المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره28%

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره مؤلف:
المحقق: فارس حسون
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 126

  • البداية
  • السابق
  • 126 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 17852 / تحميل: 6293
الحجم الحجم الحجم
المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره

تأليف

السيد عبد الحسين شرف الدين الموسويقدس‌سره

تحقيق

فارس الحسّون

مركز الأبحاث العقائدية

١

بسم الله الرحمن الرحيم

مُقدّمة المركز:

إنّ الحسينَعليه‌السلام ليس حُكراً على الشيعة فحسب، وإنّ مأتمهعليه‌السلام ليس من مختصّات الشيعة، كما قد يظنّ البعض ذلك، بل الحسينعليه‌السلام حسين جميع المسلمين، والأحرى أنْ يكون حسينُ جميع الإنسانيّة.

وإنّ مأتم الحسينعليه‌السلام ومأساته جرح ما زال لم يندمل، ومصاب لا زال المسلمون يأنّون من ألمه حتّى يأخذ الله تعالى بثأرهعليه‌السلام .

مِنَ الحسين عليه‌السلام ومأتمه استلهم الشيعة درس التضحية لأجل العقيدة والدفاع عنه.

مِنَ الحسين عليه‌السلام ومأتمه استلهم المسلمون درس التضحية في سبيل البحث عن العقيدة الحقّة ; لأنّ المأتم الحسيني يجعل النّفوس ملتهبة بالعواطف النقيّة، فتكون النّفوس عندئذٍ أقرب ما تكون لاستماع الحقيقة والتجرّد عن التعصّب.

٢

مِن الحسين عليه‌السلام ومأتمه استلهم جميع بني آدم درس الإنسانيّة والرجوع إلى الفطرة.

بالحسين عليه‌السلام ومأتمه يمكن تبديد غيوم العصبيّة وغبار الجهل والأفلات من الوقوع في براثن الفتن وتيّارات الضلال.

وبالحسين عليه‌السلام ومأتمه يمتلك الإنسان القدرة على اجتياز الطريق الشائك لمعرفة الحقّ، وتحطيم عقبة:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (١) ؛ لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ الله، ومأتمَهُ مأتمُ أمر الله عزّ وجل بإحيائه.

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ الحقِّ، ومأتمَهُ درسٌ للوصول إلى الحقِّ.

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ المُصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومأتمَهُ مأتمُهُ.

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ عليٍّ وفاطمة وأهلِ البيتعليهم‌السلام ، ومأتمَهُ مأتمُهُمْ.

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حسينُ الأنبياءِ والمُرسَلينعليهم‌السلام ، ومأتمَهُ مأتمُهُمْ.

____________________

(١) سورة الزخرف / ٢٣.

٣

لأنّ الحسينَعليه‌السلام حُسينُنا جميعاً، ومأتمَهُ مأتمُنا.

وقسماً بالله الذي لا إله إلاّ هو، إنّ البشريّة لو عرفت الحسينعليه‌السلام على حقيقته لأسلمت عن بكرة أبيها، إلاّ مَن كان قد تخلّى منهم عن إنسانيّته.

وكذلك لو عرف المسلمون الحسينعليه‌السلام على حقيقته، لاهتدوا بهديه واتّبعوا نهجه وركبوا سفينة النّجاة وما تركوا أهل البيتعليهم‌السلام طرفة عين، إلاّ مَن كان منهم وفي قلبه مرض، وعليه؛ فإنّ مسؤوليّة أتباع الحسينعليه‌السلام تتضاعف في إيصال حقيقة الحسينعليه‌السلام وأهمّيّة إقامة مأتمه إلى الجميع؛ ليؤدّي كلّ منهم هذه المهمّة على قدر وسعِه.

وهذا الكتاب الماثل بين يدَي القارئ العزيز، وإنْ كان صغيراً في حجمه، إلاّ أنّه عظيم في محتواه، قد جمع بين دفّتيه على اختصاره زبدة ما يتعلّق بمشروعيّة المأتم وأسراره، وهو بقلم علَم الأعلام وسيّد السّادات - الذي اهتدى أكثر من اهتدى إلى مذهب أهل البيتعليهم‌السلام بسبب كتابه

٤

( المراجعات ) - آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدِّين الموسوي (رضوان الله عليه).

وهذا الكتاب في الواقع هو مُقدّمة كتابه ( المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة )، الذي أحرقته الأيدي الأثيمة، وما بقي منه سوى المُقدّمة التي قمنا بتحقيقها والتعليق عليها، وإخراجها بهذا الكتاب الذي سمّيناه( المأتم الحسيني مشروعيّتُهُ وأسرارُه ) ؛ ليكون الكتاب الثاني من ( سلسلة الكتب الإهدائيّة ) المخصّصة لروّاد المركز من المشتركين والمساهمين في المسابقات الهادفة؛ وذلك لإيجاد ثقافة علميّة عقائديّة لمجتمعاتنا المؤمنة، التي نأمل منها كلّ الخير في نشر مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ودرء الشبهات عنه.

مركز الأبحاث العقائديّة

فارس الحسّون

٥

تمهيد:

الحمد لله على جميل بلائه وجليل عزائه، والصلاة والسّلام على اُسوة أنبيائه، وعلى الأئمّة المظلومين من أوصيائه، ورحمة الله وبركاته.

أمّا بعد، فهذا كتاب ( المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة )(١) وضعته تقرّباً إليهم في الدُّنيا، وتوسّلاً بهم في الآخرة،

____________________

(١) ألّفه في أربع مجلّدات ضخمة، تضمّنت سيرة النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترتهعليهم‌السلام ، وحياتهم وبعض خطبهم.

وقال عنه المؤلّفقدس‌سره : كتاباً اجتماعيّاً سياسيّاً عمرانيّاً، مِن أحسن ما كُتب في الإمامة والسّياسة.

وكانقدس‌سره قد كتب له مُقدّمة حول مشروعيّة أصل المأتم وأسراره، طُبعت قبل طبع الكتاب، وهذه المُقدّمة هي كتابنا الحاضر الذي سمّيناه ( المأتم الحسيني مشروعيّته وأسراره ).

وأمّا أصل الكتاب، فقد أعدّه المؤلّف للنشر، ولكنّ شعلة الحرب العالميّة الاُولى حالت المؤلّف عن طبعه حتّى أصبح هذا الكتاب ومؤلّفاته الاُخرى - ما يقرب من ثلاثين مُجلّداً مخطوطاً كلّها بقلمه الشريف - طعمة حريق سلطة الاحتلال الفرنسي؛ حيث سلّطت النّار على داره في ( شحور )، وبعده احتلّت داره الكبرى في ( صور ) واُبيحت للأيادي الأثيمة سلباً ونهباً.

٦

سائلاً من الله سبحانه أنْ يكون خالصاً لوجهه الكريم، إنّه الرؤوف الرحيم.

٧

المُقدّمة:

الأصل العملي يقتضي إباحة:

١ - البكاء على مطلق الموتى.

٢ - رثائهم بالقريض.

٣ - تلاوة مناقبهم ومصائبهم.

٤ - الجلوس حزناً عليهم.

٥ - الإنفاق عنهم في وجوه البرّ.

ولا دليل على خلاف هذا الأصل، بل السّيرة القطعيّة والأدلّة اللفظيّة حاكمان بمقتضاه، بل يُستفاد من بعضها استحباب هذه الاُمور إذا كان الميّت من أهل المزايا الفاضلة والآثار النافعة، وفقاً لقواعد المدنيّة وعملاً باُُصول العمران ; لأنّ تمييز المُصلحين يكون سبباً في تنشيط أمثالهم، وأداء حقوقهم يكون داعياً إلى كثرة الناسجين

٨

على منوالهم، وتلاوة أخبارهم ترشد العاملين إلى اقتفاء آثارهم.

وهنا مطالب:

٩

المطلب الأوّل: في البكاء

ولنا على ما اخترناه فيه - مضافاً إلى السّيرة القطعيّة - فِعل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقوله وتقريره:

أمّا الأوّل ، فإنّه متواتر عنه في موارد عديدة منها: يوم اُحد، إذ علم النّاس كافّة بكاءه يومئذٍ على عمّه أسد الله وأسد رسوله، حتّى قال ابن عبد البرّ في ترجمة حمزة من استيعابه: لمّا رأى النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله حمزة قتيلاً بكى، فلمّا رأى ما مُثّل به شهق.

وذكر الواقدي، كما في أوائل الجزء الخامس عشر من شرح نهج البلاغة(١) للعلاّمة المعتزلي: أنّ النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(١) في أواخر صفحة ٣٨٧ من المُجلّد الثالث - طبعة مصر ( المؤلّف ).

١٠

كان يومئذٍ إذا بكت صفيّة يبكي، وإذا نشجت ينشج(١) . قال: وجعلت فاطمة تبكي لمّا بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

ومنها: يوم نعى زيداً وذا الجناحين وابن رواحة، فيما أخرجه البخاري في الصفحة الثالثة من أبواب الجنائز من صحيحه، وذكر ابن عبد البرّ في ترجمة زيد من استيعابه: أنّ النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على جعفر وزيد، وقال:« أخَواي ومُؤنساي ومُحَدّثاي » (٣) .

ومنها: يوم مات ولده إبراهيم، إذ بكى عليه، فقال له عبد الرحمن بن عوف، كما في صفحة ١٤٨ من الجزء

____________________

(١) قد اشتمل هذا الحديث على فعل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقريره، فهو حجّة من جهتين، على أنّ بكاء سيّدة النّساءعليها‌السلام كافٍ كما لا يخفى. ( المؤلّف ).

(٢) وراجع أيضاً في بكاء النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله على عمّه حمزة وتحريض النّساء على البكاء: مسند أحمد ٢ / ٤٠، الفصول المهمّة / ٩٢، شفاء الغرام ٢/٣٤٧، ذخائر العقبى / ١٨٠، السّيرة الحلبيّة ٢ / ٢٤٧، الروض الاُنف ٦ / ٢٤.

(٣) وراجع أيضاً: ذخائر العقبى / ٢١٨، أنساب الأشراف / ٤٣، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٦٦، تذكرة الخواصّ / ١٧٢، المعجم الكبير ٢ / ١٠٥.

١١

الأوّل من صحيح البخاري: وأنت يا رسول الله! قال:« يابنَ عَوف، إنّها رَحمَة » (١) . ثمّ أتبعها - يعني عبرته - باُخرى، فقال:« إنّ العَينَ تدمعُ، والقلبَ يَحزنُ، ولا نَقولُ (٢) إلاّ ما يُرضي ربنَّا، وإنّا بفراقِكَ يا إبراهيمُ لمَحزونون » (٣) .

ومنها: يوم ماتت إحدى بناتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ جلس على قبرها، كما في صفحة ١٤٦ من الجزء الأوّل من صحيح البخاري، وعيناه تدمعان(٤) .

ومنها: يوم مات صبي لإحدى بناته، إذ فاضت عيناه يومئذٍ، كما في الصحيحين(٥) وغيرهما، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟!

____________________

(١) لا يخفى ما في تسميتها ( رحمة ) من الدلالة على حُسن البكاء في مثل المقام. ( المؤلّف ).

(٢) أراد بهذا: أنّ الملامة والإثم في المقام إنّما يكونان بالقول الذي يسخط الربّ عزّ وجل، كالاعتراض عليه والسّخط لقضائه، لا بمجرّد دمع العين وحزن القلب. ( المؤلف ).

(٣) وراجع أيضاً: ذخائر العقبى / ١٥٥، سيرة ابن إسحاق / ٢٧٠، العقد الفريد ٣/١٩٠.

(٤) وراجع أيضاً: ذخائر العقبى / ١٦٦، المُحلّى ٥ / ١٤٥.

(٥) راجع: صحيح البخاري ١ / ١٤٦، وصحيح مسلم - باب البكاء على الميّت. ( المؤلّف ).

١٢

قال:« هذه رَحمَةٌ جَعلَها اللهُ فِي قلوبِ عبادِه، وإنَّما يرحَم اللهُ مِن عِبادِه الرُّحَماء » (٢) .

ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحَين عن ابن عمر، قال: اشتكى سعد، فعاده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع جماعة من أصحابه، فوجده في غشية، فبكى. قال: فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا. الحديث(٣) .

والأخبار في ذلك لا تُحصى ولا تُستقصى(٤) .

____________________

(١) دلالة قوله:« وإنّما يرحمُ اللهُ مِن عبادِه الرُّحماء » على استحباب البكاء في غاية الوضوح كما لا يخفى. ( المؤلّف ).

(٢) فراجعه في صحيح البخاري - باب البكاء عند المريض، وفي صحيح مسلم - باب البكاء على الميّت، ولا يخفى اشتماله على كلٍّ مِن فعل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقريره، فهو حجّة من جهتين. ( المؤلّف ).

(٣) كبكائهصلى‌الله‌عليه‌وآله على عترته من بعده، المُصنّف ٨ / ٦٩٧، الفصول المهمّة / ١٥٥.

وبكائه على عليِّ بن أبي طالبعليه‌السلام لِما سيلقاه من بعده، مناقب الخوارزمي / ٢٤، ٢٦، تذكرة الخواصّ / ٤٥.

وبكائه على الحسينعليه‌السلام لمّا أخبره جبرئيل بما سيجري عليه، كما سيأتي عن قريب.

وبكائه على شهداء فخ لمّا أخبره جبرئيل بالواقعة، مقاتل الطالبيِّين / ٤٣٦.

وبكائه على جدّه عبد المطّلب، تذكرة الخواصّ / ٧.

وبكائه على أبي طالب، الطبقات ١ / ١٠٥، تذكرة الخواصّ / ٨، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٥.

وبكائه على فاطمة بنت أسد، ذخائر العقبى / ٥٦، الفصول المهمّة / ١٣، مناقب ابن المغازلي / ٧٧، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٤.

وبكائه على اُمّه عند قبرها، المستدرك على الصحيحين ١/٣٧٥، تاريخ المدينة المنوّرة ١ / ١١٨، ذخائر العقبى / ٢٥٨، المُصنّف لابن أبي شيبة ٣ / ٢٢٤.

وبكائه على عثمان بن مظعون، المستدرك على الصحيحين ١/٣٦١، سنن البيهقي ٣ / ٤٠٧.

وبكائه على سعد بن ربيع، المغازي ١ / ٣٢٩.

١٣

وأمّا قوله وتقريره فمستفيضان، ومواردهما كثيرة:

فمنها: ما ذكره ابن عبد البر في ترجمة جعفر من استيعابه، قال: لمّا جاء النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله نعيُ جعفر(١) ، أتى

____________________

(١) هذا الحديث مشتمل على تقريرهصلى‌الله‌عليه‌وآله على البكاء وأمره به، على أنّ مجرّد صدوره من سيّدة النّساءعليها‌السلام حجّة كما لا يخفى. ( المؤلف ).

١٤

امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها.

قال: ودخلت فاطمةعليها‌السلام وهي تبكي، وتقول:« وا عَمّاه! » . فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« عَلى مِثلِ جعفر فلتبكِ (١) البَواكِي » (٢) .

ومنها: ما ذكره ابن جرير وابن الأثير وصاحب العقد الفريد وجميع أهل السّيَر، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في صفحة ٤٠ من الجزء الثاني من مسنده، قال: رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اُحد، فجعلت نساء الأنصار يبكين على مَن قُتل من أزواجهنَّ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ولكِنْ حَمزَةَ لا بَواكِيَ لَه » . قال: ثمّ نام فاستنبه وهُنَّ يبكين حمزة، قال: فهنّ اليوم إذا بكين يبدأن بحمزة.

وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب نقلاً عن الواقدي، قال: لم تبكِ امرأة من الأنصار على ميّت بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ولكِنْ حَمزَةَ لا بَواكِيَ لَه » . إلى اليوم إلاّ بدأت بالبكاء على حمزة(١) .

____________________

(١) هذا أمرٌ منهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبكاء ندباً على أمثال جعفر من رجال الاُمّة، وحسبك به حجّة على الاستحباب. ( المؤلّف ).

(٢) وراجع أيضاً: أنساب الأشراف / ٤٣، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٦٦.

(٣) وراجع أيضاً: شفاء الغرام ٢ / ٣٤٧، السّيرة النبويّة ٣ / ١٠٥، الروض الاُنف ٦ / ٢٤، ذخائر العقبى / ١٨٣، الفصول المهمّة / ٩٢.

١٥

وحسبك تلك السّيرة في رجحان البكاء على مَن هو كحمزة، وإنْ بَعُد العهد بموته.

ولا تنسَ ما في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ولكِنْ حَمزَةَ لا بَواكِيَ لَه » . من البعث على البكاء والملامة لهنّ على تركه، وحسبك به وبقوله:« على مِثل جعفر فلتَبكِ البَواكِي » . دليلاً على الاستحباب.

وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عبّاس، في صفحة ٣٣٥ من الجزء الأوّل، من مسنده من جملة حديث ذكر فيه موت رقيّة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبكاء النّساء عليها، قال: فجعل عمر يضربهنّ بسوطه، فقال النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله :« دَعهنَّ يبكينَ » . ثمّ قال:« مَهما يكُنْ مِن القلبِ والعَينِ فمِن اللهِ والرَّحمة ». وقعد على شفير القبر وفاطمةعليها‌السلام إلى جنبه تبكي، قال: فجعل النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح عين فاطمة بثوبه رحمةً لها.

١٦

وأخرج أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة، الجزء الثاني صفحة ٣٣٣ من مسنده، حديثاً جاء فيه: إنّه مرّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جنازة معها بواكي، فنهرهنّ عمر، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« دَعهُنَّ، فإنّ النَّفسَ مُصابةٌ والعَينَ دامِعةٌ » . إلى غير ذلك ممّا لا يسعنا استيفاؤه.

وقد بكى يعقوب إذ غيّب الله ولده:( وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزَنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) (١) . حتّى قيل - كما في تفسير هذه الآية من الكشّاف -: ما جفّت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عام، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما في تفسير هذه الآية من الكشّاف أيضاً -:« أنَّهُ سُئلَ جبرئيل عليه‌السلام : ما بلغ وَجدُ يعقوبَ على يُوسفَ؟ قال: وَجْدُ سبعينَ ثكلَى. قال: فما كانَ لهُ مِنَ الأجرِ؟

____________________

(١) سورة يوسف / ٨٤.

١٧

قال: أجرُ مئةِ شهيدٍ (١) ، وما ساء ظنُّه باللهِ قَط » .

قلتُ: أيّ عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء بعد ثبوته عن الأنبياء:( وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمُ إلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (٢) .

وأمّا ما جاء في الصحيحين: منْ أنّ الميّت يُعذّب لبكاء أهله عليه. وفي رواية: ببعض بكاء أهله عليه. وفي رواية: ببكاء الحيّ. وفي رواية: يُعذّب في قبره بما نيح عليه. وفي رواية: مَن يبكِ عليه يُعذّب. فإنّه خطأ من الراوي بحكم العقل والنّقل.

قال الفاضل النّووي(٣) : هذه الروايات كلُّها من رواية عمر بن الخطّاب وابنه عبد الله.

____________________

(١) هذا كالصريح في استحباب البكاء، إذ ليس المستحب إلاّ ما يترتب الثواب على فعله كما هو واضح. ( المؤلّف ).

(٢) سورة البقرة / ١٣٠.

(٣) عند ذكر هذه الروايات في باب الميّت يُعذّب ببكاء أهله عليه، من شرح صحيح مسلم. ( المؤلّف ).

١٨

قال: وأنكرت عائشة عليهما، ونسبتهما إلى النّسيان والاشتباه، واحتجّت بقوله تعالى:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (١) .

قلتُ: وأنكر هذه الروايات أيضاً عبد الله بن عبّاس، واحتجّ على خطأ راويه، والتفصيل في الصحيحَين وشروحهما.

وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض، حتّى أخرج الطبري(٢) في حوادث سنة ١٣ من تاريخه، بالإسناد إلى سعيد بن المسيّب، قال: لمّا تُوفّي أبو بكر، أقامت عليه عائشة النّوح، فأقبل عمر بن الخطّاب حتّى قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر، فأبين أنْ ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إليَّ ابنة أبي قُحافة. فقالت عائشة لهشام - حين سمعت ذلك من عمر: إنّي أحرج عليك بيتي. فقال عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لك.

____________________

(١) سورة الأنعام / ١٦٤.

(٢) عند ذكر وفاة أبي بكر في الجزء الرابع من تاريخه. ( المؤلّف ).

١٩

فدخل هشام وأخرج اُمَّ فروة اُخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرّة فضربها ضربات، فتفرّق النّوح حين سمعوا ذلك.

قلتُ: كأنّه لم يعلم تقريرَ النّبيِّ نساء الأنصار على البكاء على موتاهنَّ، ولم يبلغه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ولكِنْ حَمزَةَ لا بَواكِيَ لَه » . وقوله:« على مِثل جعفر فلتَبكِ البَواكِي ». وقوله:« وإنّما يَرحم اللهُ مِن عِبادِه الرُّحماء ».

ولعلّه نسي نهي النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقيّة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسي نهيه إيّاه عن انتهارهنّ في مقام آخر مرّ عليك آنفاً.

ثمّ إذا كان البكاء على الميّت حراماً، فلماذا أباح لنساء بني مخزوم أنْ يبكين على خالد بن الوليد(١) ؟ حتّى ذكر

____________________

(١) وبكى هو على النّعمان بن مقرن واضعاً يده على رأسه، كما نصّ عليه ابن عبد البرّ في ترجمة النّعمان من استيعابه، وفي أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد قال: ولمّا نعي النّعمان بن مقرن إلى عمر بن الخطاب وضع يده على رأسه وصاح: يا أسفاً على النّعمان!... وبكائه على أخيه زيد معلوم بالتواتر. ( المؤلّف ).

٢٠

محمّد بن سلام، كما في ترجمة خالد من الاستيعاب، أنّه لَم تبقَ امرأة من بني المغيرة إلاّ وضعت لمّتها ( أي حلقت رأسها ) على قبر خالد. وهذا حرام بلا ارتياب، والله أعلم.

٢١

المطلب الثاني: في رثاء الميّت بالقريض

ويظهر من القسطلاني في شرح البخاري(١) أنّ الجماعة يُفصِّلون القول فيه: فيحُرّمون ما اشتمل منه على مدح الميّت وذكر محاسنه الباعث على تحريك الحزن وتهييج اللوعة، ويبيحون ما عدا ذلك.

والحقّ إباحته مطلقاً؛ إذ لا دليل هنا يعدل بنا عن مقتضى الأصل، والنّواهي التي يزعمونها إنّما يُستفاد منها الكراهة في موارد مخصوصة، على أنّها غير صحيحة بلا ارتياب.

وقد رثى آدمعليه‌السلام ولده هابيل، واستمرّت على ذلك

____________________

(١) راجع: إرشاد الساري للقسطلاني ٣ / ٢٩٨، باب رثى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سعد بن خولي. ( المؤلّف ).

٢٢

ذريّته إلى يومنا هذا بلا نكير.

وأبقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه عليه، مع إكثارهم من تهييج الحزن به، وتفننهم بمدائح الموتى فيه، وتلك مراثيهم منتشرة في كتب الأخبار.

فراجع من الاستيعاب إنْ أردت بعضها أحوال: سيّد الشهداء حمزة، وعثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وشمّاس بن عثمان بن الشريد، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبي خراش الهذلي، وأياس بن البكير الليثي، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهم.

ولاحظ من الاصابة أحوال: ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب، وأبي زيد الطائي، وأبي سنان بن حريث المخزومي، والأشهب بن رميلة الدارمي، وزينب بنت العوام، وعبد الله بن عبد المدان الحارثي، وجماعة آخرين لا تحضرني أسماؤهم.

ودونك كتاب الدرة في التعازي والمراثي، وهو في أوَّل الجزء الثاني من العقد الفريد، تجد فيه من مراثي الصحابة ومن بعدهم شيئاً كثيراً.

وليس شيء ممّا أشرنا إليه إلاّ وقد اشتمل على ما يهيج

٢٣

الحزن، ويُجدّد اللوعة بمدح الميّت وذكر محاسنه.

ولمّا تُوفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تنافست فضلاء الصحابة في رثائه، فرثته سيّدة نساء العالمينعليها‌السلام بأبيات تهيج الأحزان.

ذكر القسطلاني(١) في إرشاد السّاري بَيتين منها، وهما قولهاعليها‌السلام :

ماذا على مَنْ شَمَّ تُربةَ أحمدٍ

أنْ لا يشمَّ مَدى الزَّمانِ غواليَا

صُبّتْ عليَّ مصائبٌ لو أنّها

صُبّتْ على الأيامِ صرنَ لياليَا

ورثته أيضاً بأبيات تثير لواعج الأشجان، ذكر ابن عبد ربّه المالكي بيتَين منها في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد، وهما:

إنّا فقدناكَ فقْدَ الأرضِ وابلها

وغابَ مُذْ غبتَ عنَّا الوحيُ والكُتبُ

فليتَ قبلكَ كان الموتُ صادَفَنا

لـمّا نُعيتَ وحالتْ دونكَ الكُثبُ

____________________

(١) إرشاد السّاري ٣ / ٢١٨، باب رثى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سعد بن خولي. ( المؤلّف ).

٢٤

ورثته عمّته صفيّة بقصيدة يائيّة، ذكر ابن عبد البرّ في أحوال النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله من استيعابه جملة منها.

ورثاه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المُطّلب بقصيدة لاميّة، ذكر بعضها صاحبا الاستيعاب والإصابة في ترجمة أبي سفيان المذكور.

ورثاه أبو ذويب الهذّلي - كما يعلم من ترجمته في الاستيعاب والإصابة - بقصيدة حائيّة، ورثاه أبو الهيثم بن التيهان بقصيدة داليّة، أشار إليها ابن حجر في ترجمة أبي الهيثم من إصابته، ورثته اُمّ رعلة القشيريّة بقصيدة رائيّة، أشار إليها العسقلاني في ترجمة اُمّ رعلة من إصابته، ورثاه عامر بن الطفيل بن الحارث الأزدي بقصيدة جيميّة، أشار إليها بن حجر في ترجمة عامر من الإصابة.

ومَن استوعب الاستيعاب، وتصفّح الإصابة واُسد الغابة، ومارس كتب الأخبار، يجد من مراثيهم المشتملة على تهييج الحزن بذكر محاسن الموتى شيئاً يتجاوز حدّ الإحصاء.

وقد أكثرت الخنساء، وهي صحابيّة، من رثاء أخَويها

٢٥

صخر ومعاوية، وهما كافران، وأبدعت في مدائح صخر، وأهاجت عليه لواعج الحزن، فما أنكر عليها منكر.

وأكثر أيضاً متمّم بن نويرة من تهييج الحزن على أخيه مالك في مراثيه السّائرة، حتّى وقف مرّة في المسجد، وهو غاص بالصحابة، أمام أبي بكر بعد صلاة الصبح واتّكأ على سيّة قوسه، فأنشد:

نِعمَ القتيلُ إذا الرِّياحُ تناوَحَتْ

خلفَ البُيوتِ قتلتَ يابنَ الأزورِ

ثمّ أومأ إلى أبي بكر، كما في ترجمة وثيمة بن موسى بن الفرات من وفيات ابن خلكان، فقال مخاطباً له:

أدعوتَهُ باللهِ ثُمَّ غدرتَهُ

لَو هُوْ دعاكَ بذمَّةٍ لَمْ يغدرِ

فقال أبو بكر: والله، ما دعوته ولا غدرته.

ثمّ قال:

ولَنِعمَ حشوَ الدّرعِ كانَ وحاسراً

ولَنعمَ مأوى الطَّارقِ المتنوِّرِ

لا يُمسكُ الفحشاءَ تحتَ ثيابِهِ

حلوٌ شمائلُهُ عفيفُ المئزَرِ

وبكى حتّى انحطّ عن سيّة قوسه، قالوا: فما زال يبكي حتّى دمعت عينه العوراء.

٢٦

فما أنكر عليه في بكائه ولا في رثائه منكر، بل قال له عمر - كما في ترجمة وثيمة من الوفيات -: لَوددتُ أنّك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك. فرثى مُتمّم بعدها زيد بن الخطاب فما أجاد، فقال له عمر: لِمَ لَمْ ترثي زيداً كما رثيت مالكاً؟ فقال: إنّه والله، لَيُحرّكني لمالك ما لا يُحرّكني لزيد.

واستحسن الصحابة ومَن تأخّر عنهم مراثيه في مالك، وكانوا يتمثّلون بها، كما اتّفق ذلك من عائشة إذ وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن، كما في ترجمته من الاستيعاب، فبكت عليه وتمثّلت:

وكُنّا كَندمانَي جذيمةَ حقبةً

من الدَّهرِ حتى قيلَ لَنْ يَتصدَّعَا

فلمَّا تَفَرّقنَا كأنِّي ومالكاً

لطولِ اجتماعٍ لَمْ نَبتْ ليلةً مَعَا

وما زال الرثاء فاشياً بين المسلمين وغيرهم في كلّ عصر ومصر لا يتناكرونه مطلقاً.

٢٧

المطلب الثالث: في تلاوة الأحاديث المشتملة على مناقب الميّت ومصائبه

كما كانت عليه سيرة السّلف، وفعلته عائشة إذ وقفت على قبر أبيها باكية، فقالت: كُنتَ للدُّنيا مُذلاً بإدبارك عنها، وكُنتَ للآخرة مُعزّاً بإقبالك عليها، وكان أجلّ الحوادث بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك.

وفعله محمّد بن الحنفيّة إذ وقف على قبر أخيه المجتبىعليه‌السلام ، فخنقته العبرة - كما في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد - ثمّ نطف فقال: يرحمك الله أبا محمّد، فإنْ عزّتْ حياتُكَ فقد هدّتْ وفاتُكَ، ولَنِعم الرّوح روح ضمّه بدنك، ولَنِعم البدن بدن ضمّه كفنك، وكيف لا تكون

٢٨

كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء؛ غذّتك أكفّ الحقّ، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً، وإنْ كانت أنفسنا غير طيّبة بفراقك، ولا شاكّة في الخيار لك. ثمّ بكى بكاءً شديداً، وبكى الحاضرون حتّى سمع نشيجهم(١) .

ووقف أمير المؤمنينعليه‌السلام على قبر خباب بن الأرت في ظهر الكوفة، وهو أوّل مَن دُفن هناك كما نصّ عليه ابن الأثير في آخر تتمّة صفين، فقال:« رَحم اللهُ خباباً، لقد أسلَمَ راغِباً وجاهَد طائِعاً، وعاش مُجاهِداً، وابتلى في جِسمِهِ أحوالاً، ولَنْ يضيع اللهُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً ».

ولمّا تُوفّي أميرُ المؤمنينعليه‌السلام ، قام الخلف من بعده أبو محمّد الحسن الزكيعليه‌السلام خطيباً، فقال، كما في حوادث سنة ( ٤٠ هـ ) من تاريخ ابن جرير وابن الأثير وغيرهما:« لَقد قَتلتُمْ اللَّيلَةَ رَجُلاً، والله، ما سَبقهُ أحَدٌ كانَ قَبلَه، ولا يُدركُهُ أحدٌ يكونُ بَعدهُ،

____________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٨ و ٣ / ١٩٧، تذكرة الخواصّ / ٢١٣.

٢٩

إنْ كانَ رسولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليبعَثَه في السّريّة وجبرئيلُ عَن يمينِهِ وميكائيلُ عَن يَسارِهِ، ما تَرَك صفراءَ ولا بَيضاءَ... » .

ووقف الإمام زين العابدين على قبر جدّه أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، فقال:« أشهدُ أنّكَ جاهدتَ في اللهِ حقَّ جِهادِه، وعملتَ بِكتابِه، واتّبعتَ سُننَ نبيِّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله حَتّى دَعاكَ اللهُ إلى جِوارِه، فقَبضَكَ إليهِ باختيارِه، لكَ كريمُ ثوابِهِ، وألزَمَ أعداءَكَ الحُجَّةَ مع ما لَكَ مِنْ الحُجَجِ البالِغةِ على جَميعِ خَلقِهِ » .

وعن أنس بن مالك، كما في العقد الفريد وغيره، قال: لمّا فرغنا من دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بكت فاطمةعليها‌السلام ونادت:« يا أبتاه! أجابَ ربّاً دَعاه، يا أبتاه! مِنْ ربِّهُ ما أدناه، يا أبتاه! إلى جِبرَئيل نَنعاهُ، يا أبتاه! جَنّةُ الفِردَوسِ مأواه ».

ولَو أردنا أنْ نستوفي ما كان من هذا القبيل، لخرجنا عن الغرض المقصود.

وحاصله : أنّ تأبين الموتى من أهل الآثار النافعة، بنشر مناقبهم وذكر مصائبهم، ممّا حكم بحسنه العقل والنّقل،

٣٠

واستمرّت عليه سيرة السّلف والخلف، وأوجبته قواعد المدنيّة، واقتضته اُصول الترقّي في المعارف؛ إذ به تُحفظ الآثار النافعة، وبالتنافس فيه تعرج الخطباء إلى أوج البلاغة.

والقول بتحريمه يستلزم تحريم قراءة التاريخ وعلم الرجال، بل يستوجب المنع من تلاوة الكتاب والسنَّة؛ لاشتمالهما على جملة من مناقب الأنبياء ومصائبهم، ومَن يرضى لنفسه هذا الحمق أو يختار لها هذا العمى؟! نعوذ بالله من سفه الجاهلين.

٣١

المطلب الرابع: في الجلوس حُزناً على الموتى من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة

وحسبك في رجحان ذلك، ما تواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الحزن الشديد على عمّه أبي طالب، وزوجته الصدِّيقة الكبرى اُمّ المؤمنينعليهما‌السلام ، وقد ماتا في عام واحد، فسُمّي: عام الحزن، وهذا معلوم بالضرورة من أخبار الماضين.

وأخرج البخاري في باب مَن جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن، من الجزء الأوّل من صحيحه، بالإسناد إلى عائشة، قالت: لمّا جاء النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله قتْلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة، جلس ( أي في المسجد، كما في رواية أبي داود ) يعرف فيه الحزن.

٣٢

وأخرج البخاري في الباب المذكور أيضاً، عن أنس قال: قنت رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شهراً حين قُتل القرآء، فما رأيته حزن حزناً قط أشدّ منه...(١) .

والأخبار في ذلك أكثر من أنْ تُحصى أو تُستقصى.

والقول: بأنّه إنّما يحسن ترتيب آثار الحزن إذا لَم يتقادم العهد بالمصيبة، مدفوعٌ: بأنّ من الفجائع ما لا تخبو زفرتها ولا تخمد لوعتها، فقرب العهد بها وبعده عنها سواء.

نعم، يتمّ قول هؤلاء اللائمين إذا تلاشى الحزن بمرور الأزمنة، ولم يكُنْ دليلٌ ولا مصلحة يوجبان التعبّد بترتيب آثاره.

وما أحسن قول القائل في هذا المقام:

خلّي اُميمةُ عَنْ مَلا

مِكِ ما المُعزّى كالثَّكولِ

ما الراقدُ الوسنانُ مِثْ

لُ مُعذَّبِ القلبِ العليلِ

____________________

(١) وأخرجه مسلم أيضاً في باب التشديد في النّياحة من صحيحه. ( المؤلّف ).

٣٣

سَهرانُ مِنْ ألمٍ وها

ذا نائمُ اللَّيلِ الطَّويلِ

ذوقِي اُميمةُ ما أذوْ

قُ وبعدهُ ما شئتِ قولِي

على أنّ في ترتيب آثار الحزن بما أصاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من تلك الفجائع، وحلّ بساحته من هاتيك القوارع، حكماً توجب التعبّد بترتيب آثار الحزن بسببها على كلّ حال، والأدلّة على ترتيب تلك الآثار في جميع الأعصار متوفّرة، وستسمع اليسير منها إنْ شاء الله تعالى.

وقد علمت سيرة أهل المدينة الطيّبة، واستمرارها على ندب حمزة وبكائه مع بعد العهد بمصيبته، فلم ينكر عليهم في ذلك أحد، حتّى بلغني أنّهم لا يزالوا إلى الآن إذا ناحوا على ميّت بدوا بالنّياحة عليه، وما ذاك إلاّ مواساة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمصيبته في عمّه، وأداء لحقّ تلك الكلمة التي قالها في البعث على البكاء عليه، وهي قوله:« ولكِنْ حَمزةَ لا بَواكِي لَه » .

وكان الأولى لهم ولسائر المسلمين مواساته في الحزن على أهل بيتهعليهم‌السلام ، والاقتداء به في البكاء عليهم، وقد لام بعضُ أهل البيتعليهم‌السلام مَنْ لم يواسِهم في ذلك، فقالعليه‌السلام :« يا للهِ

٣٤

لِقلبٍ لا يَنصدعُ لِتذكارِ تلكَ الاُمورِ! ويا عَجباً مِن غَفلةِ أهلِ الدّهور! وما عذرُ أهلِ الإسلامِ والإيمانِ في إضاعةِ أقسامِ الأحزانِ؟! ألم يعلموا أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله موتورٌ وجيعٌ، وحَبيبَهُ مقهورٌ صريعٌ؟!... » . وقالعليه‌السلام :«... وقَد أصبَحَ لَحمُهُ صلى‌الله‌عليه‌وآله مُجرّداً على الرّمالِ، ودَمُهُ الشّريفُ مَسفوكاً بِسيوفِ أهلِ الضّلالِ، فيا لَيتَ لِفاطمةَ وأبيها عيناً تنظرُ إلى بناتِها وبنيِها، وهُمْ ما بَينَ مَسلوبٍ وجَريحٍ، ومَسحوبٍ وذَبيحٍ... » . إلى آخر كلامهعليه‌السلام .

ومَن وقف على كلام أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا الشأن، لا يتوقّف في ترتيب آثار الحزن عليهم مدى الدوران، لكنّا منينا بقوم لا ينصفون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

٣٥

المطلب الخامس: في الإنفاق على الميّت في وجوه البرّ والإحسان

ويكفي في استحبابه عمومُ ما دلّ على استحباب مطلق المبرّات والخيرات، على أنّ فعل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقوله دالاّن على الاستحباب في خصوص المقام، وحسبك من فعله: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيهما(١) بطرق متعدّدة عن عائشة: ما غِرتُ على أحد من نساء النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكنْ كان النَّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يُقطّعها أعضاءً ثمّ يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلتُ له: كأنْ لَم يكن في الدُّنيا إلاّ خديجة! فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّما كانَتْ وكانَ لي مِنها ولدٌ » .

قلتُ: وهذا يدلّ على استحباب صلة أصدقاء الميّت

____________________

(١) فراجع من صحيح البخاري، باب تزويج النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة وفضلها، ومن صحيح مسلم، باب فضائل خديجة اُمّ المؤمنينعليها‌السلام . ( المؤلّف ).

٣٦

وأوليائه في الله عزّ وجل بالخصوص.

ويكفيك من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما أخرجه مسلم في باب وصول ثواب الصدقة عن الميّت إليه، من كتاب الزكاة، في الجزء الأوّل من صحيحه بطرق متعدّدة، عن عائشة: أنّ رجلاً أتى النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: يا رسول الله، إنّ اُمّي افتلتت(١) نفسها ولَم توصِ، أفلها أجر إنْ تصدّقتُ عنها؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« نعَمْ » .

ومثله: ما أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عبّاس، في ص٣٣٣ من الجزء الأوّل من مسنده، من أنّ سعد بن عبادة قال: إنّ ابن بكر أخا بني ساعدة تُوفّيت اُمّه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إنّ اُمّي تُوفّيتْ وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقتُ بشيء عنها؟ قال:« نعَمْ » . قال: فإنّي اُشهدك أنّ حائطَ المخرف صدقة عليها.

والأخبار في ذلك متضافرة، ولا سيّما من طريق العترة الطاهرةعليهم‌السلام (٢) .

____________________

(١) أي: ماتت فجأة وأخذت نفسها فلتة.(موقع معهد الإمامَين الحسَنين)

(٢) وربما كان المُنكِر علينا فيما نفعله من المبرّات عن الحسينعليه‌السلام ، لا يقنع بأقوال النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا بأفعاله، وإنّما تقنعه أقوالُ سلفه وأفعالهم، وحينئذٍ نحتجّ عليه بما فعله الوليد بن عقبة بن أبي معيط الاُموي، إذ مات لبيد بن ربيعة العامري الشاعر، فبعث الوليد إلى منزله عشرين جزوراً، فنُحرت عنه، كما نصّ عليه ابن عبد البر في ترجمة لبيد من الاستيعاب ( المؤلّف ).

٣٧

فصلٌ: مآتمنا المختصّة بسيّد الشهداءعليه‌السلام

كلّ مَن وقف على ما سلف من هذه المُقدّمة، يعلم أنّه لا وجه للإنكار علينا في مآتمنا المختصّة بسيّد الشهداءعليه‌السلام ؛ ضرورة أنّه لا تشتمل إلاّ على تلك المطالب الخمسة، وقد عرفت إباحتها بالنّسبة إلى مطلق الموتى من كافّة المؤمنين.

وما أدري كيف يستنكرون مآتم انعقدت لمواساة

٣٨

النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واُسّست على الحزن لحزنه؟! أيبكي - بأبي هو واُمّي - قبل الفاجعة، ونحن لا نبكي بعدها؟! ما هذا شأن المتأسّي بنبيّه والمقتصّ لأثره، إنّ هذا إلاّ خروج عن قواعد المتأسّين، بل عدول عن سنن النّبيِّين.

بكاء النَّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسينعليه‌السلام في مصادر العامّة:

ألم يروِ الإمام أحمد بن حنبل من حديث عليٍّعليه‌السلام في مسنده ١ / ٨٥، بالإسناد إلى عبد الله بن نجا عن أبيه: أنّه سار مع عليٍّعليه‌السلام ، فلمّا حاذى نينوى، وهو منطلق إلى صفين، نادى:« صَبراً أبا عبدِ اللهِ، صبراً أبا عبدِ اللهِ بِشطِّ الفُرات » . قال: قلتُ: وما ذاك؟ قالعليه‌السلام :« دَخلتُ على رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذاتَ يومٍ وعيناهُ تفيضان، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، ما شأنُ عينَيكَ تفيضان؟ قال: قامَ من عندِي جبرئيلُ قبلُ، فحدّثني أنّ ولدِي الحُسينَ يُقتل بشطِّ الفُراتِ. قال: فقال: هل لك إلى أنْ أشمّكَ مِنْ تُربتِهِ؟ قال: قلتُ: نعمْ. فمدَّ يدَهُ فقَبضَ قبضةً مِن تُرابٍ

٣٩

فأعطانيهِ، فلَمْ أملك عَينَيَّ إنْ فاضتا » (١) .

وأخرج ابن سعد، كما في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر من الصواعق المحرقة لابن حجر(٢) ، عن الشعبي، قال: مرّ عليٌّرضي‌الله‌عنه بكربلاء عند مسيره إلى صفين، وحاذى نينوى، فوقف وسأل عن اسم الأرض، فقيل: كربلاء. فبكى حتّى بلّ الأرض من دموعه، ثمّ قال:« دَخلتُ على رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يبكِي، فقلتُ: ما يُبكيك - بأبي أنت واُمّي -؟ قال: كانَ عندي جِبرائيلُ آنفاً، وأخبرني أنّ ولديَ الحسينَ يُقتلُ بشاطئِ الفُراتِ، بمَوضعٍ يُقال لَهُ كربَلاء » (٣) .

____________________

(١) الصواعق المحرقة ٢ / ٥٦٦، وراجع أيضاً: مسند أبي يعلى / ٣٦٣، مسند البزّار / ٨٨٤، والذخائر للمُحب الطبري / ١٤٨، المعجم الكبير / ٢٨١١، مجمع الزوائد ٩ / ١٨٧، وقال: رجالُه ثقات. سِيَر أعلام النُّبلاء ٣ / ٢٨٨.

(٢) كلّ ما ننقله في هذا المقام عن الصواعق، من هذا الحديث وغيره، موجود في أثناء كلامه في الحديث الثلاثين من الأحاديث التي أوردها في ذلك الفصل، فراجع. ( المؤلّف ).

(٣) الصواعق المحرقة ٢ / ٥٦٦، وراجع أيضاً: المعجم الكبير للطبراني / ٢٨١١، مجمع الزوائد ٩ / ١٨٧، وقال: رجالُه ثقات.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126