الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)0%

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 304

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الكريم الحسيني القزويني
الناشر: دار الغدير
تصنيف: الصفحات: 304
المشاهدات: 142520
تحميل: 4414

توضيحات:

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 304 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142520 / تحميل: 4414
الحجم الحجم الحجم
الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

«اللّهمّ إن كان هذا يرضيك فخذ حتّى ترضى»؛ ولأنّه يرى أنّ النصر لا يتمّ إلاّ بهذه القرابين وبهذه الضحايا. وأخيراً نرى الإمام الحسينعليه‌السلام انتصر على عدوّه بعد استشهاده من ناحيتين:

الناحية الاُولى

إنّ ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام كانت العامل الرئيسي الذي لعب دوراً هامّاً في كشف أباطيل الحكّام المنحرفين عن الخطّ الإسلامي السليم، وانتزاع السلطة التشريعية من أيديهم بعد أن كان الخليفة يحكم ويشرّع كما يحبّ ويرغب وفق ميوله وأهوائه، فيحرّم ما أحلّه الله ورسوله، ويحلّل ما حرّم الله ورسوله.

فالإمام الحسينعليه‌السلام استطاع بثورته الخالدة أن ينتزع تلكم السلطة من يد الخليفة المنحرف بأفكاره وسلوكه آنذاك، وأفهم الرأي العام الإسلامي بأنّ الخليفة ليس له حقّ في تشريع أيّ حكم، وإنّما التشريع منحصر في الكتاب والسنّة وما يؤدي إليهما، كما قال تعالى:( وَما كانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ

٤١

أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) (1) .

ولولا ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام لرأينا كثيراً من الأحكام الإسلاميّة قد غُيرت وبُدلت كما هو الحال في المسيحيّة وتحريف ديانتها.

ولكن الله تعالى حيث قد ضمن حفظ التشريع الإسلامي من الانحراف والضياع بقوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (2) ؛ ولهذا ثار الحسين ليضع حدّاً للتلاعب بأحكام الشريعة الإسلاميّة الغرّاء من قبل المستهترين والحاقدين، وبهذا انتصر الإمام الحسينعليه‌السلام بثورته المباركة.

الناحية الثانية

إنّه قد يتبادر لذهن القارئ كيف انتصر الإمام الحسين مع أنّه قُتل؟

والجواب قد يكون غريباً وغير مألوف لذهن السائل؛ لأنّه على خلاف المفهوم المادي للنصر، ولكن نقول: هناك معركة بين إرادتين:

____________________

(1) سورة الأحزاب / 36.

(2) سورة الحجر / 9.

٤٢

1 - الإرادة الحسينيّة : وهي التي لم تملك إلاّ اليسير من العدّة والعدد، مع الالتزام الكامل بالوسائل التي أباحها الإسلام.

2 - الإرادة الاُمويّة : وهي التي تتمتّع بالملك والسيطرة والمال، والكثرة في العدد والعدّة، مع إباحة جميع وسائل الإغراء والتمويه والتضليل؛ لأنّها تبرّر وسائلها بغايتها، والغاية تبرّر الوسيلة.

واصطدمت الإرادتان في مواقف عديدة فلم تُفلح الإرادة الاُمويّة بنجاح، واستعملت كلّ طاقاتها وإمكانيّاتها لكي تُثني الإرادة الحسينيّة عن المُضي والاستمرار في هدفها وغايتها، ولكنّها مُنيت بالفشل والخسران والهزيمة، وبقيت الإرادة الحسينيّة صامدة أمام تحدّيات الإرادة الاُمويّة، ولكنّ الإرادة الاُمويّة جاءت لتجبر هزيمتها وخسارتها، فاستعملت سلاحها وقوتها بكلّ حقد وضعة ووحشية؛ فقتلت الرجال ومثّلت بهم حقداً وتشفيّاً.

ومع هذا كلّه بقيت إرادة الحسينعليه‌السلام وشهدائه حيّة صامدة تهزأ بالعرش الأموي وجبروته، وتُضعضع أركانه بين حين

٤٣

وآخر حتّى قضت على معنويته ووجوده وإرادته.

وهكذا كان النصر والفتح للحسين كما تنبّأ هوعليه‌السلام في كتابه إلى بني هاشم قائلاً: «أمّا بعد، فإنّه مَنْ لحق بي منكم استشهد، ومَنْ تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح، والسّلام»(1) .

وقال تعالى:( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) (2) .

وأخيراً يا سيدي يا أبا عبد الله، سلام الله عليك يوم ولدت، ويوم استُشهدت من أجل الحقّ، ويوم تُبعث حياً، وسلام الله على المستشهدين بين يديك من أهلك وأصحابك.

____________________

(1) انظر الوثيقة رقم 18 من هذا الكتاب.

(2) سورة البقرة / 154.

٤٤

رسائل وكتب متبادلة بين معاوية والإمام الحسينعليه‌السلام

٤٥

٤٦

1 - جواسيس الاُمويِّين على الإمام الحسينعليه‌السلام

الإمام الحسينعليه‌السلام له شخصية جذّابة، ومقام شامخ في وجدان الأمّة الإسلاميّة؛ ولهذا كانت الشخصيات والوفود في العالم الإسلامي تفد عليه، وتنهل من فيض علمه؛ لأنّه سبط الرسول وريحانته، ووريث علمه، ممّا أوجب حقد السلطة الاُمويّة عليه، والخوف منه ومن نشاطه؛ ولهذا رُفعت التقارير السرية من قبل عيون وجواسيس معاوية في المدينة المنوّرة حول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى معاوية في الشام.

تقرير مروان بن الحكم إلى معاوية

ومن جملة العيون والجواسيس التي عيّنها معاوية لمراقبة الإمام الحسينعليه‌السلام هو مروان بن الحكم، وكان عامل معاوية على المدينة فكتب إليه هذا التقرير: أمّا بعد، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وذكر أنّه لا يأمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه لا يريد الخلافة

٤٧

يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لمَنْ بعده، فاكتب إليّ برأيك في هذا والسلام(1) .

جواب معاوية لمروان

فلمّا وصل هذا التقرير لمعاوية كتب إليه ما يلي: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين، فإياك أن تتعرّض للحسين في شيء، واترك حسيناً ما تركك، فإنّا لا نريد أن نتعرّض له في شيء ما وفى ببيعتنا، ولم ينازعنا سلطاننا، فاكمن عنه ما لم يبد لك صفحته، والسّلام(2) .

2 - رسالة معاوية إلى الإمام الحسين (ع)

ثمّ إنّ معاوية كتب رسالة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام يحذره فيها من الخروج عن طاعته، وهذه نصها: أمّا بعد، فقد انتهت إليّ أمور عنك، إن كانت حقّاً فقد أظنّك تركتها رغبة فدعها، ولعمر الله إنّ مَنْ أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، وإن كان الذي بلغني عنّك باطلاً، فإنّك أعزل

____________________

(1) انظر ناسخ التواريخ م6 ج1 / 254.

(2) المصدر نفسه.

٤٨

الناس لذلك وعظ نفسك، فاذكر وبعهد الله أوف، فإنّك متى ما تنكرني أنكرك، ومتى ما تكدني أكدك، فاتق شقّ عصا هذه الأمّة، وأن يوردهم الله على يديك في فتنة، فقد عرفت الناس وبلوتهم، فانظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد، ولا يستخفنّك السفهاء الذين لا يعلمون(1) .

3 - جواب الإمام الحسين (ع) لمعاوية

ولمّا وصل كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ، أجابه الإمام بجواب لاذع، يكشف فيه أعمال معاوية المنافية للإسلام وتعاليمه، وإليك نصّه: «أمّا بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أنّه قد بلغك عنّي اُمور أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير، فإنّ الحسنات لا يهدي لها، ولا يسدّد إليها إلاّ الله.

وأمّا ما ذكرت أنّه انتهى إليك عنّي، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميم، وما أريد لك حرباً، ولا عليك خلافاً، وأيم الله إنّي لخائف لله في ترك ذلك، وما أظنّ الله راضياً بترك ذلك، ولا عاذراً بدون الإعذار فيه إليك، وفي اُولئك

____________________

(1) المصدر نفسه / 255.

٤٩

القاسطين الملحدين حزب الظلمة، وأولياء الشياطين.

ألستَ القاتل حجراً أخا كندة، والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، وَلا يَخافُونَ في الله لَوْمَةَ لائِم، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلّظة، والمواثيق المؤكّدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا بإحنة تجدها في نفسك؟

أولستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه، واصفرّ لونه، بعدما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثمّ قتلته جرأةً على ربّك، واستخفافاً بذلك العهد؟

أولستَ المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، فتركت سنّة رسول الله تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثمّ سلّطته على العراقين يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الاُأمّة، وليسوا منك؟

أولستَ صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سميّة

٥٠

أنّهم كانوا على دين علي صلوات الله عليه، فكتبت إليه أن اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليعليه‌السلام واللهِ الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلستَ مجلسك الذي جلستَ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين؟

وقلت فيما قلت: «انظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد، واتّقِ شقّ عصا هذه الأمّة، وأن تردهم إلى فتنة»، وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمّة من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله علينا أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلتُ فإنّه قربة إلى الله، وإن تركتُه فإنّي استغفر الله لذنبي، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت: «إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني»، فكدني ما بدا لك؛ فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك فيّ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك؛ لأنّك قد ركبت جهلك، وتحرّصت على نقض عهدك. ولعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان، والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا،

٥١

وتعظيمهم حقّنا، فقتلتهم مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فابشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها ) (1) ، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التهمة، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حَدَث، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب، لا أعلمك إلاّ وقد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغششت رعيتك، وأخزيت أمانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقي لأجلهم، والسلام»(2) .

4 - رسالة معاوية الثانية للإمام الحسينعليه‌السلام

جواسيس معاوية وعيونه يرفعون التقارير إلى معاوية حول الإمام الحسينعليه‌السلام ، واتصالات الناس به واجتماعه معهم، ممّا يزيد في غيظ معاوية وحقده على الإمام الحسينعليه‌السلام ، فبعث للإمام بهذه الرسالة: إنّ مَنْ أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء، وقد

____________________

(1) سورة الكهف / 49.

(2) انظر ناسخ التواريخ م ج1 / 257 - 258.

٥٢

اُنبئت أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، وأهل العراق مَن قد جربت؛ قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتق الله واذكر الميثاق؛ فإنّك متى تكدني أكدك، وإنّي لأظنّ أنّ في رأسك فروة، فوددت أنّي أدركتها فافغرها لك.

5 - الإمام الحسين (ع) يردّ على معاوية

فلمّا وصل كتاب معاوية الثاني إلى الإمام الحسينعليه‌السلام فتأثّر منه، وكتب إليه رادّاً عليه بقوله: «أتاني كتابك، وأنا بغير الذي بلغك عنّي جدير، والحسنات لا يهدي لها إلاّ الله، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً، وما أظنّ أنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك، وما أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمّة.

ثمّ إنّك ولّيت عليهم ابنك وهو غلام يشرب الشراب، ويلهو بالكلاب، فخنت أمانتك، وأخربت رعيتك، ولم تؤدّ نصيحة ربّك، فكيف تولّي على أمّة محمّد مَن يشرب المسكر وشارب المسكر من الفاسقين، وشارب المسكر من الأشرار؟ وليس شارب المسكر بأمين على درهم فكيف على الأمّة؟ فعن قليل ترد على عملك حين تطوى صحائف الاستغفار»(1) .

____________________

تاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / 197، دعائم الإسلام 2 / 132، 468، موسوعة كلمات الحسينعليه‌السلام / 258، تحقيق منظمة الإعلام الإسلامي.

٥٣

6 - الاجتماع الأوّل بين معاوية والحسينعليه‌السلام وعبد الله بن عباس في المدينة

المدينة المنوّرة تشهد اجتماعاً بين معاوية، والإمام الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن عباس، حينما جاء معاوية إلى المدينة؛ لأخذ البيعة لولده يزيد، واجتمع مع الإمام الحسين وابن عباس، وذكر فضائل ولده، وطلب منهما البيعة له، فأراد ابن عباس ردّه، فأشار الإمام الحسينعليه‌السلام إليه قائلاً: «على رسلك فأنا المراد، ونصيبي في التهمة أوفر».

فأمسك ابن عباس، فقام الإمام الحسين رادّاً عليه، وبعد أن حمد الله وصلّى على رسوله قال: «أمّا بعد يا معاوية، فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من جميع جزءاً، وقد فهمتُ ما لبستَ به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ البيعة، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبحُ فحمةَ الدُجى، وبهرت الشمس أنوار السُّرج، ولقد فضلتَ حتّى أفرطتَ، واستأثرتَ حتّى أجحفت، ومنعتَ حتّى بخلتَ، وجِرتَ حتّى جاوزتَ، ما بذلت لذي حقّ من أتمّ حقّه بنصيب حتّى أخذ

٥٤

الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمّة محمّد، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلّ يزيد من نفسه على مواقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهنّ، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق، بأكثر ممّا أنت لاقيه.

فوالله ما برحت تقدر باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم حتّى ملأتَ الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص!

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا، ولقد لعمر الله أورثنا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولادةً، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول، فأذعن للحجّة بذلك، وردّه الإيمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون، حتّى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتأميره

٥٥

له، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له، وما صار لعمرو يومئذ حتّى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدّوا عليه أفعاله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري.

فكيف يُحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك مَنْ لا يؤمن في صحبته ولا يعتمد في دينه وقرابته؟ وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك، إنّ هذا لهو الخسران المبين، واستغفر الله لي ولكم»(1) .

7 - الاجتماع الثاني بين معاوية والإمام الحسينعليه‌السلام في مكة المكرّمة

أخذ معاوية يمهّد الجو لخلافة ولده يزيد، وأخذ البيعة له عن طريق الإغراء والإكراه، وجاء إلى مكّة المكرّمة لهذا الغرض، واجتمع اجتماعاً خاصّاً مع الإمام الحسينعليه‌السلام ، قائلاً له:

____________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 186، أعيان الشيعة 1 / 583، الغدير 10 / 248، تأريخ اليعقوبي 2 / 228.

٥٦

يا أبا عبد الله، اعلم أنّي ما تركت بلداً إلاّ وقد بعثت إلى أهله فأخذت عليهم البيعة ليزيد، وإنّما أخّرت المدينة؛ لأنّي قلت هم أصله وقومه وعشيرته، ومَنْ لا أخافهم عليه، ثمّ إنّي بعثت إلى المدينة بعد ذلك فأبى بيعته مَنْ لا أعلم أحداً هو أشدّ بها منهم، ولو علمت أنّ لأمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله خير من ولدي يزيد لما بعثت له.

فقال له الحسينعليه‌السلام : «مهلا يا معاوية! لا تقل هكذا، أنا والله أحقّ بها منه؛ فإنّ أبي خيرٌ من أبيه، وجدّي خير من جدّه، واُمّي خير من اُمّه، وأنا خير منه».

فقال معاوية: أمّا ما ذكرت أنّ جدّك خير من جدّه فصدقت، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خير من أبي سفيان؛ وأمّا ما ذكرت أنّ أمّك خير من اُمّه فصدقت، فاطمة بنت رسول الله خير من بنت بحدل؛ وأمّا ما ذكرت أنّ أباك خير من أبيه، فله سابقة وفضل وقرابة من الرسول ليست لغيره من الناس، ولكن قارع أبوك أباه فقضى الله لأبيه على أبيك؛ وأمّا ما ذكرت أنّك خير منه، فهو والله خير لأمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله منك.

فقال الحسينعليه‌السلام : «مَن خير لاُمّة محمّد؟ يزيد الخمور والفجور؟!».

٥٧

فقال معاوية: مهلاً أبا عبد الله! فإنّك لو ذُكرتَ عنده لما ذَكر منك إلاّ حسناً.

فقال الحسينعليه‌السلام : «إنْ علم منّي ما أعلمه منه أنا فليقل فيّ ما أقول فيه».

فقال له معاوية مهدّداً: أبا عبد الله، انصرف إلى أهلك راشداً، واتق الله في نفسك، واحذر أهل الشام أن يسمعوا منك ما قد سمعتُه؛ فإنّهم أعداؤك وأعداء أبيك.

فانصرف الحسينعليه‌السلام إلى منزله(1) .

8 - بين معاوية وواليه على المدينة سعيد بن العاص

عزل معاوية مروان بن الحكم من ولايته على المدينة المنوّرة واستبدل به سعيد بن العاص؛ لكي يحكم البيعة لولده يزيد، وإجبار شخصيات أهل المدينة على ذلك.

وبعد أن استلم الولاية على المدينة، كتب إلى معاوية هذه الرسالة: أمّا بعد، فإنّك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين، وأن أكتب إليك بمَنْ سارع ممّن أبطأ، وإنّي

____________________

(1) انظر مجمل ذلك في كتاب الإمامة والسياسة 1 / 189، والغدير 10 / 250، ومجمع الزوائد 5 / 198.

٥٨

أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء، لاسيما أهل البيت من بني هاشم؛ فإنّه لم يجبني منهم أحد، وبلغني عنهم ما أكره، وأمّا الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبد الله بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلاّ بالخيل والرجال، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك، والسّلام(1) .

9 - معاوية يخدع ويمكر

اجتمع معاوية في مكة المكرّمة مع المعارضين لبيعة ولده يزيد، وهم: الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمان ابن أبي بكر، فهدّدهم وأنذرهم بالقتل، وجعل على رأس كلّ واحد منهم رجلين من حرّاسه يحملان السيف، قائلاً: إن تكلّموا هؤلاء بكلمة أو تعقيباً على كلامه، فاضربوا أعناقهم جميعاً، ثمّ قال معاوية للحسين والنفر المعارض معه: فإنّي قد أحببت أن أتقدّم إليكم؛ إنّه قد أعذر مَنْ أنذر، إنّي كنت أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس فأحتمل ذلك وأصفح، وإنّي قائم بمقالة، فأقسم

____________________

(1) الغدير 10 / 239، موسوعة كلمات الإمام الحسين / 252.

٥٩

بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقينّ رجل إلاّ على نفسه.

حرّاس معاوية يمتثلون أوامره

ثمّ تكلّم حرّاس معاوية بعد أن وضعوا أيديهم على سيوفهم، قائلين له: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي تعظّمه من أمر هؤلاء الأربعة؟ ائذن لنا أن نضرب أعناقهم؛ فإنّا لا نرضى أن يبايعوا سرّاً، ولكن يبايعوا جهراً حتّى يسمع الناس أجمعون.

فأجابهم معاوية قائلاً: سبحان الله! ما أسرع الناس بالشرّ، وما أحلى بقاءهم عندهم! اتقوا الله يا أهل الشام ولا تسرعوا إلى الفتنة؛ فإنّ القتل له مطالبة وقصاص.

معاوية يخطب أمام الناس مخادعاً

ثمّ إنّ معاوية قام ورقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يبتزّ أمر دونهم، ولا يُقضى إلاّ عن مشورتهم، وإنّهم قد رضوا وبايعوا

٦٠