الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي0%

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 258

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أنطوان بارا
الناشر: انتشارات الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 258
المشاهدات: 49374
تحميل: 7594

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 258 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49374 / تحميل: 7594
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

الحسين (عليه السلام) في الفكر المسيحي

مؤلف:
الناشر: انتشارات الهاشمي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(وخالدة) ؛ لأنّها إنسانيّة أوّلاً وآخراً انبثقت عن الإنسان وعادت إليه مجلّلة بالغار، وملطّخة بالدم الزكي، ومطهّرة بزوف الشهادة المُثلى، فظلّت في خاطر المسلم رمزاً للكرامة الدينيّة، شاهد من خلالها صفحة جديدة من مسيرة عقيدته، صفحة بيضاء عارية من أشكال العبوديّة والرّق والزّيف، مسطّرة بأحرف مضيئة تهدي وجدانه إلى السبل القويمة التي يتوجّب عليه السير في مسالكها؛ ليبلغ نقطة الأمان الجديرة به كإنسان.

إذاً هي خالدة؛ لأنّها أخلاقيّة، سنّت دستور أخلاق جديد أضاء للاُمّة الإسلاميّة درب نضالها على مختلف الأصعدة، وعلّمها كيف يكون الجود بالنفس في زمان ومكان الخطر المحيق رخيصاً، وكيف يكون الموت سعادة والحياة مع الظالمين بَرَما، والموت في عزّ خير من حياة في ذُلّ.

تلك كانت مبادئ معلّم الثورة الحسين (عليه السّلام) في ثورته التي فجّرها للإنسان أيّاً كان على وجه هذا الكون، وسجّلها لِتُقال ويُعمل بها في أيّ مكان وزمان برزت فيهما الجاهليّة من الأنفس، واندثرت النزعة السامية التي بشّر بها الأنبياء والمصلحون، والتي ما أنزلت في النفوس إلاّ لتحقيق العدل بين الجميع، ونشر الرحمة والحقّ فيما بينها.

فإذا ما نظرنا إلى هذه الثورة بمنظور اجتماعي ونفساني بحت لوجدنا أنّ ما أسفرت عنه من أخلاقيّات اجتماعيّة لأكثر من أن تحدّ؛ فقد أفلحت النظم التي طوّق بها الاُمويّون مفاسد حكمهم في أن تقف حائلاً بين المسلم والثورة على هذه النظم والأساليب. ويوماً بعد يوم انغرست مبادئ التدجين البشري في النفوس، واستوطنت الحنايا مسلّمات الخنوع والرضا بالمغانم الدنيويّة الزائلة، فنامت ضمائر المسلمين نومة أهل الكهف، واسترخت الهمم الثوريّة التي كانت رمزاً للمسلم في منطلق بعث ديانته، حتّى تحوّل هذا الاسترخاء إلى آفة اجتماعيّة ونفسيّة وغدت تهدّد روح العقيدة.

٦١

كانت هذه الآفة تدغدغ من داخل الصدور، وتوسوس ناصحة بالمحافظة على الذوات، والحفاظ على المكاسب المادّية، والمنازل الاجتماعيّة، وتحول دون النضال، فلا يندفع إليه المسلم بحُميا نكرانه لذاته، واستهانته بمكاسبه الزائفة ومنزلته الاجتماعيّة إلى إزالة وضع شاذ اُجبر على السير في ركابه دون أن يدري إلى أيّ منزلق يقوده.

من هذه النقطة التي وصل إليها الإسلام كعقيدة، والمسلم كإنسان انطبعت في سويدائه مبادئها، وجد الحسين (عليه السّلام) بأنّه لا مندوحة من إحداث هزّة توقظ النائمين في أوهامهم، السادرين في ضلالهم، وتقديم بديل حقّ لِمَا كان يسود الاُمّة من مبادئ استسلاميّة. ولمّا تفجّرت هذه الثورة واشتعل أوارها، هتفت للمسلم: قم، لا ترضَ، لا تستسلم، لا توافق على تدجين عقيدتك، لا تبع نفسك التي عمرت بالإيمان لشيطان المطامع، ناضل ولا ترضَ بحياة بلهنية وترف مع الظالمين وهادمي الذوات.

وتردّدت أصداء هذه الصيحات في أودية النفوس التي سكنت إلى الهدم يعمل في داخلها، فهبّت بعد إخلاد دام ربع قرن منذ مقتل أمير المؤمنين (عليه السّلام) وتولّي الأمويين مقاليد الاُمّة، حيث غدا الاضطهاد والظلم وسرقة أموال الاُمّة بديهيّاتٍ مسلّماً بها. هبّت كبركان عاصف محموم، فاقتلعت هذا الرّكام من البديهيّات المتمثّل بالخنوع والزلفى والانهيار البطيء.

والخطأ الفادح الذي يتصوّره اُولئك المتسائلون ردّاً على أسئلتهم. ماذا كان من الممكن أن يغدو الحال لو لم يقم الحسين (عليه السّلام) بثورته؟ وما مصير اُمّة الإسلام إذا ما قدّر للاُمويّين دوام العبث باسم الخلافة؟ يكمن في تصوّرهم الآني لِما كان سيحدث. فقد تصوّر البعض بأن يستمر الحكم الاُموي في سياسته لإغراق جموع

٦٢

الاُمّة في ماعون الشهوات الذي نَصَبوه لها، فتنحلّ هذه الاُمّة، ويجد الفاتحون فرصة لاكتساح البلاد دون مقاومة، فيتشرّد المسلمون بدداً في الأرض.

إنّ مثل هذا التصورّ برأيي يسيء إلى مفهوم ثورة الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّه تصوّر قاصر ينتهي إلى مفهوم سيّئ مادّي بحت ذي أبعاد زمانيّة ومكانيّة محدّدة.

(زمانيّة) تنتهي باكتساح دولة الاُمويّين و (مكانيّة) في قيام دولة غريبة قد تجافي روح الإسلام في بقعة من أرض الشام، أمّا التصوّر فيما ستؤول إليه العقيدة، وما سيكون عليه مصير الاُمّة الدِّيني. فذلك لم يحظَ بأقلّ تصوّر لدى أغلبيّة مَن أرّخوا للثورة أو كتبوا لها.

فالثورة عندما قامت استمدّت عزمها من روحيّة الشريعة، وكانت تهدف إلى إعادة بثّ هذه الروحيّة في نفس كلّ مسلم، ولو كان التصوّر يقف عند حدود إزالة دولة الأمويين لَما عنى الحسين (عليه السّلام) نفسه بهذه الثورة، لكنّه (عليه السّلام) كان عارفاً بأنّه خاسر معركة ليكسب الإسلام الحرب. الحرب على الظلم عامّة، والانتصار على مسبّبات ضعف العقيدة، وأكبر دليل على ذلك أنّه كان بإمكانه (عليه السّلام) أن يلجأ إلى نفس الأساليب التي لجأ إليها خصمه يزيد، فيشتري الأنصار ويبذل المال لشراء الضمائر.

وكان (عليه السّلام) قادر على فعل ذلك، إلاّ أنّه لم يرضَ بهذا الاُسلوب الوقتي. وهذا ما أعلنه في خطابه للذين بايعوه؛ كي تظلّ ثورته صافية، لا يتّهم بأنّه استأجر لها أنصاراً ولأفكاره مؤيّدين، إضافة لكونه (عليه السّلام) كان عارفاً بأنّ ثورته في حساب الخسارة والربح، لا بدّ خاسرة، لكنّه كان يستقرئ المستقبل لربح أعظم يتعلّق بدوام صفاء العقيدة، وإلاّ لكان بإمكانه الاعتصام في شعاب الحجاز وقيادة ثورته من ركن قصي آمن، موفّراً نفسه وأنفس أهل بيته وخلّص أصحابه، ولكن كلّ ذلك لم يكن كافياً لإقناعه (عليه السّلام).

ونقول إقناعه ونحن على فَهْمٍ تامّ بأنّ عدم قناعته كانت تستند إلى وحي إلهي؛ لإتمام المسيرة التي لا بدّ منها لخير الاُمّة.

٦٣

وبالمقابل كان ثمّة إجماع ممَّن حوله يستدعي البقاء حيث كان ويدعو إلى عدم الخروج من مكّة، والاستعاضة عن الجهاد ببذل النفس بقيادة الثورة من بعيد. فكان أمام الحسين (عليه السّلام) أكثر من بديل للموت، وأكثر من اقتراح للسلامة، وكان (عليه السّلام) عالماً بكلّ هذه البدائل والطرق الموصلة إليها وإلى نقيضاتها، إلاّ أنّ الحكمة الإلهيّة التي كانت تخطّط لثورته أكبر من فهم البشر وأعظم تَجلَّة من أن تدخل في نطاق بصيرتهم، لذا فقد سارت ثورة الحسين (عليه السّلام) كما اُوحي له بها، ونجحت ذلك النجاح القياسي الهائل، والذي لم تكن لتبلغه لو سارت على نهج تقليدي على هَدي ما قدّم من اقتراحات وبدائل.

وذات الوحي الإلهي الذي حدّد مسار وتوقيت ثورة الحسين (عليه السّلام) أزال الغشاوة عن العيون وبدّد الأوهام التي رانت على العقول والضمائر والتي ظنّت ساعة قيام الثورة بأنّها كانت لمناوئة حكم الاُمويين، وبأنّها ستنطفئ بانطفاء جذوتها وتخمد بانخماد شراراتها المشتعلة. فعرفت هذه العقول وقنعت هذه البصائر بأنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) كانت يقيناً ربض في أعماق الصدور، ووحياً استلهمه كلّ مظلوم على مرّ الأجيال والقرون وعلى اختلاف البشر ونحلهم ومللهم، وإنّها كانت نبراساً يضيء للناس، وحرارة تستعر في قلوب المؤمنين.

ألم يقل رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»؟! أمَا خطر لاُولئك الذين شرحوا ثورة الحسين (عليه السّلام) بأنّها حركة رجل ضدّ رجل بعد اختلاف على الحكم والمبادئ، كي يستلهموا كلمات صلوات الله عليه ويستنبطوا معانيها الجليلة الخالدة؟ أمَا خطر لهم أن يتساءلوا: ولِمَ يظل لقتل الحسين تلك الحرارة التي لا تبرد أبداً في قلوب المؤمنين ما دامت حركة زمنيّة مؤقّتة لا انتفاضة روحيّة عقائديّة، جعلت القيم الدينيّة والشريعة محل اهتمامها، والإنسانيّة محور وسائلها والحقّ مطلبها؟

٦٤

واُولئك الذين نظروا إلى حركة الحسين بكثير من قصر النظر، وأيضاً الذين أرّخوا لها وكتبوا عنها، ألم يلفت نظرهم أنّ هذه الثورة لا يجوز أخذها بمأخذ الثورات التقليديّة؟ كي يعلموا أنّها كانت صراعاً بين خُلقين ومبدأين، وجولة من جولات الصراع بين الخير والشر، بين أنبل ما في الإنسان وأوضع ما يمكن أن تنحدر إليه النفس البشريّة من مساوئ؟

ألم يعوا كيف تحوّلت هذه الملحمة العظيمة بتقادم العهد عليها إلى مسيرة؟ وكيف صارت الشهادة التي أقدم عليها الحسين (عليه السّلام) وآل بيته وصحبه الأطهار، إلى رمز للحق والعدل؟ وكيف صار الذبيح بأرض كربلاء، منارة لا تنطفئ لكلّ متطلّع باحث عن الكرامة التي خصّ بها سبحانه وتعالى خلقه بقوله:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) ؟

والسيرة العطرة لحياة سيّد شباب أهل الجنّة، واستشهاده الذي لم يسجّل التاريخ شبيهاً له كانا عنواناً صريحاً لقيمة الثبات على المبدأ، وعظمة المثالية في أخذ العقيدة وتمثّلها، فغدا حبّه كثائر واجباً علينا كبشر، وحبّه كشهيد جزءاً من نفثات ضمائرنا، فقد كان (عليه السّلام) شمعة الإسلام أضاءت ممثّلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وكان درعاً حمى العقيدة من أذى منتهكيها، وذبّ عنها خطر الاضمحلال، وكان انطفاؤه فوق أرض كربلاء مرحلة اُولى لاشتعالٍ أبدي، كمثل التوهّج من الانطفاء، والحياة في موت.

فلو كان فرخ النبي (عليه السّلام) ضنيناً بمبدأ، ولو لم تكن له عقليّة متصوّرة موحى لها لَما استطاع أن يفلت من ربقة الأطماع التي كانت بمثابة دين ثانٍ في ذلك العهد، ولَما كان ارتفع بنُبلٍ قلّ نظيره فوق الدوّامة التي دوّمت الجميع، اُولئك المتزلّفين، يزيد على خطى مَن سبقهم في تزلّف والده معاوية.

٦٥

كان (عليه السّلام) لو شاء لأصبح - بانحناءة رأس بسيطة - أميراً مطلقاً على ولاية ما، أو يقنع بزعامة شيعة أبيه (عليه السّلام)، بينما تنتهك حرمات الدِّين على يد أمير مؤمنين مزيّف.

لكنّه لم يؤثر السلامة، ولم يرنُ إلى تطلّعات أرضيّة، فقد كان هدفه أعظم، ورسالته أعمق غوراً وأبعد فهماً لعقليّة الإنسان آنذاك.

كان يريد أن يقول: ما دامت السنّة قد نزلت، وما دام الإسلام وليداً يحبو، فما على المسلم إلاّ أن يكون حفيظ سنّته، وراعي عقيدته، لا من أجله فحسب، بل من أجل كلّ مَن سيولد في الأحقاب التالية على هذه السنّة.

فجاءت صيحته نبراساً لبني الإنسان في كلّ عصر ومصر، وتحت أيّة عقيدة انضوى، إذ إنّ أهداف الأديان هي المحبّة والتمسّك بالفضائل، لتنظيم علاقة الفرد بربّه أوّلاً، وبأخيه ثانياً.

فلعمري أيّة ثورة تقوم على الحق القراح الخالي من أغراض الهوى، ولا تجد لها سبيلاً إلى المهج والحنايا! ألم تكن دعوة الحسين (عليه السّلام) دعوة للتفريق بين الحقّ والباطل؟ أمَا قيل اعجاباً بهذه الثورة: إنّ الإسلام بدؤه محمّدي وبقاؤه حسيني؟

ولنطرح جانباً آراء اُولئك الذين رأوا في حركة الحسين (عليه السّلام) حركة عاطفيّة بحتة، ألقى فيها الشهيد المقدّس بنفسه وآل بيته وصحبه الأطهار في معركة كانت معروفة النتائج سلفاً، والتي تمثّلت بوقوف ثلاثة وسبعين مقاتلاً في مواجهة خمسين ألف مقاتل.. فتلك الآراء إنّما تمثّل الجانب الفكري ناقص النضج، والذي وضع حركة الحسين (عليه السّلام) في إطار الثورة للثورة ولا شيء عداها. ولم ينظر إليها ما هي وكما هدفت إليه كمنعطف خطير لمسيرة العقيدة الإسلاميّة، والتي لولاها لَما كان وجد المؤرّخون شيئاً يتحدّثون به عن الإسلام.

٦٦

ولعلّ خير مَن وصف هذه الثورة كان ماربين الألماني في كتابه (السياسة الإسلاميّة) إذ قال: إنّ حركة الحسين في خروجه على يزيد إنّما كانت عزمة قلب كبير عزّ عليه الإذعان وعزّ عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضيّةً مخذولةً ليس لها بغير ذلك حياة(1) .

من هذا الفهم يتّضح أنّ قضيّة السنّة الإسلاميّة كانت قضيّة مخذولة عندما قام الحسين (عليه السّلام) بثورته، وما كان له محيص من السير بها بالشكل الذي بدت به، غير ضانٍّ بنفسه وبأنفس أهل بيته وصحبه الأطهار؛ لعلمه الأكيد بأنّ ثورته وإن كانت ضعيفة بتركيبتها الماديّة، إلاّ أنّ لها صلابة الصّخر والمبدأ بتركيبتها الروحيّة والرمزيّة، وأنّه بالِغ بها النصر والاستمرار للعقيدة، ما لم يكن ليبلغه بإيثار السلامة من مذبحة كربلاء.

والحسين (عليه السّلام) عندما ثار لم يثَر لأجل نوال كرسي الحكم إذ لم تكن منطلقاته من قاعدة فرديّة أو زمنيّة، بل كانت أهدافها تتعدّاه إلى الأعقاب والأجيال القادمة، التي ستعرف كيف كان شكل الفداء دفاعاً عن عقيدة سُلِّمت لها متلألئة. إنّها عقيدة الشهداء البررة التي لا تنخدع بسراب المطامع الدنيويّة، ولا ترضى بمبدأ المساومة في ميدان العقيدة.

ورفض الخداع والمساومة مقرون دوماً بالاستعداد لبذل الحياة وإطفاء شعلة النفس إذا كان في إطفائها ما ينير شمعة تهدي السائرين على طريق الحقّ والعدل.

وهذا المبدأ المنبثق عن هكذا عقيدة من الصعب إدراك معانيه في أوانه، سيّما إذا

____________________

(1) السياسة الإسلاميّة - ماربين / 213.

٦٧

كانت الموازين آنذاك هي الموازين التي نَصّبها حكّام ظالمون لاُمّة تدجّنت روحها، وذبلت عقيدتها، فما عادت تفرّق بين الخطأ والصواب.

وعلى هذا المقياس الذي لا يرفعه إلاّ الصّفوة المختارة من الصالحين أصاب الحسين (عليه السّلام) بثورته في المدى البعيد، وأخفق في المدى القريب، طلب إحقاق الحقّ في وقته، فلم يصل إليه، لكن اُمّة الإسلام أدركته بمماته، ولم يقف الأمر عندها على مستوى إدراكه فحسب، بل صار جزءاً من وجدانها العقائدي، وضميراً يستصرخها ويستحثّها في كلّ مواقف الضعف، وحيال مختلف أشكال التدجين والظلم والانحراف عن السّنة.

٦٨

فداء الحسين (عليه السّلام) في الفكر المسيحيّ

الملحمة التي تمّت فصولها فوق أرض كربلاء، هل هي ملحمة تخصّ فئةً بشريةً ما، أو فئات تعتقد أنّها قامت لأجلها فحسب؟ وهل تعتبر النتائج التي تمخّضت عنها ذات خصوصيّة لهذه الفئة أو تلك، وأنّه لا يمكن لفئات أخرى من استلهام ما قدّمته هذه الثورة وتطبيق أخلاقيّاتها على ممارسات ومواقف أي فرد إنساني ضمن إطار عقيدته وإزاء ممارسات ومواقف حكّامه ومحكوميه؟ وبمعنى أدق هل نرضى بحصر استشهاد الحسين (عليه السّلام) بأرض كربلاء إذا ما رغبنا بوضعها في مكانها حيث جرت أحداثها وكذلك نخصّ بها اُمّة الإسلام على اعتبار أنّها قامت من أجل حماية عقيدة الإسلام، ونتحدّث عنها في صيغة الماضي في الفترة الزمنيّة التي تفجّرت بها؟

تلك التساؤلات تستلزم تحديد ماهيّة ثورة الحسين (عليه السّلام)، هل هي ثورة أرض؟

٦٩

أم هي انتفاضة على الحكم؟ أم حركة تقويميّة دينيّة؟ أم خطأ في الحركة والتوقيت؟ أم قضيّة خذلان بعد وثوق؟

فلو نظرنا إلى الملحمة على أنّها ثورة تمّت فوق أرض معيّنة هي أرض كربلاء، لجاءنا جواب: على أنّ أيّة بقعة فوق الكرة الأرضيّة من الممكن أن تكون كربلاء ثانية ما دامت واقعة بين مكانين، أحدهما يرتع به الباطل، والآخر ينطلق منه الحق.

وإذا اعتبرت انتفاضة على الحكم، لجاءنا جواب: بأنّها لا تزال مستمرّة حتّى وقتنا هذا في أيّ بلاد فسد بها الحكم.

أمّا القول: بأنّها حركة تقويميّة دينيّة، فإنّها تكون حركة حارّة لم تبرد إلى عصرنا هذا، طالما استغلّ الدين لتحقيق أغراض بعيدة عن جوهره.

وأمام الرأي القائل بأنّها خطأ في الحركة والتوقيت، فإنّ هذا الخطأ يحمل في ثناياه الصواب أكثر ممّا يحمل الصواب من صوابية. أمّا كونها قضيّة خذلان بعد وثوق، فإنّها وإن تك كذلك، فإنّها كانت لحكمة ربّانية من الكفر إثارة التساؤل حولها.

إذاً فإنّ الثورة بماهيّتها هذه ذات استمراريّة خالدة، فكلّ مكان يقف عليه ثائر هنا وهناك هو كربلاء، وكلّ طعنة سيف في عاشوراء هي طعنة لمفاسد الحكم في أيّ وقت، وكلّ نقطة دم أريقت فداءً للحق استمرّت تعلن فداءها في رغبة الإنسان العامرة في الاستشهاد في سبيل مبادئه.

٧٠

هي ثورة بدأت ساخنة واستمرّت محافظة على سخونتها طالما ثمّة ظلم فوق هذا الكوكب، ولطالما ثمّة فساد في الحكم، ولطالما ثمّة عبث في العقائد. وهي ثورة لن تبرد أبداً، بل هي في غليان دائب سيّما في هذا العصر، عصر الضنك والظلم والاضطهاد والترويع لشعوب كثيرة. حيث انتهكت الحريات، وبان جليّاً العبث في العقائد والأديان، بل واستغلال هذه الأديان في تثبيت المفاسد والانتهاكات البشريّة.

فالحسين (عليه السّلام) ثار من أجل الحقّ، والحق لكلّ الشعوب.

والحسين (عليه السّلام) ثار من أجل مرضاة الله، وما دام الله خالق الجميع، فكذلك ثورة الحسين لا تختصّ بأحدٍ معيّن، بل هي لكلّ خلق الله.

وفي قولة النبي الكريم: «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً». دلالة على شموليّة ثورة الحسين (عليه السّلام)، فمقولة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم تقتصر على (المسلمين)، وإلاّ للفظها لسانه الكريم بهذا المعنى... لكنه (صلّى الله عليه وآله) شمل كلّ المؤمنين قاطبةً تحت أية عقيدة انضووا، وفوق أية بقعة فوق الأرض وجِدوا، وخصّهم بنصيب من هذه الحرارة السّنية التي لا تبرد في قلوبهم لقتل الحسين.

المظلومون والمضطهدون والمقهورون والمروّعون من كلّ المذاهب والبقاع يتّجهون في كلّ رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين (عليه السّلام)، ففي اتجاههم الفطري ورود إلى منبع الكرامة والإنصاف والعدل والأمان.

وما دامت قد تحدّدت ماهيّة ثورة الحسين (عليه السّلام) بهذه الأطر، أفلا يجدر اعتبار الحسين شهيداً للإسلام والمسيحيّة واليهوديّة ولكلّ الأديان والعقائد الإنسانيّة الاُخرى؟

٧١

فإذا كان من البديهي الإجابة بـ(نعم) فما هي إذاً رؤية الفكر المسيحي المتفرّع من شجرة الفكر الإنساني لملحمة استشهاد وفداء الحسين (عليه السّلام)، هذا الفكر الذي يرى في ركني الاستشهاد والفداء الأعمدة التي تقوم عليها معتقداته المؤطّرة بشمولية إنسانيّة؟

فعيسى بن مريم (عليه السّلام) ما جاء إلى الناس إلاّ فادياً ومستشهداً من أجل بشارة الحقّ(1) . وثمّة تقارب كبير بين حركتي الفداء والاستشهاد الّلتين أقدم عليهما عيسى والحسين (عليهما السّلام)، مع الإقرار بالفوارق البيّنة في أسبابهما وكيفيّتهما، لا في جوهرهما وأهدافهما.

فأوجه الشبه بين عيسى والحسين (عليهما السّلام) تتجلّى في مولدهما وسيرة حياتهما، فقيل: لَم يولد مولود لستّة أشهر وعاش إلاّ الحسين وعيسى بن مريم.

واعتلّت فاطمة (عليها السّلام) لمّا ولدت الحسين (عليه السّلام) وجفّ لبنها، فطلب رسول الله مرضعة فلم يجد، فكان يأتيه فيلقمه إبهامه فيمصّه، ويجعل الله في إبهام رسوله غذاء الطفل الوليد، ففعل ذلك أربعين يوماً بلياليها، فأنبت الله سبحانه وتعالى لحمه من لحم رسول الله(2) ، وهذا ما يفسّر قول الرسول الكريم: «حسين منّي وأنا من حسين». وهكذا كان الحسين الرضيع غذيّ النبوّة، وعيسى مولود النفحة السماويّة بمريم (عليها السّلام)، غذيّ القوّة الإلهيّة.

قسيس مسيحي قال: لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كلّ بلد بيرقاً، ولنصبنا له في كلّ قرية منبراً، ولدعونا الناس إلى المسيحيّة باسم الحسين.

____________________

(1) يوحنا 14 / 6.

(2) أبو الشهداء - العقّاد / 54.

٧٢

مثل هذا الكلام لا يصدر على عواهنه، بل يقصد به أنّ الفداء والاستشهاد اللذَين يشكّلان ركن الدين المسيحي الأساسي قد جسّدهما الحسين (عليه السّلام) خير تجسيد في استشهاده، هذا الاستشهاد الذي لا يقدم عليه إلاّ المبشّرون بالأديان السماويّة، أو المتصدّون لانحرافها، وكان الحسين (عليه السّلام) واحداً منهم.

ولنعد إلى نقاط التشابه والاختلاف بين الشهيدَين العظيمَين للإسلام والمسيحيّة، فنجد أنّهما - حتّى في اختلافهما في بعض نقاط - ثمّة تشابه غير مباشر يقرّبهما من بعضهما، فعيسى (عليه السّلام) اُوتي قدرة مخاطبة الناس وهو في المهد صبيّا، والحسين (عليه السّلام) اُوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان، وحسن بيان، وغنّة صوت، ورشاقة إيماء.

وعيسى اضطهد واُهين وضفر جبينه بالشوك، وحوكم وقُتل، وطُعن وبصق عليه، وجرّد من ثيابه. والحسين شرّد وحوصر، واُعطش واُهين، وقُتل وسبيت عياله، وجرّد من ثيابه وسلبت حلله.

عيسى (عليه السّلام) قال: «روح الربّ نازل عليَّ؛ لأنّه مسحني وأرسلني لاُبشّر الفقراء، واُبلّغ المأسورين إطلاق سبيلهم، واُفرّج عن المظلومين، وأعلن سنّة مرضيّة لدى الربّ»(1) . والحسين (عليه السّلام) قال:

____________________

(1) لوقا 4 / 18 - 19 و أشعيا 61 / 1 - 2 و متّي 3 / 16.

٧٣

«وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي أبي طالب».

عيسى قال لتلاميذه: «فإذا اضطهدوني يضطهدونكم أيضاً، سينزلون بكم ذلك كلّه من أجل اسمي، لو لم آتِ واُكلّمهم لما كتبت عليهم خطيئة»(1) . والحسين قال لصحبه قبل بدء المعركة عشيّة التاسع من محرّم: «إنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً. ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء غداً، وإنّي قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري»(2) .

عيسى (عليه السّلام) أنكره أقرب تلامذته (بطرس)، والحسين (عليه السّلام) خذله أنصاره الذين استدعوه من المدينة.

____________________

(1) يوحنا 15 / 21 - 22.

(2) الطبري 6 / 238 - 239، والكامل لابن الأثير 4 / 34.

٧٤

عيسى اقتُسمت ثيابه بعد موته إلى أربعة أنصباء لكلّ جندي نصيب، وأخذوا القميص أيضاً وكان غير مخيط منسوجاً كلّه من أعلاه إلى أسفله، فقال بعضهم لبعض: لا ينبغي أن نشقّه، بل نقترع عليه فنرى لمَن يكون(1) . والحسين لحقته هذه الإهانة وهو صريع متضرّج بدمائه في فلاة كربلاء، فسلبه قاتلوه، ولم يوفّروا حتّى تكّة سرواله، وامتدّت لها يد أحدهم بلا أدنى استعظام أو تأثّم(2) .

ابن مريم مات عطشان، ففي لحظات نزاعه الأخير هتف: (أنا عطشان)(3) فلم يؤتَ له بماء، بل كان هناك إناء مليء خلاًّ، فوضعوا اسفنجة مبتلّة بالخلّ على قضيب من الزّوفي وأدنوها من فيه فلمّا ذاق الخلّ لفظ روحه. وابن فاطمة وهو مجندل مطعون في ترقوته ونحره وجنبه وحلقه ورأسه وجبهته وقفاه والدم ينبع ويخضّب جسده الطاهر ويلوّن شيبته المقدّسه، وكان في نزاعه الأخير حينما استقى ماء فأبوا أن يسقوه، وقال له رجل: لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها(4) .

والأنبياء والشهداء والمصطفون يدركون أنّ وجودهم المادّي زائل، لكن حججهم ونفثات ضمائرهم هي التي ستبقى لتسري في النفوس مسرى النار في الهشيم، وليتردّد صداها في المهج، فلا يهدأ لها صدى إلاّ ليرجع من مكان

____________________

(1) يوحنا 19 / 24.

(2) راجع اللهوف / 73، ومقتل الخوارزمي 2 / 38، وكامل ابن الأثير 4 / 32، ومناقب ابن شهر آشوب 2 / 224، ومقتل الخوارزمي 2 / 102.

(3) يوحنا 19 / 29 - 30.

(4) ابن نما / 39.

٧٥

آخر، وهكذا فبينما يحيط جند يزيد بالحسين (عليه السّلام) إذ به يعتلي راحلته ويخاطبهم: «أيّها الناس، انسبوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا: هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم، وابن وصيّه، وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أو ليس جعفر الطيّار عمّي؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنة؟».

فقال الشمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول. ثمّ قال الحسين (عليه السّلام): «فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مالٍ لكم استهلكته أو بقصاص جراحة؟»(1) . فأخذوا لا يكلّمونه، وأصمّوا آذانهم عن سماع حديثه، فقد تفاعل الحقد في عروقهم فأعماهم عن صوت الحقّ الذي ينطق به لسان سيّد الشهداء.

فسبحان الذي رسم لشهدائه وأبراره مثل هذه المواقف! الشهيد والنبي والمصلح يقفون أمام الفاسدين يستعطفون قلوباً تحجّرت وأبت إلاّ أن تقف إزاءهم بنفوس ملؤها الشرّ والحقد، وهذا ما فعله أعداء الحسين (عليه السّلام) الذين التفّوا حوله هازئين مستعدّين للانقضاض عليه بعد وقت قصير باسم دين جدّه المصطفى، فكان حالهم كحال مَن يحارب البياض باسم السّوسن، وكحال مَن عنتهم تلك الآية الكريمة التي جرت على لسان المسيح: «سماعاً تسمعون ولا

____________________

(1) رواه ابن نما في مثير الأحزان / 26، وجاء في تاريخ الطبري 6 / 243.

٧٦

تفهمون، ونظراً تنظرون ولا تبصرون. فإنّ قلب هذا الشعب قد غلظ، لقد ثقّلوا آذانهم، وأغمضوا عيونهم لكي لا يبصروا بعيونهم، ولا يسمعوا بآذانهم، ولا يفهموا بقلوبهم»(1) .

وكما سيّد الشهداء كذلك عيسى رسول السّلام والمحبّة وقف في مثل وقفته بين اليهود الذين جاؤوا لاعتقاله، فقال مخاطباً الأحبار وقادة الحرس والشيوخ: «أعلى لصٍّ خرجتم تحملون السيوف والعصي؟ كنت كلّ يوم بينكم في الهيكل فلم تبسطوا أيديكم إليَّ، ولكن تلك ساعتكم، وهذا سلطان الظلام»(2) .

وقال أيضاً: «ألم يعطكم موسى الشريعة وما من أحد منكم يعمل بأحكام الشريعة؟ لماذا تريدون قتلي؟»(3) . فأجابه الجمع كما أجاب الشمر الحسين: بك مس من الشيطان)(4) . قال عيسى: «لماذا لا تفهمون أقوالي؛ لأنّكم لا تطيقون الاستماع إلى كلامي. إنّكم أولاد أبيكم إبليس، لم يثبت على الحقّ؛ لأنّه ليس فيه شيء من الحقّ؛ لأنّه كذّاب وأبو الكذّاب. أمّا أنا فلا تصدّقوني؛ لأنّني أقول الحقّ، أنا أعلم أنّكم ذرّيّة إبراهيم، ولكنكم تريدون قتلي»(5) .

صيحتان متشابهتان أطلقهما وسط غلاظ القلوب، رسول المحبّة، وسيّد الشهداء (عليه السّلام)،

____________________

(1) متّي 13 / 15، رسل 28 / 26.

(2) لوقا 22 / 52 - 53 - 54.

(3) يوحنا 7 / 19.

(4) راجع الفقرة 20 من إنجيل يوحنا 7، يجيب المسيح: (ما عملت إلاّ عملاً واحداً فتعجّبتم كلكم).

(5) يوحنا 8 / 43 - 44 - 46.

٧٧

وأمام الموت المحيق بهما، إنّها ضريبة الحق قبل أن تُؤدّى.

كان بإمكان الشهيدَين تجنّب هذا الموقف وهذا الكلام، لكنّهما أدّيا واجب الكلمة الحقّة قبل أن يؤدّيا واجب الشهادة، بثّا في الضمائر بذرة الخير تعمل بها وتتفاعل لتنشر عبقها في الهواء، فتعمّ الجميع وتفيء بظلّ حقّها على القلوب، وتكون الجرثومة التي تقتل ما فسد من أخلاق ونفوس والترياق المحيي للصدور المسمّمة، والمهج المشرفة على الاختناق بضلالها.

وحكمة الله تنفح الرؤى في رؤوس الأخيار البررة، فتجري على ألسنتهم كلاماً يحمل معنى النبوءة، ففي موقع الخطر وفوق أرض النهاية حيث تُتعتع أشدّ العقول رباطة، وتتزعزع أقوى القلوب جأشاً، تظلّ قلوب الشهداء حيّة، وعقولهم صافية منيرة.

ففي حومة الخطر خاطب الحسين (عليه السّلام) قاتليه بما سيحلّ بهم وما أثبتته الأيّام بالصدق، وصوّر لأعينهم وبصائرهم أي منقلبٍ سينقلبون إذا ما أقدموا على قتله؛ وذلك كي يكون في كلامه عظةٌ وإنذارٌ قبل الوقوع في الخطأ، علّهم يرعوون ويتوبون إلى ربّهم وضمائرهم. ولكن هيهات للضمائر التي نامت، وللنفوس التي هرمت أن تعي عظة مقدّسة حيّة، فلو وعت لقدّمت المُثل الحيّة على مفاسد الأخلاق وموت الضمائر، ولارعوت بما قاله سبط النبي (عليه السّلام): «أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله. فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط

٧٨

مستقيم»(1) . ثمّ رفع يدَيه نحو السماء وقال: «اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّرة؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير. والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه قتلة بقتلة، وضربة بضربة، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي»(2) .

ويقابل هذا القول ذلك الذي جرى قبل قرون على لسان شهيد المسيحيّة حينما حكم عليه علماء الشريعة اليهوديّة بالموت، إذ قال مخاطباً إيّاهم: «الويل لكم أنتم يا علماء الشريعة! تُحمّلون الناس أحمالاً باهظة وأنتم لا تمسّون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم! الويل لكم! تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم هم الذين قتلوهم! فأنتم الشهود، وأنتم على أعمال آبائكم توافقون، هم قتلوهم وأنتم تبنون؛ ولذلك قالت حكمة الله: أرسل إليهم الأنبياء والرسل وسيقتلون منهم ويضطهدون حتّى يطلب من هذا الجيل دم جميع الأنبياء الذي سفك منذ إنشاء العالم، من دم هابيل إلى دم زكريّا الذي قتل بين المذبح والهيكل»(3) .

فإيراد مثل هذا التشابه في الأقوال والمواقف والمصير بين الشهيدَين عيسى والحسين (عليه السّلام) من شأنه إبراز نواحي عنصر الشهادة بينهما رغم أنّهما جاءا في عصرين مختلفَين، وأدّيا رسالتَين مختلفتَين في الشكل، متجانستَين في المرمى.

فعيسى بن مريم (عليه السّلام) جاء إلى اليهود يحمل رسالة جديدة يبشّر بها هي اتمام

____________________

(1) تاريخ ابن عساكر 4 / 334، ومقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي 2 / 7، واللهوف / 54.

(2) اللهوف / 56 طبعة صيدا، ومقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي 2 / 7، ومقتل العوالم / 84.

(3) لوقا 11 / 46 - 51.

٧٩

لرسالة العهد القديم التي حرّفها اليهود ووضعوا لها شريعة أسمَوها شريعة الآباء، فاضطهدوه واتّهموه بما لا يتّهم به نبي. ثمّ قدّموه للموت، فتقدّم إليه كهدف أنفذ لأجله، وقد فدى نفسه وحدها لتظلّ رمزاً للمسيحيين من بعده تذكّرهم بمعنى افتداء نفس قرباناً للعقيدة، فيحسّون بضعفهم إذا ما ضعفت عقيدتهم، وتكون مناسبة الفصح مناسبة للحزن والذكرى، وإعادة التبصّر، وتقويم الضعف في النفوس، والانحراف في أخذ العقيدة.

وبمقياس الجود بالنفس الواحدة مقابل سلامة العقيدة أو بعثها من البدء، فإنّ الأنبياء موسى وعيسى ومحمّد (عليهم السّلام) والشهداء زكريّا ويحيى وعلي والحسن والحسين والعبّاس وغيرهم.. أدّوا رسالتهم الكاملة بما يرضي الله سبحانه تعالى كما رسمها لهم، وكانت أنفسهم الطاهرة هي القربان الذي قدّموه على مذبح الشهادة.

فإذا كانت الأديان السماويّة تنزل ويفدى لها بنفس رسولها، وتنشر فيفدى لها بنفس ناشرها، وتحمى فيفدى لها بنفس حاميها، فبأي وصف أو مقياس يمكن لنا ولأجيال المؤمنين من بعدنا أن نقيس ثورة الحسين (عليه السّلام) التي قدّم فيها عترة آل البيت وصحبه الأخيار، وكان ثمن دفاعه عن انحراف العقيدة ثلاثاً وسبعين نفساً طاهرة هي اُسرة النبي الذي أنزلت الرسالة به، والتي حارب أعداء الرسالة سبطه باسم رسالته.. سبطه الذي قال عنه (صلّى الله عليه وآله): «حسين منّي وأنا من حسين»(1) ؟ هل يمكن قياسها بمقياس ما قدّمت، أم بمقياس ما زالت تقدّمه؟

____________________

(1) تعبير رواه من الإماميّة ابن قولويه في كامل الزيارات / 53، ومن أهل السّنة الترمذي في جامعه في مناقب الحسين، والحاكم في المستدرك 3 / 177، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 4 / 314، وابن حجر في مجمع الزوائد 9 / 181، والهيتمي في الصواعق المحرقة / 115 حديث 23، والبخاري في الأدب المفرد، والمتقي الهندي في كنز العمال 7 / 107، والصفوري في نزهة المجالس / 478، وأمالي السيّد المرتضى 1 / 157 المجلس الخامس عشر (نقلاً عن المقرم).

٨٠