الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي0%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أنطوان بارا
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 258
المشاهدات: 49608
تحميل: 7643

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49608 / تحميل: 7643
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مَن آمن بي فستجري من جوفه كما قال الكتاب، أنهار ماء حي»(1) .

وإذ سمع بعض الجمع هذا الكلام، وقالوا: لا جرم إنّ هذا هو النبي. وقال آخرون: بل هو المسيح. وقال غيرهم: أمن الجليل يأتي المسيح؟(2) .

ولنلاحظ صيغة الأسئلة التي وجّهت إلى يوحنا، وصيغة أجوبته عليها، فقد أجاب بعد أن سُئل مَن أنت، بقوله: (إنّي لست المسيح). وأجاب بعد أن سُئل عمّا إذا كان هو إيليّا، بقوله: (لست إيّاه). وأجاب بعد أن سُئل عمّا إذا كان هو النبي، قوله: (لا).

وكلمة (النبي) كما وردت في شهادة يوحنّا كان بصيغة معرفة (النبي) لا نكرة (نبي) كي تفسّر على أنّها صفة قد تطلق هكذا لمجرّد التساؤل حول هويّة يوحنّا، وهل هو نبي ما اُوتي مقدرة ما؟ أو بشر عادي؟ بل سبقت بـ(أل التعريف)، فانتقلت كلفظة نكرة تدلّ على مجهول غير منتظر، إلى معرفة تدلّ على معلوم منتظر، بما يشير إلى أنّ النبي المقصود قد أجمعت النبوءات على تحديد أوصافه واسمه، وعلى تسلسل ظهوره في سلّم ظهور الأنبياء، وعلى مكانته النبويّة بينهم، وعلى انتظار البشر لمجيئه بعد المسيح مباشرة.

وفي منظور التسلسل اللّفظي الذي جاء في شهادة يوحنّا (المسيح، إيليا، النبي) نلاحظ أنّ لفظة (النبي) كانت مسبوقة وليست متبوعة بأيّ اسم آخر، وبأنّها ختمت هذا التسلسل بتواجدها في نهايته. وفي هذا الاختتام انسجام تام مع ما ورد

____________________

(1) يوحنّا 193 / 37 - 38.

(2) يوحنّا 193 / 40 - 41.

٤١

في الكتب السماويّة والتواريخ الوضعيّة المدوّنة والتي لم تسجّل ظهور نبيّ بعد عيسى مباشرة أطلقت عليه صفة (النبي)؛ حيث لم يظهر بعده نبي، إلاّ النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء والمرسلين.

وحتّى الإنجيل المقدّس لم يفسّر المعنى المقصود بـ(النبي) كما ورد في شهادة يوحنّا، والذي ينتظر مجيئه بعد المسيح، كي يقال: بأنّ أي تفسير مغاير له يجافي الحقيقة والتاريخ.

فإذا قلت ذلك من قناعتي كمسيحي مؤمن فَهم تعاليم عيسى وما هدفت إليه وتعمّق في جوهر مبادئه السّامية، فلا يحمّل قولي بأكثر من حدود ما رمى إليه، ولا يؤخذ على أنّه تحميل لآيات الكتاب المقدّس تآويلاً لا تحتملها، حاشا لله، بل كما سبق وأسلفت من أنّ قناعتي كاملة بوجود ما يشير إلى مثل هذا الحدث - حدث نزول رسالة محمد (صلّى الله عليه وآله) - في صلب آيات الإنجيل، ولكن استخلاصها من مضانّها يحتاج إلى عقل ملهم، وضمير متبصّر نيّر، وشجاعة أدبيّة مؤمنة لا تخاف الجهر بقناعاتها وتحليلاتها الموضوعيّة العقلانيّة، فلم تك أبداً رسالة المسيح، رسالة تقوقع أو بغض، ولا حتّى رسالة نرجسيّة وعشق ذات، فالمسيح (عليه السّلام) قال: «لا تظنّوا أنّي جئت لأنقص الناموس أو الأنبياء، إنّي ما جئت لأنقص بل لأكمل»(1) .

ففي هذه القولة مغزىً مؤدّياً إلى ما يلي معنى الإكمال المتبوع بـ(الاستمراريّة) المؤدّية بدورها إلى الخاتمة.

فإذا اعترفنا بأنّ الأديان إنّما جاءت لجميع البشر على السواء، فنكون قد كرّسنا حقيقة أزلية تتجلّى في حكمة نزول الرسالات الثلاث واختتامها برسالة الإسلام.

____________________

(1) العهد الجديد 9 / 17.

٤٢

فعيسى (عليه السّلام) قال لمجموع البشريّة: (ما جئت لأنقض بل لأكمل). وكان يريد إفهام النّاس بأنّه يكمل ما كان قد بدئ من دين الله الواحد برسالة اليهوديّة التي تشكّل اُولى مراحله، حيث أعقب هذا القول تضميناً لفظياً باستمراريّة مسيرة الرسالات لتصل نحو نقطة النهاية - الخاتمة - والقرآن الكريم خاطب مجموع البشريّة بالقول:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (1) . والمقصود في هذه الآية الكريمة: بأنّ ما كان في مسالك دين الله الواحد من رسالات جاء الإسلام ليكملها ويضع لها الخاتمة، فتمّت نعمة الله على البشريّة بتمام هذه الرسالات.

فمعنى عبارة( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) يجيء مشيراً بشكل ضمني وواضح إلى وجود هذا الدين فيما سبق، ومسلّماً ببداهة هذه الكينونة السابقة بشكل منقوص، حيث أكملت اليوم بالشكل المرسوم الذي أرادته العناية الإلهية. أمّا عبارة( وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً ) فإنها جاءت بعد عبارة( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الواقعة بدورها بعد عبارة( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ؛ فبذا يكون الإسلام هو الدين البشري الذي رضيه الله لعباده سواء أكانوا يهوداً، أم نصارى، أم مسلمين. وتكون اليهوديّة والمسيحيّة هما الأدواء الروحيّة التي عالجت الأنفس في أزمان نزولها، فبرّأتها إلى حين نزول الإسلام حيث أكملها وحصّن الأنفس بطعم روحي سرمدي، درأ عنها كل العلل والأسقام التي قد تطرأ عليها فتفنيها.

فالدين الواحد برسالاته الثلاث كان رحمةً للبشر، وأمراً لهم بعبادة الله

____________________

(1) سورة المائدة / 3.

٤٣

الأحد. ولم يختصّ منهم أحداً دون الآخر بل قالت عزّته:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1) .

وقد عرّفت الرسالات السماويّة الثلاث البشر بالله الأحد، وأوصلت لهم دينه الإلهي الواحد، مصداقاً لقوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (2) .

كما ورد ذكر الإله الواحد والدين الكلّيّ الشمول في الآية الكريمة:( وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (3) .

فعبارة( آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ) فيها أبين دلالة على وحدانيّة الله، ووحدانيّة الأديان، ووحدانيّة التّنزيل، ووحدانيّة الإسلام بين الإسلام والمسيحيّة.

وقد جاء في القرآن الكريم:( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (4) .

ففي كلّ هذا مصداق للقول: بأنّه لا يصحّ إسلام المسلم حتّى يؤمن بنبوّة عيسى (عليه السّلام)

____________________

(1) سورة البقرة / 21.

(2) سورة الشورى / 13.

(3) سورة العنكبوت / 46.

(4) سورة المائدة / 83 - 84.

٤٤

ولا تصحّ نصرانيّة المسيحي حتّى يؤمن بنبوّة محمّد،( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) (1) .

هذا التعدّد في الخلق وفي الرسالات، هو في جوهره كتعدّد روافد نهر واحد يصبّ آخره في خضمّ محيط واسع. وهذا التعدّد لا يعني التفرّد أو الخصوصيّة، بل يشبه دور عدّة أعمدة تحمل مبنىً واحداً، يتوزّع ثقله بالقسطاس على كلّ واحد منها. فرسالة الرسالات تشابهت، ٍكذلك تعاليمها ومبادئها. وقد ناقش المجمع المسكوني علاقة الكنيسة المسيحية مع بقيّة الأديان(2) ، كما قارن بين الأديان التوحيديّة الثلاث: اليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام، وأبرز قواسمها المشتركة، وحدّد سماتها المتشابهة.

أهم هذه القواسم كما تحدّدت؛ الدعوة إلى عبادة الله الأحد، خلود النفس، الآخرة، الله خالق، الثواب والعقاب، الفضائل والأخلاق الحسنة، الزكاة والصدقة والبرّ والإحسان، الملائكة والشياطين،

____________________

(1) سورة المائدة / 48

(2) كان ذلك على عهد يوحنا الثالث والعشرين، وأكمله بيوس السادس، وقد دعي ممثّلوا الديانات الأخرى غير التوحيديّة لحضور الجلسات كمراقبين.

٤٥

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التعامل بالحسنى، تحريم القتل والزّنا وشهادة الزّور والسرقة، تكريم الوالدين.

وقد تبيّن للمجمع المسكوني أنّ الوصايا العشر في المسيحيّة يقابلها وصايا شبيهة في الإسلام، ففي الإنجيل ثمّة وصيّة تقول: «أحبب عدوك وقريبك كنفسك». وفي القرآن ثمة اُخرى تقول:( وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (1) . والاثنتان تدعواننا للتأمّل في مغزاهما ومراميهما ومعاني ألفاظهما.

كذلك فإنّ قصّة خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، ومدّة الخلق التي هي ستّة أيّام، واستراحة الخالق في اليوم السابع كلّها متشابهة شبهاً كبيراً ما بين الإنجيل والقرآن.

والمطّلع على الكتابَين المقدّسين، سيجد تطابقاً غريباً في معظم القصص والأحداث، وتشابهاً بيّناً بين المبادئ والأهداف، وما قصّة استخلاف الله لآدم في الأرض إلاّ إحدى هذه التطابقات المتجانسة.

وهكذا شاءت حكمته تعالى أن يسلّم من الناس أمره لعزّته عن طريق الإنجيل، ومنهم الآخر عن طريق القرآن، ومنهم عن طريق الحكمة؛ لأنّ الإسلام هو التسليم بالأمر لله تعالى، توزّعت نعمه على الخلق بسواسية عادلة، فكان دين البشريّة على اختلاف أديانهم ونحلهم.

____________________

(1) سورة فصّلت / 34.

٤٦

وبدين الإسلام هذا وصّى إبراهيم (عليه السّلام) بنيه، وبه وصّى حفيده يعقوب أي إسرائيل بنيه،( إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (1) .

وطريق الهدى واحدة ملّة إبراهيم، الإسلام، وعليها كان إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى. والمؤمنون يؤمنون بما اُوتي النبيّون، لا يفرّقون بين أحد منهم، ويسلّمون لله، وبلَون الإسلام يصطبغون. الذين يؤمنون هذا الإيمان هم المهتدون، اُولئك لا يجادلون في الله تعصّباً لأهوائهم، بل يخلصون لفطرة الله ولا يتفرّقون(2) .

فطرة الله هي اختياره تعالى لقافلة أنبيائه من ذريّة واحدة، بعضها من بعض، لتكمل دعواتهم بعضها بعضاً أيضاً؛ لأنّها في تمامها دعوة إلهيّة واحدة، إذ قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (3) .

فإذا كان الخط البياني للتوحيد بلغ في الرسالة المحمديّة إلى الذروة (قل هو الله أحد) فإنّ التوحيد في المسيحيّة يبرز في مطلع فعل الإيمان، إذ جاء فيه: (نؤمن بإله واحد ضابط الكلّ خالق السماء والأرض وكلّ ما يُرى وما لا يُرى).

أمّا التثليث (الأب والابن والروح القدس) فإنّه تعبير مجازي أدبي، لا حقيقي مادّي، أو كما يفسّره البعض من أنّ لله ثلاثة أقانيم منفصلة، إذ الأصحّ أنّها أقانيم

____________________

(1) سورة البقرة / 133.

(2) تفسير القرآن المرتّب للدكتور أسعد علي / 364.

(3) سورة آل عمران / 33 - 34.

٤٧

متّصلة متداخلة تعبّر المجاز في ثلاث نقاط نحو الحقيقة، ويصحّ تشبيه هذا المجاز اللفظي، بقولنا عن الشمس: بأنّها مكوّنة من نار وضوء وحرارة، تشكّل مجتمعة قرصاً واحداً يدعى الشمس. يُعرف بها ولا تُعرف به، ولا تشكّل مفردة عالماً أو كوناً قائماً، تُعرّف من قريب أو بعيد على ذات ما عُرّفت به مجتمعة.

وتعدّ وحدانيّة الله الحقيقة الأساسيّة التي يعلّمها الكتاب المقدّس، فقد جاء على لسان أشعيا النبي: (أنا الأوّل وأنا الآخر ولا إله غيري). ثمّ جاء المسيح وثبّت هذه الحقيقة بقوله «إنّ الربّ إلهنا ربّ واحد»(1) . ثمّ انطلق الرسل بعده يعلّمون هذه الحقيقة، فقد كتب بولس الرسول إلى أهل أفسس: (للجميع ربّ واحد وإيمان واحد وإله واحد هو فوق الجميع ومع الجميع وفي الجميع)، وصرّح لأهل كورنتس: (نحن نعلم أنّ الوثن ليس بشيء في العالم، وأنّه لا إله غير واحد)(2) . وتقول أولى الوصايا العشر: (أنا الربّ إلهك لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي). وكتب لوقا: (للربّ إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد)(3) .

ولمّا كان عقل الإنسان محدوداً غير قادر على سبر جوهر الله والوقوف على سرّ طبيعته،

____________________

(1) مرقس 12 / 29.

(2) رسالة بولس إلى الكورنثيين 329 / 4 - 5.

(3) لوقا 4 / 8.

٤٨

فقد شاءت عزّته أن يعلن عن سرّ ماهيّته العميق، فكلّم البشر بواسطة أنبيائه. ولمّا قام البعض بنفي الاُلوهيّة عن الثالوث السرّي التام أقطاب الكنيسة، وحدّدوا عقيدة الثالوث، فاستعانوا بكلمتي (أقنوم) و (طبيعة) ليعبّروا بها عن الله الواحد، وجعلوا عبارة: (بسم الأب والابن والروح القدس، الإله الواحد) بداية الصلاة.

وإنّا لواجدون في سفر التكوين تلميحات إلى الأقانيم الثلاثة، قال الله بصيغة الجمع: (لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا)(1) . وجاء فيه أيضاً: (هلمّ نهبط ونبلبل لغتهم)(2) .

كما يروي لنا أشعيا النبي أنّه رأى في السماء مجد الله وسمع السرافين - إحدى طغمات الملائكة - يقولون: (قدّوس قدّوس قدّوس، ربّ الجنود، الأرض كلّها مملوءة من مجدّه)(3) . فتكرار كلمة قدّوس ثلاث مرات موجّه إلى طبيعة الأقانيم الثلاثة.

أمّا الاُقنوم الثاني الذي هو الابن، أي المسيح فقد لمح إليه داود النبي في قوله: (الربّ قال لي أنت ابني، أنا اليوم ولدتك)(4) .

وقال أيضاً: (قال الرب لربّي: اجلس عن يميني، في بهاء من الجوف قبل الفجر ولدتك)(5) .

____________________

(1) سفر التكوين 1 / 26.

(2) المصدر نفسه 11 / 7.

(3) أشعيا 36.

(4) المزامير 2 / 7.

(5) المصدر نفسه 109 / 1 - 3.

٤٩

وفي العهد الجديد كشف عن سرّ الثالوث، إذ قال جبرائيل الملاك وهو يبشّر العذراء مريم (عليها السّلام): (إنّ روح القدس يحلّ عليك، وقوّة العلي تظلّلك؛ ولذلك فالقدّوس المولود منك يدعى ابن الله)(1) .

وعندما عمد يوحنا المسيح في نهر الأردن انفتحت السماوات ونزل الروح مثل حمامة فوق رأسه وصاح صوت: (أنت ابني الحبيب بك سررت)(2) . هذا ويدعو القدّيس يوحنا الأقنوم الثاني بـ(الكلمة) المتميّز عن الاُقنوم الأوّل فيقول: (في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وجاء إلى خاصّته، والكلمة صار جسداً)(3) .

والروح القدس هو اُقنوم ثالث؛ لأنّ كلمتَي (الروح القدس) و (الله) تأتيان متناوبتين مترادفتين، جاء في أعمال الرسل: (يا حنانيا، لماذا ملأ الشيطان قلبك حتى تكذّب على الروح القدس؟ إنك لم تكذّب على الناس بل على الله)(4) .

وهكذا نرى أنّ تعليم الكتاب عن تثليث الأقانيم في الله لا يمكن أن يتّفق مع التعليم عن الوحدانيّة ما لم تكن للأقانيم الثلاثة طبيعة واحدة غير منفصلة، لا تشكّل إحداها منفردة، أي طبيعة أو خاصيّة مميّزة، فلو أمكن الفصل بين الأقانيم لكان في الطبيعة الإلهيّة تعدّد وكثرة، إذ إنّ الله تعالى روح محض في منتهى البساطة، ولا يوجد فيه تأليف أو تركيب، وفي التطرّق إلى أبوّة الله، ليس المقصود فيها أنّ لله ولداً على طريقة البشر، أو بحسب المفهوم البشري، بل إنّ هذه الأبوّة تحمل معنى الصدور، كما يصدر النور من الشمس.

____________________

(1) لوقا 1 / 35.

(2) مرقس 1 / 11.

(3) يوحنا 1 / 1 - 2 - 3.

(4) أعمال الرسل 5 / 3 - 5.

٥٠

ولكن كيف ستوفّق عقول العامّة بين صدور النور من أحد المصادر ثمّ بقائه في هذا المصدر؟ إذ قيل لهم: إنّ صدور الابن في هذا المقام يشبه إلى حدّ ما صدور القصيدة من قريحة الشاعر؛ فهي وليدة فكره وإنتاج مخيّلته، فيخطّها على القرطاس وتتناولها الأيدي، ولكنها تبقى في الوقت نفسه راسخة أبداً في مخيّلته.

وقد شبّه بعض اللاهوتيين - تقريباً للأذهان - علاقة الأقانيم الثلاثة في الطبيعة الإلهيّة الواحدة بمثلّث متساوي الأضلاع والزوايا، تضمّ كلّ زاوية بين ضلعيها مساحة المثلّث بكامله وبالتساوي، وتتميّز فيه كلّ زاوية عن الأخرى، فكما أنّ للزّوايا الثلاث مساحة واحدة متساوية كليّاً، وأنّه لا يمكن الفصل بينها ما دام هناك مثلّث. فكذلك لكلّ من الأقانيم الثلاثة، الطبيعة الإلهيّة الواحدة، وأنّه لا يمكن الفصل بينهم.

وهكذا فإنّ المسيحيّة لا تؤمن إلاّ بإلهٍ واحد؛ لأنّها توحيديّة؛ ولأنّها بالتالي واحدة من مراحل التنزيل، وواحدة من مراحل الرسالات السماويّة:( وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (1) .

أمّا المؤيّد الذي عناه المسيح فلا يمكن أن يكون النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله)؛ لسبب جوهري وهو أنّ الرسول ليس لديه السلطة العلويّة على إرسال رسول مثله، بل اختصّت هذه السلطة بيدَي الله جلّ جلاله، باعث الرسالات من لدنه، وفي كلمة عيسى (عليه السّلام) لتلاميذه مصداق لذلك، إذ قال: «الحقّ والحقّ أقول لكم، ما كان عبدٌ أعظم من سيّده

____________________

(1) سورة العنكبوت / 46.

٥١

ولا كان رسولٌ أعظم من مرسِله»(1) . وقال أيضاً (عليه السّلام): «مَن قَبِل الذي أرسله قَبِلَني، ومَن قَبِلَني قَبِل الذي أرسلني»(2) .

فهنا ثمّة تعبيران واضحان لا لبس فيهما يؤكّدان على أنّ ثمّة قوّة عُليا لا سيطرة للمسيح عليها هي التي أرسلته، وهي قوّة أعظم منه، وهو كرسول يمثّل الطاعة لهذه القوّة والامتثال لمشيئتها، فكيف ستكون له سلطة إرسال نبي مثله وهو المرسل من لدن الله؟

وللجواب على ثاني التساؤلات حول المؤيّد، يمكن القول: بأنّ المسيح حينما تكلّم عنه فإنّما كان يتكلّم بصفته شهيداً لا نبيّاً، وقد تكلّم عن شهيد يكمل شهادته ويؤيّدها بين الناس، ولم يكن يتضمّن معنى عبارته (أرسل لكم المؤيّد) التأييد لنبوّته، بل لشهادته التي أكملت بتمامها شهادات مَن سبقه (عليهم السّلام)، إبراهيم وإسحاق وزكريا وموسى ويحيى وغيرهم، والتي ستكملها بدورها شهادات مماثلة على زمن الرسالة الثالثة التي سيتمّ تعالى بها عهد الرسالات.

ولتوضيح التساؤل حول كلمة المؤيّد، ولِمَ أوّلت في هذا المؤلّف بالشكل الذي بدت به؟ بينما فسّرت في الإنجيل المقدّس بأنّها الروح القدس. فإنّ في العَودة إلى فصل (المسيح هل تنبّأ بالحسين؟)(3) إجابة وافية على ذلك، توضّح في الوقت ذاته أسباب تفوّه المسيح بهذه العبارة، مع تحليل موسّع يجيب على مختلف

____________________

(1) يوحنا 13 / 16 - 17.

(2) المصدر نفسه 13 / 20.

(3) الحسين / 295.

٥٢

الاستفسارات التي قد تجول في ذهن القارئ المتعطّش لتحليلٍ وافٍ مقنعٍ.

وتوخّياً لإعمال فكر القارئ، ورغبةً في جعل تأمّلاته مَعبراً إلى الحقيقة الحرّة، يتوصّل إليها بقدراته الفكريّة الذاتيّة، فقد عمدنا في هذا الفصل إلى تغيير عنوانه السابق من (المسيح يتنبّأ بالحسين) إلى (المسيح هل تنبّأ بالحسين؟). فنقلناه بهذه الصّيغة من صفة الجزم المطلق إلى صفة التساؤل المحرّك لرغبة البحث والتفكير، مع الإبقاء على مقصد التضمين الجازم بصدد النبوءة، حتّى في باب التساؤل الذي تركناه مفتوحاً ليلج منه فكر القارئ إلى محراب التأمّل، فالمعرفة، فالحقيقة، دونما توجيه أو إيحاء من جهتنا.

وجعلنا متن الفصل متلائماً مع عنوانه الجديد بما يحقّق الهدف الآنف الذكر، فالحقائق السماويّة لا تطال أعتابها إلاّ بالتأمّل والتحليل، والتحليق نحوها بجناحي البصيرة الملهمة، إلى حيث مصدر ذبذباتها، ومبعث إيحاءاتها العلويّة.

وأخيراً فإنّ سؤالاً: لِمَ الحسين بالذات دون سائر أعلام الإسلام موضوعاً للكتاب؟ لطالما رُفع في معظم ما قيل وكتب حول الكتاب، ويأتي الجواب بتساؤل مردود: (ولِمَ لا يكون الحسين بالذات؟ أيكره أحدنا الحقّ ورافعي لواءه؟! ولِمَ لا يحبّ المؤمن أيّاً كان دينه، مَن أحبّه النبي (صلّى الله عليه وآله) واعتبره بضعة منه: «حسين منّي»، واعتبر نفسه جزءاً منه: «وأنا من حسين».

أيرفض مطلق إنسان - سيّما إذا كان مسيحياً - أن يكون ذلك المؤمن الذي ترقد في قلبه حرارة قتل الحسين التي لا تبرد أبداً، تيمّناً بقول الرسول الكريم: «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»(1) ؟ ومَن ذا الذي لا يحبّ

____________________

(1) مستدرك الوسائل 2 / 217.

٥٣

مظلوماً كالحسين المظلوم، ولا يجد في حبّه راحةً لضمير حي، وسعادةً لفكر أصيل، ورضىً لقلب يترع بالإيمان؟

فشخصيّة كالحسين اختصّت بشمائل النبوّة، لا يعثر المطّلع في سِفر حياته على موقف رخو أو متخاذل، فلا يملك إلاّ أن يعجب به ويحبّه، ويجد في الاستجابة لهذا الإعجاب وهذا الحبّ مودّة قلب، ومودّة قربى: ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

كيف تولّدت فكرة الكتاب؟ وما لغته؟ سُئِلت عن هذا.

لقد اعتدت أن أعايش شخصيّة الحسين (عليه السّلام) ساعتين يوميّاً؛ بقصد الاطّلاع على مجريات أحداث كربلاء، وفي الوقت ذاته الإلمام بالأبعاد القدسيّة والبشريّة لشخصيّة مفجّرها، فتوفّر لي بعد فترة من القراءة والاطّلاع على جوانبها ومعطياتها، رؤية معيّنة لا تمتّ إلى الرؤى التي تكوّنت عنها بصلة. وكما أسلفت فإنّي كثيراً ما تحسّست خلال قراءتي أو كتابتي لسيرة الحسين (عليه السّلام) غفلة الكتّاب والمؤرّخين المسلمين عن الجوانب المميّزة لشخصيّة سبط النبي، ورددت ذلك إلى كون هؤلاء الكتّاب والمؤرّخون يعيشون وسط الصورة، لا خارجها، فرأيت أنّ ما توفّر لديّ من رؤى وآراء كان من خارج الصورة، حيث وضحت زوايا عديدة خافية.

ورأيتني بعد سنتين من القراءة في سيرة أبي الشهداء أبدأ بترتيب أفكاري ورؤاي وآرائي لأمضي بعدها سنة اُخرى في وضع الكتاب على ضوء ما توفّر لي وعلى هدي ما استلهمته بعَون الله من أفكار وإلهامات.

والآن حينما اُعيد قراءته يتأكّد لي بأنّني كنت خلال كتابته واقفاً تحت تأثير وإلهام، ما كنت قادراً على إنجازه بدون عونهما، فأشكر الله وأتيقّن من شمولي

____________________

(1) سورة الشورى / 23.

٥٤

ببركة ريحانة الرسول المذبوح ظلماً والمستشهد دون حقّ الله فوق ثرى كربلاء المقدّسة.

إلهام يلازم الفكر في الصّحو والمنام، ويلبّي هتاف وحي رجّاف انبثق له من أعماق الدهور، يستحث من أعماق السريرة للإفصاح والتدوين، وإضافة جديد على سيرة الحسين العطرة وثورته الخالدة، فكان إيحاء يهدف لإتمام واجب، وإلهاماً يعين على إتمامه بقدر ما يتنادى له الفكر الحي، والضمير المنوّر.

وهكذا فإنّنا كثيراً ما نقف نحن البشر الضعفاء لنتساءل: لِمَ فعلنا هذا؟ ولِمَ أقدمنا على فعل ذاك الأمر؟ ناسين أنّ ثمّة قوّة علويّة هي التي تُنفذنا إلى إتمام هذا الأمر أو ذاك، وتسدّد خطانا جزاء طاعتنا، أو تعثر بنا هذه الخطى جزاء عقوقنا واستهتارنا بكلّ ما هو قدسي. هكذا انبثقت فكرة الكتاب.

أمّا عن لغته واُسلوبه، فقد وضعت في اعتباري منذ البداية أن تكون اللغة سهلة، واُسلوب العرض والتحليل موضوعيّاً. ففي البداية تساءلت: بأيّة لغة أكتب؟ هل استخدم لغة تاريخيّة تنسجم مع التاريخ الذي تغرف منه؟ أم أكتب بلغة أدبيّة عقيمة؟ أم بلغة فلسفيّة عسرة؟ وأخيراً رأيت أن تكون اللغة بسيطة بساطة الموضوع الذي تطرقه، وعميقة عمق هذه البساطة، فما دامت شخصيّة الحسين (عليه السّلام) هي محور البحث، وهي في ميزان البساطة والتعقيد، بسيطة كالحقّ، واضحة كنور الشمس، فلتكن اللغة المبرّزة لصفاتها هذه في مستوى بساطتها وعمقها ووضوحها.

وهكذا كانت لغة الكتاب وسطاً بين الأدب والصحافة المثقّفة، تأخذ من الأدب جماله، ومن الصحافة إيقاعها السهل الممتنع.

٥٥

لكن ذلك لم يمنعنِ من إعطاء كلّ حدث ما يوافقه من لغة وأسلوب، بغضّ النظر عن الهيكل العام للكتاب؛ وذلك بهدف إعطاء العمل جديّة البحث، وسلاسة التحقيق، ورشاقة العرض البعيد عن الإنشائيّة والتقريريّة، وتكرار ما سبق تكراره، بحيث ينسجم هذا كلّه مع الهدف الذي رميت إليه، ألا وهو إخراج بحث تحليلي صرف، لا يقرب من السرد التاريخي إلاّ فيما يخدم الفكرة فحسب؛ لأنّي لست مؤرّخاً، بل كاتباً يبحث في التاريخ عن الإنسانيّة، ومواقف الإنسان. وهكذا كانت الفكرة وأيضاً اللغة.

ويظلّ الحبّ ومن رحابه تطلّ المحبّة، ناشرة ضياءها ما بين السطور والكلمات، ويفرز قلم المؤمن مداد قلبه، كلّما تحسّ روعة الاستشهاد، وتبرز عظمة المضاء، وتصوّر هلع السرائر والحنايا من هَول الفاجعة.

فإذا الله (جلّ شأنه) فدى إسماعيل من الذبح بعد أن صدّق أبوه الرؤيا وتلّه للجبين. فهل يرضى سبحانه بذبح الحسين ابن بنت رسوله؟! وكم كان غضبه عظيماً حين ذبح فداءً للحقّ الإلهي، وهو الصادق الأمين على هذا الحق، وعلى سنّة الله في خلقه! وكم هو حريّ بنا نحن البشر الضعفاء لأن نقف بقلوب حزينة، وعيون دامعة أمام أحداث هذا الذبح الذي لم تسجّل الأديان والتواريخ ما يعدله سموّ معنى، وسموّ ذات، وعلوّ شأن.

فهو ذبحٌ فدى البشريّة جمعاء، وصان دين الله الواحد من الانتهاك.

وهو ذبيح أرسى للبشريّة مجدها الذي ترتع في نعمته الآن وإلى أبد الدهور. ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره.

٥٦

فسلام عليه سيّداً للشهداء، سلامٌ عليه يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حيّاً

أنطون بارا

دمشق في 7 / 7 / 1979

٥٧

٥٨

ثورة الحسين لمَن؟

لم تحظَ ملحمة إنسانيّة في التاريخَين القديم والحديث، بمثل ما حظيت به ملحمة الاستشهاد في كربلاء من إعجاب ودرس وتعاطف، فقد كانت حركة على مستوى الحدث الوجداني الأكبر لاُمّة الإسلام، بتشكيلها المنعطف الروحي الخطير الأثر في مسيرة العقيدة الإسلاميّة، والتي لولاها لكان الإسلام مذهباً باهتاً يركن في ظاهر الرؤوس، لا عقيدةً راسخة في أعماق الصدور، وإيماناً يترع في وجدان كلّ مُسلم.

لقد كانت هزّة وأيّة هزّة. زلزلت أركان الاُمّة من أقصاها إلى أدناها، ففتحت العيون، وأيقظت الضمائر على ما لسطوة الإفك والشرّ من اقتدار، وما للظلم من تلاميذ على استعداد لزرعه في تلافيف الضمائر؛ ليغتالوا تحت سترٍ مزيّفة قِيَم الدِّين، وينتهكوا حقوق أهله، ويخمدوا ومضات سحره الهيوليّة.

كانت ثورة بمعناها اللفظي، ولم تكن كذلك بمبناها القياسي؛ إذ كانت أكبر من أن تستوعب في معنى لفظي ذي أبعاد محدودة، وأعظم من أن تقاس بمقياس بشري.

كانت ثورة رَقَت درجات فوق مستوى الملحمة، كما عهدنا الملاحم التي يجاد

٥٩

بها بالأنفس. فأيّة ملحمة هي استمدّت وقود أحداثها من عترة النّبي وآل بيته الأخيار (عليهم السّلام)؟ وأيّة انتفاضة رمت إلى حفظ كيان اُمّة محمّد وصون عقيدة المسلم، وحماية السنّة المقدّسة، وذبّ أذى المنتهكين عنها؟

فإذا نظرنا إليها بمنظار الملاحم، لم يفتنا ما فيها من كبر فوقها. فالملاحم والثورات التي غيّرت مجرى التاريخ والاُمم، تقاس عادةً بمدى إيجابيّة وعظم أهدافها، وإمكانيّة تساميها إلى مستوى العقيدة أو المبدأ لمجموع فئة ما أو فئات؛ وعلى هذا المقياس تكون ثورة الحسين (عليه السّلام) الاُولى والرائدة والوحيدة في تاريخ الإنسانيّة مذ وجدت وحتّى تنقضي الدهور؛ إذ هي خالدة خلود الإنسان الذي قامت من أجله.

(اُولى) ؛ لأنّها في إطارها الديني هي أوّل ثورة سجّلت في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ الأديان السماويّة الاُخرى، على مستوى المبادئ والقِيَم العقائديّة.

(ورائدة) ؛ لأنّها مهّدت لروح ثوريّة، وثورة روحيّة انطوت عليها صدور المسلمين تذكّرهم في نومهم وقعودهم بمعنى الكرامة، وبمعنى أن ينتصب المؤمن كالطود الصلب في وجه موقظي الفتنة باسم الدين، ورافعي مداميك الشرك والعبث في صرح العقيدة. فكانت دعوة جاهرة لنقض هذه المداميك، وهدم دعائم الضلال والوقوف أمام أهداف الذين حادوا عن صراط الشريعة، ولعبوا بنواميس وشرائع الدِّين، وقامروا بكيان الديانة الوليدة، تمهيداً لوأدها قبل أن تحبو.

(ووحيدة) ؛ لأنّها استحوذت على ضمائر المسلمين فيما خلّفته من آثار عقائديّة ضخمة. فما كان قائماً من ممارسات لدى القائمين على الإسلام والحاكمين باسمه، كان بحاجة إلى هزّة انتحاريّة فاجعة لها وَقْع الصاعقة آنذاك، ومسرى الحبّ في الضمائر بعد أجيال وحقب تالية.

٦٠