مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب0%

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 190

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الوهاب الكاشي
تصنيف: الصفحات: 190
المشاهدات: 29220
تحميل: 4396

توضيحات:

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29220 / تحميل: 4396
الحجم الحجم الحجم
مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ما الحكمة من زيارة قبر الحسين عليه‌السلام ؟

قال بعض الأدباء:

بزوّارِ الحسينِ خلطتُ نفسي

لتُحسب منهمُ يوم العدادِ

فإنْ عُدّتْ فقد سعدتْ وإلاّ

فقد فازتْ بتكثيرِ السوادِ

وهذه ظاهرة اُخرى عند الشيعة لم تسلم أيضاً من النقد أحياناً، ومن التساؤل والاستفهام عنها أحياناً اُخرى، وهي زيارة قبر الحسينعليه‌السلام بكربلاء من أرض العراق في مواسم عدّة من أيّام السّنة، وخاصة يوم عاشوراء هو يوم ذكرى مصرعه، ويوم الأربعين، أي العشرين من شهر صفر وهو يوم ذكرى عودة الرأس الشريف من الشام، والتحاقه بالجسد على يد الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، الذي عاد في ذلك اليوم مع السبايا من الشام في طريقهم إلى المدينة المنورة فصادف وصولهم إلى كربلاء في يوم الأربعين بعد قتل الحسينعليه‌السلام .

وهناك مواسم اُخرى لزيارة قبر الحسين في خلال السنة، مثل ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر من شهر رمضان، ويوم عرفة، ويوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى وغيرها تمتلئ فيها مدينة كربلاء بالزائرين من الشيعة والقادمين إليها من كلّ مكان.

وهذه الظاهرة ليست جديدة عند الشيعة، وإنّما هي سنّة مستمرة بينهم منذ تاريخ قتل الحسينعليه‌السلام ، ومنذ سنة إحدى وستين هجرية حتّى الآن، وقد حافظوا على

١٤١

القيام بزيارة قبر الحسين بكلّ إمكانياتهم، وقابلوا لأدائها تحدّيات جمّة كلّفتهم الأموال والأنفس في كلّ من العهدين المشؤومين الاُموي والعباسي.

والآن وفي عصرنا يوجد أناس يتساءلون: ما هو الغرض العقلائي من زيارة قبر الحسين، وخاصّة إذا كانت الزيارة تستلزم شدّ الرحال، وتجشّم عناء السفر، وصرف الأموال؟

نقول: إنّ زيارة قبر الحسينعليه‌السلام خير موضوع، فمَنْ شاء استقل ومَنْ شاء استكثر على حدّ تعبير الإمام الصادقعليه‌السلام . أجل، إنّه عمل صالح وموضوع حسن ومحبوب عقلاً وشرعاً؛ أمّا حسنه من الناحية العقلية: فلأنّ تقديس العظماء وتمجيد الأبطال بعد موتهم نزعة فطرية وسنّة عقلائيّة سائدة في كافة أنحاء العالم، وبين جميع الأمم والشعوب العلميّة والحضارات الإنسانية منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا، بل إنّ عصرنا هذا وجيلنا الحاضر هو أكثر تمسّكاً وأشدّ محافظة على هذا التقليد من السابق.

فترى بعض الدول التي ليس لها زعيم سابق معروف وبطل عالمي شهير تمجّد فيه البطولة والفداء في سبيل الاُمّة يعمدون إلى بناء نصب تذكاري يسمّونه (الجندي المجهول)، يرمزون به إلى التضحية الفذّة والفداء المثالي في سبيل الوطن، ويمجّدون فيه البطولة والشهامة.

وها نحن نسمع ونقرأ ونرى إنّه ما من رئيس دولة زار أو يزور دولة اُخرى في الشرق أو في الغرب إلاّ وكان في برامج زيارته موعد خاص لزيارة ضريح عظيم تلك الدولة أو مؤسسها أو محرّرها، أو زيارة النصب التذكاري فيها للجندي المجهول، فيضع على ذلك الضريح أو ذلك النصب إكليلاً من الزهور ويؤدي التحيّة المرسومة.

حتى الدول الشيوعية التي نبذت كلّ التقاليد العامّة والمراسيم القديمة فإنّهم لا يزالون محتفظين بهذا التقليد، ولا يمكن أن يزور زائر رسمي زيارة رسمية للاتحاد السوفياتي ما لم يقصد قبر لينين، مفجّر الثورة الشيوعية في روسيا، ويؤدي التحيّة لقبره.

وممّا يذكر بهذه المناسبة أنّ من مراسيم الأعياد عند أهالي

١٤٢

موسكو أن يزوروا ضريح لينين كلّ عيد وفي كلّ مناسبة. وفي الولايات المتّحدة الأمريكية لا يزال ضريح الرئيس جون كندي القتيل يزار من قِبَلِ آلاف الأمريكان في الأعياد والمناسبات، وربّما يبكون عليه أحياناً.

والخلاصة هي: إنّ زيارة قبور الأبطال ومراقد العظماء وأضرحة الشهداء سيرة عقلائيّة وسنة إنسانية، لا تخصّ قوماً أو اُمّة أو طائفة، فلماذا يُلام الشيعة أو ينتقدون إذا زاروا مرقد الإمام الحسينعليه‌السلام بكربلاء وهو سيّد الشهداء الأحرار، وقدوة القادة الأبطال، والمثل الأعلى لرجال الإصلاح والفداء في العالم، الذي أنقذ اُمّته من خطر المحو والزوال، ودفع بها نحو الأمام والسير على الطريق المستقيم بعد أن كلّفه ذلك جميع ما ملك في هذه الحياة؟!

ففي زيارة قبر الحسينعليه‌السلام من المكاسب الروحيّة والفوائد الفكريّة والأخلاقيّة ما ليس مثلها في زيارة أيّ مرقد وضريح آخر؛ ولذا قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «مَنْ زار الحسينعليه‌السلام عارفاً بحقّه فكأنّما زار الله في عرشه». وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام قال: «زيارة الحسينعليه‌السلام فرض على كلّ مَنْ يؤمن للحسينعليه‌السلام بالولاية».

ألا ترى الشعوب غير المسلمة تنحت الصور، وتقيم التماثيل لرجالها المصلحين في الساحات العامّة والمواقع الحساسة من مدنها؟ لماذا يصنعون ذلك؟ لا شك أنّك تعرف أنّهم يفعلون ذلك تكريماً لذكراهم، وشكراً لتضحياتهم، وتلقيناً لسيرتهم وعملهم إلى الشباب الحاضر والأجيال القادمة، غير أنّ الإسلام يحرّم النحت وصنع التماثيل مطلقاً، ولأيّ شخص كان.

فلذا ليس أمامنا نحن المسلمين لأجل تكريم زعمائنا المخلصين وشهداءنا الأحرار؛ لأجل الإعراب عن شكرنا لهم، ولأجل تلقين أجيالنا الطالعة سيرتهم ومبادئهم، إلاّ زيارة قبورهم، والوقوف أمام مراقدهم خاشعين مستوحين منها ذكريات التضحية والفداء في سبيل المصلحة العامّة.

هذا منطق الشيعة وفلسفتها لهذه الظاهرة، وهو كما تراه منطق العقل في كلّ زمان ومكان.

١٤٣

وفي الختام: إليك نبذة من كتاب (أبو الشهداء) للعقاد حول هذا الموضوع قال: وشاءت المصادفات أنْ يُساق ركب الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء بعد أنْ حيل بينه وبين كلّ وجهة اُخرى، فاقترن تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الإسلام كلّه، ومن حقّه أنْ يقترن بتاريخ بني الإنسان حيثما عرفت لهذا الإنسان فضيلة يستحق بها التنويه والتخليد.

فهي - أي كربلاء - اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنّها - أي كربلاء - لو أُعطيت حقّها من التنويه والتخليد لحقّ لها أنْ تُصبح مزاراً لكلّ آدمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة وحظّاً من الفضيلة؛ لأنّنا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء بعد مصرع الحسينعليه‌السلام فيها.

فكلّ صفة من تلك الصفات العلويّة التي بها الإنسان إنسان، وبغيرها لا يحسب إلاّ ضرباً من الحيوان السائم، فهي مقرونة في الذاكرة بأيّام الحسينعليه‌السلام في تلك البقعة الجرداء(1) . انتهى محلّ الشاهد من كلام العقاد.

وقد التزم أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم بالحفاظ على زيارة الحسينعليه‌السلام في ظروف صعبة وشاقّة، وقد كلّفتهم تضحيات غالية؛ ففي عصر المتوكّل العباسي مثلاً فرضت ضريبة مالية قدرها ألف دينار من ذهب على كلّ شخص يرد كربلاء لزيارة قبر الحسينعليه‌السلام ، ولمّا رأت السلطات العباسيّة أنّ هذه الضريبة الباهظة لم تمنع الناس من زيارة الحسينعليه‌السلام أضافوا إليها ضريبة دموية، فكانوا يقتلون من كلّ عشرة زائرين واحداً يعيّن من بينهم بطريق القرعة.

وكان أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام يعلمون ذلك كلّه ولم يمنعوا الناس من زيارة الحسينعليه‌السلام لما فيها من مكاسب روحية واجتماعية وسياسية للمؤمنين، بل يحثّونهم على الاستمرار في زيارة قبر الحسينعليه‌السلام رغم كلّ الصعاب والعقبات، ويقولون لهم إنّ لزائر قبر الحسينعليه‌السلام بكلّ خطوة يخطوها حسنة عند الله سبحانه.

____________________

(1) أبو الشهداء الحسين بن علي / 129.

١٤٤

هل في مراسيم عاشوراء عمل حرام شرعاً؟

أكثر ما يثير الاستغراب والتساؤل في مظاهر عاشوراء عند الشيعة هو ما يقوم به بعضهم من مظاهر عزائية قاسية تتصف بالعنف أحياناً، مثل اللطم على الصدور العارية، والضرب على الظهور والأكتاف المجرّدة بالسلاسل الحديدية الجارحة، وإدماء الرؤوس بالسيوف، وغير ذلك ممّا يثير الاستغراب لدى البعض، بل يثير الاستهجان والانتقاد لدى البعض الآخر، ويتساءلون: لماذا يفعل هؤلاء هكذا بأنفسهم؟ ولماذا لا يمنعهم العلماء ورجال الدين؟ وهل أنّ هذه الأعمال جائزة شرعاً وصحيحة بحسب العرف العقلائي؟

والجواب على هذا السؤال هو: إنّ تلك الأعمال من حيث الأصل مباحة شرعاً إذا كان القيام بها لهدف مشروع وغرض عقلائي، ولم يترتّب عليها ضرر كبير أو خطر على حياة الإنسان. هذا ما يقوله العلماء مراجع التقليد العُليا في كلّ زمان ومكان.

هذا من حيث الأصل، وأمّا قيام الشيعة بها في عاشوراء فهوأولاً: لأغراض عقلائيّة مشروعة، وبدافع الحبّ والولاء الشديد للحسينعليه‌السلام ؛ فهم بتلك الأعمال يعبّرون عن تأسّيهم بالحسينعليه‌السلام ، ومواساتهم له في تحمّل ألم الجراح وجريان الدماء، وفي نفس الوقت يمثّلون بها دور العمل الفدائي في سبيل قضية الحسينعليه‌السلام التي استشهد دفاعاً

١٤٥

عنها، ويظهرون استعدادهم للتضحية من أجلها بكلّ غال وعزيز.

بالإضافة إلى أنّها - أي تلك الأعمال - عندهم كتظاهرة كبرى ضد أعداء الحسينعليه‌السلام الذين يخطّئون الحسينعليه‌السلام في قيامه ضدّ الدولة الاُمويّة، ويبررون إقدام يزيد على قتل الحسينعليه‌السلام ، وهؤلاء موجودون بيننا وفي عصرنا بكثرة.

ومن جهةٍ اُخرى: هي كتأييد عملي ودعم شعبي لثورته المقدّسة، وبالتالي هي استنكار صارخ للظلم والعدوان، وتأييد للتحرر والإصلاح في كلّ زمان ومكان. كيف لا ومظاهر القسوة والعنف في أعمال الاحتجاج أمر متداول في عصرنا هذا؟! فكم نسمع عن أشخاص أحرقوا أنفسهم حتّى الموت، وأضربوا عن الطعام حتّى أشرفوا على الموت، كلّ ذلك احتجاجاً على ظلم أو اعتداء فلم يسخر منهم شباب العصر، بل يعتبرونهم بذلك أبطالاً مناضلين، ولكن إذا قام شيعة أهل البيت بما هو أقل من ذلك وأبسط اتّهموا بالسخف والرجعية والوحشية... لماذا؟

أضف إلى ذلك أنّ قيامهم بتلك الأعمال هو بمثابة تدريب وتمرين على خلق الروح النضالية، وعلى عمل التضحية والاستشهاد عندهم؛ ليكونوا دائماً وأبداً على استعداد تام لتلبية نداء الحقّ، وداعية الثورة الإصلاحية العلميّة في أي وقت.

لا شك أنّ الروح النضالية الفعّالة والمعنوية العسكرية الراقية لا تتحقّقان لدى شباب الاُمّة بمجرد بعض التمارين الخالية الجوفاء، والتمثيليات الفارغة التي لا تخلق سوى جيشاً انهزامياً فرّاراً غير كرارٍ، يصدق عليهم قول الشاعر العربي القديم:

وفي الغزواتِ ما جرّبتُ نفسي

ولكنْ في الهزيمة كالغزالِ

ويصدق عليهم قوله تعالى:( إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنّهُمْ خُشُبٌ مُسَنّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوّ ) (1) .

أجل، إنّ الاستهانة بالموت تحتاج إلى تهيُّؤ وتدريب جدّي، وتمارين شاقّة خشنة، وإلاّ فالواقع ما قاله البطل الثائر زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام : ما كره قوم حرّ السيف إلاّ ذلّوا.

____________________

(1) سورة المنافِقُون / 4.

١٤٦

والخلاصة: هي أنّ هذه دوافع الشيعة وأهدافهم لدى قيامهم بتلك الأعمال في عاشوراء، وهي كما تراها دوافع مشروعة وأهداف عقلائيّة نافعة.

هذا مع العلم بأنّهم لا يرون فيها ضرراً ولا يحسون منها خطراً على صحتهم ولا على حياتهم، حسب ما يؤكدونه هم أنفسهم القائمون بتلك الأعمال، وحسب ما يشاهد منهم بالوجدان، بل الثابت منهم وعنهم عكس ذلك، أي إنّهم قد يستفيدون من بعضها فوائد صحية.

نعم، قد تقع بعض الأخطاء من قبل بعض القائمين بتلك الأعمال، أو من بعض المشرفين عليها فتؤدي عفواً إلى بعض الأضرار البسيطة، وذلك نادراً والنادر الشاذ لا يُقاس عليه. أمّا إذا أيقن أحد بحصول ضرر بالغ على نفسه من تلك الأعمال فلا يجوز له خاصة أن يقوم بها حتماً.

هذه خلاصة وجه نظر الشيعة ورأي علمائهم الكبار، والمطابقة لفتاوى مراجعهم العُليا في النجف الأشرف وغيرها منذ خمسين عاماً أو أكثر حتّى اليوم. وتلك الفتاوى مجموعة ومدوّنة مع ذكر تواريخها وبنصوصها التفصيليّة في ضمن بعض الكتب المؤلّفة حول موضوع الشعائر الحسينية، أو في كراسات خاصّة مطبوعة يمكنك الاطّلاع عليها إذا شئت.

ولا أعلم مرجعاً دينياً من مراجع التقليد عند الشيعة سُئل عن حكم هذه الأعمال العزائية في عاشوراء إلاّ وأجاب بالجواز والمشروعية، هذا مع العلم بأنّ هذه الأعمال كانت تجري ويقوم بها الشيعة أيّام عاشوراء منذ قديم الزمان، وتحت سمع وبصر كبار العلماء السابقين أرباب الكلمة النافذة واليد المبسوطة أمثال الشيخ المفيد، والكليني، والصدوق، والسيد المرتضى، والسيد الرضي، والشيخ الطوسي، والسيد مهدي بحر العلوم الكبير، والشيخ جعفر الكبير، والشيخ الأنصاري... وهكذا إلى عصرنا هذا أمثال الميرزا النائيني، والسيد أبي الحسن، والشيخ كاشف الغطاء، والسيد الحكيم، وغيرهم، فكانوا يؤيّدون تلك الأعمال ويدعمونها ماديّاً ومعنويّاً.

وفي هذا دلالة كافية على جواز تلك الأعمال ومحبوبيتها شرعاً، وفيه أيضاً قناعة كافية لمَنْ يطلب الحقّ ومعرفة الواقع بدون تعنّت وتصلّب واستبداد في الرأي.

١٤٧

أمّا الناقدون والمعارضون لتلك الأعمال العزائية فليس عندهم سند منطقي، ولا قاعدة عامّة عقلائيّة يصح الاستدلال بها في معارضتهم لها، فإنّهم يقولون مثلاً: إنّ القيام بهذه الأعمال توجب السخرية والاستهزاء بهم من قبل الأجانب.

ونقول في الجواب: إنّ السخرية والاستهزاء والاشمئزاز من قبل بعض الناس على عمل ما لا يثبت فساد ذلك العمل، ولا يقتضي تركه لمجرد ذلك، ولا توجد قاعدة عقلائيّة تقول: إنّ كلّ عمل أثار السخرية من قبل شخص أو أشخاص فذلك العمل باطل فاسد يجب تركه؛ لا لشيء سوى استهزاء بعض الأشخاص البعيدين عن معرفته وحقيقته.

ولا يوجد عاقل في العالم يؤمن بأنّ محض السخرية ومجرّد الاستهزاء بشيءٍ ما سبب كاف وعلّة تامة لفساد ذلك الشيء؛ إذ لو كان الأمر هكذا لوجب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدء الدعوة أنْ يترك الرسالة والدعوة إلى الإسلام؛ لأنّ قريش صارت تستهزئ به، وتسخر من دعوته، وتشمئز منه لذلك، أو لوجب عليه أنْ يترك الصلاة على الأقل؛ لأنّها كانت أكثر ما في الإسلام إثارة لسخرية المشركين واستهزائهم منه بها.

فهل ترك الصلاة؟ طبعاً كلاّ، بل أقول لو كان مجرّد استهزاء البعض على القيام بعمل ما يبرّر تركه، لكان يلزمنا نحن المصلّين في هذا العصر أن نترك الصلاة؛ لأنّها أصبحت موضع سخرية واستهزاء من قِبل أكثر الشباب والمتمدنين من أهل زماننا هذا، فهل يصح تركها لذلك خوف أن يُقال لنا رجعيين؟!

وها هو الحجاب للمرأة أصبح عيباً وعاراً، ومدعاة للسخرية والاتّهام بالرجعية، فهل صار حراماً وخلعه واجباً أو جائزاً شرعاً لذلك؟! وها هي أكثرية النساء في البلاد الإسلاميّة قد خلعن حجابهم وبرزن سافرات، فهل أحسنَّ بهذا صنعاً؟!

وأعود فأكرر القول: بأنّ مجرّد استهزاءٍ ومحض سخرية تصدر من أُناس على أفعال وأعمال أُناس آخرين لا يبرر الحكم على تلك الأعمال بالفساد والسوء حتّى يثبت فساد تلك الأعمال من حيث العوامل والنتائج.

فإذا كان العمل صحيح العوامل والأسباب، وصحيح النتائج والثمرات بشكل عام فحينئذ الاستهزاء

١٤٨

به كهواء في شبك:( فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) (1).

وإنّني إذ أقول هذا لا أستبعد أن يكون أكثر هؤلاء المنتقدين للشعائر الشيعيّة الحسينية قد وقعوا تحت تأثير الدعاية الاُمويّة من حيث يشعرون أو لا يشعرون. تلك الدعاية التي نشطت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة في كثير من البلدان الشيعية؛ وبقصد القضاء نهائياً على كلّ أثر من ذكر ثورة الحسينعليه‌السلام ؛ علماً منهم بأنّ هذه الذكرى هي الوسيلة الوحيدة الباقية للدعوة الصادقة المخلصة إلى الحقّ ومكافحة الباطل.

من إحياء ذكرى الحسين فقط ترتفع أصوات المعارضة الصحيحة ضد الظلم والظالمين، ومن هذه الذكرى تنطلق الأضواء الكاشفة فتتسلّط على كلّ زوايا المجتمع ومنعطفات طريق السعادة الاجتماعية؛ لتلفت أنظار الناس إلى ما أمامها من أخطار وعقبات فيتجنبونها ويواصلون سيرهم بسلام آمنين.

أيّها القارئ الكريم: إنّ ساحة كربلاء يوم العاشر من المحرّم سنة (61) هجريّة كانت أشبه بمسرح تمثيل؛ في جانب منه قام الحسينعليه‌السلام وأصحابه بتمثيل أروع دور لمثاليّة الإنسان، وأسمى ما يمكن أن يرتفع إليه بروحه وخلقه وأريحيته، بحيث لا يبقى في الوجود ما هو أشرف منه وأفضل سوى خالقه العظيم.

وفي الطرف الآخر قام أعداء الحسينعليه‌السلام بتمثيل أدنى وأسفل درك من الحضيض يمكن أن يتدنّى إليه ويهوي فيه هذا البشر من اللؤم والخبث والقسوة والأنانيّة، بحيث يندى منه جبين الوحش ولا يبقى في الوجود ما هو شرّ منه ولا أسوأ مطلقاً. ولا تزال حوادث تلك المعركة هي المعالم الواضحة، والحدّ الفاصل، والسمات الظاهرة بين الحقّ والباطل، وهي المقياس الدقيق لمعرفة الخير من الشرّ إلى أبد الآبدين.

أجل، إنّ معركة كربلاء لم تنتهي بنهاية يوم العاشر من المحرّم، بل هي لا تزال قائمة بصورها المختلفة وأحجامها العديدة، وفصولها المتغيّرة في كلّ زمان

____________________

(1) سورة الرعد / 17.

١٤٩

ومكان، وما دام في الحياة خير وشر وحق وباطل. وما أحسن تصوير الشاعر لهذا المعنى في معركة كربلاء حيث قال:

كأنّ كلّ مكانٍ كربلاء لدى

عيني وكلّ زمانٍ يوم عاشوراء

فالحسينعليه‌السلام من وجهة نظر الشيعة، وكل الخبراء في العالم إنّما هو رمز الخير والعدل، والديمقراطيّة الحقّة والعدالة الاجتماعية، والاُمويّون هم رمز الرذيلة والجور، والاستبداد والظلم الاجتماعي. وكلّ الأعمال العزائية التي يقوم بها الشيعة أيّام عاشوراء إنّما يعبّرون بها عن دعمهم وتأييدهم للخير والعدل والحقّ، واستنكارهم وكرههم للظلم والباطل.

وهذا دليل على وعيهم الاجتماعي ونضجهم السياسي الكامل حسب ما يؤكّده الباحثون، وحسبما هو واضح من ثوراتهم التحرريّة عبر تاريخهم الطويل والمليء بالتضحيات.

١٥٠

متى بدأت أعمال الاحتفال بذكرى عاشوراء؟

قد يتوهّم البعض أنّ شعائر الذكرى في عاشوراء المتداولة لدى الشيعة اليوم إنّما هي أمور مستحدثة ودخيلة لا أصل لها في العصور الإسلاميّة الأولى، وبالتالي فهي من دسائس المغرضين والدخلاء الذين يضمرون الشرّ بالإسلام والمسلمين.

فأقول لهؤلاء: إنّ هذا الوهم خطأ لا يدعمه إلاّ الجهل بحقائق التاريخ وحوادث الماضي البعيد، ولا يبعد أن يكون هذا التوهّم بذاته من وحي الدسّاسين وتلقين المغرضين أعداء الشيعة والتشيّع.

أمّا إقامة مظاهر الحداد والاحتفال لذكرى عاشوراء فهي قديمة جدّاً قدم مأساة عاشوراء بالذات، حيث بدأت مجالس العزاء والاجتماعات للنوح والبكاء على مأساة الحسينعليه‌السلام بعد مرور أيّام قليلة على مصرع الحسينعليه‌السلام ؛ وذلك بتوافد أهل الضواحي والسواد إلى كربلاء بعد رحيل الجيش، واجتماعهم رجالاً ونساءً حول قبر الحسينعليه‌السلام .

ولمّا عاد الإمام زين العابدينعليه‌السلام من الشام إلى كربلاء يوم الأربعين وجد أهل السواد مجتمعين حول قبر الحسين وقبور الشهداء بالحزن والحداد، فاستقبلوه بالبكاء والعويل، يتقدّمهم الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله تعالى).

ولمّا عاد أهل البيتعليهم‌السلام إلى المدينة المنوّرة استقبلهم الناس بالحداد والأسى، والنوح والبكاء، وضجّت المدينة في ذلك اليوم

١٥١

ضجّة واحدة، حتّى صار ذلك اليوم كيوم مات فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . ثمّ أُقيمت مجالس العزاء في أنحاء المدينة وخاصّة في حي بني هاشم، فكان مجلس الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، ومجلس العقيلة زينب، ومجلس الرباب زوجة الحسينعليهم‌السلام ، ومجلس اُمّ البنين اُمّ العباس بن عليعليه‌السلام وغيرها تملأ أجواء المدينة بالكآبة والحزن والحداد.

وكان الإمام زين العابدينعليه‌السلام يغتنم كلّ فرصة لإثارة العواطف، وإحياء ذكر المأساة في نفوس الجماهير، فمن ذلك مثلاً: مرّ ذات يوم في سوق المدينة على جزّار بيده شاة يجرّها إلى الذبح، فناداه الإمامعليه‌السلام : «يا هذا، هل سقيتها الماء؟».

فقال الجزار: نعم يابن رسول الله، نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتّى نسقيها الماء. فبكى الإمامعليه‌السلام وصاح: «وا لهفاه عليك أبا عبد الله! الشاة لا تُذبح حتّى تُسقى الماء، وأنت ابن رسول الله تُذبح عطشان».

وسمععليه‌السلام ذات يوم رجلاً ينادي في السوق: أيّها الناس، ارحموني أنا رجل غريب. فتوجّه إليه الإمامعليه‌السلام وقال له: «لو قدّر لك أن تموت في هذه البلدة فهل تبقى بلا دفن؟». فقال الرجل: الله أكبر! كيف أبقى بلا دفن وأنا رجل مسلم، وبين ظهراني اُمّة مسلمة؟! فبكى الإمام زين العابدينعليه‌السلام وقال: «وا أسفاه عليك يا أبتاه! تبقى ثلاثة أيّام بلا دفن وأنت ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله !».

واستمر أئمّة الهدىعليهم‌السلام يحثّون شيعتهم على التمسّك بإحياء ذكرى عاشوراء رغم الإرهاب والضغط الذي مارسه الحكّام ضدّهم. وكانوا هم (صلوات الله عليهم) يفتحون أبوابهم للشعراء والمعزّين أيّام عاشوراء منذ عصر الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام حتّى عصر الإمام علي الرضاعليه‌السلام في عهد المأمون العباسي، الذي توسّعت فيه شعائر الحسينعليه‌السلام ، وانتشرت مجالس العزاء أيّام عاشوراء بتأييد من الإمام الرضاعليه‌السلام ودعم من المأمون.

١٥٢

فكانت دار الإمام الرضاعليه‌السلام في أيّام عاشوراء تزدحم بالناس يستمعون فيها إلى رثاء الحسينعليه‌السلام ، وكلمات الحثّ والتشويق والتشجيع من الإمامعليه‌السلام ، فكان من أقواله المأثورة: «إنّ أهل الجاهليّة كانوا يعظّمون شهر المحرّم، ويحرّمون الظلم والقتال فيه؛ لحرمته، ولكن هذه الاُمّة ما عرفت حرمة شهرها ولا حرمة نبيّها، فقتلوا في هذا الشهر أبناءه، وسبوا نساءه، فعلى مثل الحسين فليبكي الباكون؛ فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب».

ولم تزل شعائر عاشوراء تزداد وتتّسع بما تلاقيه من الدعم والتأييد المعنوي من قبل أهل البيتعليه‌السلام ، والعلماء الأعلام في كلّ الأوساط الشيعية حتّى قامت الدولة الحمدانية الشيعية فأعطت شعائر عاشوراء قدراً كبيراً من الدعم والتأييد، ثمّ قامت الدولة البويهية الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام فوسّعوا ذكرى عاشوراء وأعطوها صفة رسميّة تعطّل من أجلها الأسواق والأعمال والدوائر الحكومية، وتخرج المواكب العزائية بالأعلام السود وشارات الحداد تحت رعاية وإشراف كبار العلماء وأقطاب رجال الدين.

فكانت بغداد مثلاً في عهد عضو الدولة الحسن بن بويه الديلمي تخرج على بكرة أبيها يوم العاشر من المحرّم في مواكب عزائية ضخمة يتقدّمها رجال الدين والدولة، ولمّا قامت الدولة الفاطمية في مصر والمغرب العربي انتقلت شعائر عاشوراء إلى تلك الأقطار ودامت حوالي القرنين من الزمن إلى أنْ قضى عليها الأيوبي بالقهر والإكراه.

ثمّ لمّا قامت الدولة الصفويّة وملوكها علويّون نسباً ينحدرون من سلالة الإمام السابع موسى الكاظمعليه‌السلام ، أيّدوا شعائر عاشوراء ووسّعوها، ومثّلوا واقعة كربلاء تمثيلاً حيّاً تحت رعاية وتوجيه علماء الطائفة ومراجع التقليد، أمثال العلاّمة الحلّي، والمحقّق المجلسي وغيرهما (رضوان الله عليهم أجمعين).

وهذا التمثيل له جذور في سيرة الأئمة المعصومينعليهم‌السلام ؛ فإنّه قد أُخذ من حيث الأصل من ظاهرة وردت في مجلس الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام

١٥٣

أيّام عاشوراء، فقد حدّث شاعر أهل البيت الكميت بن زيد الأسديرحمه‌الله قال: دخلت على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام يوم عاشوراء، فأنشدته قصيدة في جدّه الحسينعليه‌السلام فبكى وبكى الحاضرون، وكان قد ضرب ستراً في المجلس وأجلس خلفه الفاطميات، فبينما أنا أنشد والإمام يبكي إذ خرجت جارية من وراء الستار وعلى يدها طفل رضيع مقمّط، حتّى وضعته في حجر الإمام الصادقعليه‌السلام ، فلمّا نظر الإمام إلى ذلك الطفل اشتّد بكاؤه وعلا نحيبه، وكذلك الحاضرون.

ومعلوم أنّ إرسال الفاطميات لذلك الطفل في تلك الحال ما هو إلاّ بقصد تمثيل طفل الحسينعليه‌السلام الذي ذُبح على صدر أبيه بسهم حرملة (لعنه الله) يوم العاشر من المحرّم، وهو عبد الله الرضيع، وغيره من الأطفال الذين قتلوا في ذلك اليوم.

والخلاصة هي: إنّ إحياء ذكرى عاشوراء قديم عند الشيعة قدم المأساة نفسها فما زال أهل البيت وشيعتهم يحتفلون بذكرى تلك المأساة الفريدة من نوعها منذ السنة الأولى لقتل الحسينعليه‌السلام وإلى اليوم، يحدوهم لذلك الحبّ والولاء للحسينعليه‌السلام أولاً، ثمّ خدمة الدين والدعوة إلى الحقّ وتركيز المفاهيم الإنسانية لدى النشء ثانياً.

والله من وراء القصد وهو والي المؤمنين، وصدق الأديب الفاضل السيّد جعفر الحلّيرحمه‌الله حيث قال:

في كلِّ عامٍ لنا بالعشرِ واعيةٌ

تطبّقُ الدورَ والأرجاء والسككا

و كلُّ مسلمةٍ ترمي بزينتِها

حتّى السماءَ رمتْ عن وجهها الحُبكا

يا ميّتاً ترك الألباب حائرةً

وبالعراءِ ثلاثاً جسمُهُ تُركا

١٥٤

لماذا يلتزم الشيعة بالسجود على التربة الحسينية من أرض كربلاء؟

هذا السؤال كثيراً ما يوجه إلى الشيعة من قبل مخالفيهم منذ القدم وإلى الآن، وقد لا يحصل المتسائلون على الجواب الشافي والردّ المقنع الصحيح؛ لأنّ المسؤولين عن هذا السؤال قد لا يكونون من أهل العلم والاختصاص. وطبيعي أن التعرّف على تقاليد الاُمّة وعادات الطائفة يجب أن يكون عن طريق علمائها وكتب عقائدها:( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهِا ) .

والحقيقة هي: إنّ الشيعة لا يلتزمون بالسجود على التربة الحسينية بالخصوص، بل يلتزمون بالسجود على التربة الطبيعية مطلقاً من أيّ مكان كانت؛ سواء من أرض كربلاء، أو من أيّ أرض في العالم، بشرط أن تكون التربة طاهرة من النجاسة، ونظيفة من الأوساخ، وطبيعية أوّلية، يعني غير مفخورة مثل: الخزف والسمنت والجص وما شاكل. فإذا لم تحصل هذه التربة بهذه الشروط حينئذ يجوّزون السجود على ما تنبته التربة من أنواع النباتات والأخشاب وأوراق الأشجار ممّا لا يؤكل ولا يلبس عادة.

فالمأكول من النبات كالفواكه والخضر وما شاكلها التي يأكل منها الإنسان عادة، وعرفاً لا يصح السجود عليها، وكذلك الأعشاب التي يصنع منها بعض الملبوسات عادة، كالحرير الصناعي والقطن مثلاً.

فأقول: إنّ الشيعة لا يلتزمون بالسجود على التربة الحسينية، وإنّما يفضلون ويرجّحون السجود عليها فقط حيث يتيسّر لهم السجود عليها.

١٥٥

وإليك الآن الأدلّة التي يستندون إليها في ذلك الالتزام وهذا التفضيل:

أمّا وجوب السجود على الأرض الطبيعية؛ فلقول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث المتواتر بين المسلمين: «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً». فالأرض لغة - وحسب مفهومها الحقيقي -: هي التراب أو الرمل أو الحجر الطبيعي دون المعادن، كالذهب والفضة والفحم الحجري وسائر الأحجار الكريمة وغيرها كالجص والإسمنت والآجر وكلّ المفخورات الاُخرى، ولا يعدل عن هذا المعنى الحقيقي إلى غيره إلاّ بقرينة صارفة واضحة، ولا يوجد في الحديث مثل تلك القرينة.

وكلمة (مسجد) تعني مكان السجود. والسجود لغة: هو وضع الجبهة على الأرض تعظيماً. وهذا هو معناه الحقيقي الذي لا يعدل عنه إلاّ بقرينة لفظية أو معنوية، كما في بعض الآيات الكريمة التي جاء فيها كلمة سجود أو مشتقاتها بمعنى الطاعة والانقياد، أو مطلق التعظيم والاحترام، مثل قوله تعالى:( وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (1) . وقوله تعالى:( لله يَسْجُدُ مَن فِي السّماوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) . وفي غيرها:( يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّماوَاتِ... ) (3) إلى غير ذلك.

(وطهوراً) أي مطهّراً. فالأرض الطبيعية تطهّر الإنسان من الحدث عند فقد الماء بالتيمم. قال تعالى:( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً... ) . أي طاهراً.

والصعيد وجه الأرض مطلقاً أو التراب الخالص، كما أنّ الأرض تطهّر أيضاً من الخبث كلّ ما لامسها، مثل: الإناء الذي ولغ فيه الكلب فإنّه يعفّر بالتراب سبعاً، وباطن الخف إذا مشي به الإنسان على الأرض الطبيعية، وباطن القدم كذلك وطرف العصا الملامس للأرض وما يشبه ذلك.

فعلى ضوء هذا الحديث يعرف أن السجود لا يصح إلاّ على الأرض الطبيعية الفطرية حسب معناها اللغوي والحقيقي، وذلك بوضع الجبهة عليها مباشرة بدون حائل بينها وبين الجبهة.

____________________

(1) سورة يوسف / 4.

(2) سورة الرعد / 15.

(3) سورة الحج / 18.

١٥٦

نعم، هذا هو الفرض الإسلامي بالنسبة إلى السجود، ولكن بما أنّ الأرض الطبيعية الطاهرة النظيفة قد لا تتيّسر للسجود في بعض الأمكنة، مثل البيوت والمساجد التي غُطي أرضها بالرخام المفخور أو الإسمنت أو ما شاكل ذلك، أو التي فرش أرضها بالسجاد أو البسط الصوفية أو القطنية أو ما شابهها ممّا لا يصح السجود عليها؛ لذلك اتّخذ الشيعة أقراصاً من التراب الخالص الطاهر يصنعونها للسجود عليها طاعة لله تعالى وامتثالاً للفرض.

فهذه الأقراص التي يسجد الشيعة عليها ما هي إلاّ جزء من الأرض الطاهرة الطبيعية أُعدت للسجود فقط؛ تسهيلاً لأداء الفرض الأولي، فهل تجد في ذلك خلافاً أو منافاة للكتاب والسنة الشريفة؟!

أترى أيّها القارئ الكريم أنّ السجود على الفرش التي تحت الأقدام والأرجل أحسن من السجود على قطعة طاهرة نظيفة من الأرض التي لم يلامسها شيء سوى جبهة المصلّي فقط؟

الجواب: طبعاً كلاّ ثمّ كلاّ. إنّ الشيعة بعملهم هذا يجمعون بين أداء الفرض وهو السجود على الأرض الطبيعية، وبين مراعاة النظافة التي هي من لوازم الإيمان وسمات المؤمن.

وأمّا تفضيل الشيعة لتربة الحسينعليه‌السلام على غيرها من الأرض؛ فلأنّها - أي تربة الحسينعليه‌السلام - رمز عمق الدلالة على أقدس بقعة وأطهر تربة، حيث جرى عليها أقدس تضحية في تاريخ بني الإنسان في سبيل الحفاظ على الصلاة وإقامتها، بل في سبيل الدين وبقائه.

إنّ تربة الحسين تذكّر المصلّي بعظم أهمية الصلاة في الإسلام ومدى تأكّد وجوبها على الإنسان، ذلك الوجوب الذي لا يسقط عن المسلم بحالٍ إلاّ نادراً. تذكّره بذلك؛ لأنّ الحسينعليه‌السلام أقامها في أحرج المواقف، وأدّاها في أشدّ الحالات.

فصلى صلاة الظهر عند الزوال يوم عاشوراء في ميدان القتال وساحة الحرب، حيث الأعداء يحيطون به من كلّ جانب يرمونه بالسهام وأصحابه تُصرع من حوله، ولو لم يقف رجلان من أصحابه أمامه وهما سعيد بن عبد الله الحنفي وزهير بن القين، اللذان وقفا أمامه يدرآن عنه سهام القوم

١٥٧

لما استطاع الحسينعليه‌السلام أن يكمل صلاته، ولصرع في أثنائها كما صرع بعض أصحابه فيها، منهم: سعيد بن عبد الله الذي سقط إلى الأرض صريعاً، وقد أصابه ثلاثة عشر سهم. فأيّ عمل يمكن أنْ يعبّر عن أهميّة الصلاة، ويؤكّد وجوب أدائها على المسلم مهما كانت الظروف والأحوال مثل هذا العمل الذي قام به الحسينعليه‌السلام ؟

هذا بالإضافة إلى ما يمكن أنْ يستوحيه المصلّي أثناء صلاته من ذكرى الحسينعليه‌السلام من معاني جمّة وعظيمة، منها مثلاً تصوّر عظمة الإسلام وأهميّة الدين بشكل عام، حيث دفع الحسينعليه‌السلام ثمن بقائه وصيانته غالياً جدّاً، فكشفعليه‌السلام بذلك عن حقيقة أنّ الدين أثمن وأغلا وأفضل من كلّ ما في الحياة والوجود، وهو أولى بالبقاء من كلّ شيء؛ سواء في مقام دوران الأمر بين بقائه أو بقاء غيره، فالغير أولى بالتضحية به لأجل بقاء الدين.

والسبب في ذلك واضح، وهو أنّ الحياة بكلّ ما فيها من نعم وخيرات، وزينة ولذّة من المال والبنين وغيرهما إنّما يستفاد منها حقيقة، وتكون خير للإنسان وراحة له ولذّة إذا كان المجتمع يسوده الدين ونظام القرآن وشريعة الله تعالى، يسوده ذلك فكرة وعملاً من حيث العقيدة والسلوك؛ لأنّه حينئذ فقط يسود الحقّ والعدل، ويأخذ كلّ ذي حقّ حقّه، ويؤدي كلّ مسؤول واجبه ولا تظلم نفس شيئاً.

قال سبحانه وتعالى:( فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ) (1) و( وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى‏ آمَنُوا وَاتّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ من السّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِن كَذّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (2) .

والخلاصة هي: إنّ الشيعة إنّما يفضلّون السجود على تربة الحسينعليه‌السلام على غيرها من بقاع الأرض؛ لأنّ الصلاة في حقيقتها صلة مع الله تعالى وتوجّه إليه، وتذكّر له وخضوع وخشوع بين يديه. ولا شك أنّ ذكرى سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام خير وسيلة للحصول على أكبر قدر ممكن من تلك الاُمور كلّها؛ وذلك بسبب السجود على تربته المقدّسة.

____________________

(1) سورة طه / 123 - 124.

(2) سورة الأعراف / 96.

١٥٨

وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من الإجابة على هذا السؤال، وإنْ أردت المزيد من التفصيل فيه فراجع كتاب (الأرض والتربة الحسينية) للمرحوم حجّة الإسلام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (قدس سرّه).

وفي الختام: أرى من المناسب أن أسجل هنا فقرة من كتاب (أبو الشهداء)(1) تؤيّد الفقرات الأخيرة. قال العقاد وهو في معرض بيان ما اكتسبته أرض كربلاء من قدسية بسبب الحسينعليه‌السلام : وليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل ولا ألزم له من الإيمان والفداء، والإيثار ويقظة الضمير، وتعظيم الحقّ ورعاية الواجب، والجلد في المحنة والأنفة من الضيم، والشجاعة في وجه الموت المحتوم. وهي ومثيلات لها من طرازها هي التي تجلّت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسينعليه‌السلام ، ولم تجتمع كلّها ولا تجلّت قط في موطن من مواطن تجلّيها في تلك الحوادث التي جرت في كربلاء.

فيا كربلا طلتِ السماءَ وربّما

تناول عفواً حظَّ ذي السعي قاعدُ

لأنتِ وإن كنتِ الوضيعةَ نلتِ من

جوارهم ما لم تنله الفراقدُ

____________________

(1) أبو الشهداء الحسين بن علي / 13.

١٥٩

هل يحدث إحياء ذكرى الحسين عليه‌السلام تفرقة وحزازات طائفيّة بين المسلمين كما يزعم البعض؟

قد يمرّ هذا السؤال على بعض الخواطر ويرد في أفكار بعض الناس وخاصّة شباب هذا العصر، الذي نشطت فيه المحاولات الإلحادية وقويت فيه الدعاية ضدّ شعائر الدين ومظاهر الإسلام بكلّ صورها، وفي مقدّمتها الشعائر الحسينية التي هي من صميم شعائر الله ومظاهر الدين. تلك الشعائر التي من أقوى الوسائل لنشر الوعي السياسي والاجتماعي والأخلاقي بين الأحداث والشباب.

ومن ثمّ نشطت الدعاية المعادية ضدّ هذه الشعائر الحسينية بكافّة أنواعها؛ من عقد المآتم وتنظيم المواكب وغيرها. وكثيراً ما ترفع ضدّها شعارات مظلّة وخدّاعة باسم الدين، وبالتظاهر بالحرص على وحدة المسلمين، والاهتمام باتّفاق كلمتهم وتوحيد صفوفهم أمام العدو المشترك، فيزعمون أنّ إحياء ذكرى ثورة الحسينعليه‌السلام ينافي هذا الهدف؛ بسبب ما تولّده هذه الذكرى من التفرقة الطائفية؛ لأنّها - أي تلك الذكرى - تشتمل - كما يزعمون - على الطعن والتنديد والمسّ بكرامة بعض الصحابة، وبعض خلفاء المسلمين، وبعض رجال الاُمّة المحترمين؛ ولذا يجب ترك هذه الشعائر وعدم إحياء تلك الذكرى حفاظاً على وحدة المسلمين.

هكذا تقول تلك الدعاية اليوم حسب ما نقرأ ونسمع منها بين حين وآخر.

١٦٠