مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب0%

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 190

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الوهاب الكاشي
تصنيف: الصفحات: 190
المشاهدات: 29249
تحميل: 4402

توضيحات:

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29249 / تحميل: 4402
الحجم الحجم الحجم
مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأخيراً: فلنتصور رجلاً راعي معز أو غنم أو بقر يريد أنْ يترك القطيع في الصحراء ويعود إلى البلد لحاجة عارضة، فهل يتركه بدون أنْ ينصب مكانه رجلاً لحراسة القطيع وحمايته مدّة غيابه؟! وإذا فعل وترك القطيع سدى وذهب عنه أفلا يلومه العقلاء على ذلك ويعتبرونه مقصّراً في واجبه، متهاوناً بمسؤوليته؟!

وهنا نتساءل: هل كانت الاُمّة والرسالة أقلّ شأناً وقيمة عند محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من الدكان أو المكتب عند صاحبه ومن قطيع الغنم عند الراعي؟! أم أنّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أقلّ حكمة وأضعف تفكيراً وشعوراً بالمسؤوليّة من صاحب المتجر والدكان، ومن راعي الغنم والبقر ومن الرجل العادي ربّ العائلة؟! نعوذ بالله من هذه الافتراءات، ونبرأ إلى الله من هذه المزاعم والأقوال.

والأمر الرابع: أقول: هل رأيت أو سمعت في العالم ملكاً بدون وليّ عهد معيّن في حياته، أو رئيس جمهورية أو أمير دولي بلا نائب مخصوص مختار قبل وفاته؟!

فهل كان محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أقلّ إدراكاً للاُصول الإدارية والسياسية والزعامة من كلّ الملوك والرؤساء، أم ماذا؟ أم أنّ الملوك والرؤساء أكثر إشفاقاً على سلامة الشعوب والنظام من سيد المرسلين وخاتم الأنبياء على اُمّته ورسالته؟!

أيقبل عقلك ويرضى وجدانك أنّ الخليفة الأول أبا بكر يهتمّ بأمر المسلمين فلا يُفارق الحياة حتّى ينصّ على عمر بن الخطاب بالخلافة من بعده، ويكتب له العهد بذلك، والخليفة الثاني عمر يهتمّ بأمر القيادة الإسلاميّة وزعامة الاُمّة فلا يموت حتّى يرشّح ستة أشخاص من كبار الصحابة لمنصب الخلافة، ويضع نظام الشورى ويؤكد على أن لا تمضي ثلاثة أيّام بعد موته حتّى يكون أحد هؤلاء الستة قد تعيّن للخلافة وتسلّم زمام أمور الاُمّة، ولكن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يموت بلا وصيّة وبدون وصي وخليفة؟!

أفيجوز أن يكون كلّ من أبي بكر وعمر بن الخطاب أشدّ حرصاً على مصلحة الإسلام والمسلمين من صاحب الرسالة ومؤسس الاُمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

١٢١

إنّ مبدأ الاعتراف بالأمر الواقع الذي يسير عليه أكثر المسلمين بزعم أنّ خلافة الثلاثة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيامهم مقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر قد وقع وصار فيجب الاعتراف بصحته والإذعان لشرعيته.

أقول: إنّ هذا ليس مبدأً شرعياً، ولا يقرّه العقل والعقلاء؛ إذ ليس كلّ ما وقع في العالم وحدث في التاريخ هو حقّ وصواب وعدل وصلاح، وليس كلّ ما يحدث ويقع يجوز الاعتراف بصحته والالتزام بشرعيته.

ما أكثر الحوادث الباطلة والوقائع الفاسدة والقضايا التي تحقّقت في هذه الحياة، ولكن على أساس الظلم والعدوان؛ فهذه مثلاً دولة إسرائيل القائمة في قلب العالم العربي الإسلامي وقد اعترف بها أكثر دول العالم، وتؤيّدها أكبر الحكومات ماديّاً ومعنويّاً، فهل يجوز للعقل والشرع وعرف العقلاء الاعتراف بها وبشرعيتها لمجرد ذلك؟!

الجواب: طبعاً كلاّ؛ لأنّها وقعت على الغدر والخيانة والغصب، كما أنّ المبدأ القائم على الفكرة القائلة: بأنّ الصحابة كلّهم عدول أخيار صلحاء لا يجوز الطعن فيهم، ولا يحقّ لنا التنديد بهم. هذا المبدأ هو الآخر غير صحيح لا يقوم على أساس من المنطق والدليل؛ إذ لا شك أنّهم كانوا بشراً مثلنا غير معصومين من الخطأ والعصيان ومخالفة أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ مَنْ عصمه الله منهم بقوّة الإيمان والتقوى، ومتانة العقيدة واستكمال التربية الإسلاميّة.

وقد وقعت بينهم اختلافات شديدة أدّت إلى أنْ يشتم بعضهم بعضاً، ويقاتل بعضهم البعض وسفكت بينهم الدماء، فهل كانوا جميعاً على حقّ في تلك المنازعات؟! وهل كانوا كلّهم عدولاً في خلال تلك الحروب والمعارك؟! وهل القاتل والمقتول منهم في الجنّة؟!

إنّ مجرّد الصحبة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ليست علّة تامّة لحصول الإيمان والعصمة الحافظة. كيف لا وقد صرّح القرآن الكريم بوجود عدد كبير من المنافقين بين صفوف الصحابة الذين كانوا مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة.

وقد دبّر بعضهم عدّة مؤامرات لاغتيال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فنجا منها بمعجزة. وكان فيهم - أي في اُولئك المنافقين - عدد قد أتقنوا فنّ النفاق إلى حدّ خفي نفاقهم حتّى على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

١٢٢

فما كشفوا إلاّ بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ذكرهم تعالى لرسوله على نحو الإجمال، فقال:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ من الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَى‏ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) (1).

ثمّ كيف يستبعد منهم مخالفة أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيه وخليفته علي بن أبي طالب بعد وفاته، وقد خالفوا أوامره مراراً في حياته وهم معه وجهاً لوجه؟!

خذ مثلاً لذلك ما أجمع عليه المسلمون جميعاً، وهي قضية طلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الدواة والكتف في حال مرضه الذي توفي فيه؛ ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، فعصوا أمره ولم يلبّوا طلبه، وقالوا: إنّه يهجر. فغضب الرسول عليهم، وقال: «قوموا عنّي».

راجع ذلك في الصحاح والمسانيد، وفكّر فيما شرحناه بعقلك وحكّم وجدانك وضميرك؛ لتعرف أنّ فكرة التشيّع والمذهب الشيعي هما عصارة مدلول الكتاب العزيز والسنّة الشريفة، ونابعان من صميم العقل والضمير الإنساني.

ولتعرف إنّ التشيّع قائم على أساس متين من الدليل والمنطق والوجدان، وهو عبارة اُخرى عن الإسلام التامّ الكامل الشامل لكلّ ما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من عند الله تعالى بدون زيادة ولا نقصان. كيف لا، وهو مذهب أهل البيتعليهم‌السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً؟!

والآن نختم البحث حول هذا الموضوع، ونعود إلى الغرض المقصود وهو: أنّ من ثمرات ثورة الحسينعليه‌السلام ومن نتائج تضحياته الجسام، انتباه الرأي العام الإسلامي إلى خطأ السياسات الارتجالية التي سار عليها ولاة الأمر منذ وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي أدّت بالمسلمين إلى النكسات والنكبات وتشتّت الكلمة، واندلاع الفتن والحروب الداخلية والمفاسد الاجتماعية، وانحسار الروح الإسلاميّة من نفوس المسلمين.

وأدّت أخيراً إلى هذه الوصمة المخزية ولطخة العار في جبين الإنسانية، حيث لمْ يمضِ على وفاة رسول الإسلام ونبي المسلمين سوى خمسين عاماً فقط وإذا المسلمون أنفسهم ينهالون على أهل بيت نبيهم، وأولاد منقذهم وذرية سيدهم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قتلاً وتشريداً وإبادة، وتقطيع أوصال وحمل الرؤوس على أطراف الرماح من بلد إلى بلد، وترك الجثث على وجه الرمال،

____________________

(1) سورة التوبة / 101.

١٢٣

وحمل بنات رسول الله سبايا حواسر على الأقتاب، تُساق كما تُساق سبايا الكفرة والأشرار. كلّ ذلك بسبب أنّهم أنكروا الظلم والفساد، وعارضوا البدع والاستبداد.

فهل ارتكبت اُمّة في العالم قبل هذه الاُمّة عاراً مثل هذا العار، وجريمة أبشع وأخزى من هذه الجريمة؟!

قال السيد الرضيرحمه‌الله في قصيدة له:

جزّورا جزرَ الأضاحي نسلَهُ

ثمّ ساقوا آله سوق الإما

لو بسبطي قيصرٍ أو هرقلِ

فعلوا فعل يزيدٍ ما عدى

ليس هذا لرسولِ الله يا

اُمّةَ الطغيانِ والبغي جزا

كلّ ذلك من جرّاء الإعراض عن الإمامة الشرعية والخلافة الإلهية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تماماً كما تنبّأت به وحذرتهم عنه سيدة النساء فاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في الخطبة التي ألقتها على نساء المهاجرين والأنصار بعد اغتصاب الخلافة من الإمام عليعليه‌السلام ؛ حيث قالتعليها‌السلام : «ويحهم! أنّا زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوّة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطّبين باُمور الدنيا والدين؟! ألا ذلك هو الخسران المبين! وما الذي نقموه من أبي الحسن؟! نقموا منه والله نكير سيفه، وقلّة مبالاته بحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله.

وتالله، لو مالوا عن المحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لردّهم إليها، ولحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سجحاً؛ لا يكلّم خشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه. ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً تطفح ضفتاه، ولا يترنّق جانباه، ولأصدرهم بطاناً، ولنصح لهم سراً وإعلاناً.

ولم يكن يتحلّى من الغنى بنائل، ولا من الدنيا بطائل غير ريّ الناهل وشبعة الكافل، ولَبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب:( وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى‏ آمَنُوا وَاتّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ من السّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِن كَذّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (1) .

____________________

(1) سورة الأعراف / 96.

١٢٤

ويحهم!( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلاّ أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) .

أما لعمري، لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثمّ احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً، فهنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غبّ ما أسس الأوّلون، ثمّ طيّبوا عن دنياكم نفساً، واطمئنوا للفتنة جأشاً، وابشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً وجمعكم حصيداً. فيا حسرة لكم! وأنّى بكم وقد( عُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) (2» ).

ونعود فنقول: إنّ ثورة الحسينعليه‌السلام كانت ناجحة وفاتحة ورابحة، ولكن نجاحاً معنوياً وفتحاً فكريّاً على الصعيد العالمي، وربحاً عاطفياً ووجدانيّاً عمّ النوع الإنساني بكلّ شعوبه وطوائفه وقومياته.

وأمّا النصر العسكري والنجاح المسلّح فليسا دائماً دليلاً على النجاح الحقيقي على حد الكلمة المأثورة: جولة الباطل ساعة وجولة الحقّ إلى قيام الساعة، والعاقبة للتقوى.

____________________

(1) سورة يونس / 36.

(2) سورة هود / 28.

١٢٥

هل هناك ثمرة من ثورة الحسين عليه‌السلام للمسلمين ككل؟

أيّها القارئ الكريم، لا تظنّ أنّ ثورة الحسينعليه‌السلام وتضحياته السخيّة المباركة قد خدمت التشيّع فحسب! كلاّ. بل خدمت المسلمين كأمّة واحدة وبأجمعهم أيضاً؛ وذلك بما ولّدته فيهم من وعي وإحساس تنبّهوا بهما إلى أمر خطير، وغلط كبير جداً كان محدقاً بهم وكاد أن يبدّل دينهم وهم لا يشعرون.

وهو: أنّ المسلمين من حيث العموم كانوا ينظرون إلى الخلفاء والاُمراء الذين حكموهم منذ أن قبض النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بصفة مزدوجة هي صفة المشرّعين والمنفّذين في آن واحد، أي كانوا يتصوّرون أنّ الخليفة له صلاحية التشريع والتحليل والتحريم والتغيير والتبديل.

كما له حقّ التطبيق وصلاحية التنفيذ قياساً لهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان هو المشرّع والمنفّذ معاً. ومن هذه النظرة الخاطئة من المسلمين إلى حكّامهم تجرّأ بعض اُولئك الحكّام على الاجتهاد ضدّ نصوص الكتاب والسنّة الشريفة، وعلى التلاعب بأحكّام الإسلام حسب شهواتهم ومصالحهم.

فما أن التحق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى حتّى بدأ الاختلاف بين سيرته وسيرة المسؤولين بعده، إلى أن جاء دور عثمان، فكان الاختلاف بين سيرته وسنّة رسول الله بلغ إلى حدّ قالت عنه اُمّ المؤمنين عائشة، وقد أخرجت ثوباً من ثياب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تعرضه على الناس: انظروا، هذا ثوب رسول الله بعدُ لمْ يبلَ وعثمان قد أبلى سنتّه.

١٢٦

والخطر الأكبر الذي كان يكمن في تلك الظاهرة هو: أنّ المسلمين كانوا يأخذون تلك التصرّفات الشاذة عن نصوص القرآن والسنّة الشريفة من قِبل الخلفاء بعين الاعتبار، وبأنّها من صميم الإسلام وشريعة الله تعالى؛ لذا فقد استغل الأمويّون تلك النظرة أكبر فرصة لهم في سبيل تحقيق مؤامراتهم العدوانية ضدّ الإسلام ونبي الإسلام، فأخذوا يحرّفون ويشوّهون ويتلاعبون بشعائره ومقدّساته حيثما شاؤوا.

فمن ذلك مثلاً: أنّ معاوية صلّى بهم ذات مرّة صلاة الجمعة يوم الأربعاء فصلّوها معه، وسنّ لهم سبّ الإمام أمير المؤمنين على المنابر وفي صلاة الجمعة، وأعطى الجزية للرومان مقابل سحبه المرابطين على الحدود؛ ليحارب بهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولبس الحرير والذهب، وشرب الخمر، وقتل النفوس المحترمة على الظنّة والتهمة، وألحق زياد بن سميّة بأبيه أبي سفيان خلافاً لنص الحديث الشرف: «الولد للفراش وللعاهر الحجر». وحوّل الخلافة الإسلاميّة إلى ملك وراثي عضوض، إلى غير ذلك من بدعه ومخالفاته التي يطول شرحها.

وكان الناس يأخذون تلك البدع بعين الاعتبار، وأنّها من الدين، كما قدّمنا، ولكن بعد ثورة الحسينعليه‌السلام تغيّرت نظرة المسلمين إلى الحكّام والاُمراء، وظهروا أمام الرأي العام الإسلامي على أنّهم سلاطين جور وحكّام بالقهر والغلبة، وملوك دنيويون ليس لهم صفة شرعيّة ولا سلطة تشريعية.

فالإسلام شيء وسيرة الحكّام والاُمراء الذين يحكمون المسلمين شيء آخر، لا يمثّل أحدهما الآخر في شيء أبداً؛ ولهذا التبدل والفصل بين الحكّام وأعمالهم من جهة وبين الإسلام والمسلمين من جهة اُخرى بقي الإسلام محفوظاً ومصاناً على الصعيد الفكري إلى يومنا هذا. ولولا ذلك لكان الإسلام خبراً بعد عين، ولكان المسلمون اليوم اُمّة جاهليّة إباحيّة لا تعرف الله، ولا تؤمن بنبي، ولا تقرأ كتاباً.

وليس أدلّ على ذلك - أي على ما قلناه من أنّ ثورة الحسينعليه‌السلام عزلت الحكّام عن الشعب، وانتزعت منهم صلاحية التشريع وصفة الشرعية عن سلوكهم - من ظهور الطوائف، وتعدد المذاهب، وتزايد الفرق الإسلاميّة بعد عصر الحسينعليه‌السلام مباشرة.

١٢٧

ووجه الدلالة فيه هو: من حيث إنّ الحكّام لمّا شعروا بمقت الاُمّة لهم وتنفّر الرأي العام منهم، وأنّ الحسينعليه‌السلام قد انتزع بثورته المقدّسة الخالدة السلطة الروحية من أيديهم، وبالتالي تبيّن لهم أنّهم أصبحوا معزولين عن الشعب روحيّاً ودينيّاً؛ لذا حاولوا أن يستعيدوا سلطتهم على الاُمّة وسيطرتهم على الشعب ولو من طريق غير مباشر، أي بواسطة عملاء لهم من رجال الدين والعلماء الذين تغريهم المناصب وتستغويهم الأموال؛ ليكون هؤلاء العملاء كحلقة وصل بين الشعب والحكّام؛ ينفّذون سياسة الحكّام، ويبرّرون إجرامهم، ويدعون إلى سلطانهم اللاشرعي؛ ومن ثمّة يكونوا سلاحاً بيد السلطات يحاربون بهم الدين، ويدافعون بهم عن حكمهم وسلطانهم القائم باسم الدين، وهكذا كان.

فقد بدأ الحكّام بعد الحسين سياسة التفرقة الطائفية، وتمزيق وحدة المسلمين بالطائفية، وتعدد المذاهب التي بلغت في أواسط الدولة العباسية إلى أكثر من ثلاثمئة طائفة وفرقة، وكلّ طائفة تنتمي وتنتسب إلى رجل دين أو عالم أو محدّث؛ إما مساير للسياسة والحكّام كليّاً، أو سلبيّ مجامل لهم على أحسن الفروض، وبذلك نجحت سياسة (فرّق تسد) في خدمة الحكّام نجاحاً كبيراً، وظلّوا محتفظين بكراسيهم وسيطرتهم من هذا الطريق.

وظلّ أئمة الهدى من أهل البيتعليهم‌السلام ومعهم شيعتهم وأصحابهم هم الطائفة الوحيدة بين تلك الطوائف الإسلاميّة الكثيرة الذين يمثّلون الحزب المعارض لتلك الحكومات الجائرة، والذين يقفون في وجه اُولئك العلماء الدجّالين ورجال الدين المنافقين السائرين في ركاب الحكّام والاُمراء.

فهذا مثلاً الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام بعث إليه المنصور الدوانيقي مرّة، يقول له: يا أبا عبد الله، هلاّ تغشانا وتزورنا كما يغشنا غيرك من العلماء؟

فأرسل إليه الإمامعليه‌السلام ، يقول له: «ليس عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، وليس عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولست في نعمة حتّى نهنّيك، ولا ترى نفسك في مصيبة حتّى نعزّيك، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا رأيتم العلماء على أبواب الاُمراء فقولوا: بئس العلماء وبئس الاُمراء. وإذا رأيتم الاُمراء على أبواب العلماء فقولوا: نِعم العلماء ونِعم الاُمراء. فعلامَ نصحبك بعد هذا؟!».

١٢٨

فأرسل إليه المنصور ثانية، يقول له: تصحبنا لتنصحنا. فقال الإمامعليه‌السلام : «إنّ مَنْ يريد الدنيا لا ينصحك، وإنّ مَنْ يريد الآخرة لا يصحبك».

ولقد بذل الحكّام جهوداً كثيراً، وحاولوا شتّى المحاولات لكي يستميلوا أهل البيتعليهم‌السلام نحوهم، ويجذبوهم إلى جانبهم ليكسبوا تأيدهم، ولكن فشلوا وخاب ظنّهم، وما وجدوا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ الاستقامة على الحقّ، والتصلّب ضدّ الباطل، وإعلان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لا تأخذهم في الله لومة لائم؛ لذلك قابلوهم بكلّ ظلم واضطهاد، وحاربوهم بكلّ قسوة وعنف، واضطهدوا شيعتهم ومنعوا الناس من الوصول إليهم، وأغلقوا أبوابهم، وتركوهم شتّى مصارعهم وأجمعها فظيعة:

فمكابدٌ للسمّ قد سقيت

حشاشته نقيعَهْ

ومضرّجٌ بالسيف آثر

عزّه وأبى خضوعَهْ

ومصفّدٌ لله سلّم أمر

ما قاسى جميعَهْ

و سبيّةٌ باتت بأفعى الـ

همّ مهجتها لسيعهْ

وهذا الاضطهاد والتعسّف الذي مارسه الحكّام ضدّ أئمّة الهدى من آل البيتعليه‌السلام هو السبب في انقسام الشيعة أنفسهم إلى عدّة فرق وطوائف أيضاً؛ لأنّ إمام الحقّ كان ممنوعاً من إظهار نفسه والدعوة إليه، وكان بسطاء من الشيعة يُخدعون بالدعايات المضلّة والمظاهر الجذابة فيلتفّون حول بعض الأشخاص من أبناء الأئمّةعليهم‌السلام ، أو من أقاربهم ويقولون بإمامتهم.

مثل: الكيسانية الذين دانوا بإمامة محمد بن الحنفيّةرحمه‌الله بعد الحسينعليه‌السلام ؛ لما كان يتحلّى به محمد من علم وشجاعة، وإنّه ابن الإمام عليعليه‌السلام ، وأخو الحسينعليه‌السلام ، وبالتالي هو أكبر من الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

١٢٩

ثمّ الزيديّة الذين دانوا بإمامة زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام بدل الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، ثمّ الإسماعيلية الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن الصادقعليه‌السلام بدل أخيه الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ، وهكذا إلى غيرها من الفرق الشيعية الأصل والتي شذّت عن طريق الحقّ بسبب اختفاء صوت إمام الحقّ، أو الإرهاب الذي كان يحول دون وصولهم إلى إمام الحقّ، وقد أبيد أكثر تلك الطوائف والفرق ولم يبقَ منها إلى اليوم سوى الطائفة الزيدية في اليمن والطائفة الإسماعيلية في الهند والباكستان.

إلى جانب الطائفة الحقّة الجعفرية الإمامية الذين يشكّلون أكبر طائفة إسلاميّة في العالم، والذين ساروا مع التشيّع الصحيح إلى آخر الشوط، ودانوا بإمامة الأئمة الاثني عشر المنصوص عليهم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالإمامة، وهم: علي بن أبي طالب، ثمّ ابنه الحسنعليه‌السلام ، ثمّ أخوه الحسينعليه‌السلام ، ثمّ ابنه علي زين العابدينعليه‌السلام ، ثمّ ابنه محمد الباقرعليه‌السلام ، ثمّ ابنه جعفر الصادقعليه‌السلام ، ثمّ ابنه موسى الكاظمعليه‌السلام ، ثمّ ابنه علي الرضاعليه‌السلام ، ثمّ ابنه محمد الجوادعليه‌السلام ، ثمّ ابنه علي الهاديعليه‌السلام ، ثمّ ابنه الحسن العسكريعليه‌السلام ، ثمّ ابنه محمد المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) صاحب العصر والزمان (صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً).

وهنا بمناسبة ذكر صاحب الزمان يتولّد سؤال كثيراً ما يتساءل به شباب عصرنا الحاضر حول هذا الإمام الثاني عشر عند الشيعة الجعفرية، الذي يُعتقد في أنّه غاب عن الأبصار بعد وفاة أبيه الإمام الحادي عشر الحسن العسكريعليه‌السلام ، وذلك قبل أكثر من ألف ومئة وعشرين عاماً، أي في سنة (260) من الهجرة، وهو لا يزال حيّاً يرزق حتّى الآن في هذه الدنيا إلى أن يأذن الله له بالظهور، فيظهر ويطهّر العالم من الظلم والجور والفساد في وقت لا يعرفه على وجه التحديد إلاّ الله تعالى.

والسؤال في هذا الموضوع يدور غالباً حول بقائه حيّاً هذه المدّة الطويلة، وأنّه كيف يعيش إنسان حوالي ألف ومئة وعشرين سنة ولا يزال حيّاً إلى ما شاء الله؟

١٣٠

الجواب:أوّلاً: من الناحية العلميّة لا مانع في ذلك ولا استحالة؛ لأنّ العلم لم يحدد عمر الإنسان وإنّما حدد أسباب الوفاة، وهي تتلخّص في اختلال المزاج والتوازن الصحي وإصابة الأعضاء الرئيسة في الجسم بعطب خطير، فكلّما حافظ الإنسان على توازن صحته وسلامة أعضائه الرئيسة كلّما استمر بقائه وطالت حياته؛ ومن هنا يختلف الناس في طول البقاء وقصره تبعاً لسلامة أجسامهم من الأمراض.

وممّا لا شك فيه أنّ الإمام المعصوم المؤيد من قبل الله تعالى يكون أعرف الناس بقوانين الوقاية الصحيحة، وأكثر الناس عملاً وتمسكاً بها، فلا بدّ أن يكون أطول الناس عمراً، وأكثرهم بقاء في هذه الحياة.

وقد حدّثنا التاريخ عن أشخاص عمّروا في الدنيا مئات السنين، مثل: نوحعليه‌السلام الذي عمّر أكثر من ألف وخمسمئة سنة، وغيره كثيرون ممّن عمّر مدداً ترواح بين المئة سنة والألف سنة، وأحوالهم مذكورة في بطون كتب التاريخ والمعمّرين.

ومنهم مثلاً: سطيح كاهن الشام الذي عاش ثلاثين قرناً حسب نصوص التاريخ، ومات بعد ولادة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بمدة قليلة، وقصته معروفة. والواقع أنّ البحث حول الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) يحتاج إلى تفصيل واسع لا يسعه المقام، وسنعود إليه بمناسبة اُخرى إن شاء الله.

والخلاصة هي: إنّ ثورة الحسينعليه‌السلام حفظت للمسلمين إسلامهم من خطر انقلاب جاهلي ماحق، وعرّفتهم بأعدائهم المتسترين بثياب الإسلام والحاكمين باسمه، وبعثت فيهم روح الثورة والمعارضة ضدّ اُولئك الأعداء، وحفظت لهم شخصيتهم الإسلاميّة.

وقد أجاد المرحوم السيّد جعفر الحلّيرحمه‌الله حيث قال:

١٣١

يومٌ بحاميةِ الإسلامِ قد نهضتْ

له حميةُ دينِ اللهِ إذ تُركا

رأى بأنّ سبيلَ الغيِّ متَّبعٌ

والرشدُ لم تدرِ قومٌ أيّة سلكا

و الناسُ عادتْ إليهم جاهليتُهُمْ

كأنّ مَنْ شرّعَ الإسلامَ قد أفكا

وقد تحكّمَ بالإسلامِ طاغيةٌ

يُمسي و يُصبحُ بالفحشاءِ منهمكا

لم أدرِ أين رجالُ المسلمينَ مضو

وكيف صارَ يزيدٌ بينهم ملِكا

العاصرُ الخمرِ من لُؤمٍ بعنصرِهِ

و مِنْ خساسةِ طبعٍ يعصرُ الودكا

لئن جرتْ لفظةُ التوحيدِ من فمِه

فسيفُه بحشا التوحيدِ قد فتكا

قد أصبحَ الدينُ منه يشتكي سقماً

وما إلى أحدٍ غير الحسينِ شكا

فما رأى السبطُ للدينِ الحنيفِ شفاً

إلاّ إذا دمهُ في كربلا سُفكا

و ما سمعنا عليلاً لا علاجَ لهُ

إلاّ بنفس مداويهِ إذا هلكا

نفسي الفداءُ لفادِ شرعَ والدِهِ

بنفسهِ وبأهليهِ وما ملكا

بقتلهِ فاح للإسلام نشرُ هدىً

وكلّما ذكرتْهُ المسلمون ذكا

١٣٢

هل يصحّ البكاء على الحسين عليه‌السلام وهو الثائر الفاتح؟

يقول الأعسمرحمه‌الله وهو يخاطب الحسينعليه‌السلام :

تبكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبةٍ

لكنّما عيني لأجلكَ باكيهْ

تبتلُّ منكُم كربلا بدمٍ و لا

تبتلُّ منّي بالدموعِ الجاريهْ

تعرّفنا في بحث سابق على أنّ الذين قتلوا الحسينعليه‌السلام بكربلاء لم يكونوا شيعة، ولم يكن فيهم شيعي واحد قط؛ وعليه: فبكاء الشيعة اليوم وقبل اليوم على مصاب الحسينعليه‌السلام ليس بدافع الشعور بالإثم، أو لغرض التكفير عن جريمة الآباء حسب ما يتهمهم المغرضون ويشوّه عليهم الجاهلون.

والسؤال الآن هو: إذاً ما وجه الصحّة، وما المبرر في بكاء الشيعة على الحسينعليه‌السلام بعد علمنا أنّ الحسين ثائر ناجح في ثورته، محقّق لكثير من أهدافه السامية في إظهار الحقّ وفضح الباطل؟ فلماذا هذا النوح والبكاء والأسى ومظاهر الحداد في كلّ عام؟

فنقول:أولاً: إنّ البكاء والتأثر على الحسينعليه‌السلام ليس فرضاً إسلاميّاً، ولا واجباً شرعياً ولا ركناً من أركان التشيّع بحيث لا يتمّ بدونه ولا يتحقّق بتركه؛ وإنّما هو ظاهرة حبّ وولاء للحسينعليه‌السلام ، وهل يمكن أن تنزل نكبة ومصيبة بحبيب لك وعزيز عليك ثمّ لا تبكي ولا تتأثر منها؟!

والحسينعليه‌السلام حبيب كلّ مؤمن وعزيز كلّ إنسان، وقد أُصيب بأعظم المصائب وأفدح الكوارث لأجل الحق والعدالة؛ دفاعاً عن الإيمان والإنسانية، فكيف لا يبكيه أو لا يتأثر عليه الإنسان؟!

١٣٣

ومع غض النظر عن هذا، فإنّ في البكاء عليه وجوهاً اُخرى للحسن والصحة، نذكر بعضها فما يلي:

الوجه الأول : توقّع الثواب من الله سبحانه والأجر منه تعالى في الآخرة؛ حيث إنّ في البكاء على الحسينعليه‌السلام تأسٍّ بالنبي الأكرم وأهل بيته المعصومينعليهم‌السلام ؛ إذ قد ثبت بالتواتر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلم بما جرى على الحسينعليه‌السلام بعده، وبكى على مصابه في عدّة مواطن ولعن قاتليه، وعبّر عنهم بأشرار الاُمّة.

وكذلك ابنته فاطمة الزهراء والإمام أمير المؤمنين والحسن السبطعليهم‌السلام ، قد ثبت عنهم في الأخبار الصحيحة أنّهم بكوا على مصاب الحسينعليه‌السلام كلّما تذكّروه.

وأمّا بكاء الأئمّة المعصومين على الحسينعليه‌السلام بعده فمعروف مشهور، فهذا مثلاً الإمام زين العابدينعليه‌السلام عاش بعد أبيه الحسين خمساً وثلاثين سنة ما قدّم بين يديه طعام ولا شراب إلاّ وتذكّر أباه الحسينعليه‌السلام وبكى، وهو يقول: «كيف آكل وقد قُتل أبي جائعاً؟! وكيف أشرب وقد قُتل أبي عطشان؟!».

وذاك إمامنا موسى بن جعفر الكاظمعليهما‌السلام الذي كان إذا هلّ عليه شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً حتّى تمضي منه تسعة أيّام، فإذا كان اليوم العاشر منه كان يوم بكائه ومصيبته وحزنه.

وقبله أبوه الإمام الصادقعليه‌السلام الذي دخل عليه الراوي يوم العاشر من المحرّم فوجده كاسف اللون، باكياً حزيناً، وكان غافلاً عن يوم عاشوراء، فلّما سأل الإمامعليه‌السلام عن السبب، قالعليه‌السلام : «أوَغافل أنت عن هذا اليوم الذي قُتل فيه الحسينعليه‌السلام ؟! فمَنْ جعله يوم حزنه ومصيبته جعل الله له يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه... إلى أن قالعليه‌السلام : إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء. فعلى مثل الحسين فليبكي الباكون؛ فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش».

١٣٤

ولا تنسى الإمام الرضاعليه‌السلام الذي يقول عنه دعبل بن علي الخزاعيرحمه‌الله : أنشدته فبكى حتّى أُغمي عليه، فأمسكته حتّى أفاق، فقال: «أنشد يا دعبل». فأنشدته فبكى حتّى أُغمي عليه ثانية، وهكذا إلى ثلاث مرّات، وهو القائلعليه‌السلام : «كلّ جزع وبكاء مكروه للعبد إلاّ الجزع والبكاء على الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّه فيه مأجور».

فكيف لا يحسن البكاء على الحسينعليه‌السلام والحزن والحداد على مصابه بعد أن بكاه النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وآله أهل بيت العصمة؟! وهل التأسّي برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكروه وقبيح بعد أن أمرنا الله في كتابه العزيز بالتأسّي به على وجه عام، فقال سبحانه:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً... ) (1).

وهل يسوغ للمؤمن أنْ يرغب عن التأسّي بآل البيتعليهم‌السلام بعد أنْ ثبت عنده أنّ يوم الحسينعليه‌السلام كان مثاراً للحزن، ومدعاة للأسى والبكاء بالنسبة لهمعليهم‌السلام دائماً وفي كلّ الأحوال والمناسبات؟!

ورد في أحوال الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه كان إذا ذكر جدّه الحسينعليه‌السلام أو ذُكر عنده لا يُرى ضاحكاً طيلة ذلك اليوم، وتغلب عليه الكآبة والحزن، وكانعليه‌السلام يتسلّى عن المصائب التي ترد عليه من قبل الأعداء بمصائب الحسينعليه‌السلام .

فمن ذلك مثلاً: لمّا أمر المنصور الدوانيقي عامله على المدينة أنْ يحرق على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام داره، فجاءوا بالحطب الجزل ووضعوه على باب دار الصادقعليه‌السلام وأضرموا فيه النار، فلمّا أخذت النار ما في الدهليز تصايحنَ العلويات داخل الدار وارتفعت أصواتهم، فخرج الإمام الصادقعليه‌السلام وعليه قميص وإزار وفي رجليه نعلان وجعل يخمد النار ويطفئ الحريق حتّى قضى عليها، فلمّا كان الغد دخل عليه بعض شيعته يسلّونه فوجدوه حزيناً باكياً، فقالوا: ممّن هذا التأثر والبكاء، أمِنْ جرأة القوم عليكم أهل البيت وليس منهم بأوّل مرة؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «لا، ولكن لمّا أخذت النار ما في الدهليز، نظرت إلى نسائي وبناتي يتراكضن

____________________

(1) سورة الأحزاب / 21.

١٣٥

في صحن الدار من حجرة إلى حجرة، ومن مكان إلى مكان هذا وأنا معهن في الدار، فتذكّرت روع عيال جدّي الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء لمّا هجم القوم عليهنَّ، ومناديهم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين».

فالغرض: إنّ البكاء على الحسينعليه‌السلام والتأثر من مصائبه، وإظهار الحزن والأسى يوم قتله كلّ ذلك أمر محبوب ومرغوب فيه؛ لأنّه من التأسّي برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، وقد قال الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في كلمته المعروفة: «شيعتنا منّا؛ يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا».

الوجه الثاني : تعظيم شعائر الحسينعليه‌السلام وتعزيز عظمته وتكريم مقامه أمام الرأي العام، حيث ورد عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: «ميت لا بواكي عليه لا إعزاز له». أي لا احترام له، وهو أمر طبيعي؛ لأنّ القيمة المعنوية للفقيد وعظمته الإنسانية تُعرف عند مَنْ لا يعرفونه من عظيم أثر فقده في نفوس عارفيه، وكلّما عظم الفقيد عظم مصابه على الناس؛ ولذا غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا لم يسمع البكاء على عمّه حمزة بن عبد المطلب بعد رجوعه من معركة اُحد؛ وذلك لأنّ حمزة لم يكن عنده أحد في الدار يبكون عليه، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متأثراً، وخاصة لما سمع البكاء على الشهداء من الأنصار، قال: «ولكن عمّي حمزة لا بواكي عليه!». فلمّا سمع الأنصار بعثوا إلى دار حمزة مَنْ يبكي عليه، فسرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: «على مثل حمزة فلتبكي البواكي».

فلا شك في أنّ الميت الذي لا يُبكى لفقده ولا يُحزن على موته لا قيمة له في نظر الناس، وإنّ ذلك دليل حقارته وضعف شخصيته ومقامه، وهذا أمر عرفي ومنطقي، وقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:( كَمْ تَرَكُوا مِن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّماءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ) (1).

ومعلوم أنّ الغرض من بكاء السماء والأرض هو أهل السماء وأهل الأرض، أي أنّهم ماتوا غير مأسوف عليهم، ولم يؤثر موتهم حزناً في نفس أحد، ولا فقدهم فراغاً في الحياة بعدهم،

____________________

(1) سورة الدّخان / 25 - 29.

١٣٦

وهذا دليل هوانهم على الناس، واحتقارهم في نظر الناس، وانعدام احترامهم بين الناس؛ رغم قوتهم وقدرتهم المالية، ورغم ملكهم وسلطانهم الذي كانوا قد فرضوه على الناس.

سُئل الإمام عليعليه‌السلام : ما هو حسن الخلق يا أمير المؤمنين؟ فقالعليه‌السلام : «هو أنْ تُعاشروا الناس معاشرة إنْ عشتم حنّوا إليكم، وإنْ متم بكوا عليكم».

وقد أوصى الإمام محمد الباقرعليه‌السلام أنْ تستأجر له نوادب بعد موته يندبوا عليه بمنى من مكّة أيّام موسم الحجّ، ولمدّة عشر سنوات؛ إظهاراً لمقامه المجهول لدى عامّة الناس؛ بسبب ظلم الاُمويِّين واضطهادهم لهعليه‌السلام .

فأيّ وسيلة يمكن أن نعبّر بها عن عظم منزلة الفقيد بين أصحابه ومحبيه أقوى دلالة وأوضح تعبيراً من البكاء عليه؟ ثمّ أيّ ظاهرة أدلّ وأوضح تعبيراً عن شديد حبّنا للفقيد وعظيم تعلّقنا به من ظاهرة البكاء عليه وجريان الدموع لموته.

وهل رأيت أو سمعت أنّ زعيماً شعبيّاً في العالم مات أو قُتل ولم يبكِ عليه أتباعه وأنصاره وشعبه، ولم يجعلوا يوم وفاته يوم حداد وأسى؟! وخاصة إذا كان موته بصورة مفجعة وقاسية، وتُقتل أولاده وأطفاله وإخوانه وعشيرته وتُقطع رؤوسهم، وتُرض أجسادهم بحوافر الخيل، وتُحرق خيامه على نسائه، ويُنهب ثقله و و... إلى آخر ما هناك من صور إجرامية ووحشية تقشعر منها الجلود وتفتت الأكباد والقلوب؟!

ولا يُقال هنا بأنّ حادثة الحسينعليه‌السلام قديمة جدّاً قد مضى عليها أكثر من ثلاثة عشر قرن، فإلى متّى هذا البكاء لها والحزن عليها، وكل فقيد في العالم مهما عظم فإنّما يُبكى عليه لأيّام معدودة ثمّ يطوى ذكره في زوايا التاريخ وبطون الكتب؟

لأنّا نقول:أولاً: إنّ عظمة الحسينعليه‌السلام تفوق عظمة كلّ عظيم في العالم بعد

١٣٧

جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبيه المرتضىعليه‌السلام ، فقياسه على غيره من عظماء الإنسانية قياس مع الفارق الكبير.

وثانياً: إنّ الكيفية التي فُقد عليها الحسينعليه‌السلام لم يُفتقد عليها حتّى الآن أيّ فقيد قط؛ قُتل جائعاً عطشان شعثاً، مغبراً غريباً وحيداً، ثاكلاً مكروباً مستضعفاً، يستغيث فلا يُغاث، ويستجير فلا يُجار، ويستعين فلا يُعان. يسمع ضجيج عياله وصراخ أطفاله وهم بين الآلاف من الأعداء ينتظرون منهم كلّ مكروه.

ومن الناحية الثانية ينظر إلى قومه وصحبه حوله مجزرين كالأضاحي، مع العلم بأنّ الذين قتلوه همّ اُمّة جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين ثار لأجلهم، وقام لإنقاذهم من الظلم والاضطهاد؛ لذلك فإنّ فقده فريد في بابه، جديد أبداً ودائماً لا يؤثر عليه مرور الزمن، ولا يخفّف من وقعه تعاقب القرون والأجيال، فهو كما قال عنه الأدباء والشعراء قديماً وحديثاً:

فقال بعضهم:

فقيد تعفّى كلُّ رزءٍ ورزؤهُ

جديدٌ على الأيام سامي المعالمِ

وقال الآخر:

وفجائعُ الأيام تبقى مدة وتزو

ل وهي إلى القيامة باقيهْ

وقال الآخر:

كذب الموت فالحسينُ مخلّدُ

كلّما مرّت الدهورُ تجدّدُ

وقال آخر:

مصابٌ له طاشت عقولُ ذوي الحج

إذا ما تعفّى كلُّ رزءٍ تجدّدا

لقد صُلب المسيح عيسى بن مريمعليه‌السلام حسب زعم المسيحيين قبل ألفي عام تقريباً، وها هم المسيحيون لا يزالون يجدّدون ذكرى صلبه كلّ عام،

١٣٨

ويبكون له ويحزنون، وقد اتّخذوا من خشبة صلبه شعاراً عاماً لهم يرفعونه فوق كلّ المؤسسات والجمعيات والكنائس؛ معلنين بذلك أسفهم وحزنهم على مصابه ومأساته، مع العلم بأنّ مأساة المسيحعليه‌السلام بسيطة جداً في جنب مأساة الحسينعليه‌السلام . فلماذا يُلام الشيعة على حزنهم وبكائهم لمأساة الحسينعليه‌السلام ولا يُلام غيرهم على الحزن والبكاء لمأساة سائر العظماء؟!

والخلاصة هي: إنّ هناك شخصيات وحوادث في العالم لا يستطيع التاريخ هضمها، ولا الزمان إسدال الستار عليها، ولا الأجيال نسيانها؛ لسبب بسيط: وهو عقم الأيّام عن الإتيان بمثلها، وفي طليعة تلك الشخصيات شخصية الحسينعليه‌السلام ، وفي طليعة تلك الحوادث حادثة عاشوراء.

الوجه الثالث : هو أنّ البكاء على الحسينعليه‌السلام يرمز إلى تأييد الحسينعليه‌السلام في ثورته المباركة، وإعلان الثورة العاطفية على الظلم والظالمين، والتعبير عن أعمق مشاعر الاستنكار والسخط ضد أعداء الحقّ والعدل، والإعراب عن الأسف على عدم وجودنا في صفوف أصحاب الحسين، سادات الشهداء الخالدين، وعدم نيلنا توفيق وسعادة نصرة الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء.

فيا ليتنا كنّا معك أبا عبد الله فنفوز فوزاً عظيماً. لبيك داعي الله، إنْ لم يجبك بدني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري.

هذا لسان حال شيعة الحسينعليه‌السلام في كلّ مكان وزمان، فإجابة القلب بالإيمان بمبدأ الحسين الذي قُتل لأجله، وإجابة السمع بالاستماع إلى سيرة الحسين وأقواله، وإجابة البصر سكب الدموع على مآسي الحسينعليه‌السلام .

فالبكاء لكلّ واحد من هذه الأهداف والغايات الثلاث أمر طبيعي وعقلائي، وظاهرة فطريّة خيّرة من ظواهر الفطرة السليمة التي وقاها الله تعالى من نكسة القساوة والغلظة وتحجّر الضمير، وهي أخطر الأمراض النفسية والانحرافات الروحية التي يتعرّض لها بعض الأفراد، وقانا الله شرّها وهي المعبر عنها بموت القلب.

وإليك ما قاله الاُستاذ العقاد: إنّ

١٣٩

الطبائع الآدمية قد أشربت حبّ الشهداء والعطف عليهم وتقديس ذكرهم بغير تلقين، وإنّما تنحرف عن سواء هذه السنّة لعوارض طارئة تمنعها أنْ تستقيم، أو من نكسة في الطبع؛ لأنّ العطف الإنساني نحو الشهداء هو كلّ ما يملك التاريخ من جزاء... الخ(1) .

هل تتصوّر أيّها القارئ الكريم إنساناً يستمع إلى تلك المآسي الجسام التي وقعت على الحسينعليه‌السلام وآله من الصغار والكبار والرجال والنساء ولا ينكسر قلبه، ولا يتأثر وجدانه ولا يتحرك ضميره ثمّ تعتبره إنساناً طبيعياً سليم الفطرة؟! كيف وقد قال الحسينعليه‌السلام نفسه في المأثور عنه: «أنا قتيل العبرة، ما ذُكرت عند مؤمن إلاّ استعبر».

وجاء في الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: «جفاف العيون من قساوة القلوب، وما ضرب ابن آدم بعقوبة أشدّ عليه من قساوة القلب». وقد وصف الله سبحانه المؤمنين بقوله:( رحماء بينهم ) .

والخلاصة: لم يجد الخبراء وعلماء النفس والأخلاق بين الصفات الإنسانية كلّها صفة أفضل وأشرف من الرحمة ورقّة القلب على الآخرين، حتّى إنّ بعض الفلاسفة عدل عن تعريف الإنسان بالحيوان الناطق، وهو التعريف المشهور، عدل عنه إلى أنّه حيوان ذو عطف؛ وعليه فلا إنسانية مطلقاً بدون العطف على مصائب الآخرين، وبدون الرحمة ورقّة القلب على نكبات المظلومين ومآسي المنكوبين.

والحقيقة أنّ الشيخ الأعسمرحمه‌الله قد مثّل في البيتين السابقين شعور كلّ إنسان سليم الفطرة تجاه الحسينعليه‌السلام ، حيث قال:

تبكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبةٍ

لكنّما عيني لأجلكَ باكيهْ

تبتلّ منكم كربلا بدمٍ ولا

تبتلّ منّي بالدموعِ الجاريهْ

____________________

(1) أبو الشهداء الحسين بن علي / 190.

١٤٠