مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)0%

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 272

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ كاظم البهادلي
تصنيف: الصفحات: 272
المشاهدات: 40500
تحميل: 5866


توضيحات:

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام) المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 272 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40500 / تحميل: 5866
الحجم الحجم الحجم
مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لهشام منبراً، فجلس عليه وأطافوا به، ولكنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام عندما جاء بتلك الهيبة الإلهية، وبذلك النور الربّاني، وطاف إلى أن بلغ إلى موضع الحَجَر تنحّى الناس حتى يتسلّمه هيبة له.

فقال الشامي: مَنْ هذا يا أمير المؤمنين؟

فقال: لا أعرفه؛ لئلاّ يرغب فيه أهل الشام.

فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكنّي أعرفه.

فقال الشامي: مَنْ هو يا أبا فراس؟

فأنشأ الفرزدق:

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَه

والبيتُ يعرفُه والحِلُّ والحَرَمُ

هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهم

هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العَلَمُ

إلى أن يقول:

وليس قولُكَ مَنْ هذا؟ بضائرِهِ

العربُ تعرفُ مَنْ أنكرتَ والعجمُ

هذا ابنُ فاطمةٍ إنْ كنتَ جاهلَهُ

بجدِّه أنبياءُ اللهِ قد خُتِمُوا

إن عُدَّ أهلُ التقى كانوا أئمَّتَهُم

أو قيلَ مَنْ خيرُ أهلِ الأرضِ؟ قيل هُمُ

ما قالَ لا قطُّ إلاّ في تشهدّهِ

لولا التشهدُ كانت لاؤهُ نَعَمُ

فغضب هشام ومنع جائزته، فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام فبعث إليه باثني عشر ألف درهم، وقال: « اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به».

فَردَّها وقال: يابن رسول الله، ما قلت الذي قلت إلاّ غضباً لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ(1) عليه

____________________

1- أرزأ: أصاب منه خيراً.

١٠١

شيئاً.

فردَّها إليه، وقال: « بحقّي عليك لما قبلتها، فقد رأى الله مكانك وعلم نيّتك».

فقبلها(1) .

وفي رواية أنّه لمّا طال الحبس عليه، وكان هشام يوعده بالقتل، شكا إلى الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام ، فدعا له فخلّصه الله، فجاء إليه وقال: يابن رسول الله، إنّه محا اسمي من الديوان.

فقال: « كم كان عطاؤك؟».

قال: كذا، فأعطاه لأربعين سنة، وقالعليه‌السلام : « لو علمت أنّك تحتاج إلى أكثر من هذا لأعطيتك».

فمات الفرزدق بعد أن مضى أربعون سنة(2) .

قال الشيخ القمّي في منتهى الآمال: اسم الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي المجاشعي، وكنيته أبو فراس، ولقبه الفرزدق، وهو من أعيان شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ومدّاح أهل البيت، وله سلف صالح ذو مفاخر باهرة.

وفي الإصابة: أنّه وفَدَ غالب - أبو الفرزدق، وكان من كرماء عصره، ولديه من الإبل ما لا يُحصى - على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو في البصرة، ومعه ابنه الفرزدق، قالعليه‌السلام : « مَنْ هذا الفتى معك؟».

قال: ابني الفرزدق، وهو شاعر.

فقال: « علّمه القرآن، فإنّه خير له من الشعر».

فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيد نفسه، وآلى أن يحلّ نفسه حتى يحفظ القرآن.

وبملاحظة هذه القصيدة التي تبلغ أربعين بيتاً، يُعلَم مدى تسلّطه على فنّ

____________________

1- الاختصاص / 193 - 194، أمالي السيد المرتضى 1 / 49، تاريخ مدينة دمشق 41 / 403، تهذيب الكمال 20 / 402، بحار الأنوار 46 / 127.

2- الخرائج والجرائح 1 / 267 ح1، مدينة المعاجز 4 / 394، بحار الأنوار 46 / 141.

١٠٢

الشعر والأدب، وتبحّره فيهما، سيّما إذا كان على نحو الارتجال.

ونقل المحقّق البهباني عن جدّه تقي المجلسي (رضوان الله عليهما) أنّ عبد الرحمن الجامي - وهو سنّي المذهب - نظم هذه القصيدة بالفارسية في سلسلة الذهب، وذكر أنّ امرأة رأت الفرزدق في المنام بعد موته، فسألته عن صنع الله به، فقال: قد غفر الله لي بسبب تلك القصيدة التي أنشأتها في مدح علي بن الحسينعليه‌السلام .

ثُمَّ قال الجامي: من الجدير أن يغفر الله لجميع المخلوقات بسبب تلك القصيدة الغرّاء(1) .

لكنّ البعض لا يستطيع أن يتحمّل ذلك ويصبر عليه أمثال الحجّاج (لعنه الله) الذي كان والياً على الحجاز، حيث كتب إلى عبد الملك بن مروان: إذا أردت أن تثبت ملكك، فاقتل علي بن الحسين.

فكتب إليه عبد الملك: أمّا بعد، جنبّني دماء بني هاشم واحقنها؛ فإنّي رأيت آل أبي سفيان لمّا أولغوا فيها لم يلبثوا إلى أن أزال الله الملك(2) .

فلمّا هلك عبد الملك، وجلس ابنه الوليد على سرير الخلافة جعل يحتال في قتل إمامنا زين العابدينعليه‌السلام ؛ ولذلك بعث سمّاً قاتلاً إلى والي المدينة، وأمره أن يقتله بالسُمّ سرّاً، ففعل الوالي.

فلمّا سُقي إمامنا زين العابدين من السُمّ مَرِض مرضاً شديداً، وصار يُغشى عليه ساعة بعد ساعة حتى كانت ليلة

____________________

1- منتهى الأمال 2 / 48 - 49.

2- بصائر الدرجات / 417، الثاقب في المناقب / 361، الخرائج والجرائح 1 / 256، بحار الأنوار 46 / 28، 44، 119.

١٠٣

وفاته - الليلة الخامسة والعشرون من شهر محرّم الحرام سنة 95هـ - غُشِيَ عليه في تلك الليلة ثلاث مرّات، فلمّا أفاق من غشيته الأخيرة تلا هذه الآية:( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) (1) .

ثمّ دعا ولده الإمام الباقرعليه‌السلام وأوصى إليه بوصاياه، فأوّل ما أوصاه كما قال الإمام الباقرعليه‌السلام : « ضمّني أبي إلى صدره الشريف وقال: يا بُني، أوصيك بما أوصاني به أبي الحسين حين حضرته الوفاة، وقال: إنّ أباه أوصاه به قال: يا بُني إيّاك وظلم مَنْ لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله(2) ، وقال: يا بُني، إذا مِتُّ فلا يلي غسلي غيرك؛ فإنّ الإمام لا يلي غُسله إلاّ إمام مثله يكون بعده».

وكان في تلك الليلة يقول لولده الباقرعليه‌السلام : « هذه الليلة هي التي وعدتها، فإذا قضيتُ نحبي، فغسّلني وحنّطني وادفني».

ثُمَّ مَدّوا عليه الثوب، وفاضت روحه الطاهرة، رحم الله مَنْ نادى: وا إماماه! وا مسموماه! وا سيّداه!

____________________

1- سورة الزمر / 74.

2- الكافي 2 / 331 ح5، الخصال / 16 ح59، أمالي الشيخ الصدوق / 249 ح10، بحار الأنوار 46 / 153 ح16 عن الكافي.

١٠٤

طول الليل ما فتّر ونينه

بعد ما صد لبو جعفر ابعينه

يبويه أمودّعين الله گضينه

بچوا حنّوا حنين افراگ شفجين

أويلي من گظه السجّاد يومه

حنّ أمحمّد أوهاجت اهمومه

يحگله لوبچه اومنهو اليلومه

فارگ طود عز اوعَلَم للدين

وبالفعل قام إمامنا الباقرعليه‌السلام فغسّل والده، بينما هو كذلك إذ تنحّى الإمام جانباً وأخذ في البكاء، فقيل له: ما يبكيك يابن رسول الله؟

قالعليه‌السلام : « أبكي لما أرى من آثار الجامعة التي وضِعت على صدره، والغِلّ الذي في يديه».

ساعد الله قلبك يا مولاي، ثُمَّ حُمِلتْ جنازة الإمام للصلاة عليها فصلّى عليه الإمام الباقرعليه‌السلام ، وصلّى الناس عليه، البرّ والفاجر، الصالح والطالح، وانهال الناس يتّبعون الجنازة حتى لم يبقَ أحد إلاّ وشارك في تشييعه، ودُفن في البقيع مع عمّه الحسنعليه‌السلام .

أويلي:

شاله للبقيع أوحفر گبره

يم عمّه الحسن وأمّه الزهره

ظل إعليه يجري الدمه عبره

لمن سمّه هشام أومات بالسم

عليه صاحت الوادم فرد صيحه

أوگام أوغسّله أوحطه إبضريحه

بس جثة السبط ظلت طريحه

اوبالخيل الصدر منّه تهشم

١٠٥

وكأنّي بالحوراء زينبعليها‌السلام :

هوت يمّه تشم كسر البضلعه

اخوي الما طبع يشبه الطبعه

غابت روحها أوفزّت تودعه

أولن راسه إبراس الرمح يزهر

(أبوذية)

إلك شيعه بچت يحسين ورثت

او نارك بالگلب يحسين ورثت

يخويه داركم للحزن ورثت

اوعليك النوح كل صبح أومسيه(1)

* * *

(تخميس)

وقفتُ على خيرِ الديار مسلّما

ونفلي بها بعد الفروض متمّما

وقد صار غسلي دون ماءٍ تيمّما

فإنّي بوادي الطفّ أصبحتُ مُحرما

أطوف ببيتٍ والحسين ذبيحُه

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم،

وسيعلم الذين ظلموا آل مُحَمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون

والعاقبة للمتقين.

____________________

1- مجمع المصائب 4 / 186 - 189.

١٠٦

المجلس السابع

في الإمام مُحَمَّد الباقرعليه‌السلام

١٠٧

١٠٨

المجلس السابع: في الإمام مُحَمَّد الباقرعليه‌السلام

يا راكباً يقطعُ جَورَ الفلا

على أمونٍ حسرة خامرِ

عرّج على طيبةَ وانزل بها

وقفْ مقامَ الضّارعِ الصّاغِر

وقبّلِ الأرضَ وسِفْ تُربَها

واسجُدْ على ذاك الثّرى الطّاهِر

وعُجْ على أرضِ البقيعِ الذّي

تُرابُه يجلو قذى النّاظرِ(1)

واذرِ دمُوعَ العَينِ فيها دما

على ضريح السّيّد الباقرِ

على إمامٍ ما جرى ذكرُه

في خاطري إلاّ جرى ناظري

على إمامٍ لم يدعْ رزُؤهُ

صَبراً لجلدٍ في الورى صابرِ

على إمامٍ هدَّ أركانَ الهُدى

مُصابُه بالقاسمِ الفاخرِ(2)

____________________

1- هذه الأبيات الأربعة الأولى للشيخ الأربلي (رحمه الله): وهو بهاء الدين أبو الحسن علي بن عيسى فخر الدين بن أبي الفتح الأربلي، و(الأربلي) نسبة إلى إرْبِل - بكسر الهمزة وسكون الراء المهملة وكسر الباء الموحدّة - وهي مدينة معروفة بشمال العراق أكثر أهلها أكراد قد استعربوا، وهي الآن اسم لأحدى محافظات العراق مركزها هذه المدينة المسمّاة بنفس الاسم.

ولد ما بين سنتي 620 - 625 هـ، نشأ الشيخ الأربلي نشأة علمية صالحة، فكان عالماً وأديباً، وشاعراًَ بديعاً في شعره وأدبه.

له مؤلّفات عديدة أشهرها كتابه (كشف الغُّمة في معرفة الأئمّةعليهم‌السلام ).

توفي سنة 692هـ ببغداد ودُفن فيها بداره المطلّة على نهر دجلة. (انظر مقدّمة كتابه كشف الغُمّة 1 / 5 - 22).

2- هذه الأبيات الأربعة الأخيرة للسيد محسن الأمين (رحمه الله): وهو أبو محمد الباقر محسن بن الصالح العابد السيد عبد الكريم، المنتهي نسبه إلى الحسين ذي الدمعة ابن زيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين ابن الإمام الحسين الشهيدعليهما‌السلام .

ولد في قرية شقراء من بلاد جبل عامل سنة 1284هـ، وأصل هذه العائلة من الحلّة، جاء أحد الأجداد منها إلى جبل عامل بطلب من أهلها؛ ليكون مرجعاً دينياً ومرشداً.

كان لأبويه الفضل الأكبر في تربيته وتفريغه لطلب العلم. عاصر السيّد الأمين مجموعة من مشاهير العلماء في العراق أيام كان في

١٠٩

(قطيفي)

بطَّل ونينه واغمّض الباقر العينين

أوضجّت عليه أهل المدينه أوزاد الحنين

أرض المدينه إعليه ضجّت كلّ أهلها

أوبعده الهواشم مظلمه أو موحش نزلها

الزلم تبچي والنسه اتحيّر بونها

والكلّ ينادي سدّوا أبواب الميادين

شالوه الگبره أوگامت اتنوح النوايح

أوكلّ البلاد ارتجّت بكثر الصوايح

وَسِّده الصادق بگه على الترب طايح

مثل السبط جدّه وأهل بيته الميامين

____________________

=

النجف الأشرف منهم الشيخ محمد كاظم الخراساني، والشيخ آقا رضا الهمداني.

للسيد الأمين من المؤلّفات ما يربو على الثلاثين من أشهرها (أعيان الشيعة)، وله أشعار عديدة ومؤلّفات في المراثي والمدح منه هذه الأبيات التي ذكرناها أعلاه.

توفّي السيّد محسن الأمين (رحمه الله) في رجب سنة 1371هـ في بيروت، ونُقل جثمانه بتشييع عظيم إلى دمشق حيث دُفن هناك. (من مقدّمة كتابه إقناع اللائم / 22 - 28).

١١٠

وَسّد الصادق والده الباقر ابلحده

إبيومه أونصب ماتم إبداره خلاف فگده

لاچن إنشدني عن أبو السجّاد جدّه

يمته اندفن والماتم إعليه إنصب وين

* * *

عليه صاحت الوادم فرد صيحه

الصادق غسّله أوحطّه بضريحه

بس جثة السبط ظلّت طريحه

أوبالخيل الصدر منّه تهشّم

* * *

روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « إذا فَارَقَ الحُسينُ الدُّنيا، فالقائِمُ بالأمرِ بعدَهُ عليٌ ابنُه، وهو الحُجّةُ والإمامُ، وسَيُخرِجُ اللهُ مِن صُلبِ علي ابناً، اسمُهُ اسمِي، وعِلمُهُ عِلمِي، وحُكمُهُ حُكمِي، وهو أشبهُ الناسِ إليَّ، وهو الإمام والحُجّةُ بعدَ أبيه»(1) .

حياة الأئمّة الأطهار (عليهم صلوات الملك الجبّار) طافحة بالعلم والحِكَم، والعبادة والأدب مع الله، ومع رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومع الناس؛ الصديق منهم والعدوّ على حدّ سواء.

ومن هذه الشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، الإمام الباقرعليه‌السلام وهو الإمام الخامس من الأئمّة الاثني عشر،

____________________

1- كفاية الأثر / 164.

١١١

الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والمعصوم السابع من المعصومين الأربعة عشر.

ويكفينا معرفة بهعليه‌السلام الرواية التي صدّرنا بها المجلس، والتي جاء فيها عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ اسمه اسمي، وعلمه علمي، وحكمه حكمي، وهو أشبه الناس إليّ، وهو الإمام والحجّة بعد أبيه.

ولا يمكن لنا في ساعة، بل ولا حتى ساعات أن نحيط علماً بهكذا معصوم، ولكن لا بأس أن نتعرّف على شخصيّة هذا الإمامعليه‌السلام عن طريق ما وصلنا من أخبار شريفة، وآثار تاريخيّة نفيسة، من ولادته وحتى شهادتهعليه‌السلام .

وُلِدَ الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام في الثالث من شهر صفر سنة 57هـ، أو أوّل شهر رجب بالمدينة المنوّرة، وكانعليه‌السلام حاضراً في وقعة الطفّ وعمره أربع سنين.

أُمّه الماجدة فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ، وقيل لها: أُمّ عبد الله، فأصبحعليه‌السلام ابن الخيرتين، وعلويّاً من علويّين، ويكفي في فضلها ما رواه في الكافي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: « كانت أُمّي قاعدة عند جدار، فتصدّع الجدار وسمعنا هدّة شديدة، فقالت بيدها: لا وحقّ المصطفى ما أَذِن الله لك في السقوط، فبقي معلّقاً حتى جازته، فتصدّق عنها أبيعليه‌السلام بمئة دينار»(1) .

____________________

1- الكافي 1 / 469 ح1، دعوات الراوندي / 68 ح165، مناقب آل أبي طالب 3 / 323، بحار الأنوار 46 / 215 ح14 عن الدعوات.

١١٢

وذكرها الإمام الصّادقعليه‌السلام يوماً، فقال: « كانت صدّيقة، لم يُدرَك في آل الحسنعليه‌السلام امرأة مثلها»(1) .

اسمه الشريف: مُحَمّد. وكنيته: أبو جعفر. وألقابه: الشريف، والباقر، والشاكر، والهادي. وأشهر ألقابهعليه‌السلام الباقر. وقد لقبّه به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما ورد في رواية سفينة عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسينعليه‌السلام ، يُقال له: مُحَمّد، يبقر علم الدين بقراً، فإذا لقيته فاقرأه منّي السّلام»(2) .

وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن عمرو بن شمر قال: سألت جابر بن يزيد الجعفي، فقلت له: ولِمَ سُمِّي الباقر باقراً؟

قال: لأنّه بقر العلم بقراً، أي شقّه شقّاً، وأظهره إظهاراً، ولقد حدّثني جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه سَمِع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « يا جابر، إنّك ستبقى حتى تلقى ولدي مُحَمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف في التوراة بباقر، فإذا لقيته فاقرأه منّي السّلام».

فلقيه جابر بن عبد الله الأنصاري في بعض سكك المدينة، فقال له: يا غلام مَنْ أنت؟

قال: « أنا مُحَمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب».

____________________

1- الكافي 1 / 469، باب مولد أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ح1، مناقب آل أبي طالب 46، 215 ح14، دعوات الراوندي / 69 ضمن ح165، عنه بحار الأنوار 46 / 215 ح14.

2- الإرشاد 2 / 159، روضة الواعظين / 202، إعلام الورى 1 / 505، كشف الغمّة 2 / 336، بحار الأنوار 46 / 222 ح6.

١١٣

فقال له جابر: يا بني، أقبل فأقبل، ثُمَّ قال: أدبر فأدبر، فقال: شمائل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وربّ الكعبة، ثُمَّ قال: يا بُنِي، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقرئك السّلام.

فقال: « على رسول الله السّلام ما دامت السماوات والأرض، وعليك يا جابر بما بلّغت السّلام».

فقال له جابر: يا باقر، يا باقر، أنت الباقر حقّاً، أنت الذي تبقر العلم بقراً.

ثمّ كان جابر يأتيه فيجلس بين يديه فيعلِّمه، فربما غلط جابر فيما يحدّث به عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيردّ عليه ويذكّره، فيقبل ذلك منه، ويرجع إلى قوله وكان يقول: يا باقر، يا باقر، يا باقر، أشهد بالله إنّك قد أوتيت الحكم صبيّاً(1) .

وكان جابر قد التقى بالإمامعليه‌السلام أكثر من مرّة، وهذا ما أشارت إليه الرواية المتقدّمة التي ذكرت أنّ جابر قال له: أقبل فأقبل... إلى أخره؛ فأنّها دالّة على أنّ جابراً كان يبصر.

وفي بعض النصوص أنّ جابراً فقد البصر كما في زيارته لقبر المولى أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فالرواية السابقة متعلّقة بما قبل فقده للبصر، والتقاه بعدها بعدما فقد بصره، كما ذكر ذلك الشيخ المفيد (رحمه الله) عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: « دخلت على جابر بن عبد الله فسلّمت عليه، فردّ عليَّ السّلام، وقال لي: مَنْ أنت؟ وذلك بعد ما كفّ بصره»(2) .

____________________

1- علل الشرائع 1 / 233 - 234، عنه بحار الأنوار 46 / 225 ح4.

2- الإرشاد 2 / 158.

١١٤

ولو تأمّلنا في مكارم أخلاقه وفضائله ومناقبهعليه‌السلام ، لعرفنا حقيقة مقال الصادق الأمين، والرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقد روى الشيخ المفيد وغيره عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « إنّ مُحَمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى مثل علي بن الحسينعليه‌السلام يدع خلفاً؛ لفضل علي بن الحسينعليه‌السلام حتى رأيت ابنه مُحَمّد بن علي، فأردت أن أعظه فوعظني.

فقال له أصحابه: بأيّ شيء وعظك؟

قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيت مُحَمّد بن عليعليه‌السلام ، وكان رجلاً بديناً، وهو متكئ على غلامين له أسودين أو موليين له، فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة، على هذه الحال في طلب الدنيا لأعظنّه، فدنوت منه فسلّمت عليه، فسلّم عليَّ بنهر وقد تصبّب عرقاً.

فقلت: أصلحك الله! شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟

قال: فخلى عن الغلامين من يده ثُمَّ تساند، وقال: لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعةٍ من طاعات الله، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله.

فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني»(1) .

____________________

1- الكافي 5 / 73 - 74 باب ما يجب بالاقتداء بالأئمّةعليهم‌السلام ح1، تهذيب الأحكام 6 / 325 ح15، الإرشاد 2 / 161 - 162، إعلام الورى 1 / 507 - 508، كشف الغمة 2 / 337، وسائل الشيعة 17 / 19 ح1، بحار الأنوار 46 / 287 ح5.

١١٥

فانظروا إلى تواضعه في طلب الرزق مع أنّه كان بإمكانه الاعتماد على غيره فيكفيه أمره.

وقال له نصراني: أنت بقر؟

قال: « لا، أنا باقر».

قال: أنت ابن الطبّاخة؟

قال: « ذاك حرفتها».

قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذيّة(1) ؟

قال: « إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك».

قال: فأسلم النصراني(2) .

وأمّا معاجزهعليه‌السلام فقد حيّرت العقول، وأذهلت الألباب، نكتفي بذكر بعضها:

روى القطب الراوندي بسنده عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام أنا مولاك، ومن شيعتك، ضعيف ضرير، اضمن لي الجنّة.

قال: « وتحبّ ذلك؟».

قلت: كيف لا أحبّ، فما زاد أن مسح على بصري، فأبصرت جميع الأئمّةعليهم‌السلام عنده.

قال: « يا أبا مُحَمّد، مُدّ بصرك فانظر ماذا ترى بعينك؟».

قال: فو الله، ما أبصرت إلاّ كلباً وخنزيراً وقرداً، قلت: ما هذا الخلق الممسوخ؟

قال: « هذا الذي ترى، هذا السواد الأعظم، لو كشف الغطاء للناس ما نظر الشيعة إلى مَنْ خالفهم إلاّ في هذه الصورة».

ثُمَّ قال: « يا أبا مُحَمّد، إن أحببت

____________________

1- ولا يخفى على اللبيب أنّ هذا النصراني كان همّه شتم الإمام والنيل منه، وإلاّ فما ذكره ليس سديداً؛ فأُمّ الإمام ليست من الجواري؛ لأنّها من بنات الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ، ولا هي سوداء، ولكن ديدن الذين يريدون الانتقاص من الآخرين هو إطلاق ما يشتهون، فيصفون الجميل بالقبيح، والعالم بالجاهل وهكذا.

2- مناقب آل أبي طالب 3 / 337، بحار الأنوار 46 / 289.

١١٦

تركتك على حالك هكذا وحسابك على الله، وإن أحببت ضمنت لك على الله الجنّة ورددتك إلى حالتك الأولى».

قلت: لا حاجة لي إلى النظر إلى هذا الخلق المنكوس، ردّني ردّني، فما للجنّة عوض، فمسح على عيني فرجعت كما كنت(1) .

وفي مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني (رحمه الله): عن جابر بن يزيد الجعفي قال: خرجت مع أبي جعفرعليه‌السلام وهو يريد الحيرة، فلمّا أشرفنا على كربلاء، قال لي: « يا جابر، هذه روضة من رياض الجنّة لنا ولشيعتنا، وحفرة من حفر جهنم لأعدائنا».

ثُمَّ قضى ما أراد، والتفت إليّ وقال: « يا جابر».

قلت: لبيك.

قال لي: « تأكل شيئاً؟».

قلت: نعم، فأدخل يده بين الحجارة فأخرج لي تفاحة لم أشمّ قطّ رائحة مثلها، لا تشبه فاكهة الدنيا، فعلمت أنّها من الجنّة فأكلتها، فعصمتني عن الطعام أربعين يوماً لم آكل ولم أحدث(2) .

فهكذا كانت حياته الشريفة مملوءة بالعلم والمعرفة، والفضائل والمعاجز، والكرامات الباهرة والآيات الظاهرة، لكن بما أنّ هذا لا يتماشى مع سياسة الظالمين وحسد الحاسدين، فأخذوا يتحينّون له الفرصة المؤاتية لقتله والقضاء عليهعليه‌السلام .

فقد روى السيد ابن طاووس (رحمه الله) بسنده عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: حجّ

____________________

1- الخرائج والجرائح 2 / 821 - 822 ح35، مختصر بصائر الدرجات / 112، مدينة المعاجز 5 / 187 ح138، بحار الأنوار 27 / 30 ح1 و46 / 284 - 285 ح88.

2- مدينة المعاجز 5 / 12 ح10، دلائل الإمامة / 221 ح9، نوادر المعجزات / 135 - 136 ح6.

١١٧

هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين، وكان قد حجّ في تلك السنة مُحَمّد بن علي الباقر وابنه جعفر بن مُحَمّدعليهما‌السلام ، فقال جعفر بن مُحَمّدعليه‌السلام : « الحمد لله الذي بعث مُحَمّداً بالحقِّ نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله، وخلفاؤه على خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد مَنْ اتّبعنا، والشقيّ مَنْ عادانا وخالفنا».

ثُمَّ قال: « فأخبر مسلمة أخاه (هشام) بما سمع، فلم يُعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي، فأشخصنا، فلمّا وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثاً، ثُمَّ أذن لنا في اليوم الرابع، فدخلنا وإذا قد قعد على سرير الملك، وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطان متسلحان»(1) ... الخبر.

فأخذ يتحين للإمامعليه‌السلام الفرصة المناسبة لقتله، والتخلّص منه حسداً وحقداً؛ لأنّه من تلك الشجرة الطاهرة، وهشام من الشجرة الملعونة، وقد حاججه الإمامعليه‌السلام وناظره، وكشف حقائق كثيرة.

فمن هذا كلّه تولّدت عند هذا الظالم الكافر فكرة قتل الإمامعليه‌السلام والقضاء عليه، وفي شهر ذي الحجّة الحرام سنة (114) هـ دسّ الظالم هشام بن عبد الملك إليه السّم، قيل: في طعامه، وقيل: في شرابه، وقيل: في سرج دابته، كما يُروَى عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، فوقع من ذلك السّم في فراشه

____________________

1- الأمان من أخطار الأسفار / 66، دلائل الإمامة / 233 ح26، مدينة المعاجز 5 / 66 ح66، بحار الأنوار 46 / 306 ح1، وج69 / 181 ح9 عن دلائل الإمامة.

١١٨

متورّم الجسد، ثُمَّ عاش بعد ذلك ثلاثة أيام، فلمّا كانت ليلة وفاته جعل يناجي ربّه، وأمر بأكفان له، وكان فيه ثوب أحرم فيه قال: « اجعلوه في أكفاني»(1) .

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ناداني بعد فراغه من مناجاته، وقال: يا بني، إنّ هذه الليلة التي أُقبض فيها».

وفي بعض المقاتل: إنّه لمّا حان حينه، وتيقّن وفاته أوصى إلى ابنه أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام بجميع ما يحتاج إليه الناس، وسلّم إليه ما كان عنده من مواريث الأنبياء وسلاح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

ورُوِي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « كنت عند أبيعليه‌السلام في اليوم الذي قُبِض فيه، فأوصاني بأشياء في غسله وكفنه، وفي إدخاله قبره، قلت: جعلت فداك! والله يا أبتاه ما رأيتك منذ اشتكيت أحسن هيئة من اليوم، وما أرى عليك أثر الموت»(3) .

وبعد ما أكمل أمامنا وصيته، وكان يوم السابع من شهر ذي الحجّة الحرام، تهيّأ للقاء ربّه، فغمّض عينيه، ومدّد يديه ورجليه، وعرق جبينه، وسكن أنينه، وفاضت روحه الطاهرة. وا إماماه! وا سيّداه!

____________________

1- الخرائج والجرائح 2 / 604، مدينة المعاجز 5 / 168، بحار الأنوار 46 / 331.

2- وفيّات الأئمّة / 215.

3- كشف الغمّة 2 / 352.

١١٩

سره السّم إبّدن راعي الحميه

طول الليل ما نام الشفيه

يون إيلوج لوجات المنيه

حن ابنه عليه أو هملت العين

حن ابنه او وضع ليه الوصيه

گام إيودّعه أوداع المنيه

يوم المات إبن سيد البريه

دوت بالنوح دور الهاشميين

يقول بعض أرباب العزاء: ومن وصايا الإمام الباقرعليه‌السلام لولده أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، والتي أوصاه أن يعمل بها بعد شهادته: أن يسرج ضياء.

قال: « بني وأسرج في داري ضياءً؛ فإنّ الروح تعود إلى الدار، فإنّ كانت مضيئة استأنست، وإن كانت مظلمة استوحشت».

فأسرج الإمام الصادقعليه‌السلام ضياءً في دار أبيه ليلة الدفن التي تُسمّى ليلة الوحشة.

لست أدري هل أعطوا لزينبعليها‌السلام فرصة في كربلاء حتى تُسرِج الضياء في خيام الهاشميين؟!

لا والله، وإنّما نهبوا ما في الخيام، وأضرموا فيها النار، وجعلوا العيال في خوف وذعر.

من شبّوا النيران فرّت كلّ العيال

بس العقيلة اتحيّرت والدمع همّال

ناده عدوها شحيّرچ يربات الادلال

نادت ومثل المطر يهمل مدمع العين

١٢٠