الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)0%

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 304

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الكريم الحسيني القزويني
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 304
المشاهدات: 142448
تحميل: 4413

توضيحات:

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 304 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142448 / تحميل: 4413
الحجم الحجم الحجم
الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شدّ الآخر حتّى يخلّصه، ففعلا ذلك ساعة فشدّت الرجال على الحرّ فقتلته(1) .

فجاء إليه الحسينعليه‌السلام ووقف عليه قائلاً: «أنت كما سمّتك اُمّك، حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة».

كلمة موجزة أبّنعليه‌السلام بها الحرّ، فكانت المصداق الواقعي للحرية التي تحرّر بها الحرّ من القيود التي تكبّل إرادة الإنسان الخيّرة. قيود المادة بمفهومها وسلطانها المهيمن على النفوس الضعيفة التي سرعان ما تخضع وتركع أمام جبروتها ومغرياتها.

وما أكثر هذه النفوس في كلّ عصر وزمان، إلاّ أنّ هناك بعض النفوس استطاعت أن تُتحرّر من هذه القيود، وتنطلق من رواسبها وآثارها فلم تؤثّر فيها مغريات الحياة ولا غرور المنصب، ولا طغيان الجاه والزعامة ولا حبّ المال.

من أمثال: الحرّ بن يزيد الرياحي؛ فإنّه ترك المنصب والوظيفة والزعامة؛ لأنّها تقيّد نفسه الحرّة التي أبت أن تكون أسيرة وخاضعة؛ فلهذا انطلق مع ركب الشهداء الأحرار واستشهد في صبيحة عاشوراء.

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 325.

٢٦١

فوقف أبو الشهداءعليه‌السلام عليه قائلاً: «أنت كما سمّتك اُمّك، حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة»(1) .

* زهير بن القين

زهير بن القين البجلي له مواقف مشهورة، وشهد بعض المغازي، وكان عثماني العقيدة، فالتقى بالحسينعليه‌السلام في طريق عودته من الحجّ فصار علوياً، وقاتل بين يدي الحسينعليه‌السلام قتال الأبطال حتّى قُتل.

فوقف الحسين على جثمانه قائلاً: «لا يُبعدنك الله يا زهير، ولعن قاتليك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير»(2) .

* عمرو بن قرظة

وجاء عمرو بن قرظة الأنصاري ووقف أمام الحسينعليه‌السلام يتلقى سهام الأعداء بصدره ونحره؛ ليقي الحسينعليه‌السلام بنفسه حتّى اُثخن بالجراح فسقط قائلاً للحسينعليه‌السلام : أوفيت يابن رسول الله؟

____________________

(1) إبصار العين في أنصار الحسين - محمد السماوي / 145.

(2) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 306، تاريخ الطبري 4 / 336.

٢٦٢

الحسينعليه‌السلام : «نعم، أنت أمامي في الجنّة، فاقرأ رسول الله عنّي السلام، واعلمه أنّي في الأثر»(1) .

* واضح التركي

واضح التركي مولى للحرث المذحجي، فإنّه لمّا صرع جاءه الحسين واعتنقه. واضح فتح عينيه بوجه الحسينعليه‌السلام قائلاً: مَنْ مثلي وابن رسول الله واضعاً خدّه على خدّي(2) ؟!

* جون مولى أبي ذر

جون مولى أبي ذرّ الغفاري، عبد أسود خرج إلى الأعداء بعد أن أذن له الحسينعليه‌السلام بالقتال، وهجم على القوم فقَتل وقُتل، فمشى إليه الحسينعليه‌السلام ووقف على مصرعه قائلاً: «اللّهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع محمّد، وعرّف بينه وبين آل محمّد (صلّى الله عليه وآله»).

فكان لا يمرّ عليه أحد في المعركة إلاّ ويشمّ منه رائحة طيّبة أزكى من المسك(3) .

____________________

(1) المصدر نفسه / 307 - 308.

(2) المصدر نفسه.

(3) انظر تفصيل ذلك في الوثيقة (120) من هذا الكتاب.

٢٦٣

125 - الحسينعليه‌السلام وقتلى أهل بيته (عليهم السلام)

* علي الأكبرعليه‌السلام

هو نجل الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، واُمّه ليلى بنت ميمونة بنت أبي سفيان. فإنّه عندما خرج للقتال ناداه رجل من الأعداء: يا علي، إنّ لك رحماً بأمير المؤمنين (يزيد) ونريد أن نرعى الرحم، فإن شئت آمنّاك.

علي الأكبر يردّ عليه قائلاً: إنّ قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحقّ أن تُرعى.

وكانعليه‌السلام ، أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولمّا خرج للمبارزة لم يتمالك الحسينعليه‌السلام دون أن أرخى عينيه بالدموع، وقال مخاطباً عمر بن سعد: «ما لك! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسلّط عليك مَنْ يذبحك على فراشك»(1) .

ثمّ رفع شيبته المباركة نحو السماء قائلاً: «اللّهمّ اشهد على هؤلاء فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمّد؛ خلقاً وخلقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه. اللّهمّ فامنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزّقهم

____________________

(1) مقتل الحسين - الخوارزمي 2 / 30.

٢٦٤

تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا»، ثمّ تلا قوله تعالى: «إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(1) .

وجاء يطلب الماء من أبيه بعد أن اشتدّ به العطش، فقال له الحسين (ع): «يا بُني، ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها أبداً».

ثمّ هجم على القوم في عدّة صولات قتل فيها منهم تمام المئتين(2) ، ولمّا أكثر فيهم القتل، أحاطوا به من كلّ جانب حتّى طعنه مرّة بن منقذ العبدي بالرمح في ظهره، وضربه آخر بالسيف على هامته، فنادى رافعاً صوته: «عليك منّي السلام يا أبا عبد الله، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها، ويقول: إنّ لك كأساً مذخورة»(3) .

وقد احتوشه الناس من كلّ جانب فقطّعوه بأسيافهم،

____________________

(1) سورة آل عمران / 33 - 34.

(2) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 322.

(3) مقتل الحسين - الخوارزمي 2 / 21.

٢٦٥

فأتاه الحسينعليه‌السلام وانكبّ عليه قائلاً: «قتل الله قوماً قتلوك يا بُني! ما أجرأهم على الرحمان وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفا»(1) .

* القاسم بن الحسنعليهما‌السلام

القاسم هو ابن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، واُمّه رملة، وهو غلام لم يبلغ الحلم، وقد خرج إلى الأعداء ووجهه كأنّه شقّة قمر، وفي يده السيف وعليه قميص وأزار ونعلان.

فأذن له الحسينعليه‌السلام بالقتال بعد إلحاح وإصرار منه، فجعلعليه‌السلام يُقاتل القوم، وانقطع شسع نعله اليسرى، فأنف أن يُقاتل في الميدان على هذا الحال، فوقف يشدّ شسع نعله وإذا بعمرو بن نفيل الأزدي يضربه بالسيف على رأسه، فصرخ منادياً: يا عماه!

فجلى الحسينعليه‌السلام كما يجلي الصقر، ثمّ شدّ شدّة ليث غضب؛ فضرب عمراً بالسيف فاتقاها بالساعد فأطنّها من المرفق، فصاح ثمّ تنحّى عنه.

وحملت خيل لأهل الكوفة ليستنقذوه من الحسينعليه‌السلام

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 34.

٢٦٦

فوطأته حتّى مات.

وانجلت الغبرة وإذا بالحسينعليه‌السلام واقف على رأس القاسم وهو يفحص برجليه، فقالعليه‌السلام : «بعداً لقوم قتلوك! ومَن خصمهم يوم القيامة جدّك! عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثمّ لا ينفعك. يوم والله كثر واتره وقلّ ناصره»(1) .

ثمّ قالعليه‌السلام : «اللّهمّ أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً. اللّهمّ إن كنت حبست عنّا النصر في الدنيا فاجعل ذلك لنا في الآخرة، وانتقم لنا من القوم الظالمين».

ثمّ التفت إلى أهل بيته وبني عمومته قائلاً: «صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم»(2) .

* العباس بن عليعليهما‌السلام

العباس ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، واُمّه فاطمة بنت حزام الكلابية، وتُكنّى باُمّ البنين. ولدعليه‌السلام في سنة ست وعشرين هجرية، وقُتل في معركة كربلاء سنة 61 هـ، ويُكنّى بأبي الفضل، ويلقّب بقمر بني هاشم، ولقّب أيضاً بعد مقتله بساقي العطاشى. وكان شجاعاً، فارساً، وسيماً، جسيماً،

____________________

(1) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 322، تاريخ الطبري 4 / 341.

(2) المصدر نفسه.

٢٦٧

يركب الفرس المطّهم ورجلاه تخطّان في الأرض.

وقال عنه الإمام الصادقعليه‌السلام : «كان عمّنا العباس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد اللهعليه‌السلام وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً»(1) .

وحمل لواء أخيه الحسينعليه‌السلام في المعركة. ولمّا قُتل جميع الذين كانوا مع الحسينعليه‌السلام في المعركة من فرسان أهل بيته وأنصاره، ولم يبق له ولي ولا نصير، وانقطع عنه المدد، ونال الظمأ من النساء والأطفال بعد أن منعوهم من الماء ثلاثة أيام.

ولمّا سمع العباسعليه‌السلام عويل النساء وصراخ الأطفال من شدّة العطش، لم يطق صبراً، ولم تسمح له نفسه بما يرى، فلم يتمالك إلاّ أن جاء إلى أخيه الحسينعليه‌السلام طالباً منه الإذن بقتال الأعداء، فقال لهعليه‌السلام : «يا أخي، أنت صاحب لوائي». فأعاد الطلب ثانياً وثالثاً، قائلاً: «قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، واُريد أن آخذ بثأري منهم». فأذن له الحسين.

فخرج إلى القوم واعظاً ومحذّراً، فلم تنفعهم موعظة ولا

____________________

(1) إبصار العين في أنصار الحسين - محمد السماوي / 30.

٢٦٨

تحذير، فنادى بصوت عال: «يا عمر بن سعد، هذا الحسين ابن بنت رسول الله، قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطشى فاسقوهم من الماء، قد أحرق الظمأ قلوبهم».

شمر يردّ عليه قائلاً: يابن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كلّه ماء وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد(1) .

ولمّا سمع مقالة الشمر لم يتمالك، فهجم على الفرات، فأحاط به أربعة آلاف فارس وراجل، ورموه بالنبال فلم يَرُعْهُ جمعهم وعددهم فكشفهم عن الماء، ونزل إلى الفرات بعد أن اشتدّ به العطش، فاغترف منه بيده ليشرب فتذكّر عطش الحسينعليه‌السلام وأطفاله وعياله وصراخهم من شدّة الظمأ، فرمى الماء من يده؛ وفاءً ومواساةً لآل البيتعليهم‌السلام ، وقال:

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني

وبـعدهُ لا كـنتِ أن تكوني

هـذا الـحسينُ واردُ المنونِ

وتـشـربينَ بـاردَ الـمعينِ

تاللهِ مـا هـذا فِـعالُ ديـني

____________________

(1) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 334 و336.

(2) المصدر نفسه.

٢٦٩

وهكذا يجب أن تكون المواساة الحقيقية في الأخوّة الصادقة، حيث إنّ العباسعليه‌السلام أبى أن يرتوي هو وحده والحسينعليه‌السلام وأهل بيته يتلظّون عطشاً. فهذا هو العطف الأخوي الصادق، والوفاء النبيل في أشدّ الظروف وأقساها.

ولمّا رمى الماء من يده ملأ القربة وركب جواده، وكرّ راجعاً نحو مخيّم آل البيتعليهم‌السلام ؛ ليروي عطشهم، فتكاثر عليه الأعداء من كلّ حدب وصوب، وسدّوا عليه الطريق حتّى لا يوصل الماء إلى الحسين وآلهعليهم‌السلام ، فكشفهم عن الطريق قائلاً:

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رقا

حتى أُوارى في المصاليتِ لقى(1)

وبينما هو يُقاتل كمن له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة وضربه على يمينه فبراها، فقال:

واللهِ إن قـعطتمُ يميني

إنّي اُحامي أبداً عن ديني(2)

فأخذ السيف بشماله وهمّه الوحيد إيصال الماء إلى أطفال الحسينعليه‌السلام ، وإذا بزيد بن ورقاء الجهني وقد ضربه من وراء نخلة على شماله فقطعها، وتكاثروا عليه، وأتته السهام من كلّ جانب كأنّها المطر، فأصاب القربة سهم وأريق

____________________

(1) انظر تفصيل ذلك في الوثيقة رقم (122) من هذا الكتاب.

(2) انظر تفصيل ذلك في الوثيقة رقم (122) من هذا الكتاب.

٢٧٠

ماؤها، وضربه رجل بالعمود على رأسه، فهوىعليه‌السلام إلى الأرض منادياً: عليك منّي السلام أبا عبد الله.

فانقضّ عليه الحسينعليه‌السلام كالصقر، فرآه مقطوع اليدين، مرضوخ الجبين، مشكوك بسهم في العين، مطروحاً على الصعيد قد غشيته الدماء، وجلّلته السهام، فرثاه قائلاً: «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي».

ولمّا سمعن النسوة بمقتله أصابهن الهلع والخوف، وفقدن الأمل والاطمئنان.

ورجع الحسينعليه‌السلام إلى مخيّمه حزيناً منكسراً وقد تدافعت الأعداء على مخيّمه، فنادى بأعلى صوته: «أما من مغيث يغيثنا! أما من مجير يجيرنا! أما من طالب حقّ ينصرنا! أما من خائف من النار فيذبّ عنّا!»(1) .

فصاحت اُخته زينب: «وا أخاه! وا عباساه! وا ضيعتنا بعدك!».

وهذه الصيحة تكشف مدى تأثّر حرم أهل البيت بمقتلهعليه‌السلام ، واضطرابهنّ وخوفهنّ ووجلهنّ بعد فقده ومقتله؛ لأنّه كان عماد أخبيتهنّ، ومسكن روعهنّ، ولواؤه كان يرفرف على رؤوسهنّ، فكنّ ينَمنَ قريرات مطمئنات.

____________________

(1) المنتخب - الطريحي / 313.

٢٧١

بعكس الأعداء فقد كانت عيونهم ساهرة؛ خوفاً من سطوته وبطشه، وبعد مقتله انعكس الأمر وصارت بنات الرسالة قلقات على مصيرهنّ وأمرهنّ كما قال الشاعر:

اليوم نامت أعينٌ بكَ لم تنمْ

وتسهّدت اُخرى فعزّ منامها

126 - الحسينعليه‌السلام ينادي قتلاه

ولمّا قُتل جميع فرسانه ورجاله، وبقي وحيداً لا ناصر له ولا معين، أخذ يجول بنظره يميناً وشمالاً؛ علّه يجد أنصاراً وأعواناً، فلم يرَ إلاّ أجساماً مجزّرة ومضرّجة كالأضاحي، قد صافحها التراب، وأحرقها هجيرُ الشمس، فنادى أهل بيته وأصحابه وأنصاره بهذه النداء: «يا مسلم بن عقيل، ويا هاني بن عروة، ويا حبيب بن مظاهر، ويا زهير بن القين، ويا يزيد بن مهاصر، ويا فلان ويا فلان.

يا أبطال الصفا، ويا فرسان الهيجا، ما لي اُناديكم فلا تسمعون؟ وأدعوكم فلا تجيبون؟ أنتم نيام أرجوكم تنتبهون، أم حالت مودّتكم عن إمامكم فلا تنصروه؟ هذه نساء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لفقدكم قد علاهنّ النحول، فقوموا عن نومتكم أيّها الكرام، وادفعوا عن حرم الرسول الطغام اللئام، ولكن صرعكم والله ريب المنون، وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلاّ لما كنتم عن

٢٧٢

نصرتي تقصّرون، ولا عن دعوتي تحتجبون؛ فها نحن عليكم مفجوعون، وبكم لاحقون، فإنا لله وإنا إليه راجعون»(1) .

ثمّ صاح بأعلى صوته: «هل من ذاب عن حرم رسول الله؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟».

فلمّا سمع زين العابدين السجّادعليه‌السلام استغاثة أبيه نهض يتوكّأ على عصا، ويجر سيفاً؛ لأنّه مريض لا يستطيع الحركة، فقال الحسينعليه‌السلام لأخته اُمّ كلثوم: «احبسيه؛ لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمّد». فأرجعته إلى فراشه(2) .

127 - الحسينعليه‌السلام وطفله

كان الحسينعليه‌السلام يوم العاشر من محرّم يقدّم رجاله قرباناً بعد قربان، وضحية تلو ضحية في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، وتحطيم كلمة الانحراف والضلال، وهو يقول: «اللّهمّ إن كان هذا يرضيك فخذ حتّى ترضى».

____________________

(1) مقتل أبي مخنف: 85.

(2) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 340.

٢٧٣

ولمّا لم يبقَ في خيامه سوى أطفاله ونسائه؛ فإنّه عندئذ دعا بولده الرضيع عبد الله، واُمّه الرباب بعد أن جفّ اللبن في ثدييها من شدّة الظمأ، فأخذهعليه‌السلام وجاء به إلى القوم طالباً منهم أن يسقوه جرعة من الماء، ومخاطباً إيّاهم بقوله: «إن كان هناك ذنب للكبار فما ذنب الصغار؟ ألم تروه كيف يتلظى عطشاً؟».

فاختلف العسكر فيما بينهم، بعضهم يقول: اسقوه؛ فإنّه لا ذنب له، والآخر يقول: لا تسقوه أبداً، ولا تبقوا من أهل هذا البيت باقية.

عمر بن سعد: يلتفت إلى حرملة بن كاهل الأسدي قائلاً له: اقطع نزاع القوم يا حرملة.

حرملة: رمى الطفل بسهم فذبحه من الوريد إلى الوريد.

الحسينعليه‌السلام : تلقّى دم طفله المذبوح بكفه ورمى به إلى السماء قائلاً: «هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى. اللّهمّ لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح. إلهي إن كنت حبست عنّا النصر، فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من

٢٧٤

الظالمين(1) ، واجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل. اللّهمّ أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّهم نذروا أن لا يتركوا أحداً من ذريّة نبيّك محمّد»(2) .

وسمععليه‌السلام قائلاً يقول: «دعه يا حسين؛ فإنّ له مرضعاً في الجنّة». ثمّ نزلعليه‌السلام وحفر له بجفن سيفه وصلّى عليه ودفنه.

128 - الحسينعليه‌السلام يحمل على الأعداء

ولمّا لم يجد الحسينعليه‌السلام بداً إلاّ الدفاع عن دين جدّه محمّد، والمحاماة عن حرمه وعياله بعد أن فقد الناصر والمعين، فإنّهعليه‌السلام برز إلى الأعداء مصلتاً سيفه، وداعياً الناس إلى البراز، فلم يزل يقتل كلّ مَنْ برز إليه حتّى قتل جمعاً كثيراً(3) ، ثمّ حمل على الميمنة والميسرة.

قال عبد الله بن عمّار: إنّه حمل على مَنْ عن يمينه حتّى

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 342.

(2) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 344، مقتل أبي مخنف / 83، تاريخ الطبري 4 / 342.

(3) مقتل الحسين - الخوارزمي 2 / 33.

٢٧٥

انذعروا، وعلى مَنْ عن شماله حتّى انذعروا، وعليه قميص له من خز، ومعتمّ بعمامة، فوالله ما رأيت مكثوراً(1) قط، قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً، ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقدماً منه. والله، ما رأيت قبله ولا بعده مثله! إن كانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب(2) .

فأكثرعليه‌السلام فيهم القتل حتّى خشي عمر بن سعد أن يفنى جيشه إن بقي الحسين على حاله، فصاح بجيشه: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، احملوا عليه من كلّ جانب. فأتته أربعة آلاف(3) .

129 - الحسينعليه‌السلام يصرخ بالجيش مندداً بنذالتهم

وحال الرجال بينه وبين حرمه وأرادوا التعرّض لها، فصرخ فيهم الحسينعليه‌السلام مندّداً بقبح أفعالهم هذه قائلاً لهم: «يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون

____________________

(1) المكثور: المغلوب، وهو الذي كثر عليه الناس فقهروه.

(2) تاريخ الطبري 4 / 245.

(3) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 223.

٢٧٦

المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون. امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهّالكم».

شمر: ما تقول يابن فاطمة؟

الحسينعليه‌السلام : «أنا الذي اُقاتلكم، والنساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيّاً».

شمر: ذلك لك يابن فاطمة(1) .

فعندئذ قصده القوم بنفسه واشتدّ القتال بينه وبينهم وقد نال العطش منهعليه‌السلام ، فحمل على الفرات وكشفهم عنه وأقحم الفرس في الماء وأراد أن يشرب منه، فناداه رجل من القوم: أتلتذّ بالماء يا حسين وقد هُتكت حرمُك؟ فرمى الماء من يده وقصد خيامه وحرمه.

130 - الوداع الأخير

ورجع إلى خيامه وحرمه ليرعاها ويحميها ما دام على قيد الحياة؛ لأنّه يعلم أنّه بعد سويعات ستبقى من دون حمي ولا نصير، فنادى نداء وداع وفراق لا أمل فيه بلقاء

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 344، مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 346.

٢٧٧

وعودة، وناداهنّ بقلب محزون مفجوع: «يا اُمّ كلثوم، و يا زينب، ويا سكينة،، ويا رُقية، ويا عاتكة، ويا صفية، عليكنّ منّي السلام؛ فهذا آخر الاجتماع، وقد قرب منكنّ الافتجاع».

فأحطن به بنات الرسالة من كلّ جانب، هذهِ تشمّه، واُخرى تأخذ بردائه، وثالثة تستنجد به، ورابعة تقول: يا أخي، ردّنا إلى حرم جدّنا.

فقال لها الحسينعليه‌السلام : «يا اُختاه، هيهات هيهات! لو تُرك القطا لنام».

فقالت اُمّ كلثوم: يا أخي، كأنّك استسلمت للموت!

الحسينعليه‌السلام : «يا اُخيّة، كيف لا يستسلم مَنْ لا ناصر له ولا معين؟»(1) .

ثمّ سألعليه‌السلام عن عزيزته سكينة؛ لأنّه لم يرَ شخصها، ولم يسمع صوتها، فقيل له: إنّها في خيمتها تبكي. فجاء إليها وضمّها إلى صدره قائلاً:

سيطولُ بعدي يا سكينةَ فاعلمي

مـنكِ البكاءُ إذا الحمامُ دهاني

لا تُـحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً

ما دام منّي الروح في جثماني

____________________

(1) مقتل أبي مخنف / 84.

٢٧٨

فـإذا قُتلت فأنتِ أولى بالذي

تـأتينهُ يـا خـيرةَ الـنسوانِ

ثمّ إنّهعليه‌السلام ودّع عياله ونساءه، وأمرهم بالصبر قائلاً: «استعدوا للبلاء، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويُعذّب عدوّكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة؛ فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم»(1) .

ثمّ رفع طرفه إلى السماء وقال: «اللّهم امسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض. اللّهمّ فإن متّعتهم إلى حين ففرّقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً؛ فإنّهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا»(2) .

131 - الحسينعليه‌السلام يعيد كرة الهجوم

ثمّ إنّهعليه‌السلام دعا بسروال يماني محكم النسج يلمع فيه البصر، فخرقه وفزره حتّى لا يطمع فيه أحد؛ لأنّهعليه‌السلام يعلم أنّه يُسلب بعد مقتله، فقيل له: لو لبست تحته تبّاناً، وهو

____________________

(1) مقتل الحسين - عبد الرزاق المقرّم / 348.

(2) تاريخ الطبري 4 / 344 - 345.

٢٧٩

سروال صغير. فقالعليه‌السلام : «ذلك ثوب مذلّة، ولا ينبغي لي أن ألبسه»(1) .

ثمّ حمل على القوم وهو يُقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع، يتّقي الرمية، ويفترص العورة، ويشدّ على الخيل قائلاً: «أعلى قتلي تحاثّون؟! أما والله، لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله، والله أسخط عليكم لقتله منّي. وأيم الله، إنّي لأرجو أن يُكرمني الله بهوانكم، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. أما والله، إن لو قد قتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثمّ لا يرضى لكم حتّى يُضاعف لكم العذاب الأليم»(2) .

ثمّ أخذ يُقاتل القوم قتالاً شديداً، وبينما هو يُقاتل إذ أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً، فاتّجه نحو الفرات يريد أن يروّي عطشه؛ ليستعين على قتال أعدائه، فنادى رجل من بني أبان بن دارم: ويلكم! حولوا بينه

____________________

(1) المصدر نفسه.

(2) تاريخ الطبري 4 / 346.

٢٨٠