مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)0%

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 272

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ كاظم البهادلي
تصنيف: الصفحات: 272
المشاهدات: 40515
تحميل: 5867


توضيحات:

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام) المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 272 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40515 / تحميل: 5867
الحجم الحجم الحجم
مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)

مجالس المؤمنين في الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال بعضهم لبعض: لِمَ نترجّل لهذا الغلام، وما هو بأشرفنا، ولا بأكرمنا، ولا بأسنّنا، ولا بأعلمنا؟ والله لا ترجّلنا له.

فقال أبو هاشم الجعفري: والله لتترجَّلُنَّ له صَغَرة إذا رأيتموه، فما هو إلاّ أن أقبل، وبصروا به حتى ترجّل الناس كلّهم.

فقال لهم أبو هاشم الجعفري: أليس زعمتم أنّكم لا تترجّلون له؟

فقالوا له: والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجّلنا(1) .

بل الأمر تعدّى إلى أكثر من هيبته في قلوب الآدميين، وتعدّى إلى أنّ الطيور لا تتحرّك من مكانها إذا رأته، وتقف عن فرحها ولعبها، كما رُوي ذلك عن أبي هاشم الجعفري أنّه قال: كان للمتوكِّل مجلس بشبابيك؛ كيما تدور الشمس في حيطانه، قد جعل فيها الطيور التي تصوّت، فإذا كان يوم السّلام جلس في ذلك المجلس فلا يُسمَعُ ما يُقال له، ولا يُسمَعُ ما يقول من اختلاف أصوات تلك الطيور، فإذا وافاه علي بن مُحَمّد بن الرضاعليه‌السلام سكنت الطيور، فلا يُسمَعُ منها صوتٌ واحد إلى أن يخرج من عنده، فإذا خرج من باب المجلس عادت الطيور في أصواتها.

قال: وكان عنده عدّة من القوابج تقتتل، وهو ينظر إليها، ويضحك منها، فإذا وافى علي بن مُحَمّدعليه‌السلام إليه في ذلك المجلس لصقت تلك القوابج بالحيطان، فلا

____________________

1- إعلام الورى 2 / 118 - 119، الثاقب في المناقب / 542 - 543 ح2، الخرائج والجرائح 2 / 675 - 676 ح7، مناقب آل أبي طالب 3 / 511، مدينة المعاجز 7 / 453 - 454 ح36، كشف الغمّة 3 / 192، بحار الأنوار 50 / 137 ح20 عن الخرائج.

٢٠١

تتحرّك من موضعها حتى ينصرف، فإذا انصرف عادت في القتال(1) .

ونفس هذه المنزلة هي التي جعلت بعض بطانة وخواص المتوكّل وبوّابيه يتشيّعون، كما روى ذلك الصقر بن أبي دلف، قال: لمّا حمل المتوكّل سيّدنا أبا الحسن العسكريعليه‌السلام ، جئتُ أسأل عن خبره، قال: فنظر إليَّ الرازقي، وكان حاجباً للمتوكّل، فأمر أن أدخل إليه، فأُدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك؟

فقلت: خير أيّها الأستاذ.

فقال: اقعد، فأخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: أخطأت في المجيء.

قال: فوحى الناس عنه، ثُمَّ قال لي: ما شأنك وفيم جئت؟

قلت: لخير ما.

فقال: لعلّك تسأل عن خبر مولاك؟

فقلت: ومَنْ مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين.

فقال: اسكت مولاك هو الحقّ، فلا تحتشمني؛ فإنّي على مذهبك.

فقلت: الحمد لله.

قال: أتحبّ أن تراه؟

قلت: نعم.

قال: اجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده.

قال: فجلستُ، فلمّا خرج قال لغلام له: خذ بيد الصقر، وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس، وخلّ بينه وبينه.

قال: فأدخلني إلى الحجرة، وأومأ إلى بيت فدخلت، فإذا هو جالس على صدر حصير، وبحذاه قبر محفور.

قال: فسلَّمتُ عليه، فردّ عليَّ، ثُمَّ أمرني بالجلوس.

ثُمَّ قال لي: « يا صقر، ما أتى بك؟».

قلت: سيّدي جئتُ أتعرّف خبرك؟

قال: ثُمَّ نظرت إلى القبر فبكيت، فنظر إليَّ، فقال: « يا صقرُ، لا عليك لن يصلوا إلينا بسوء الآن».

فقلت: الحمد

____________________

1- الخرائج والجرائح 1 / 404 ح1، عنه بحار الأنوار 50 / 148 - 149 ح34.

٢٠٢

لله(1) الخبر.

وهذه المعاجز لعباد الله الصالحين هي أقوى برهان، وأحسن بلاغ وبيان لقوم عابدين الذي أشارت إليه الآية المباركة:( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ) ، المفسَّرة بالشيعة كما رُوِي ذلك عن إمامنا الباقرعليه‌السلام أنّه قال: « هم شيعتنا»(2) .

وفي نفس الوقت ما تزيد الظالمين إلاّ عتوّاً وعناداً وقسوة:

قستِ القلوبُ فلم تَمِل لهداية

تبّاً لهاتيك القلوبِ القاسيه

ومن هؤلاء الظالمين المتوكّل، فإنّ الأذى والجور الذي لاقاه الإمام علي الهاديعليه‌السلام من المتوكّل، وما لَقِيَ الشيعة المحبّون والعلويّون من أولاد فاطمةعليها‌السلام منه، وما فعل (لعنه الله) بقبر الإمام الحسينعليه‌السلام وزوّاره كثيرة جدّاً؛ لأنّه أكفر بني العباس، كما رُوي هذا المضمون عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام (3) ، وكان رجلاً خبيثاً حقيراً معادياً لآل أبي طالب.

وقد عاصر الإمام الهاديعليه‌السلام ستة من خلفاء الظلم والجور، كلّهم على

____________________

1- كمال الدين وتمام النعمة / 382 ح9، جمال الأسبوع / 35، إعلام الورى 2 / 245 - 246، بحار الأنوار 36 / 413 ح3، و50 / 194 ح7.

2- تفسير البرهان 5 / 256 ح3، تأويل الآيات 1 / 332 ح20، بحار الأنوار 24 / 358 - 359 ح79.

3- بحار الأنوار 41 / 322. ورد فيها» وعاشرهم أكفرهم»، وقد فسّرها العلاّمة المجلسي (رحمه الله) بالمتوكّل (لعنه الله).

٢٠٣

هذا المنوال، كان أوّلهم المعتصم، ومن بعده ابنه الواثق، وآخرهم المعتز بن المتوكّل، واستشهد الإمام على يد الأخير مسموماً.

وكانت الفترة التي عاشها الإمام الهاديعليه‌السلام قد تميّزت بمجالس اللهو والشرب الليلية، وأصبح الجهاز الحكومي غاصّاً في الفساد والمعصية، وازدياد الظلم والاستبداد، والبذخ والعيث ببيت المال، وصرفه في اللهو والمجون.

وعلى طريقة أجداد المتوكّل الخبيثة؛ ولأجل مراقبة الإمام الهاديعليه‌السلام عن قرب ودراية، أرسل رسالة للإمام الهاديعليه‌السلام يبيّن فيها منزلة الإمام عنده وقدره، وعَزَل واليه على المدينة، ويخبره بمحّبته لرؤيته، والتزوّد منه والمسير إليه، إلى غير ذلك من كلمات المدح والثناء، ولكنّ الإمام على اطّلاع كامل بما بيّته له المتوكّل من سُوء نيّة.

فاستجاب الإمام الهاديعليه‌السلام للمتوكّل؛ لأنّه يعلم بأنّه مكره لا محالة على الخروج، وهذا هو إكراه لكن بأسلوب سياسي؛ والدليل كلمة الإمام الهاديعليه‌السلام نفسه التي قال فيها: « أخرجت إلى سُرّ مَنْ رأى كُرهاً»(1) .

وبعد هلاك المتوكّل الذي جرّع الإمام الغصص طيلة أربعة عشر عاماً، عاش الإمام بقيّة عمره مع حكّام عُرِفوا بالظلم فقد أجبروه على البقاء في

____________________

1- أمالي الشيخ الطوسي / 281 ح83، مناقب آل أبي طالب / 519، مدينة المعاجز 7 / 508 ح82، بحار الأنوار 53 / 200 - 201 الأصل والهامش، انظر سيرة الأئمّة - للبيشواني / 505 - 515، حياة الإمام الهاديعليه‌السلام .

٢٠٤

سامراء، فعاش سبعة أعوام مع المنتصر والمستعين والمعتز في سامراء.

بقي ملازماً بيته، كاظماً غيظه، صابراً على ما مسّه من الأذى من حكّام زمانه حتى قضى نحبه، ولقي ربّه شهيداً مسموماً.

رحم الله مَنْ نادى: وا إماماه! وا سيّداه! وا مسموماه!

وكانت وفاته في يوم الاثنين لثلاث خلت من شهر رجب سنة 254هـ بعد أن نيّف على الأربعين سنة، متأثّراً بسمّ دسّه إليه المعتز بنفسه أو أخوه المعتمد، وسُمِعت جارية تقول - أثناء تشييعه -: ماذا لقينا من يوم الاثنين قديماً وحديثاً.

وقد اجتمع في دار أبي الحسن الهاديعليه‌السلام جُلّ بني هاشم من الطالبيِّين والعباسييِّن، واجتمع خلق كثير من الشيعة، ثُمَّ فُتِح من صدر الرواق باب وخرج خادم أسود ثُمَّ خرج من بعده أبو مُحَمّدعليه‌السلام حاسراً، مكشوف الرأس مشقوق الثياب، وكأنّي به ينادي: وا أبتاه! وا علياه! وا مسموماه!

فأجابته الشيعة: وا إماماه! وا عُظْمَ مصيبتاه!

سگاه السّم يويلي أو مرد چبده

أولا راقب الباري أوهاب جدّه

ظل ابنه الحسن يبچي عله فگده

اشيفيد النوح لو يجري الدمع دم

٢٠٥

ثمّ أُخرجتْ الجنازة، وخرج الإمام العسكريعليه‌السلام يمشي خلفها والناس من خلفه، وكان الإمام صلّى عليه قبل أن يخرج إلى الناس، وصلّى عليه لمّا خرج المعتمد، ثُمَّ دُفِنعليه‌السلام في دارٍ من دوره بسُرَّ مَنْ رأى(1) .

(أبوذية)

على الهادي مياتم حزن تنصب

الدموع ادموم على المسموم تنصب

المرد چبدك چبدته ريت تنصب

ولا اشوفك تلوج اعله الوطيه

* * *

گظه الهادي او منّه الچبد مسموم

وأهل بيته تنوح بگلب مالوم

وهاذي شيعته والدمع مسجوم

أونار العسكري بالچبد تسعر

* * *

گام أوغسّله بيده

اوشاله أونزلّه ابگبره

ماظل بالفله مطروح

ثلث اليال عالغبره

لاچن سلوة الهادي

ومهجة آيته الكبره

جثته رميه على الثرى *** اويجري الدمه من منحره *** وبفيض دمها امعفرّه

____________________

1- انظر مجمع المصائب 4 / 313 - 318، والشعر الشعبي منه أيضاً.

٢٠٦

وكأنّي بزينبعليها‌السلام تخاطب أخاها الحسين وتقول:

يخويه بحليب أمّي عليك

بَطِّل الونّه اورفس رجليك

يا ماي عيني اشبيدي اعليك

خواتك تريد المعتنه ليك

اولو جتك ابيا حال تلگيك

عريان عدوانك مسلبيك

* * *

(تخميس)

يا ميتاً تركَ الألبابَ حائرة

تناوشته سهام البغي داميه

وأعظم الخطب في الإسلام داهية

عارٍ تجول عليه الخيل عاريه

حاكت له الريح طافي مئزرٍ وردا

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم،

وسيعلم الذين ظلموا آل مُحَمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون

والعاقبة للمتقين.

٢٠٧

٢٠٨

المجلس الثالث عشر

في الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

٢٠٩

٢١٠

المجلس الثالث عشر: في الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

يا صاحبَ العصر أحسنَ اللهُ العزا

لك في أبيكَ سليلِ طه الأطهرِ

قد جرّعوه القومُ كاساتِ الردى

فقضى شهيداً والأنامُ بمنظَرِ

ولئن صبرتَ لهذهِ ونظيرِها

فأنا وحقِّك جفَّ بحرُ تصبّري

فإلى متَى يا ابنَ النبيّ أما ترى

كُلَّ ابنِ افّاكٍ عليكم يجتري

أفلا يُهيجُك أنَّ أهلَكَ قد مَضَوا

ما بينَ مسمومٍ وبينَ مُعفّرِ

ومجدّلٍ فوقَ البسيطةِ عاريا

ملقىً ثلاثاً بالعرا لم يُقبَرِ

يا ابنَ النبيّ الـمُصطفى حُزني لكم

أجرى عِتابي في دوامِ الأعصُرِ

عُذراً إليك ففي فؤادي قُرحةٌ

قد أوهنتْ كَبِدي وأدمت مِحجَري(1)

* * *

أوّل ثار غصبوا نحلة الزهره

والثاني بحيدر رادوا الغدره

والثالث يبو صالح صعب ذكره

ما شفنه ظلع گبله مكسرينه

ما شفنه ظلع گبله انكسر بالباب

ولا شفنه تمزّق گبل صكها كتاب

يبن الحسن يوصل ليك منّي إعتاب

چي تنسه جنين اللي إمسگطينه

____________________

(1) الأبيات للشيخ حسين الشبيب القطيفي (رحمه الله) المتوفّي سنة 1369هـ، مرجعه إلى قبيلة بني تميم، تعلّم القراءة والكتابة على يد المرحوم يوسف المعلّم المتوفّى سنة 1325هـ، قال الشعر في سنّ مبكرة حتى أصبح من الشعراء المشهورين والمفعمين في حبّ أهل البيتعليهم‌السلام .

لم يكن يبارح مجلس سيد الشهداءعليه‌السلام حتى إنّه كان يعقد مجلساً في بيته في كلّ ليلة.

له جزءان في الشعر؛ أحدهما في القريض، والثاني في الشعر الدارج.

انتقل إلى رحمة الله عن عمر يناهز السبعين. (انظر كتاب جذوة من شعراء أُمّ الحمام / 55 - 56).

٢١١

يبن الحسن ما تنهض يوالينه

ما تدري عدانه اتشمّتت بينه

يبن الحسن ما تنهض يراعي الثار

چي تصبر اوللسّا مغمّد البتار

اخبرك وانته تدري بالجره والصار

حگكم ليش للساعة امخلينه

(أبوذية)

ابفگد العسكري اتيتّم شرعها

سفينه چان ما ينصه شرعها

يا ظالم چتل نفسها شرعها

أوهدم ركن الشريعه الأحمديه

* * *

٢١٢

عن الإمام الهاديعليه‌السلام قال: « أبو مُحَمّدٍ ابني أصحُّ آلِ مُحَمّد غريزةً، وأوثقُهم حُجَّةً، وهو الأكبر من ولدي، وهو الخَلَفُ وإليهِ تَنتَهِي عُرَى الإمامة وأحكامِها، فما كُنتَ سائلي عَنْهُ فاسألهُ عنه، فَعِندَهُ ما تحتاج إليه، ومعه آلة الإمامة»(1) .

كان ديدن الشيعة - خصوصاً القريبين من الأئمّةعليهم‌السلام - هو كثرة السؤال عن الحُجَّةِ بعد كلّ إمام، فما أن يقع بصرُهُم على تدهور حال الإمام المعصومعليه‌السلام إلاّ ويَهرَعُون بكيل الأسئلة على الحُجَّةِ من بعده.

ومن ضمن تلك الأسئلة التي طُرِحت على الأئمّة الذين تقدّموا الإمام الهاديعليه‌السلام ، وطُرِحت عليه (سلام الله عليه) وعلى ولده من بعده، هو هذا السؤال الذي جاء بمضامين مُتَّحدة المعاني، ومختلفة شيئاً ما في الأسلوب: إذا كان بك كونٌ فمَنْ الحُجَّةُ مِن بعدك؟.

أو أنّ الإمام يَعرِف أنّ الشيعة بحاجة إلى تأكيد هذا المعنى، فيبادر الإمام بنفسه فيعيّن الحُجَّة والإمام مِن بعده؛ تأكيداً للعهود والمواثيق، كما صنع إمامُنا الهاديعليه‌السلام في هذه الكلمة التي بَيّن فيها مقام ومنزلة الإمام أبي مُحَمّد الحسن العسكريعليه‌السلام ، وأنّه الأكبر من ولده، وهو الخَلَف، وعنده مواريث العلم وأحكامه، ويحتاج إليه الناس، وهو الإمام من بعده.

____________________

1- إعلام الورى 2 / 135 - 136، الإرشاد 2 / 319، الكافي 1 / 327 - 328 باب النصّ على الإمام العسكريعليه‌السلام ح11، الصراط المستقيم 2 / 169، كشف الغمة 3 / 201، بحار الأنوار 50 / 245ح19 بدون كلمة (ومعه آلة الإمامة) عن الإرشاد.

٢١٣

وأراد الإمام الهاديعليه‌السلام بذكر هذه الصفات والقيود أن يقطع دابر الفتنة، ولا يجعل احتمالاً - ولو ضعيفاً - للاختلاف في الحُجَّةِ من بعده؛ لما هو معلوم من أنّ القيود كُلّما ازدادت ندر المقيَّد.

فكون الإمام أبي مُحَمّد هو الأكبر يدفع شبهات عديدة؛ لأنّ الأكبر لا يكون إلاّ واحداً، فإمامنا العسكريعليه‌السلام وإن كان بعد أخيه السيد مُحَمّد المدفون في مدينة بلد، إلاّ أنّ السيّد مُحَمّد تُوفِي قَبل أبيه الهاديعليه‌السلام ؛ ممّا جعل الأمر منحصراً بأبي مُحَمّد الحسن العسكريعليه‌السلام ؛ ولذا ورد عن إمامنا الهاديعليه‌السلام في وفاة السيّد مُحَمّد أنّه قال للإمام العسكريعليه‌السلام : « يا بُني، أحدِثْ لله شكراً؛ فقد أَحدَثَ فيك أمراً»(1) .

فإنّ فيه إشارة إلى هذا المعنى، وهو أنّ عامّة الناس يتوقعّون الإمامة دائماً في الولد الأكبر، ممّا يعرقل السير في اللجوء إلى الإمام، ولا أقلّ من حدوث فتنة.

ومن بعد هذه المقدّمة نقف قليلاً للتعرّف على ملامح شخصية الإمام أبي مُحَمّد الحسن العسكريعليه‌السلام :

وُلِد الإمام العسكريعليه‌السلام - إمام الشيعة الحادي عشر والمعصوم الثالث عشر - عام 232هـ بالمدينة، أبوه - كما تقدّم - هو الإمام الهاديعليه‌السلام ، وأمّه المرأة الزاهدة والعابدة، حديثة أو سوسن، وقد كانت من العارفات الصالحات، وكفى في فضلها أنّها كانت مفزع الشيعة بعد وفاة أبي مُحَمّد

____________________

1- بصائر الدرجات / 492 - 493 ح13، عنه بحار الأنوار 50 / 240ح6، إعلام الورى 2 / 133، كشف الغمة 3 / 200، الإرشاد 2 / 315.

٢١٤

العسكريعليه‌السلام وفي تلك الظروف الحرجة(1) .

كان عمره 22 عاماً عندما استشهد أبوه الإمام الهاديعليه‌السلام ، وكانت إمامته ستة أعوام، وعاش 28 سنة؛ حيث كانت شهادته سنة 260هـ(2) .

وقد عاصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ثلاثة من خلفاء الظلم والجور من بني العباس، وهم: المعتز بالله بن المتوكِّل العباسي، والمهتدي بالله الذي استولى على الكرسي بعد مقتل أخيه المعتز، والثالث هو المعتمد بالله.

وقد قاسى الإمام أبو مُحَمّدعليه‌السلام من هؤلاء أشدّ المتاعب والمعاناة.

وقد وصف إمامنا الهاديعليه‌السلام ولده الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام بأوصافه اللائقة به؛ لأنّ الإمام لا يحيط بكنهه إلاّ مَنْ كان على شاكلته.

وأنا أحبّ أن أركّز على الكلمة الأخيرة من هذا الحديث الشريف، والكلمة هي: « فعنده ما تحتاج إليه ومعه آلة الإمامة»؛ ففيها كلّ التفاصيل التي يراد لها أن تُقال عن الإمامعليه‌السلام .

أمّا المقطع الأوّل» فعنده ما تحتاج إليه»: فالخطاب فيها موجّه لِمَنْ سأل عن الحُجَّةِ من بعد الإمام الهاديعليه‌السلام ، فأجابه الإمام أبو الحسن الهاديعليه‌السلام :

____________________

1- وعن المسعودي عن العالمعليه‌السلام أنّه قال: لمّا أُدخلت سليل أُمّ أبي محمدعليه‌السلام على أبي الحسن قال: « سليل مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس» منتهى الآمال 2 / 650، عن إثبات الوصية / 207.

2- في الثامن من شهر ربيع الأوّل، كما في الكافي 1 / 503.

٢١٥

بأنّ ما كنت تسأل عنه سابقاً إيّاي، سل عنه أبا مُحَمّد الحسن العسكريعليه‌السلام من بعدي،» فعنده ما تحتاج إليه».

يعني يجيبك عن كلّ ما تحتاج إليه من مسائل الأحكام، وهذا المقطع يكشف عن العلم الذي كان يحمله الأئمّةعليهم‌السلام ، ومنهم أبو مُحَمّد الحسن العسكريعليه‌السلام ، وهو من أهم عناصر التفضيل عند الله تبارك وتعالى، حيث قال (عزّ وجلّ):( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1) ، وقال أيضاً:( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (2) .

وقد اشتهر عن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام علمه بالمغيّبات كثيراً، فمن ذلك ما رواه إسماعيل بن مُحَمّد من حفدة عبد الله بن عباس بن عبد المطلب قال: قعدت لأبي مُحَمّدعليه‌السلام على ظهر الطريق، فلمّا مَرَّ بي شكوتُ إليه الحاجة، وحلفت له أنّه ليس عندي درهم فما فوقها، ولا غداء ولا عشاء، قال: فقال: « تحلف بالله كاذباً، وقد دفنتَ مئتي دينار، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية. يا غلام، ما معك؟».

فأعطاني غلامه مئة دينار، ثُمَّ أقبل عليَّ، فقال: « إنّك تُحرَم الدنانير التي دفنتَها أحوج ما تكون إليها».

وصدقعليه‌السلام وكان كما قال: دفنتُ مئتي دينار وقلت: يكون ظهراً وكهفاً لنا، فاضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه، وانغلقت عليّ أبواب الرزق، فنبشت عنها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب، فما قدرت منها

____________________

1- سورة الزمر / 9.

2- سورة المجادلة / 11.

٢١٦

على شيءٍ(1) .

وأنت إذا لاحظت هذه الرواية عرفت معنى العلم الذي وهبه الله للأئمّةعليهم‌السلام ، وكيف يخبرون بما كان وما هو كائن، وكيف تعامل الإمام مع هذا الرجل مع أنّه أراد إخفاء الحقيقة على الإمام، ومع هذا أعطاه الإمامعليه‌السلام ؛ لأنّه من تلك الشجرة المباركة، والذي ورد عن أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: « إنّي لأعجبُ من أقوام يشترون المماليك بأموالِهِم، ولا يشترون الأحرار بمعروفهم»(2) .

ولذا تكرّرت هذه المواقف من أكثر الأئمّةعليهم‌السلام مع الأعداء والمنحرفين والكذّابين، حتى اشتهرت عن هؤلاء هذه الجملة بكثرة بحقِّ الأئمّةعليهم‌السلام :( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

وأمّا المقطع الثاني فهو» ومعه آلة الإمامة»: وهذه الكلمة تستوجب الوقوف قليلاً؛ لتحديد ما هو المقصود من آلة الإمامة حتى نعرف بعد ذلك توفّر الإمامعليه‌السلام عليها وعدمه.

أمّا الآلة لغةً: فهي الأداة، وجَمْعها آل وآلات(3) ، وعليه يصير المعنى أنّ الإمامعليه‌السلام عنده أداة الإمامة، فحينئذ هو لا يحتاج إلى هذه الأداة من أحد،

____________________

1- الكافي 1 / 509 - 510 باب مولد الإمام العسكريعليه‌السلام ح14، عنه مدينة المعاجز 7 / 551 ح17، الإرشاد 2 / 332، مناقب آل أبي طالب 3، 531 - 532، إعلام الورى 2 / 137، كشف الغمة 3 / 209، بحار الأنوار 50 / 280 - 281 ح55، عن الإرشاد.

2- أمالي الشيخ الصدوق / 348، روضة الواعظين / 357، بحار الأنوار 41 / 35 و71 / 408.

3- المنجد 21 / مادة الآلة، حرف (أ).

٢١٧

بل لا يتمكّن أن يعطيها أيَّ واحد لهعليه‌السلام إلاّ الذي خلقه، ولكن ما هي أداة الإمامة؟

الظاهر: أنّ المقصود بهذه الأداة هو كلّ ما يتقوّم به هذا المنصب العظيم من صفات، أمثال: العلم، والتقوى، ومكارم الأخلاق، ومعاجز ومناقب، بحيث يكون بمرتبة لا يرقى إليها أحد إلاّ مَنْ كان على شاكلتهعليه‌السلام .

وهكذا كان إمامنا أبو مُحَمّد العسكريعليه‌السلام ، فقد جاء بمناقب ومعاجز حيّرت العقول، وأذهلت الألباب، نذكر بعضها:

منها: ما عن أبي هاشم الجعفري قال: دخلت على أبي مُحَمّد العسكريعليه‌السلام وكان يكتُبُ كتاباً، فحان وقت الصلاة الأولى، فوضع الكتاب من يده، وقامعليه‌السلام إلى الصلاة، فرأيت القلم يمرّ على باقي القرطاس من الكتاب ويكتب حتى انتهى إلى آخره فخررت ساجداً.

فلمّا انصرف من الصلاة أخذ القلم، وأذن للناس بالدخول(1) .

ومنها: ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) عن ابن الكردي عن مُحَمّد بن علي قال: ضاق بنا الأمر، فقال لي أبي: امضِ بنا حتى نصير إلى هذا الرجل، يعني أبا مُحَمّد؛ فإنّه قد وُصِفَ عنه سماحتُهُ.

فقلت: تَعرِفه؟

فقال: ما أَعرِفه، ولا رأيتُه قطّ.

قال: فقصدناه، فقال لي (أبي) وهو في طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمسمئة درهم، مئتا درهم للكسوة، ومئة درهم للدين، ومئة

____________________

1- عيون المعجزات / 123، عنه بحار الأنوار 50 / 304 ح80.

٢١٨

للنفقة.

فقلت في نفسي: ليته أمر لي بثلاثمئة درهم، مئة أشتري بها حماراً، ومئة للنفقة، ومئة للكسوة، وأخرج إلى الجبل.

قال: فلمّا وافينا الباب خرج إلينا غلامُه، فقال: يدخل علي بن إبراهيم ومُحَمَّد ابنه، فلمّا دخلنا عليه وسلّمنا، قال لأبي: « يا علي، ما خَلّفك عنّا إلى هذا الوقت؟».

فقال: يا سيدي، استحييت أن ألقاك على هذه الحال.

فلمّا خرجنا من عنده جاءنا غلامُه فناول أبي صُرّة، فقال: هذه خمسمئة درهم؛ مئتان للكسوة، ومئتان للدين، ومئة للنفقة، وأعطاني صُرَّة فقال: هذه ثلاثمئة درهم، اجعل مئة في ثمن حمار، ومئة للكسوة، ومئة للنفقة، ولا تخرج إلى الجبل، وصُر إلى سوراء.

فصار إلى سوراء، وتزوّج بامرأة، فدخله اليوم ألف دينار، ومع هذا يقول بالوقف.

فقال مُحَمّد بن إبراهيم: فقلت له: ويحك! أتريد أمراً أبين من هذا؟

قال: فقال: هذا أمر قد جرينا عليه(1) .

ولأجل المعاجز والمناقب، ومكارم الأخلاق التي كان يحملها الإمام أبو مُحَمّد الحسن العسكريعليه‌السلام ، ولالتفاف الشيعة إليه ومعرفتهم بحقّه ومنزلته؛ لأجل كلّ ذلك وغيره صار أعداء الله يتحيّنون الفرصة لتجريع الإمامعليه‌السلام الغصّة.

قال في نور الأبصار: وكان المعتمد يؤذيه كثيراً حتى سقاه السّم، ولمّا سُقِي السّم مرض مرضاً شديداً، فبلغ ذلك المعتمد في مرضه، قيل له:

____________________

1- الكافي 1 / 506 باب معاجز الإمام العسكري (عليه الّسلام) ح3، روضة الواعظين / 247، الإرشاد 2 / 326، مناقب آل أبي طالب 3 / 537، مدينة المعاجز 7 / 540 - 541 ح3، كشف الغمة 3 / 205 - 206، بحار الأنوار 50 / 278 ح52، وفي معجم البلدان 3 / 278 (سوراء) موضع يُقال هو إلى جنب بغداد، وقيل: هو بغداد نفسها.

٢١٩

إنّ ابن الرضا قد اعتلّ ومرض، فأمر الرجل نفراً من المتطبِّبين بالاختلاف إليه، وتعاهده صباحاً ومساءً، وبعث خمسة نفر كلّهم من ثقاته وخاصّته، وأمرهم بلزوم دار أبي مُحَمّد العسكريعليه‌السلام وتَعرُّف خبره وحاله.

فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاء مَنْ أخبره بأنّ العسكري قد ضَعُف، فركب المعتمد حتى بكّر إليه، ثُمَّ أمر المتطبِّبين بلزومه، وبعث إلى قاضي القضاة وعشرة من أصحابه ممّن يثق به، وأرسلهم إلى الحسن العسكريعليه‌السلام ، وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى كانت الليلة التي قُبِض فيها، فرأوه وقد اشتدّ به المرض، يُغشَى عليه ساعة بعد ساعة؛ فعَلِموا أنّه قد قَرُب به الموت، فتفرّقوا عنه.

فلم يكن عنده في تلك الليلة إلاّ جاريته صيقل وعقيد الخادم، وولده الحُجَّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وقد مضى من عُمُر الحُجَّة في ذلك الوقت خمس سنين، وكتب الإمام بيده الشريفة في تلك الليلة كتباً كثيرة إلى المدينة.

قال عقيد: فدعاعليه‌السلام بماءٍ قد أُغلي بالمصطكي(1) ، فجئنا به إليه، فقالعليه‌السلام : « أبدأ بالصلاة، فجيئوني بماء لأتوضّأ به».

فجئنا به وبسط في حجره المنديل، وتوضّأ ثُمَّ صلّى صلاة الغَدَاة في فراشه، وأخذ القَدَح ليشرب، فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد، فشرب منه جرعة، وأخذت صيقل القدح من

____________________

1- المصطكي: شجر له ثمر يميل طعمه إلى المرارة، ويستخرج منه صُمغ يعلك، وهو دواء، ويُسمّى العلك الرومي، انظر المنجد / 764، مادة (مصط).

٢٢٠