرف ) فزمّ إليها ركائبه، وهناك قرأ ( الحكمة والكلام ) على الفاضل الشكي(١) ، والمولى الشيخ محمد تقي الكلبايكاني(٢) ، وقرأ خارج الفقه على فقهاء النجف من تلامذة الشيخ محمد حسن صاحب ( الجواهر )(٣) ، وخارج الأصول على أفاضل تلامذة الشيخ مرتضى الأنصاري(٤) ، وقرأ علم الحديث على جملة من علماء الحديث في النجف.

ثم ما زال في النجف عاكفاً على الاشتغال، ومكبّاً على التحصيل يرتضع ثدي العلم ويستدرّ ضروع الفضل، حتى سنة سبع وتسعين ومئتين بعد الألف هجرية، فهاجر من النجف إلى سامراء حيث يقيم هناك في ربوعها أكبر أساتذته العظام الذي عليهم تتلمذ، ومنه أخذ حجّة الإسلام الشيرازي الميرزا محمد حسن المتوفّى سنة ١٣١٢ هـ.

وما فتئ منذ ألقى لديها عصا السير مجدّاً ومجتهداً، ومدرّساً ومؤلّفاً حتى سنة ١٣١٤ هـ، أي إلى ما بعد وفاة أُستاذه السيد الشيرازي بعامين، وعندها قفل راجعاً إلى ( الكاظمية ) مسقط رأسه، فأقام بها إلى اليوم، غرّة لجبينها، وقرّة لعيونها، ملاذاً للمسلمين، ومفزعاً للمؤمنين في أُمور الدنيا والدين.

مشايخه في الرواية:

مشايخه في الرواية على صنفين: منهم مَن يروي عنهم بطريق السماع والقراءة فقط دون الإجازة، ومنهم مَن يروي عنهم بطريق الإجازة العامّة.

أمّا مشايخه من الصنف الأوّل فمنهم - وهو أجلّ مَن يروي عنه - حجّة

____________________

(١) توفّي عام ١٢٩٠ هـ.

(٢) توفّي عام ١٢٩٣ هـ.

(٣) توفّي عام ١٢٦٦ هـ.

(٤) توفّي عام ١٢٨١ هـ.

١٥

الإسلام الميرزا محمد حسن الشيرازي الغروي العسكري المتوفّي سنة ١٣١٢ هـ، ومنهم الشيخ المحقّق المؤسّس الحاج ميرزا حبيب الله الرشتي الغروي صاحب كتاب ( بدائع الأُصول ) المتوفّى ١٣١٣ هـ، ومنهم الشيخ محمد حسين بن هاشم الكاظمي النجفي شارح ( كتاب الشرايع ) المتوفّى سنة ١٣٠٨ هـ، ومنهم الفاضل المتبحّر المولى محمد الأيرواني النجفي المتوفّى بعد المئة الثالثة عشرة، ومنهم شيخ الإسلام الشيخ محمد حسن آل يس الكاظمي صاحب كتاب ( أسرار الفقاهة ) المتوفّى سنة ١٣٠٨ هـ، ومنهم والده السيد الشريف السيد هادي المتوفّى ١٣١٨ هـ.

وأمّا مشايخه من الصنف الثاني فهم جماعة من العلماء منهم: المولى الفقيه علي الميرزا خليل الرازي الغروي - المتوفّى سنة ١٢٩٧ هـ، ومنهم السيد المتبحّر المهدي القزويني الحلّي الغروي - المصنّف المكثر - المتوفّى سنة ثلاثمئة بعد الألف، ومنهم المولى المحقّق المتبحّر الميرزا محمد هاشم بن زين العابدين الأصفهاني المتوفّى في النجف سنة ١٣١٨ هـ.

وقد ذكر تراجمهم على طرز مبسوط في إجازاته المطوّلات، واستقصى فيها جميع مشايخه بما لا مزيد عليه.

مصنّفاته ومؤلّفاته

يندر في العلماء المصنّفون، كما يندر المصنّفون من العلماء، فهم: إمّا عالم غير مصنّف، أو مصنّف غير عالم، أمّا العالم والمصنّف معاً، فقليل ما هو، وليس هو إلاّ مَن جمع بين فضيلتي العلم والقلم، وحيث خسر أحدهما كان واحداً من الاثنين، ولا مراء أنّ خسران أحدهما لا يكون طبيعياً إلاّ في نادر منهم ممّن لا تساعدهم الفطرة، كما لا يستطيعون مقاومتها، بل الحق أنّ جلّ السبب في جلّهم هو التساهل، وعدم الاهتمام بكلتا الفضيلتين معاً، في حين أنّه ليس هناك مانع فطري، أو رادع طبعي، وليس العلم النافع على ما أعتقد إلاّ ما حوته السطور لا ما حفظته الصدور، وما هو في الصدور إلاّ كمعاني مجرّدة بعد لم تفرغ في قوالب الألفاظ.

١٦

نعم إنّ العلم المدوّن هو الذي يحفظ لصاحبه ذكره، ويخلّد له بعد موته أمره، فكم من علماء أحياء ظلّوا كأنّهم قوم ميّتون، وكم من علماء أموات ظلّوا كأنّهم أحياء يُرزقون.

على أنّي لا أعرف من أُولئك كثيرين ممّن حازوا الفضيلتين، وبرعوا في الصناعتين، ولكنّهم مع هذا كلّه لم يشئوا أن يعملوا أحديهما بالأُخرى، بل إنّك لتجدنّهم ممّن يفضلون الإهمال على الإعمال، وهم يعتمدون فيما يعتقدون على أوهام لا ظل لها من الصواب، بل هي محض خيالات ليس إلاّ.

ولهذا السبب ولتلك الأسباب قلّ في العلماء المصنّفون، كما قلّ المصنّفون من العلماء، حتى أصبح المصنّف العالم، أو العالم المصنّف - وبالأخص المكثر - واحداً من خوارق العادة أو ما وراء الطبيعة، وما سيّدنا المؤلّف اليوم إلاّ واحد من تلك الخوارق التي أصبحت أعجوبة القرن الرابع عشر، ولاغرو فإنّه ربّ العلم والصناعة، وسلطان القلم واليراعة.

وإليك ما صدر من نفثات قلمه إلى اليوم فإنّك تجدها تناهز الخمسين مصنّفاً ما بين ضخم كبير، وآخر مختصر صغير ودونك هي نصّاً:

في الفقه:

سبيل الرشاد في شرح نجاة العباد، بطريق البسط.

سبيل النجاة في فقه المعاملات، بطريق المتن والتفريع لعمل المقلّدين.

تبيين مدارك السداد للحواشي والمتن من نجاة العباد، خرج منه كتاب الطهارة، والصلاة، والمراد من الحواشي خصوص حواشي الشيخ المرتضى، وأُستاذه السيد الشيرازي.

الدر النظيم في مسألة التتميم. أي تتميم ماء الكر بالماء النجس.

رسالة تبيين الإباحة في مشكوك ما لا يؤكل لحمه للمصلّين.

رسالة إبانة الصدور في موقوفة ابن أُذينة المأثورة في مسألة إرث ذات الولد من الرباع.

١٧

رسالة لزوم صوم ما فات في سنة الفوات.

رسالة كشف الالتباس عن قاعدة الناس. يعني قاعدة الناس مسلّطون على أموالهم.

رسالة الغرر في قاعدة نفي الضرر.

رسالة تبيين الرشاد في لبس السواد على الأئمّة الأمجاد ( رسالة فارسية ).

الغالية لأهل الأنظار العالية في تحريم حلق اللحية ( رسالة فارسية ).

رسالة في حكم الشكوك غير المنصوصة.

رسالة في حكم الشك في الأفعال.

ويوجد للسيد المؤلّف غير ذلك من الرسائل ممّا كتبت في أجوبة بعض المسائل.

في أُصول الفقه:

رسالة في تعارض الاستصحابين.

اللباب في شرح رسالة الاستصحاب للشيخ العلاّمة المرتضى رحمه الله.

كتاب الحواشي على فرائد الأُصول للشيخ المرتضى رحمه الله.

حدائق الوصول إلى علم الأُصول. لم يتم بعد.

في الأُصول الدينية:

الدرر الموسوية في شرح العقائد الجعفرية. ضمّنها جميع أُصول الدين.

في التاريخ:

تأسيس الشيعة الكرام لسائر فنون الإسلام.

الشيعة وفنون الإسلام ( مختصر من الأوّل ) وهو هذا الكتاب.

في علم الرجال:

كتاب مختلف الرجال، وهو كتاب جليل، دوّن فيه علم الرجال على نحو سائر العلوم المدوّنة: من ذكر التعريف، والموضوع، والغاية، والمبادئ التصوّرية، والمبادئ التصديقية، والمطالب، والحواشي الرجالية على منتهى المقال في أحوال الرجال.

١٨

الحواشي على تلخيص الرجال

الإبانة عن كتاب الخزانة.

الحواشي على أمل الآمل.

نكث الرجال.

حاشية على رجال أبي علي الحايري.

بغية الوعاة في طبقات مشايخ الإجازات.

رسالة في النصوص المأثورة في الحجّة صاحب الزمان عليه السلام.

انتخاب القريب من التقريب لابن حجر.

ذكرى المحسنين.

رسالة في أحوال السيد المحقّق السيد محسن الأعرجي المقدّس البغدادي صاحب ( المحصول وشرح الوافية في الأُصول ).

في علم الأخلاق:

إحياء النفوس بآداب السيد ابن طاووس.

سبيل الصالحين في السلوك وبيان طريق العبودية ( مختصر ).

متفرقات في الحديث:

نهاية الدراية في أُصول علم الحديث وآدابه.

رسالة في إثبات الجمع بين الصلاتين في الحضر من طريق أصحاب الصحاح الستّة.

رسالة في مناقب آل الرسول، من طريق الجمهور.

رسالة أُخرى في المناقب أيضاً على ترتيب الحروف، مستخرجة من الجامع الصغير.

مجالس المؤمنين في وفيات الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

١٩

تعريف الجنان في حقوق الإخوان.

نزهة أهل الحرمين في تواريخ تعميرات المشهدين - أي النجف وكربلاء.

فصل القضا في الكتاب المشتهر بفقه الرضا. كشف فيه حال هذا الكتاب بما لا مزيد عليه، وأثبت أنّه كتاب التكليف المعروف للشلمغاني، وأوضح في ذلك وجه الاشتباه بما لم يسبقه إليه أحد سواه.

قاطعة اللجاج في إبطال طريقة أهل الاعوجاج - يعني بهم الإخبارية المنكرين للاجتهاد والتقليد في الفروع.

وللسيّد المؤلّف أيضاً كتاب ضخم في بيان ما انفرد به أحمد بن تيمية عن علماء الإسلام.

وآخر اسمه مفتاح السعادة في المهم من أدعية اليوم والليلة والشهر والسنة وعمل المشاهد المشرّفة.

أخلاقه الفاضلة ونعوته الممتازة:

الخلق الفاضل سجيّة كريمة، وهو كما يكون طبيعياً في بعض، يكون اصطناعياً في آخرين، وشتّان بين الخلقين، وما مثل مصطنعه إلاّ كشارب الدواء وهو مريض، يكرهه في حين أنّه يصلحه، وليس ذلك إلاّ لأنّه ليس جبلياً له بالذات، بل إنّه ليتكلّفه بالعرض، والتكلّف على النفس ثقيل عبثه، فربما أجهد به صاحبه فرمى به إلى حيث لا يعود إلى حمله.

لا ضير فإنّه عرض يتخلّف عن الذات، ولكن ما بالذات يتخلّف عن الذات، ولكن ما بالذات يتخلّف عنها.

كلا.. تلك لهي شيمة العظماء والكبار، شيمة الأتقياء والأبرار، تلك هي الشيمة التي نجدها مجسّمة في شخص سيّدنا المؤلّف الكبير، ذلك العظيم الذي ما رأيناه منذ يوم رأيناه إلاّ رجلاً عظيم الخلق، كريم الطبع، طلق المحيّا، باسم الثغر، غضوباً في الله، في حين أنّه حليم في نفسه، رؤوف بالصغير، عطوف على الكبير، سيّان عنده الغني والفقير، وهو مع ذلك صبيح الوجه، مهيب المنظر، قوي الحجّة في مناظراته، شديد اللهجة في محاوراته، امتاز بكثرة الحفظ، واتقاد

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ثورةُ المختار الثقفي

ولعلّها أقوى الثورات وأعنفها وأمضاها نتائج، إذ استطاعت أن تطيح بمعظم الرؤوس التي شاركت فعليّاً في قتل الحسين، ولقد جعل لها شعاراً بهذا المعنى (يا لثارات الحسين) وربطها بمحمّد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب، وهذا ما جعل الثائرين يلتفّون حوله، وقد اطمأنّوا إلى عدل ثورته وتمامها.

ولقد وقع عبد الله بن مطيع عامل ابن الزبير بالكوفة في خطأ قاتل حينما أقدم على محاربة الثائرين مع المختار بنفس الرجال الذين تولّوا قتل الحسين، بعمر بن الحَجّاج، وشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي وغيرهم، ممّا أثار في نفوس الثائرين كوامن الانتقام، وذكّرهم بالجريمة النكراء التي اقترفها هؤلاء في كربلاء، فكان هذا كافياً لإثارة عنفهم الذي تبدّى فيما بعد.

وكما وقع ابن مطيع بمقتل، أنصف المختار بتوليه الحكم في طبقة (الموالي) وهم المسلمون غير العرب الذين كان عليهم واجبات المسلمين ولم تكن لهم حقوقهم، وكان الاُمويّون يضطهدونهم. وقد أثار إنصاف المختار لهم حفيظة الأشراف وسادة القبائل فتكتّلوا ضدّه وأجمعوا على حربه(١) .

وكان تكتّلهم سبباً حفّز المختار للتعجيل في تتبّع قتلة الحسين وآله في كربلاء، فتعقّبهم وأعمل فيهم القتل، ولم يترك منهم مَن أحصى عليه ضربة أو كلمة في كربلاء وما قبلها وما بعدها(٢) .

وكان عنيفاً مع اُولئك الذين شاركوا في مجزرة كربلاء، فلم يترك ضارباً أو متكلّماً أو

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٥١٧.

(٢) ذكرت عدّة مصادر ومنها الطبري: أنّ المختار قتل في يوم واحد مئتين وثمانين رجلاً.

١٨١

ناهباً إلاّ وأوقع عليه عنفه، فقتل عبيد الله وأحرقه، وقتل شمر بن ذي الجوشن وألقى أشلاءه للكلاب، وطارد المئات والاُلوف من جندهم وأتباعهم، فأغرقهم بالنهر، ولم ينجَ من غضبه عمرو بن الحجّاج وشبث بن ربعي وغيرهم.

وكانت هذه القسوة التي تبدّت في ثأر المختار إحدى حكم معجزات الشهادة التي أدّاها سيّد الشهداء، فكانت العدل الكامل في ثوب الإبادة، وكانت قصاصاً بآثمي العاشر من محرّم استحقّت الثناء والمباركة.

وكان قصاصاً اتّخذ له من اُولئك الآثمين في محرّم وقوداً، وجعل من جوف الكلاب قبراً للكلب الأبقع شمر الذي رآه الحسين في منامه يشدّ عليه أكثر من غيره. فسبحان القادر مسيّر الأحوال، وموحي القصاص، ومدبّر العدل.

ثورةُ مطرف بن المغيرة

ولم تنقضِ سنوات معدودة على ثورة المختار حتّى كان مطرف بن المغيرة بن شعبة يثور على الحَجّاج بن يوسف ويخلع عبد الملك بن مروان والي الحَجّاج على المدائن.

وقد كتب إلى أنصاره يدعوهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وإلى جهاد مَن عَنَدَ عن الحقّ، واستأثر بالفيء، وترك حُكم الكتاب؛ وذلك ليظهر الحقّ ويمنع الباطل. ولا بدّ للمتبصّر في دعوة مطرف من ملاحظة استمدادها روح كربلاء.

ثورةُ ابن الأشعث

وتستمرّ روح كربلاء في التفاعل بين المجتمعات، وتمتدّ نارها إلى تحت

١٨٢

العروش، فلا تستكين الجماعات حيث تصلها هذه الروح، ولا تبقى عروش حيث تصلها النار.

فبعد أن قمعت المدينة وانتفاضة الكوفة، تأجّجت في سنة ٨١ للهجرة ثورة بقيادة ابن الأشعث هزّت الحكم الاُموي الذي كان على رأسه الحَجّاج، ودامت حتّى عام ٨٣ بعد أن أحرزت انتصارات ضخمة قبل أن يقضي عليها الحَجّاج بجيوش سوريّة(١) .

ثورةُ زيد بن علي بن الحسين

وقد بدأها في سنة ١٢٢ هـ على هَدي ثورة جدّه، مقتبساً روحها في كربلاء، وقد رفع لها شعاراً(يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذلّ إلى العزّ، ومن الدنيا إلى الدِّين) (٢) .

وقد استجابت لدعوة حفيد الشهيد الحسين جماهير عريضة في طول البلاد الإسلاميّة وعرضها، فبويع على الثورة في الكوفة والبصرة وواسط والموصل وخراسان والرَي وجرجان، وكان مقدّراً لهذه الثورة أن تكون أكبر الثورات المتفجّرة من شرارات كربلاء لولا أن تمّ إعلانها قبل موعد استكمال تجهيزها، وفي توقيت مختلف عن التوقيت المتّفق عليه بين زيد وبين أهل الأمصار التي لبّت دعوته.

وقد تعرّضت هذه الثورة لأخطار عدّة؛ بسبب الجيش الاُموي السوريّ الذي كانت قواعده في العراق، إذ ما لبث هذا الجيش أن قضى عليها قبل أن تبدأ فاعليتها.

____________________

(١) حلّل هذه الثورة المؤرّخ ولها وزن في كتابه (الدولة العربيّة) / ١٨٩ - ٢٠٣ وذكرها الطبري في (ثورة ابن الأشعث).

(٢) مقاتل الطالبيّين / ١٣٩ والدولة العربيّة / ٢٧١.

١٨٣

وكان من نتيجة هذه الحركة أن تولّدت منها طائفة تُدعى (الزيديّة) برهنت على استعدادها للاشتراك في كلّ ثورة ضدّ السلطة الغاشمة.

واستمرّت الثورات هنا وهناك آخذة شرارات اشتعالها من شرارات كربلاء المتّقدة أبداً، ولم يعد للحكم الاُموي من شاغل إلا ّالتصدّي لها واستنباط الوسائل للقضاء عليها.

وجاءت ثورة العبّاسيين لتضع الخاتمة النهائيّة لتفجّر الثورات التي استهدفت الحكم الاُموي الذي كان مثالاً لفساد الحكم والعروش. واستطاعت بما رفعته من شعارات وتزوّدت به من مبادئ الكفاح الحسيني أن تنتصر في النهاية وتطيح بحكم بني اُميّة، فإذا بالدولة الاُمويّة العريضة ذات العدد والعدّة تذهب بلا وناء في وقت أقلّ من عمر رجل مثل معاوية.

ورغم أنّ ثورة العبّاسيين لم يكن لها ذلك الدَور الجذري في تبديل واقع الشعب المسلم، فيما عدا تبديلها للحاكمين فوق العروش، فإنّ بنجاحها هذا لم تتوقّف الثورات بعدها، بل استمرّت مشتعلة أبداً، إذ قد توفّر للعروش دوماً أشباه ليزيد، بينما ثمّة حسين واحد كان لعِظَم وخلود مبادئه أن كانت تلد في كلّ يوم ولكلّ جيل ثائرين جدداً يتصدّون للعمل بنورها العلوي، ورفع راية الجهاد الحسيني الذي أضحى سِمة لكلّ جهاد في كلّ زمان ومكان نبت فيهما يزيد جديد.

وهكذا تمّت معجزات الشهادة التي أقدم عليها الحسين (عليه السّلام) وآله وصحبه الأطهار، وبلغت مداها - وإن لم تتوقّف عنده - بالثورات الزمنيّة التي هدّت عروش الظلم وأطاحت بحكم كان من المستحيل الإطاحة به لولا ما قدّمته شهادة الطفّ من معجزات كان لها فعل السحر في النفوس والضمائر والمجتمعات.

١٨٤

وإذا كانت معجزات استشهاد عيسى (عليه السّلام) قد تشابهت مع معجزات شهادة الحسين (عليه السّلام) في فعلها داخل الضمائر والأخلاق والمجتمع، فإنّها لم تتشابه معها في المعجزة الزمنيّة التي تمثّلت في سقوط الحاكمين، إذ انتهت شهادة المسيح عند حدود الضمائر والأخلاق ومناطق العقيدة، بينما تجاوزتها شهادة الحسين إلى إتمامها بمعجزات زمنيّة؛ وذلك لحكمة إلهيّة تدبّر وتسيّر.

فمن عجائب هذه الحكمة أن تجري هذه الحوادث والثورات التي تلت الشهادة كَلِماً على لسان مَن وقعت بجريرة قتله، وذلك قبل وقوعها بعشرات السنين بنفس الشكل الذي صوّره الشهيد وكأنّه يقرؤها في لوح مكشوف أمام عينيه.

فبعد أن أنزل الله تعالى المذلّة على مَن أهانوا وقتلوا شهيده الحسين (عليه السّلام)، فغدوا أذلّ من قوم سبأ، تذكّر المسلمون نبوءة شهيدهم التي قالها ببني اُميّة في الرهيمة: «إنّ بني اُميّة شتموا عرضي فصبرت، وأخذوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت. وايم الله لَيقتلوني فيلبسهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، ويسلّط عليهم مَن يذلّهم(١) حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ؛ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(٢) .

تذكّر المسلمون هذه النبوءة واسترجعوا صور الذلّ التي ألبسها الله لبني اُميّة، وكيف أهينوا وشرّدوا وولّوا هاربين متعقّبين وقُتلوا بأعداد هائلة ومُثّل بهم، وأُنزلت بهم فظاعات من التنكيل لم تكن لتخطر ببال بني اُميّة ولا ببني هاشم يوم صُرع الحسين(٣) .

____________________

(١) أمالي الصدوق / ٩٣، المجلس الثلاثون.

(٢) روي الحديث بتمامه في مقتل الخوارزمي ١ / ٢٢٦ ومثير الأحزان - لابن نما.

(٣)( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (سورة النساء / ٩٣).

١٨٥

وفي المواقف المتشابهة تبرز الكلمات التي قيلت، سيّما إذا كانت تحمل استشفافاً بعيداً للمستقبل، فقد تذكّر المسلمون قولة شهيدهم أمام ولده وأخواته وأهل بيته يوم نزل بكربلاء قال وهو يبكي: «اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد قد اُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو اُميّة علينا، اللّهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين»(١) .

وأخذ الله تعالى بحقّ المكروب والمبتلى بكربلاء، وكانت أيّما أخذة بالحقّ، تطايرت بها رؤوس بني اُميّة التي تعدّت على عترة النبي وأخرجتها وأزعجتها، فلم يرَ مظلوم أخذ حقّه بمثل ما أخذ حقّ المظلوم الحسين من القوم الذين ظلموه(٢) .

وقد روى الحاكم في مستدركه قولاً للخطيب عن ابن عباس فقال: أوحى الله تعالى إلى محمّد: إنّي قتلت بيحيى بن زكريّا سبعين ألفاً، وأنا قاتل بابن بنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً.

وكأنّ سبحانه وتعالى لمّا رأى عِظَم عذاب الحسين أعطاه سلطة وضع نهايات ظالميه بالشكل الذي يتصوّره ويصرّح به، وهذا ما يفسّره وقوع كلّ ما تنبّأ به وحذّر منه اُولئك الذين لطّخوا أيديهم بدمه ودماء أهل بيته.

وما قاله للذين يحيطون به من جند الأعداء في صحراء كربلاء قبل بدء المعركة، ليدخل في عِداد المعجزات التي ما اُوتيت إلاّ لعيسى (عليه السّلام)، فكأنّ الزمن

____________________

(١) (لاَ يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)(سورة الممتحنة / ٨ - ٩).

(٢) (... وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً...) راجع نصّ الآية (سورة الإسراء / ٣٣).

١٨٦

تصرّم واختزل، وكأنّ عشرات السنين ليست بذي بال حيال ما قاله الشهيد للذين وقفوا يسمعونه، فكان من أمرهم بعد ذلك لا يختلف مقدار شعرة عمّا رسمه لهم من مصائر ونهايات.

قال لأعدائه: «أمَا والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور؛ عهدٌ عَهده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله. فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم، ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم(١) . والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه؛ قتلة بقتلة وضربة بضربة، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي»(٢) .

فماذا يمكن أن نسمّي هذا القول؟ نبوءة، رؤيا، سلطة علويّة خاصّة بالشهداء الأبرار، نفحة من السرّ الإلهيّ للمختارين؟ وإلاّ فكيف دالت الاُمور بعد سنوات معدودة من قول هذه الكلمات إلى نفس الشكل الذي حدّدته، وبنفس الكيفيّة التي جاهرت بها، فكانت القتلة بقتلة والضربة بضربة؟

ولنسمع الشهيد يكمل استقراء مستقبل الأيّام فيقول (عليه السّلام): «اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط

____________________

(١) مقتل الحسين - المقرّم / ٢٨٧ عن تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٤ واللهوف / ٥٤.

(٢) مقتل العوالم / ٨٤.

١٨٧

عليهم غلام ثقيف(١) يسقيهم كأساً مصبّرة».

فكانت السنوات التي وقعت بين تاريخ مقتله وتاريخ سقوط آخر أمير اُموي ألعن من سني يوسف؛ تسلّط خلالها عليهم مَن هم أقسى من غلام ثقيف، فأذاقهم (زقاً) مصبرة، ولم يكتف بكأس واحدة، فتبدّد شملهم واندثر ذكرهم.

وكانت صرخته التي راحت شعاراً للثورة والمظلومين: «أمَا من مغيثٍ يغيثنا! أمَا من مجيرٍ يجيرنا! أمَا من طالب حقّ ينصرنا! أمَا من خائفٍ من النار فيذبّ عنّا!». قد أضحت أمراً لكثيرين كي يهبّوا لإغاثة مبادئه، فازداد المجيرون، وكثر طلاّب الحقّ المناصرين لحقّه، وصار عدد الخائفين من النار أكثر من عدد رمل البحر؛ يذبّون عن العقيدة التي تكلّم باسمها وعنى بها قوله (يذبّ عنّا)، فانقلبت الموازين، وغدا شعار إغاثة الحسين وإجارته ونصرته والذبّ عنه ناموساً وشريعة لدى كلّ المؤمنين؛ سواء أكانوا مسلمين، أو تحت أيّ دين أو عقيدة انضووا، وفي كلّ عصر ومصر، وغدا الحسين رمزاً وشعاراً واستلهاماً واُسلوباً.

ولئن تحدّثنا عن نبوءات الحسين التي تحقّقت بعد ردح من الزمن، فإنّنا لن نغفل ما ألهمته هذه النبوءات للعقيلة زينب (عليها السّلام)، من استقراء للمستقبل القريب وهي التي كانت قريبة على الدوام من أخيها تسمع كلّ ما يلفظه فوه من كلام، وكانت تحفظ في قلبها استلهام أخيها الشهيد، فيوحي لها هذا الاستلهام بكلّ ما تلفّظت به كاستقراء للمستقبل.

فها هي في واحدة من هذه الاستقراءات، حينما وقفت أمام يزيد وقالت له:

____________________

(١) هو المختار بن أبي عبيدة الثقفي.

١٨٨

اللّهمّ خذ لنا بحقّنا، وانتقم ممَّن ظلمنا، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا، وقتل حماتنا.

وإذا كان في قولتها هذه دعاء عامّ لكلّ مَن ظلمهم وقتل حماتهم، فإنّها هنا في هذه القولة تحدّد أكثر فتقول موجّهة كلامها ليزيد: فوالله ما فريت إلاّ جلدك ولا حززت إلاّ لحمك، ولتَرِدَنّ على رسول الله وآله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجتمع شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم.

وهكذا أيضاً لم تشذّ الاُمور في ما تلا من أيّام عن هذا الاستلهام قيد أنملة، فكان يزيد ممَّن حزّ لحمه وفري جلده بيده، ودلّت ميتته وما تلاها على بعض ما ينتظره في الآخرة عندما يُحشر يوم القيامة ويُسأل عمّا تحمّله من سفك دماء عترة النبي (صلّى الله عليه وآله).

ولعلّ الإلهام المستقرّئ للمستقبل كان في عبارة العقيلة ليزيد واضحاً محدّد المعالم بشكل غريب إذ قالت له: فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند، وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.

وقالت وهي مسبيّة: المستقبل لذكرنا، والعظمة لرجالنا، والحياة لآثارنا، والعلوّ لأعتابنا، والولاء لنا وحدنا.

وقالت لابن أخيها السجّاد قبل أن يترك ركب السبي أرض كربلاء: فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك، إنّ قبر أبيك سيكون علماً لا يُدرس أثره، ولا يُمحى رسمه على كرور الأيّام والليالي، وليجتهد أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه

١٨٩

وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً(١) .

وقد برهنت الأيّام وتكرار القرون على صدق هذا الاستقراء، فلم يرحض عار الجريمة عن يزيد حتّى فتكت به وراح بجريرتها، فكانت أيّامه عدداً وجمعه بدداً.

وكان المستقبل لذكر آل البيت (عليهم السّلام) مرهوناً، والعظمة لرجاله موقوفة، والحياة لآثارهم ناصعة، والعلوّ لأعتابهم يزداد، والولاء لهم وحدهم يتعمّق.

واحتلّ قبر الحسين الشهيد كعلم لا يُدرس أثره في الضمائر قبل الأرض، ولم يزده كرور الليالي والأيّام إلاّ رسوخ رسمه، وما زادته اجتهادات أئمّة الكفر وأشياع الضَلال إلاّ بروزاً وتثبيتاً، فازداد أثره علوّاً.

ولنَجِل عيوننا الآن إذا كنّا في شكّ من تمام هذه المعجزات التي اجترحتها شهادة سيّد الشهداء، لنَجِلها في كلّ البقاع والأصقاع باحثين عن أيّ أثر ليزيد أو معاوية أو شمر أو ابن زياد، فلا يمكن أن نعثر على أيّ أثر لهؤلاء، فقد اندرست آثارهم، وانمحى ذكرهم، وإذا ذكروا فلأجل لعنهم والدعاء لهم بنارٍ حامية لا تنطفئ.

ولنَجِل أبصارنا بالمقابل إلى أيّ مكان فوق هذا الكوكب، فيطالعنا خلود الحسين ونسمع اللهج بذكراه. ففوق كلّ مكان الحسين منارة هَدي، وفوق كلّ يمّ الحسين طوق نجاة، وفي كلّ مظلمة الحسين قبس من نور وحكمة، وأمام كلّ طاغية الحسين ثورة لا تبقي ولا تذر.

هو (عليه السّلام) ملء الأبصار والأسماع، أمل للحائرين والمظلومين، وبلسم

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٦١.

١٩٠

للمجروحين المحزونين، وشفاء لكلّ علّة اجتماعيّة وأخلاقيّة.

ولنرى الآن أين اُولئك الظالمون؟ وأين قبورهم؟ وكيف يُذكرون؟(١) لنقتنع بعظمة أقوال السبط العظيم، وبخلود مبادئه خلود الإنسان الذي كانت لأجله.

ويكفي يزيد مهانة أن يعلن ابنه معاوية الثاني أمام حشدٍ كبير براءته ممّا جنت أيدي أبيه وجدّه، ورفضه الجلوس على عرش ملوّث بدماء الحسين. ويكفي الحسين خلوداً وتكريماً أن يعلن ابن قاتله عن حمل شعلة ثورته والعمل بوحي من مبادئه.

ولنرى الآن كيف يكرّم المؤمنون على اختلاف أديانهم الحسين (عليه السّلام)، وكيف يستلهمون ثورته في قيامهم وقعودهم(٢) ، في صغائر اُمورهم الدنيويّة وكبائرها؟

فلنمجّد لله الذي كان رفوقاً بعباده إذ أعدّ لهم طوق خلاصهم، ورفع أمام بصائرهم الكليلة منارة الفضيلة والحقّ بشخص الحسين الشهيد. وإنّها لعبرة ودرس علوي لبني البشر؛ كي لا يعموا بصائرهم ويصمّوا آذانهم عن دعوات الحقّ التي يرسل لها تعالى أربابها لحكمة فوق مستوى إدراكهم.

قالت عزّته: وكما عَلَت السماوات عن الأرض كذلك طُرقي عَلَت على طُرقكم، وأفكاري على أفكاركم(٣) .

ونهضة الحسين (عليه السّلام) هي السفينة التي عناها الرسول الكريم، فمَن يركبها ينجو، ومَن يتخلّف عن ركوبها يغرق.

____________________

(١) قيل: إنّ يزيد مات أثناء تلهّيه بالصيد في (حوّارين) من بلاد الشام. ولم يعثر من جثّته إلاّ على فخذه، فنقلت إلى دمشق ودفنت قرب الباب الصغير اليوم في غرفة مهجورة ليس لها سقف، يرميها المارّون بالحجارة ويبصقون على العظام التي تضمّها، تبرّؤوا من يزيد ومن أفعاله المنكرة.

(٢) ذكرى عاشوراء تجديد لهذا الاستلهام، وإعادة لذكرى الفداء العظيم الذي أنقذ دين الإسلام من الفناء.

(٣) أشعيا ٥٥ / ٩ - ١٠.

١٩١

فما أجدر بالبشريّة وهي تجتاز في هذا العصر المظلم أخلاقيّاً واجتماعيّاً وسلطويّاً درب آلامها لأن تتوجّه نحو منارة الحسين كي لا تضلّ، وتتمسّك بأطواق مبادئه كي لا تغرق، وتسترشد بصرخته كي تبعد عنها وحوش الضلالة وثعابين الظلم والإذلال.

وما أحرانا الآن أكثر من أيّ وقت مضى لأن نستدفئ بحرارة قتل الحسين المنبعثة من قلوبنا حارّة لا تبرد أبداً. وهي حارة تستوطن قلوبنا، ولا داعي للبحث عنها بعيداً عن صدورنا، فهي جزء من حرارة قلوبنا، إذا كنّا مؤمنين.

ولنا في قولة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله): «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً» دافعاً لإدراك حقيقة جوهريّة لطالما تغافلنا عنها، وهي أنّ حرارة قتل الحسين قد احتلّت قلوبنا وامتزجت في دمائنا وصارت خليّة من خلايانا، ولو لم تكن حرارته كذلك لَما أعطاها الرسول الكريم صفة الحتميّة التي لا تتحمّل تأويلاً.

فصلوات الله عليه لم يقُل: ستظلّ حرارة قتل الحسين حارّة فيعطيها صفة المرحليّة، ولم يقُل: اجعلوها حارّة في قلوبكم فيعطيها صفة البدء، ويعطينا خاصيّة الاختيار والتقرير بين جعلها حارّة أو تركها باردة، ولم يقُل: يجب أن يكون لقتل الحسين حرارة فيربطها بإرادة الإنسان، فتخضع لمبدأ الوجوب أو عدمه، بل كان في قولته (صلّى الله عليه وآله) تضمين حتمي بأنّ لقتل الحسين حرارة لا تبرد أبداً، وهو تضمين لا يحمل صفة التعمية أو اللبس، بل هو تأكيد مجزوم بأنّ قلب المؤمن هو مقرّ ومستقرّ حرارة استشهاد الحسين؛ لأنّ سدى هذا الاستشهاد من لحمة إيمان قلب المؤمن، فهو إذاً لا يحيا إلاّ بهذه الحرارة، وهذه الحرارة لا تتأجّج حيث لا تبرد

١٩٢

أبداً إلاّ في هذا القلب(١) .

قولة نبويّة فيها من إعجاز الحكمة الشيء الكثير لو عملنا بمقتضاها لتبدّلت حياتنا، وما أظنّ إلاّ أنّا عاملون بهذا المقتضى ملتفتون إلى ما فيه من جوهر، فحتمية اندفاعتنا العصريّة وما يحيق بها من مظالم وقهر ستؤول بنا في النهاية إلى حظيرة الحسين، حيث نجد فيها العدل والرحمة والطمأنينة، وننفض عن ذاتيّتنا كلّ وهنٍ وخوفٍ وشكٍّ.

فمَن أحقّ من المؤمن في الاستفادة من نتائج شهادة الحسين، ومَن أحقّ منه في الدفء المنبعث من هذه الشهادة، حيث يذوب أمامه صقيع أوهامه؟ فهلاّ كنّا من المؤمنين الذين كرّمهم تعالى بأن جعل لقتل الحسين في قلوبهم حرارة لا تبرد أبداً؟ وهل نحن أهلٌ لهذه التكرمة؟ وجديرون حقّاً بهذه الحرارة؟

قبل الإجابة لنسأل أوّلاً: هل وعَينا هذه الحرارة؟ وهل تأكّدنا من وجودها في قلوبنا(٢) ؟

____________________

(١) حرارة المشاعر في القلوب هي المُلهم للفكر والمحرّك لإرادة الفعل. وفي استيلاء حرارة الحبّ في القلب المُحبّ دافعاً له لإظهار مودّته وعطفه نحو محبوبه بقدر كبير من الجزل والحبور. وحرارة قتل الحسين (عليه السّلام) المستوطنة في قلوبنا تؤجّج في أفكارنا إلهامات إنسانيّة خيّرة. وفي قلوبنا التماعات قدمية عذبة، فننحو نحوها بجوارحنا لنذوب في نداء مجهولها، فتخضوضر مناطق اليبوسة في حنايانا. وفي هذا سرّ الحرارة والتأجّج.

(٢) التأكّد يكون بعدّة مظاهر أوّلها القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة المظلوم.

١٩٣

١٩٤

الأسبابُ البعيدة للثورة

بواعث الثورة لدى الحسين لم تبدأ في عصره وعصر خصمه يزيد، بل كان لها جذور تاريخيّة بدأت منذ عهد قروم عبد مناف، ثمّ إلى قريش. فالهاشميّون والاُمويّون من اُرومة واحدة، إلاّ أنّهم يختلفون عن بعضهم بالأخلاق والمُثُل؛ إذ كان بنو هاشم أخلاقيّين أريحيّين، بينما بنو اُميّة نفعيّون دهاة سيّما مَن كان منهم في أصل عبد شمس من الآباء.

ولعلّ خير وصف للأُسْرَتَين ذلك الذي قاله نفيل بن عدي لمّا تنافر له عبد المطّلب وحرب بن اُميّة، فقال لحرب:

أبوك مُعاهرٌ وأبوه عفٌّ

وذادَ الفيلَ عن بلدٍ حرامِ

وكان نفيل يشير إلى فيل أبرهة الذي أغار به على مكّة، ويعني عن اُميّة بـ(معاهر) لِما عُرف عنه من تعرّضه للنساء، وما أشيع من أنّه ضُرب مرّة بالسيف لتعرّضه لامرأة من بني زهرة.

١٩٥

ولعلّ اختلاف الأمزجة والأخلاق هو الذي حدّد مسار أجيال أبناء هاشم وأبناء عبد شمس، فقد عُرف عن بني هاشم تعلّقهم وعملهم في القيادة الدينيّة، وعُرف عن عبد شمس عملهم في التجارة والسياسة.

وإذا اختلفت الأمزجة والطبائع بين البشر فلا بدّ من اختلاف النظرة إلى الاُمور، وإلى كيفيّة أخذها تبعاً لذلك؛ لذا كان من المحتّم أن تقوم المواجهة السافرة حيناً، والمبطّنة حيناً آخر بين فروع العائلتَين المنحدرتَين من عبد مناف.

وطبيعي إذا ما تفجّرت مثل هذه المواجهة وتفاقم بين الأُسْرَتَين الخلاف أن يعرف المطّلع - وقد خَبُر فارق الطبائع والأمزجة - مَن سيكون المعتدي، ومَن سيكون المعتدى عليه، ومَن يأخذ جانب الباطل، ومَن يأخذ جانب الحقّ.

ولو عرضنا هذا الأمر على مطلق إنسان لأجاب: بأنّ النفعي هو ممثّل الباطل، والأريحي هو ممثّل الحقّ. وعلى نفس المقياس يجيب أيضاً: بأنّ التاجر والسياسي هو مشعل فتيل الخلاف، على القائد الديني وداعية الأخلاق.

وإذا كان من غير المناسب أن نخوض في الأسباب التاريخيّة لخلاف بني هاشم وبني اُميّة في متن كتابنا التحليلي هذا، تاركين هذه المهمّة لكتب التاريخ الصرفة التي تهتمّ بسرد الحوادث دونما تحليلها وإبداء الرأي حولها، فإنّ ذلك لن يمنعنا من تقديم نبذة بسيطة عن هذا الخلاف مذ تفجّر حتّى وصلت نتائجه إلى عهد الحسين ويزيد، وما كان من الحوادث التي تلت.

وما دمنا لا نبغي التركيز على تلك الفترات التاريخيّة إلاّ فيما ينفعنا لمادّة هذا الكتاب الذي نتوجّه به للفكر المسيحي العربي والغربي أوّلاً، وللفكر الإسلامي ثانياً، فإنّ في تعريجنا السريع على تلك الفترة من شأنه إكمال الصورة المجزّأة لملحمة كربلاء، وما سبقها من أسباب وبواعث وأحداث، ما دمنا قد أكملنا الأجزاء التي تلتها، فصار

١٩٦

لزاماً علينا وضع الأجزاء التي سبقتها لإكمال صورتها النهائيّة.

صراعُ موروث

جذور الخلاف الاُولى تمتدّ إلى صراع موروث وتخاصم حاد منذ عهد الجاهليّة الاُولى بشرارة بدأت بين هاشم واُميّة، وامتدّت بين محمّد (صلّى الله عليه وآله) وأبي سفيان، واستمرّت إلى عهد علي ومعاوية، وانتهت بعهد الحسين ويزيد.

وقد جاءت وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) لتكشف عن استمراريّة تمكّن روح القبليّة بين المسلمين، إذ لم تمضِ ساعات على وفاة الرسول الأعظم حتّى بدأت المداولات هنا وهناك بمعزل عن جموع اُمّة الإسلام العريضة، وكلّها تبحث في مسألة الخلافة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله).

فرأى الأنصار بأنّ الخلافة من حقّهم، ونازعهم فريق قريشي هذا المنطق. وكان عامل الذهول الذي أصاب المسلمين بوفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) قد جعلهم يتناسون عهد النبي إلى علي بن أبي طالب (عليه السّلام). وكانت هذه الروح القبليّة التي تأجّجت يوم السقيفة هي البذرة الاُولى للفتنة التي نشبت بين المسلمين.

وحينما تولّى عمر الخلافة فرض العطاء على مبدأ التفضيل، ففضّل السابقين على غيرهم، وفضّل المهاجرين على الأنصار، والعرب على العجم، والصريح على المولى، ومضر على ربيعة، والأوس على الخزرج(١) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ٨ / ١١١، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ١٠٦، وفتوح البلدان / ٤٣٧.

١٩٧

ولكن عمر ما كاد يدرك أخطار مبدئه هذا، السياسيّة منها والاجتماعيّة والدينيّة، ويرغب في تغييره، حتّى اغتيل(١) ، وخلفه عثمان وسار على نفس نهجه السابق.

وما عتمت الأحداث أن تطوّرت، وانقسمت الاُمّة الإسلاميّة إلى صفَّين؛ فكانت قريش - عدا بني هاشم - مع عثمان، والأنصار مع علي. ولعلّ أصدق موقفَين يصوّران حالة الجدل التي تفشّت وقتذاك هذان الموقفان: فقد قال عبد الله بن سعد بن أبي سرح الاُموي: أيّها الملأ إذا أردتم ألاّ تختلف قريش فيما بينها فبايعوا عثمان(٢) .

وقال عمّار بن ياسر: إن أردتم ألاّ يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليّاً(٣) . ولمّا كان علي (عليه السّلام) مرشّح الأكثريّة المسلمة، وعثمان مرشّح الأرستقراطيّة القرشيّة، فقد فاز عثمان بالبيعة دون علي.

ومنذ ذلك اليوم دخل الاُمويّون في الحكم، وكان من نتيجة فوز عثمان أن صار أي مرشّح يرجو الخلافة لنفسه بعد أن رشّحه لها عمر. وقد وصف هذه النتيجة علي (عليه السّلام) بقوله: «لأسلمن ما سلمت اُمور المسلمين، ولم يكن فيها جَور إلاّ عليَّ خاصّة»(٤) .

وقد تفاعلت هذه الأحداث مع سياسة عثمان الفاسدة في المال والإدارة والحكم

____________________

(١) في تاريخ اليعقوبي، وشرح نهج البلاغة قال عمر: إن عشتُ هذه السنة ساويتُ بين الناس، فَلَم أفضّل أحمر على أسود ولا عربياً على عجمي، وصنعتُ كما صنع رسول الله وأبو بكر.

(٢) و (٣) شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ٩ / ٥٩، وتاريخ الطبري ٤ / ٢٣٢ - ٢٣٣.

(٤) نهج البلاغة ١ / ١٥١.

١٩٨

فبدأ الانحراف الصريح في العقيدة ومبادئ الإسلام من يومها.

وقد ازداد الفساد في عهده فضرب كلّ الولايات الإسلاميّة، ممّا ألّب جموع المسلمين عليه فتنادوا إلى الثورة ضدّه بعد أن ضيق بأعمالهم، وبعثهم إلى أرض العدو كجنود - وجمّرهم - أي جمّدهم هناك، وحرم أعطياتهم ليطيعوه، ولكن هذه الأحداث انتهت بمقتل عثمان(١) .

ولايةُ علي (عليه السّلام)

بعد مقتل عثمان جاءت الجموع تطالب علياً بتولّي الحكم، لكنّه أبى عليهم ذلك؛ لأنّ للحكم تبعات سيّئة بعد ولاية عثمان، لذا قال لهم: «دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ، لا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ وَلا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً»(٢) .

ولكنّ المسلمين أبوا عليه هذا الرفض، فاستجاب لهم وبويع بالحكم، وقد بدأ (عليه السّلام) بإصلاح الإدارة التي أفسدها عثمان، ونجح في ذلك. وقد قال بهذا الصدد:

____________________

(١) مروج الذهب - المسعودي

(٢) نهج البلاغة ١ / ٢١٧.

١٩٩

«وَلَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا؛ فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلاً، وَعِبَادَهُ خَوَلاً، وَالصَّالِحِينَ حَرْباً، وَالْفَاسِقِينَ حِزْباً».

وقضى الإمام على الفروق الجاهليّة، وكان مبدؤه بهذا الصدد: «الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه»(١) .

ولم يمضِ بعض الوقت حتّى وضع الإمام علي الاُمور بنصابها وأحقّ الحقّ وقضى على التفاوت الطبقي، ممّا أثار حفيظة قريش فأرسلوا له الوليد بن عقبة بن أبي معيط يفاوضه؛ كي يضع عنهم ما أصابوه من مال أيّام عثمان على أن يبايعوه، ولكنّ الإمام رفض، فبدأت الدسائس والمؤامرات، وكان أوّلها حركة تمرّد في البصرة تحت شعار (الثأر لعثمان)، فقمعها الإمام، وفرّ مَن بقي من أنصارها إلى الشام، حيث قامت حكومة برئاسة معاوية بن أبي سفيان انضوى تحت لوائها كلّ الموتورين الذين ساءهم إصلاح حال الاُمّة الإسلاميّة على يد علي (عليه السّلام).

ولم تدُم الأيّام طويلاً فولدت حركة تمرّد اُخرى تحت شعار (الثأر لعثمان)، وكانت بزعامة معاوية فكانت معركة صفّين وكانت خدعة التحكيم، ثمّ النهروان، ثمّ مقتل علي (عليه السّلام)، ومبايعة ابنه الحسن، واضطراره للتخلّي عن الحكم تحت ضغط الأحداث وتوالي المؤامرات والدسائس.

انتقامُ معاوية من شيعة علي

وصارت الاُمور إلى معاوية وسيطر على الاُمّة الإسلاميّة كلّها، يسوسها

____________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٢١٨.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258