مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب0%

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 190

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الوهاب الكاشي
تصنيف: الصفحات: 190
المشاهدات: 29232
تحميل: 4400

توضيحات:

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29232 / تحميل: 4400
الحجم الحجم الحجم
مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هل كان الحسينعليه‌السلام يطلب الحكم بثورته؟

من الشبهات القويّة حول قيام الحسينعليه‌السلام بثورته المباركة هي شبهة: أنّ قيامه بها هل كان طلباً للملك والسلطان والاستيلاء على الحكم أم لا؟

وقد تعرّض الكثيرون ممن كتبوا عن الحسينعليه‌السلام لهذه الشبهة فنفوها نفياً كليّاً، مؤكّدين أنّ الحسينعليه‌السلام لم ينهض طلباً للحكم، ولا كان من أهدافه انتزاع السلطة من الاُمويِّين، ولم يكن يفكّر في ذلك أبداً، فكأنّ هؤلاء يرون طعناً في كرامة الحسينعليه‌السلام ، ونقصاً في قدسية ثورته أن ينسبوا إليه الرغبة في الحكم، والميل إلى تسلّم السلطة، والعمل من أجل انتزاع الخلافة من أيدي الاُمويِّين.

ويزعمون أنّ الحسينعليه‌السلام أجلّ وأرفع من أن يطلب الإمرة والحكم بتلك المحاولة، بل كان غرضه الأوحد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق التضحية والشهادة فقط.

وهؤلاء يُشكرون على كلّ حالٍ على نواياهم الطيّبة تجاه الحسينعليه‌السلام ، ولكنّ الحقيقة والواقع هو خلاف ما يرون ويزعمون؛ وذلك لأنّ طلب الحكم والسلطة والإمرة ليس قبيحاً دائماً، ولا هو مذموم مطلقاً؛ بل إذا كان طلب الحكم والسلطان صادراً من أهله الأكفّاء، ولغرض الإصلاح وإحقاق الحقّ ومكافحة الباطل، فإنّه حينئذ يكون محبوباً عقلاً، وقد يكون واجباً شرعيّاً يفرضه الله تعالى على الإنسان الصالح اللائق للحكم والإمارة، مثله تماماً كمثل طلب أي شيء آخر من وسائل الحياة الاُخرى؛ كطلب المال والجاه مثلاً كما قالعليه‌السلام : «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك...».

١٠١

وكيف يكون طلب الحكم نقصاً أو عيباً وقد طلبه من قبل أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام طيلة خمس وعشرين سنة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن وصل إليه بعد مقتل عثمان؟! ولكنّهعليه‌السلام أوضح لنا غاياته من وراء ذلك الطلب، فقال: «أما والله، إنّ إمرتكم لأهون عليّ من هذا النعل؛ إلاّ أن اُقيم حقّاً وأدفع باطلاً».

وقالعليه‌السلام أيضاً في خطبة له: «اللّهمَّ، إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك؛ فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك».

فإذاً لو كان طلب الحكم والسلطان لا لغرض المنافسة والتفاخر، ولا للحصول على الشهوات واللذّة الحقيرة، ولا لخدمة مصلحة شخصية، بل كان لغرض إعادة معالم الدين والإصلاح في البلاد، ونشر العدل والأمن بين العباد، وإنصاف المظلوم من الظالم وأمثالها، فالطلب حينئذ أمر حسن ومحبوب ومرغوب فيه شرعاً ومنطقاً، فأيّ ضير على الحسينعليه‌السلام إذا كان يطلب السلطة والحكم بتلك الثورة المقدّسة لنفس هذه الأهداف؟!

أوَليس الحكم والسلطان حقّه الشرعي والعقلي بعد أبيه وأخيهعليهما‌السلام ؟! أوَليس هوعليه‌السلام أحد اُولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم على عباده في محكم كتابه، فقال:( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) ؟! أوَليس هوعليه‌السلام أحد أئمّة المسلمين الذين نصّ عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جملة وتفصيلاً؟! أوَليس هوعليه‌السلام أحد الإمامين اللذين نصّ الرسول على ثبوت الإمامة لهما سواء قاما أم قعدا، كما في الحديث المتواتر: «الحسن والحسين إمامان...»؟!

ثمّ هل كان في عصر الحسينعليه‌السلام مَنْ هو أجدر بالإمرة والخلافة من سيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؟! ومن الجهة الثانية نسأل: يا ترى! ما الذي كان يفعله الحسينعليه‌السلام لو استلم السلطة؟ أوَليس كان يفعل ما فعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام وكلّ الأنبياء والمرسلين والأوصياء الحاكمين؟

فإذاً أيّ نقص يرد على ثورة الحسينعليه‌السلام لو كانت

____________________

(1) سورة النساء / 59.

١٠٢

بقصد الاستيلاء على الحكم وطلب السلطان؟!

إنّ الذين يهاجمون ثورة الحسينعليه‌السلام من طريق اتّهامها بأنّها كانت طلباً للملك وصراعاً على السلطة هؤلاء لم يعرفوا شيئاً عن شخصية الحسينعليه‌السلام ، بل نظروا إليه كزعيم سياسي قام طلباً للسلطة ولأجل السلطة، ككلّ الزعماء السياسيين الدنيويين الماديين في العالم.

أمّا لو كانوا قد عرفوا حقيقة الحسينعليه‌السلام وأهدافه البعيدة وغاياته الرئيسة من تلك الثورة، وإنّ طلبه للسلطة كان لأجل التوصّل بها إلى تلك الغايات الإنسانية العليا، وإنّ الطريق الذي سلكه طلباً للسلطة هو طريق المثالية والشرف والنبل والشهامة والكرم، وعدل عن الطريق التقليدي الذي يسلكه عادة الزعماء السياسيون، وهو طريق الغاية تبرر الواسطة، وإنّ الملك عقيم.

أقول: لو عرف اُولئك المهاجمون هذه الاُمور عن الحسينعليه‌السلام لعدلوا عن مسلك الاتّهام. وهذا هو الاُستاذ العقّاد يردّ عليهم في كتاب أبي الشهداء، فيقول بالحرف: وأيسر شيء على الضعفاء الهازلين أن يذكروا هنا طلب الملك؛ ليغمروا به شهادة الحسين وذويه، فهؤلاء واهمون ضالون مغرقون في الوهم والظلال؛ لأنّ طلب الملك لا يمنع الشهادة، وقد يطلب الرجل الملك شهيداً قدّيساً، وقد يطلبه وهو مجرم بريء من القداسة. وإنّما هو طلب وطلب، وإنّما هي غاية وغاية، وإنّما المعوّل في هذا الأمر على الطلب لا على المطلوب؛ فمَنْ طلب الملك بكلّ ثمن وتوسّل له بكلّ وسيلة، وسوّى فيه بين الغصب والحقّ، وبين الخداع والصدق، وبين مصلحة الرعية ومفسدتها ففي سبيل الدنيا يعمل لا في سبيل الشهادة.

ومَنْ طلب الملك وأباه بالثمن المعيب، وطلب الملك حقّاً ولم يطلبه لأنّه شهوة وكفى، وطلب وهو يعلم أنّه سيموت دونه لا محالة، وطلب الملك وهو يعتزّ بنصر الإيمان ولا يعتزّ بنصر الجند والسلاح، وطلب الملك رفعاً للمظلمة وجلباً للمصلحة كما وضحت له بنور إيمانه وتقواه، فليس ذلك بالعامل الذي يخدم نفسه بعمله، ولكنّه الشهيد الذي يلبّي داعي المروءة والأريحية، ويطيع وحي الإيمان

١٠٣

والعقيدة، ويضرب للناس مثلاً يتجاوز حياة الفرد الواحد وحياة الأجيال الكثيرة(1) . انتهت كلمة العقاد.

ويقول هو أيضاً في نفس الكتاب: إنّ الحسينعليه‌السلام طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها، ولم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلّفه من ثمن ومهما تطلب من وسيلة، فكانت عنايته بالدعوة والإقناع أعظم جداً من عنايته بالتنظيم والإلزام.

أعود فأقول: ما المانع من أن يطلب الحسينعليه‌السلام الملك والسلطة بعد أن طلبها نبي الله سليمان بن داودعليه‌السلام من ربّه صراحة، فقال:( رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) (2) . وطلبها إبراهيم الخليلعليه‌السلام لذرّيّته بعد أن حصل عليها هو لنفسه، فقال:( إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (3) . وإلى غير ذلك من الشواهد والأمثال.

ونوجّه الخطاب ثانياً إلى هؤلاء المدافعين عن الحسينعليه‌السلام بأنّه لم ينهض طلباً للملك، فنقول لهم: ها هو الحسينعليه‌السلام بالذات يصرّح بأنّه يطلب الإمرة والسلطان؛ لأنّه أولى بهما وأحقّ من يزيد بن معاوية وغيره.

نعم، انظر إلى كلماته التي قالها في مجلس الوليد حاكم المدينة، وبمحضر من مروان بن الحكم، فقالعليه‌السلام : «نحن أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنزيل. ويزيد رجل فاسق فاجر، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور؛ ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أينا أولى بالخلافة والأمر».

فالحسينعليه‌السلام يطلب الخلافة والأمر، ولكن من طريق المنطق والموازين العادلة والتحكيم الحرّ والانتخاب الشعبي الصحيح. وعلمه بالشهادة والقتل دون الوصول إليها لا ينافي طلبه لها، ولا يتعارض مع سعيه للحصول عليها؛ لأنّ في الطلب والسعي إتمام للحجّة على الناس، وإفراغ للذمّة من المسؤوليّة أمام الله والتاريخ حتّى لا يُقال أنّه قصر أو تكاسل، ولو رشّح نفسه وسعى لها لحصل عليها.

ومن قبله أخوه الحسنعليه‌السلام كان يعلم بكلّ ذلك المصير الذي وصل إليه علماً كاملاً، ومع ذلك لم يمنعه ذلك العلم

____________________

(1) أبو الشهداء الحسين بن علي / 195.

(2) سورة ص / 35.

(3) سورة البقرة / 124.

١٠٤

من التهيّؤ وتجهيز الجيش، والمسير نحو الحرب مع العدو، واتّخاذ كافة اللوازم المطلوبة.

وهذا أبوهما أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فإنّه طلب الخلافة والإمرة التي هي حقّه الشرعي والطبيعي بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، طلبها بكلّ الوسائل ما عدا السيف؛ إذ رأى أنّ في استعمال السيف يومئذ خطراً على مصلحة الإسلام العُليا، ولكن استعمل الوسائل السلمية حتّى إنّه صار يحمل زوجته فاطمة وابنيه الحسن والحسينعليهم‌السلام ، ويطوف بهم على زعماء المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة؛ مطالباً بحقّه وحقوق هؤلاء، مذكّراً لهم بالنصوص النبويّة الشريفة التي سمعوها من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه وحقّ هؤلاء.

واستمر على ذلك أربعين يوماً وهو يعلم علم اليقين أنّه لا يحصل على حقّه من الخلافة، ولا هؤلاء يحصلون على حقوقهم من الخمس ومن الميراث ومن فدك؛ ولكن:( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1).

كما أنّهعليه‌السلام حضر مجلس الشورى مع الخمسة الآخرين الذين رشحهم عمر بن الخطاب للخلافة، حضر معهم الإمام وطالب بالخلافة وحاجج القوم، وبذل كلّ ما في وسعه من الجهد للوصول إلى الحكم، فلم يصل وكان يعلم علم اليقين أنّه لا يصل؛ ولكن لإتمام الحجّة وإبراء الذمّة كما سبق.

وذكرنا في موضوع تعليل خروج الحسينعليه‌السلام إلى العراق أنّ الظواهر هي الحجّة في العلائق والنظم الاجتماعية الإسلاميّة، وواجب النبي والإمام أن يسيرا مع الناس حسب ظاهرهم، ومقتضى الأسباب والعوامل الطبيعية العادية، ولا يرتّبا الآثار عليهم حسب المعلومات الغيبية والتنبؤات التي ليس عليها دليل قائم أو أثر ملموس.

وبكلمة موجزة نقول: إنّ لأهل البيتعليهم‌السلام حقّاً وإنّ عليهم لواجباً؛ أمّا حقّهم فالقيادة والإمرة، وأمّا واجبهم فإظهار الحقّ وبيانه.

وظلامتهم الكبرى في الحياة أنْ قاموا بواجبهم أحسن قيام، ولكن حرموا من كافة حقوقهم. وإنّ غصب حقّهم عنهم لم يمنعهم من القيام بواجبهم، على أنّ ذلك الحقّ لو وصل إليهم كاملاً لاستطاعوا من أداء مسؤوليتهم على وجه أكمل وأنفع للأمّة، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

____________________

(1) سورة الأنفال / 42.

١٠٥

«والله لو ثُنيت لي الوسادة وجلستُ عليها، لأفتيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم حتّى ينطقوا جميعاً ويقولوا: صدق عليٌّ بما حكم».

وكما قال سلمان الفارسيرحمه‌الله في خطبة له بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : والله، لو وليتموها علياً لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولو دعوتم الطير في السماء لأتتكم، والحيتان في البحار لأجابتكم، ولما طاش سهم من سهام الله، ولا تعطّل حكم من أحكام الله؛ ولكن حظّكم أخطأتم، ونصبيكم ضيعتم.

وقالت فاطمةعليها‌السلام : «والله، لو مالوا عن الحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لردّهم إليها، ولحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سجحاً؛ لا يكلح خشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه. ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً؛ تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه، ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سرّاً وإعلاناً، ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل...».

وفي ختام هذا الموضوع نستمع إلى مقطوعة شعرية رائعة من المرحوم الحاج هاشم الكعبيرحمه‌الله :

أوَ ما علمتَ الماجدين

غداة جدّوا بالرحيلِ

عقدوا على البينِ النكاحَ

وطلّقوا سننَ القفولِ

عشقوا العُلا ففنوا بها

والغصنُ يُرمى بالذبولِ

أوَما سمعت ابن البتولةِ

لو دريت ابنَ البتولِ

إذ قادها شعث النواصي

عاقداتٍ للذيولِ

متنكب الوردَ الذميمَ

مجانب المرعى الوبيلِ

طلاّب مجدٍ بالحسام الـ

عضبِ والرمحِ الطويلِ

متطلّباً أقصى المطالب

خاطبَ الخطب الجليلِ

ظلّت اُميّة ما تريد

غداة مقترع النصولِ

رامت تسوق المصعب الـ

هدّار مستاق الذلولِ

و يروح طوعَ يمينها

قود الجنيب أبو الشبولِ

رامت لعمر ابن النبي الطْ

طُهر ممتنع الحصولِ

١٠٦

وغوى بها جهل بها

والبغي من خُلق الجهولِ

لفّ الرجال بمثلها

وثنا الخيولَ على الخيول

و أباحها عضب الشبا

لا بالكهام و لا الكليلِ

لسنانِهِ ولسانهِ

صدقان من طعنٍ وقيلِ

ذات الفقارِ بكفّه

و بكتفه ذات الفضولِ

وأبو المنيّة سيفُهُ

وكذا السحاب أبو السيولِ

يابن الذين توارثوا الـ

عليا قبيلاً عن قبيلِ

والسابقين بمجدهم

في كلّ جيل كلَّ جيلِ

إنْ تمس منكسر اللوى

ملقىً على وجه الرمولِ

فلقد قتلتَ مهذّباً

عن كلِّ عيب في القتيلِ

١٠٧

هل كان الحسين عليه‌السلام عالماً بمصيره المعروف؟

يكثر التساؤل حول علم الحسينعليه‌السلام بما صار إليه عاقبة أمره حسب ما هو معروف، هل كان من باب الاحتمال، أو الظن الذي يحتمل العكس والخلاف؛ فيكون حينئذ قد خُدع بكتب أهل العراق وغُرّر به من قبلهم؟ أم كان ذلك العلم من باب القطع والجزم واليقين الذي لا شك فيه؛ فيكون حينئذ قد أقدم على حركة انتحارية؟

نقول: أجل، كان عالماً بما جرى علماً يقينياً قاطعاً لا يشوبه شك، وقد أعلن عنه في مكّة قُبيل الخروج بخطبته التي قال فيهاعليه‌السلام : «وكأنّي بأوصالي هذه تقطّعها...». ولكن مع ذلك لم يكن خروجه عملاً انتحارياً، بل كان قتله نتيجة طبيعية للظروف والأحداث العادية التي أوجدها الناس بجهلهم وسوء تصرفهم، من قبيل علم الطبيب مثلاً بموت هذا المريض في النهاية؛ بسبب تطوّر المرض ومضاعفاته الطبيعية التي لا خيار للطبيب فيها وجوداً ولا عدماً، وإنّما عليه أن يراقبها ويساير مراحلها بما عنده من مخففات ومسكنات فقط، وهو بانتظار نتيجتها الطبيعية القصوى.

كذلك علم الحسينعليه‌السلام بذلك المصير، فهوعليه‌السلام كان يعلم من البداية أنّ يزيد سيتولى على الخلافة ويطلب منه البيعة، وهو يمتنع من البيعة فيأمر بقتله في المدينة؛ فيخرج منها حفظاً لدمه ودفاعاً عن كرامته، ويكتب إليه أهل العراق بالطاعة والبيعة له فتتم عليه الحجّة الظاهرية بحسب القوانين الشرعية، فإذا وصل إليهم يغدرون به ويحصرونه في وادي كربلاء. وهكذا تتسلسل الحوادث حسب مجراها الطبيعي حتّى تؤدّي إلى العاقبة التي حصلت، ولم يكن بوسع الحسينعليه‌السلام أنْ يغيّر أو يدفع شيئاً منها.

١٠٨

نعم، حاول بكلّ ما استطاع أنْ يخفف من وطأتها ويؤخّر من حدوثها فما استطاع؛ لوجود الموانع والدوافع الشرعية والزمنية.

صحيح إنّه لو كان قد بايع ليزيد لتغيّر وجه مصيره إلى حد كبير، ولكن قد أثبتنا سابقاً أنّ ذلك كان حراماً على الحسينعليه‌السلام من الوجهة الشرعية والأخلاقية والعرفية، وجريمة كبرى على شرفه ودينه واُمّة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى هذا فقس باقي الحوادث المتتابعة بعدها التي ما كان باستطاعة الحسينعليه‌السلام دفعها إلاّ بالتنازل عن كرامته، والتخلّي عن مسؤوليته، والخيانة لرسالته والأمانة الملقاة على عاتقه من قبل الله ورسوله والاُمّة.

والخلاصة: كان علم الحسينعليه‌السلام علماً بترتب الحوادث على عواملها الطبيعية، والمعلولات على عللها، أو المسببات على أسبابها؛ تلك الأسباب والعلل التي أوجدها الناس بسوء اختيارهم وضعف الوازع الديني في نفوسهم، فهم محاسبون عليها ومعاقبون بها يوم تجزى فيه كلّ نفس ما كسبت:( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (1) .

ومن هنا قيل: إنّهعليه‌السلام جمع بين التكليفين في آن واحد؛ التكليف الباطني: وهو تكليفه من الله بأنْ يفدي الدين بنفسه وأنّه شهيد هذه الاُمّة، والتكليف الظاهري: وهو تكليفه العرفي الطبيعي، أي مسايرة الأحداث والتطوّرات حسب متطلباتها العادية. وهذا من خصائصهعليه‌السلام .

ولعلك تقول: من أين علم الحسينعليه‌السلام بتلك القضايا الغيبية قبل وقوعها؟

فأقول: وصلت إليه من أبيه عليعليه‌السلام وجده محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالتالي عن الله سبحانه وتعالى الذي هو وحده علاّم الغيوب. وقد أوحى سبحانه إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بكلّ ما يجري على الحسينعليه‌السلام .

فإنْ قلت: فلماذا لمْ يحفظ الله تعالى وليّه الحسينعليه‌السلام ، ولم يدفع عنه القتل وهو العالم بكلّ شيء والقادر على كلّ شيء؟

____________________

(1) سورة الشعراء / 227.

١٠٩

قلت في الجواب: لأنّ بقتله إحياء الدين، وبدمه حفظ شريعة الإسلام، فدار الأمر بين حياة الحسينعليه‌السلام أو حياة الدين؛ لأنّ الجمع بينهما يؤدي إلى الجبر وسلب الحرية الإنسانية، وهو ممنوع في شريعة الله تعالى، فكان الدين أولى بالحياة؛ فالحسينعليه‌السلام فداء الدين.

وبهذا صرّحت اُخته العقيلة زينبعليها‌السلام لما جلست عند رأسه وهو صريع، ورفعت طرفها نحو السماء وقالت: اللّهمَّ تقبل منّا هذا الفداء. وإلى هذا المعنى يرمز الحديث الشريف المشهور القائل: «حسين منّي وأنا من حسين». فحسين منّي واضح، أي ابني وولدي، ولكن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا من حسين». يعني أنّ بقاء ذكري وشريعتي وديني بالحسين، أي بتضحية الحسين وشهادته.

ولقد قال بعض الخبراء، وهو السيّد جمال الدين الأفغانيرحمه‌الله : إنّ الإسلام محمدي الوجود والحدوث، وحسيني البقاء والاستمرار.

وقال المستشرق الألماني ماربين في الحسينعليه‌السلام كلمته المعروفة: وإنّي أعتقد بأنّ بقاء القانون الإسلامي، وظهور الديانة الإسلاميّة، وترقّي المسلمين هو مسبب عن قتل الحسينعليه‌السلام وحدوث تلك الفجائع المحزنة، وكذلك ما نراه اليوم بين المسلمين من حس سياسي وإباء الضيم.

وقال أيضاً: لا يشك صاحب الوجدان إذا دقّق النظر في أوضاع ذلك العصر ونجاح بني اُميّة في مقاصدهم، لا يشك أنّ الحسينعليه‌السلام قد أحيا بقتله دين جدّه وقوانين الإسلام، ولو لمْ تقع تلك الواقعة لمْ يكن الإسلام على ما هو عليه الآن قطعاً، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذ جديد عهد. انتهى محلّ الشاهد من كلام ماربين المستشرق الألماني.

وأحسن تعبير عن هذا الواقع هو ما قاله ذلك الشاعر عن لسان الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء:

إنْ كان دينُ محمدٍ لمْ يستقمْ

إلاّ بقتلي يا سوفُ خذيني

وقال السيد جعفر الحلي:

بقتلهِ فاح للإسلام طيبُ شذى

وكلّما ذكرتهُ المسلمونَ ذكا

١١٠

لماذا يأذن الحسين عليه‌السلام لأصحابه بالتفرّق عنه؟

أثبتنا في البحث السابق أنّ الإمرة والحكم كانا على رأس متطلّبات الحسينعليه‌السلام من وراء ثورته الخالدة؛ لأجل الوصول بهما إلى غايته الكبرى وهدفه الأعلى على أكمل وجه، وهو إصلاح المجتمع وإعادة نظام الإسلام إلى المجتمع الإسلامي.

وطبعاً، إنّ هذا الهدف لا يتمّ إلاّ من طريق السلطة، فالسلطة إذاً كانت الطريق الأمثل أمام الحسينعليه‌السلام للوصول إلى أداء رسالته وتحقيقها كاملة. والحسينعليه‌السلام طلب السلطة وسعى إليها قطعاً وبلا شك.

وهنا يبرز سؤال ويعترضنا استفهام حساس وهو: لماذا إذاً أجاز لأتباعه وأصحابه الذين خرجوا معه وانضموا إليه أن يتفرّقوا عنه وهو في أمس حاجة إلى الاستكثار من الأعوان؛ تحقيقاً لما طلب من الحكم والسلطان؟! وفعلاً تفرّقوا عنه قبل لقاء العدو حتّى لمْ يبقَ معه منهم إلاّ القليل الذي لمْ يتجاوز النيف وسبعين رجلاً، بعد أن كانوا معه حوالي ستة آلاف رجل تقريباً. فهل هذا سلوك ثائر يريد الاستيلاء على الحكم؟

نقول: أجل، إنّ الحسينعليه‌السلام ثائر لأجل إحقاق الحقّ ونشر العدل والخير، والحقّ لا يتحقّق من طريق الباطل، والعدل لا ينشر بواسطة الظلم، والخير لا يُعطى على أيدي المبطلين.

وبكلمة واحدة: الورد لا يُجنى من العوسج، والعسل لا يُنال من الحنظل.

ومكلّف الأيامَ ضد طباعِها

متطلبٌ في الماء جذوةَ نارِ

إنّ الحسينعليه‌السلام أراد السلطة لاستخدامها في مصلحة المجتمع، ولخدمة الدين والإسلام، فلا يجوز

١١١

أنْ يطلبها بطريق خداع الجماهير والتغرير بهم، وإغفالهم عن حقائق الاُمور وواقع الحوادث، ورفع الشعارات الكاذبة والدعايات المضللة.

مثله مثل أبيه الإمام عليعليه‌السلام الذي رفض الخلافة يوم الشورى لمّا توقّف حصولها على كلمة كذب واحدة، حيث قيل له: نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله، وعلى سيرة الشيخين أبي بكر وعمر. فقالعليه‌السلام : «كلا، بل على كتاب الله وسنة رسوله فقط».

وكانعليه‌السلام يسعه أنْ يقول نعم وينال الخلافة، ثمّ يسير بعد ذلك حسب كتاب الله وسنة رسوله لا غير، ولمْ يكن ملزماً بالشرط الأخير شرعاً؛ لأنّ سيرة الشيخين إنْ كانت موافقة لكتاب الله وسنة رسوله فهي داخلة في الشرط حتماً، وإنْ كانت مخالفة لهما فلا يجوز للمسلم أنْ يعمل بها، ولكنّ الإمامعليه‌السلام مع ذلك كره أنْ يقول لشيء نعم وهو يعلم من نفسه أنّه لا يلتزم به، وبذلك فوّت الخلافة على نفسه مدّة اثني عشر سنة تقريباً، وهي مدّة خلافة عثمان بن عفان.

فسياسة الحسين هي بعينها سياسة أبيه عليعليه‌السلام وجدّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي سياسة الإسلام والحقّ التي ترتكز على الصراحة والصدق والواقعية، وتأبى الكذب والانتهازية واللف والدوران.

ثمّ إنّ الستة آلاف رجل الذين كانوا مع الحسينعليه‌السلام كان أكثرهم من الأعراب وأهل الأطماع والمرتزقة، الذين يتبعون القادة طمعاً في الغنائم والمناصب والأرزاق، خرجوا مع الحسينعليه‌السلام والتحقوا به في أثناء الطريق، علماً منهم بأنّ الحسينعليه‌السلام قادم على بلد قد دان له أهلها بالطاعة والولاء وبايعه أهلها بالإجماع، وسوف ينتصر بهم حتماً ويصلون باتّباعه إلى مغانم وأرباح.

وكان الحسينعليه‌السلام يعرف ذلك في نفوسهم، فلمّا تجلّى غدر أهل العراق وظهر انقلابهم، ولمْ يبقَ هناك أمل في انتصاره بهم على الأعداء، بل أصبحوا هم من الأعداء والمحاربين له؛ وذلك بقتلهم سفيره مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وقتل رسوليه عبد الله بن يقطر وقيس بن مسهر الصيداوي (رحمهما الله تعالى)، عند ذلك تغيّر مجرى الثورة السابق وتحوّلت من حرب هجومية متكافئة، وجهاد منظم مفروض حسب المقاييس

١١٢

الشرعية إلى حرب فدائية استشهادية ليس فيها أمل في الانتصار العسكري، وإنّما المقصود منها التضحية والشهادة؛ لغرض التوعية وتنبيه الرأي العام، ولفت الأنظار إلى حقيقة الحكم القائم وواقع الزمرة الحاكمة، وعزلهم عن الاُمّة المسلمة فيحبط بذلك مؤامراتهم العدوانية ضد الإسلام ومصلحة المسلمين.

قال العقاد: وعلى هذا النحو تكون حركة الحسينعليه‌السلام قد سلكت طريقها الذي لا بدّ لها أن تسلكه، وما كان لها قطّ من مسلك سواه؛ حيث وصل الأمر إلى حدٍّ لا يعالج بغير الاستشهاد(1) .

لذا فقد كره الحسينعليه‌السلام أنْ يترك أتباعه غافلين عن هذا التطوّر، وجاهلين لهذا التحوّل المصيري الهام؛ خوف أنْ يُباغتوا بالمصير الذي لا يرغبون فيه فيسلّموه عند الوثبة، ويُهزمون من الميدان عند اللقاء، ويتفرّقون عنه ساعة بدء المعركة، وفي ذلك وهن كبير يصيب معنوية القائد، ويضعف مقاومة المخلصين من أصحابه. وإنّ تلك الإجازة لهم بالانصراف إذا شاؤوا كانت من الحسينعليه‌السلام بالنسبة لهم:

أولاً: للاختيار والامتحان.

ثانياً: بمثابة مخض وغربلة، فاستخرج الزبدة منهم وهم نيف وسبعون رجلاً، وقد بلغوا إلى ليلة عاشوراء إلى ما يقارب الثلاثمئة رجل، كلّ منهم فدائي مخلص للحسينعليه‌السلام بايعوه على الموت، واختاروا الشهادة على الحياة، والقتل على البقاء في الدنيا.

ولقد اختبرهم مراراً فما وجد فيهم إلاّ الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دونه استئناس الطفل بلبن اُمّه، حسب شهادة الحسينعليه‌السلام في حقّهم. قالوا له في بعض تلك الاختبارات: يا سيدنا، لو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها. فقال لهم الحسينعليه‌السلام : «اعلموا أنّكم كلّكم تُقتلون، ولا يفلت منكم أحد». فقالوا: الحمد لله الذي مَنّ علينا بشرف القتل معك، ولا أرانا الله العيش بعدك أبداً.

وقال له مسلم بن عوسجة الأسديرحمه‌الله : أنحن نتخلّى عنك؟! وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟! أما والله، لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمة بيدي. ولو لمْ يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم

____________________

(1) أبو الشهداء الحسين بن علي / 193.

١١٣

بالحجارة حتّى أموت معك.

وقال له سعيد بن عبد الله الحنفي: والله، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. أما والله، لو علمت أنّي اُقتل ثمّ أحيا، ثمّ اُحرق حياً ثمّ أُذرى، ويُفعل بي ذلك سبعين مرّة لما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!

وقال له زهير بن القين البجليرحمه‌الله : والله، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قُتلت، حتّى أُقتل كذلك ألف مرّة، وأنّ الله (عزّ وجلّ) يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك. وهكذا تكلّم الباقون من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً، فجزاهم الحسينعليه‌السلام خيراً.

أجل والله، جزاهم الله خيراً؛ لقد سجّلوا بموقفهم هذا رقماً قياسياً خالداً، وضربوا أروع مثال للتضحية في سبيل الكرامة وللعمل الفدائي الصحيح، ألا هكذا فليكن العمل الفدائي وإلاّ فلا.

فهم قدوة كلّ عمل فدائي مثمر ومخلص، ولا يمكن أن ينجح أي عمل فدائي ما لمْ يكن الحسينعليه‌السلام وأصحابه مثله الأعلى وقدوته المُثلى؛ إخلاص للقضية، واستصغار لكلّ غال وعزيز في سبيلها ودون تحقيقها.

ولقد أجاد مَنْ وصفهم بقوله:

فساموهم إمّا الحياة بذلةٍ

أو الموت فاختاروا أعزّ المراتبِ

بنفسي هُمُ من مستميتين كسّروا

جفون المواضي في وجوهِ الكتائبِ

وصالوا على الأعداء أُسداً ضوارياً

بعوج المواضي لا بعوج المخالبِ

أُصيبوا ولكن مقبلينَ دماؤهم

تسيل على الأقدامِ دون العراقبِ

وأخيراً نقول: إنّ الحسينعليه‌السلام حافظ على قدسية ثورته ونبل نهضته وشرف تضحيته بذلك العمل، أي بأنْ أبعد عنها الأوباش وأهل الأطماع والانتهازيين؛ عملاً بمضمون الآية الكريمة:( وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً ) (1) . وعملاً بالقاعدة المعروفة: فاقد الشيء لا يعطيه.

أجل، إنّ شرف كلّ ثورة يتوقّف إلى حدّ كبير على شرف الثائرين وحسن نواياهم وإخلاص نياتهم، ثمّ إنّ الإصلاح لا يأتي على أيدي غير الصالحين، وهذا من أعظم الدروس نفعاً للأجيال في ثورة الحسينعليه‌السلام .

____________________

(1) سورة الكهف / 51.

١١٤

هل كانت ثورة الحسين عليه‌السلام ناجحة ومحقّقة لأهدافها؟

كتب الحسينعليه‌السلام إلى مَنْ تخلّف عنه كتاباً لمّا نزل كربلاء، قال فيه: «أمّا بعد، فمَنْ لحق بي منكم استشهد، ومَنْ لم يلحق لمْ يبلغ الفتح، والسّلام».

فأيّ فتح هذا الذي يقصده الحسينعليه‌السلام مع علمنا بأنّه قُتل هو وأصحابه وأهل بيته وسُبيت حريمه وحُمل رأسه إلى ابن زياد ويزيد؟!

نقول: كان للحسينعليه‌السلام من وراء ثورته المقدّسة هدفان: هدف قريب مباشر، وهدف بعيد غير مباشر؛ أمّا الهدف القريب المباشر فهو استرجاع حقّه الشرعي والطبيعي في الخلافة والحكم؛ لأجل إصلاح المجتمع، وإعادة نظام الإسلام إلى الحياة الاجتماعية، وإحياء سنّة جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإماتة البدع، وتصحيح الأخطاء والانحرافات التي تراكمت على المسلمين منذ وفاة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من جراء السياسات المختلفة التي مارسها الحكّام من ذلك اليوم إلى يوم الحسينعليه‌السلام ؛ ممّا أدّى إلى أنْ لا يبقى من الإسلام بأيدي المسلمين إلاّ اسمه، ولا من القرآن الكريم إلاّ رسمه.

وأمّا الهدف البعيد غير المباشر فهو وضع النقاط على الحروف، ووضع الحدود والعلامات الواضحة بين الإسلام الحقيقي والإسلام المزيّف، ولفت الأنظار إلى فشل السياسة السابقة التي أدّت إلى الوضع الفاسد القائم، وإلى خطأ المفاهيم التي سار عليها المسلمون بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والخلاصة : كان هدفه الأول إحياء الإسلام فكريّاً وعمليّاً، وهدفه الثاني إحياؤه فكرياً على الأقل.

١١٥

وهو وإنْ فاته تحقيق الهدف الأوّل بسبب غدر أهل الكوفة، ولمْ يتسنَ له أنْ يقيم حكومة إسلاميّة صحيحة ويطبّق النظام الإسلامي الصحيح بين المسلمين، ولكن حقّق هدفه الثاني بلا شك، ونزّه دين الله وشريعة الإسلام وسنّة خاتم الأنبياء عن الشوائب المهينة، والمظاهر المشوّهة، والمفاهيم المغلوطة التي ألحقت به وتراكمت عليه، وأظهر وجه الإسلام الجميل ومنظره الجذّاب وصورته السماوية الغرّاء من بين ركام البدع والاجتهادات الضالة والاستحسانات الفاسدة.

وكمثل على ذلك نقول: إنّ ممّا شاع وذاع بين الخبراء والباحثين هو أنّ من أهم النتائج والآثار لمأساة الحسينعليه‌السلام وحادثة كربلاء انتشار التشيّع، وظهور مذهب أهل البيتعليهم‌السلام أكثر فأكثر، وتزايد عدد الشيعة في العالم الإسلامي رغم أنّ انبثاق التشيّع كان مقارناً مع انبثاق فجر الإسلام ومنذ أوائل البعثة المحمدية، غير أنّه كان محدوداً ومحصوراً في نطاق أعيان الصحابة وأعلام المهاجرين والأنصار بالإضافة إلى بني هاشم.

أمّا بعد ثورة الحسينعليه‌السلام ، فإنّه - أي التشيّع - أصبح منتشراً في كافة الأقطار، وبين عامّة الطبقات. والسؤال الآن هو: كيف كان ذلك، ولماذا؟

الجواب : أقول: لأنّ الرأي العام، وكلّ إنسان حرّ عاقل ذو وعي وضمير لمّا سمع بأنباء تلك المجزرة الرهيبة التي اُبيد فيها آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبما تلاها من الجرائم والموبقات وأبشع المنكرات التي تأباها حتّى الوحوش...

أقول: لمّا اطّلع عليها صار يفكّر في نفسه ويتساءل: من أين جاءت هذه العصابة المجرمة الاُمويّة إلى السلطة؟ وكيف توصّل هؤلاء الطغاة المتمرّدون على أبسط القوانين الإنسانية والإسلام إلى الإمرة والحكم فسوّدوا وجه التاريخ الإسلامي والعربي، وملؤوا الدنيا بالظلم والفساد؟ مَنْ الذي مكّن لهم ومهّد الطريق أمامهم إلى الخلافة الإسلاميّة؟

١١٦

فيأتيه الجواب طبعاً وبكل بساطة: إنّه بسبب الغلطة الكبرى والخطأ الذي ارتكبه بعض الصحابة بعد وفاة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بإنكارهم الحقّ الشرعي والطبيعي في الخلافة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بعد الرسول، ورفضهم النصوص القرآنية والوصايا النبويّة في خلافة عليعليه‌السلام وولايته العامّة على الاُمّة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وادّعوا أنّ الله لمْ يعيّن لرسوله خليفة قطّ، والرسول لمْ يختر لنفسه نائباً ووصياً، وأنّ أمر القيادة والإمامة بعد الرسول موكول إلى أهواء الناس وآرائهم؛ فأدّى ذلك بطبيعة الحال إلى أن يتقمّص الخلافة ويتسلّم زمام السلطة والقيادة العامّة بعد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أشخاص جديدوا عهد بالإسلام وأهدافه، بعيدون عن تفهّم جوهره ولبابه، وبعدُ لمْ يعرفوا الإسلام بروحه وحقيقته وواقعه الذي هو تربية روحية وتهذيب خلقي وتكوين إنساني أكثر من كونه توسّعاً إقليمياً وسلطة زمنية وحركة سياسية؛ لذلك صاروا يخبطون خبط عشواء، ويتخبّطون في أمر الخلافة بغير هدى ولا طريق معين.

فتارة يعتمدون في اختيار الخليفة مبدأ الانتخابات العام، وتارة مبدأ النص والاختيار الفردي، واُخرى مبدأ الشورى من قبل أشخاص معدودين، وهكذا كلّما اعتمدوا مبدأ جاء بنتيجة أسوأ من الأول، إلى أن صارت الخلافة الإسلاميّة لعبة صبيانية ومطمعاً لكلّ طامع حقير.

لقد هزلت حتّى بدا من هزالِها

كلاها وحتّى استامها كلُّ مفلسِ

فيا ترى! هل يجوز على الله سبحانه وتعالى - وهو علاّم الغيوب القادر الحكيم - أن يرضى لعباده هذا الخبط والضلال فلا يختار لهم قائداً مخلصاً وإماماً عالماً وخليفة كفؤاً بعد نبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا نبي بعده؟! كلاّ وحاشا، سبحانه وتعالى عمّا يزعم الجاهلون ويقوله الظالمون.

قل لي بربك أيّها المنصف: إلى أيّ شيء أوكلهم الله بعد رسوله في أمر التنظيم والتوجيه؟ أإلى القرآن الكريم فقط، وفيه الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، والمجمل

١١٧

والمفصّل، والتفسير والتأويل؟! مع العلم بأنّه سبحانه أمرهم فيه أن يرجعوا لمعرفة آياته وتأويلها إلى الراسخين في العلم - أي علم القرآن -، وأمرهم بأنْ يسألوا أهل الذكر عمّا يجهلون منه.

فمَنْ هم هؤلاء الراسخون في العلم؟ ومَنْ هم أهل الذكر؟ أفلا يجب عليه تعالى أن يعرّف العباد بهم؟! وإلاّ فما وجه الحكم في الأمر بشيء مجهول؟! ثمّ بأيّ حجّة يحتجّ الله سبحانه على عباده إذا ضلّوا بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولمْ يهتدوا إلى أهل الذكر وإلى العلماء الراسخين؟! وهذا القرآن كما تراه يحتمل سبعين وجهاً في التفسير والتأويل على حدّ الحديث الشريف الذي مؤدّاه: إنّ للقرآن سبعين بطناً، فمَنْ فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.

هذا من جهة، ومن الجهة الاُخرى يقول المثل المأثور: حدّث العاقل بما لا يليق فإنْ صدّق فلا عقل له. فهل يليق أيّها العاقل المنصف بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الفرد الأكمل في النوع الإنساني عقلاً وحكمة، أنْ يموت ويترك رسالته دون تعيين نائب عنه في رعايتها ونشرها وصيانتها والدفاع عنها؟!

يموت تاركاً الاُمّة التي تعب على إنشائها طيلة ثلاث وعشرين سنة دون تعيين راعٍ يرعاها، وبلا أنْ ينصب خليفة عنه لقيادتها وهي بعدُ في بداية الطريق ودور الطفولة ومرحلة الخطر؛ محاطة بالأعداء والموتورين والطامعين من الخارج، ومهدّدة بالمنافقين والانتهازيين والمؤلّفة قلوبهم من الداخل؟!

يموت بدون وصيّة وبدون تعيين وصي، وبدون أنْ يختار نائباً وخليفة عنه في اُمّته، فيخالف بذلك كافة الأعراف العقلائية، وأبسط النواميس العقلية، وقانون الأنبياء والمرسلين؟!

قل لهؤلاء الذين يزعمون أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله مات ولمْ يعيّن لنفسه خليفة ووصياً... قل لهم: هل فعل ذلك نبي أو رسول قبل محمد؟! أيّ نبي من آدم فمَنْ بعده مات قبل أن يعيّن ويختار وينصّب خليفة ووصيّاً؟! فكيف يشذّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله عن سيرة الأنبياء ويخالف مسلك المرسلين مع كونه آخرهم وخاتمهم؟!

هاك كتب التاريخ وسير الأنبياء فراجعها لتعرف أنّه ما من نبي من آدمعليه‌السلام

١١٨

إلى عيسى فارق الحياة وخرج من هذه الدنيا إلاّ بعد أن اختار لنفسه وصيّاً، وعيّن نائباً، وعرّفه لاُمّته، وسلّمه كتبه ومواريث العلم والنبوّة؛ سواء كان ذلك الوصي والخليفة نبيّاً أيضاً كأكثر أوصياء الأنبياء، أو لم يكن نبياً، بل كان إماماً وخليفة فقط يقوم بمهام النبي ويرعى شؤون اُمّته ورسالته.

وإليك أسماء البارزين من اُولئك الأنبياء، وأسماء خلفائهم الذين قاموا بعدهم بوصيّة خاصة ونصّ وتعيين:

1 - آدمعليه‌السلام أبو البشر وأوّل الأنبياء: خلّف ولده الثالث شيتعليه‌السلام وصيّاً وخليفة من بعده، وسلّم إليه الصحف التي أنزلها الله عليه، والكلمات التي تلقّاها من ربّه فتاب عليه بعد أنْ كان قد أوصى إلى ولده هابيل واختاره خليفة عنه، فحسده أخوه الأكبر قابيل وقتله، حسب ما هو معروف ومشروح في الكتاب العزيز.

2 - نوحعليه‌السلام شيخ المرسلين: خلّف ولده الصالح سام، واختاره خليفة على اُمّته من بعده، وسلّم إليه الصحف والكتب المنزلة عليه بعد أنْ هلك ابنه الأكبر الكافر (كنعان) مع المشركين والكفرة في الطوفان، على ما ذكر من قصته في القرآن.

3 - إبراهيم الخليلعليه‌السلام : خلّف ابنه الأكبر إسماعيلعليه‌السلام خليفة على اُمّته من بعده، وأوصاه أنْ يخلّف أخاه الأصغر إسحاقعليه‌السلام من بعده، وأوصى إسحاق أنْ يخلّف ابنه الأكبر يعقوب.

4 - موسى بن عمران كليم اللهعليه‌السلام : عيّن أوّلاً أخاه ووزيره في الرسالة هارون بن عمران ليخلفه في اُمّته، ولكن وافاه الأجل المحتوم قبل موسىعليه‌السلام ، فأوصى موسى إلى يوشع بن نونعليه‌السلام وخلّفه إماماً على اُمّته، وسلّمه التوراة والمواريث. ولمّا مات موسى وقام يوشع بن نون مقامه حسدته زوجة موسى، وهي صفيراء بنت شعيب، فأثارت ضدّه الفتنة وحاربته، ولكنّ الله سبحانه نصره عليها. وقصته مذكورة في كتب سيرة الأنبياء.

١١٩

5 - داودعليه‌السلام : اختار ولده سليمان في حياته، وأوصى إليه وسلّمه الزبور ومواريث النبوّة، فقام من بعده بأمر الرسالة.

6 - عيسى بن مريمعليه‌السلام روح الله وآيته: أوصى إلى شمعون الصفا، وهو من خلّص الحواريين، فقام شمعون الصفا من بعد أنْ رفع عيسىعليه‌السلام مقامه خليفة في اُمّته، ووصيّاً على رسالته.

7 - زكريّاعليه‌السلام : أوصى في حياته إلى ولده يحيىعليه‌السلام ، وعيّنه خليفة عنه بعده... وهكذا.

فكيف يجوز في عرف الشرع ومنطق العقل وسيرة العقلاء أنْ يشذّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله عن سيرة سلفه الصالح، ويخالف الأنبياء جميعاً فيموت ويترك اُمّته سدى، حبلهم على غاربهم تتلاعب بهم الأهواء وهو أفضل الأنبياء عقلاً وحكمة ومعرفة، ورسالته خاتمة الرسائل والشرايع، جاءت لتدوم إلى الأبد وليهتدي بها البشرية جميعاً فهل هذا معقول؟!

والشيء الآخر هو: أنّ السيرة الفطرية في سلوك كلّ بشر عادي أنّه إذا كان مسؤولاً عن شيء، أو يحرص على سلامة شيء من مال أو متاع أو عائلة، ثمّ عرضت له حاجة تدعوه أنْ يغيب عن تلك المسؤوليّة، فإنّه بحكم فطرته الارتكازية يفكّر بمَنْ يقوم مقامه مدّة غيابه؛ للحفاظ على ذلك الشيء، وأداء تلك المسؤوليّة مدّة غيابه.

فمثلاً: رجل ربّ عائلة يريد السفر لعدّة أيام أو أشهر، فإنّه بفطرته البشرية العادية يوصي إلى رجل رشيد من أقاربه أو جيرانه أو أصدقائه بأن يرعى شؤون عائلته، ويتفقّد اُمورهم مدّة غيابه.

ومثل آخر: رجل صاحب مكتب أو متجر أو شيء من هذا القبيل يريد مغادرته لحاجة في الخارج خلال مدّة العمل، فإنّه يكلّف شخصاً، أو ينصب شخصاً للقيام مقامه أو لرعاية المكتب على الأقل ريثما يذهب ويعود، ولا يمكن أنْ يترك المكتب مهملاً مفتوحاً بدون رعاية من أحد.

١٢٠