مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب0%

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 190

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الوهاب الكاشي
تصنيف: الصفحات: 190
المشاهدات: 29233
تحميل: 4400

توضيحات:

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29233 / تحميل: 4400
الحجم الحجم الحجم
مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والجواب عليها ببساطة هو أن نقول:

أوّلاً: إنّ ثورة الحسينعليه‌السلام لم تخدم مصلحة الشيعة فحسب ولا مصلحة المسلمين فحسب، بل خدمت مصلحة الإنسانية العُليا في كلّ زمان ومكان، وعليه فالحسين ليس للشيعة فقط، بل لجميع المسلمين ولكل الناس الخيرين في العالم، وقد أجمعت كلمة الخبراء والعلماء بكنه ثورة الحسين وحقيقتها على أنّ واجب كلّ شعب وأمّة أن تحيي ذكرى الحسينعليه‌السلام خدمة لمصلحة أبنائها، وتربية لشبابها على الشعور بعزّة النفس وإباء الظلم والكرامة الإنسانية في حياتهم. فذكرى ثورة الحسينعليه‌السلام لا تفرّق، بل بالعكس توحّد الكلمة على الحقّ والعدل.

ثانياً: إنّ الذي أمر بقتل الحسينعليه‌السلام هو يزيد بن معاوية البالغ من العمر في ذلك اليوم إحدى وثلاثين عاماً فقط، وإنّ الذي نفّذ الأمر هو عبيد الله بن زياد (لعنه الله) البالغ من العمر في ذلك اليوم ثمانية وعشرين عاماً، وإنّ الذي باشر تنفيذ الأمر هو قائد الجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص (لعنه الله) البالغ من العمر في ذلك اليوم حوالي خمسة وعشرين عاماً. وهم كما ترى ليسوا من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمعنى المعروف، أي ليس منهم أحد أدرك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وجالسه وسمع حديثه.

فمَنْ هم هؤلاء الصحابة الذين يخشى من الطعن بهم في إحياء ذكرى الحسينعليه‌السلام ؟! نعم، ربّما يتعرض في خلال الذكرى إلى معاوية بن أبي سفيان باعتباره مهّد الطريق إلى قتل الحسينعليه‌السلام عن قصد أو غير قصد بتوليته ابنه على إمارة المسلمين.

ومعاوية معلوم الحال لدى الجميع، أسلم قبل وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بخمسة أشهر بعد أن ضاقت عليه الأرض، وعلم أنّ الإسلام سيعمّ وينتشر فدخل في الإسلام خوفاً وطمعاً، لا عن عقيدة وإيمان. وكان صعلوكاً مستحقراً لدى المسلمين، ومعدوداً في المؤلّفة قلوبهم الذين لا يتجاوز الإسلام شفاههم، ولا يؤمن شرّهم على المسلمين إلاّ بالمال.

١٦١

والإدعاء بأنّ معاوية كان من كتّاب القرآن بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كذب وافتراء؛ لمْ يوجّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى معاوية كتابة أي جزء من الوحي أو آية من القرآن.

نعم، كان يكتب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعض الرسائل التي كان يرسلها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الملوك والرؤساء، وكان المسلمون الواعين في حياة الرسول يزدرون معاوية ويكرهون مجالسته. ولا أشك أنّ المسلمين الواعين في عصرنا هذا ليس فيهم مَنْ يحبّ معاوية ويقدّسه ويحترمه، وهو يقرأ ويسمع ما شاع وذاع وملأ الآفاق عن بدعه وآثامه وموبقاته إبان ملكه وإمارته.

تلك البدع والآثام التي ختمها بفرض ابنه يزيد الفاسق الماجن الخمّار السكّير فرضه خليفة على المسلمين من بعده، فقتل آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأباح مدينة الرسول لجنده ثلاثة أيّام دماء وأموالاً وأعراضاً، وأخيراً هدم الكعبة وأحرق أستارها.

فالغرض هو: أنّه لا يوجد في ذكرى ثورة الحسين ذكر لصحابة ولا لرجال دين محترمين يخشى أن يطعن فيهم أو تمسّ كرامتهم، وبالتالي فإنّ هذه الذكرى المقدّسة لا تفرّق بين المسلمين أبداً.

نعم، تفرّق بين المسلمين والمنافقين الدجّالين الذين هم على طراز معاوية ويزيد وابن زياد وعمر بن سعد. وهذا التفريق يرحّب به كلّ مسلم ويتمنّاه:( لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ من الطّيّبِ ) . وهذه التفرقة هي من ثمرات ذكرى ثورة الحسين بلا شك، ومن الأهداف المقصودة من إحيائها، بل ومن أهداف ثورة الحسينعليه‌السلام بالذات.

ثالثاً: كيف يعقل أن تكون ذكرى ثورة الحسينعليه‌السلام مفرّقة للصف، ومشتّتة للوحدة بين المسلمين مع أنّ ثورة الحسينعليه‌السلام بالذّات ضربت أروع مثال للوحدة بين المسلين؛ حيث جمعت بين أفراد مختلفين وأشخاص متباينين من حيث العنصر والقومية، والدين والمذهب، والوطن والسن والجنس.

وحدّت بينهم الثورة توحيداً كاملاً حتّى جعلتهم وكأنّهم جسم واحد وشخص واحد يتحرّكون

١٦٢

ويعملون وينطقون بإرادة واحدة ويد واحدة ولسان واحد، وهم أصحاب الحسينعليه‌السلام الذين كانوا حوالي الثلاثمئة والثلاثة عشر رجلاً.

كان فيهم العربي القرشي والعربي غير القرشي إلى جنب الفارسي والتركي، والرومي والزنجي، والمسيحي والمسلم السنّي والمسلم الشيعي، من أقطار الحجاز والكوفة والبصرة واليمن، منهم الفقير والغني، والحرّ والعبد، والرئيس والمرؤوس من مختلف مراحل العمر، كالشيخ الكبير، والكهل، والشاب، والمراهق، والصبي. وكان معهم جملة من النساء من الهاشميات والعربيات يقدّر عددهن بحوالي العشرين امرأة.

أجل، لقد قدّم الحسين من وحدة أصحابه نموذجاً كاملاً عن الوحدة الإنسانية العلميّة التي ينشدها الإسلام ودعا إليها القرآن، وثار لأجل تحقيقها سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ومن قبله أبوه الإمام عليعليه‌السلام الذي هو القدوة المُثلى للمسلمين جميعاً في العمل لوحدة المسلمين، والحفاظ عليها والتضحية في سبيلها بمصلحته ومصلحة أبنائه ومصلحة شيعته.

صبر على اغتصاب حقوقه وحقوق أهل بيته وشيعته خمساً وعشرين سنة، مدّة حكم الخلفاء الثلاثة قبله، ولقد تعاون مع الخلفاء الغاصبين لحقّه في الشؤون العامة، وخدمة المصلحة العُليا بكلّ إمكاناته وطاقاته حسب ما هو معروف لدى الجميع... وكذلك جميع أبنائه الأئمّة الأحد عشرعليهم‌السلام ، سالموا خلفاء الوقت وسايروا الحكومات الإسلاميّة على حساب مصلحتهم الخاصة وحقوقهم المشروعة؛ لأجل صيانة الوحدة الإسلاميّة.

والخلاصة هي: إنّه ليس في شعائر الشيعة وذكرياتهم شعار ولا ذكرى تفرّق المسلمين، أو تورث حزازات طائفية بينهم، بل إنّ الذي يفرّق ويمزّق صف الوحدة الإسلاميّة، ويثير الحزازات الطائفية والفتنة بين المسلمين، هم اُولئك العملاء المأجورين من قبل الاستعمار وأعداء المسلمين الذين ينفثون سموم التفرقة بين حينٍ وآخر، بواسطة بعض

١٦٣

الكتب أو المقالات، أو الخطب التي تحمل وتتحامل على الشيعة بالكذب والافتراء، والتّهم والسبّ والشتم، ونسبة الكفر والشرك إليهم بكلّ صراحة ووقاحة.

إنّ الذين يفرّقون كلمة المسلمين هم اُولئك الذين يكتبون عن الشيعة أنّهم صنيعة الصهيونية، ومن أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ابتدع مذهب الشيعة. وعبد الله بن سبأ هذا قد أجمع الخبراء على أنّه اُسطورة خيالية لا وجود له إلاّ في أذهان هؤلاء الذين يريدون التشهير بالشيعة.

إنّ مذهب الشيعة في الإسلام إنّما هو مذهب أهل البيتعليهم‌السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ذلك المذهب الذي يفرض التعاون بين المسلمين جميعاً على البرّ والتقوى ومصلحة الإسلام العُليا. ذلك المذهب الذي يعتبر المسلم أخاً للمسلم شاء ذلك أمْ أبى.... وأخيراً أقول: إنّ الشيعة لا يهاجمون ولا يعتدون، بل يدافعون عن الحقّ وبالحقّ، وليس في مذهب التشيّع شيء غير الحقّ.

وممّا يقوله المشاغبون على الشيعة أيضاً: هو أنّ الشيعة شُغلوا بالبكاء والعويل على الحسينعليه‌السلام عن مصالحهم الحيويّة وقضاياهم المصيريّة، فتخلّفوا عن ركب العالم علميّاً واقتصاديّاً وصناعيّاً وسياسيّاً.

أقول: إنّ قولهم هذا يذكّرني بقول بعض الملحدين الذين يقولون إنّ المسلمين شُغلوا بالصلاة والصيام والحلال والحرام عن مسايرة ركب التطوّر العالمي، فظلّوا متخلّفين عن الاُمم الاُخرى.

أجل، ما أشبه قول المشاغبين عن الشيعة بقول الملحدين عن المسلمين عامّة، وما أقرب الدوافع والغايات للقولين. تلك الغايات التي تتلخّص بكلمة واحدة

١٦٤

وهي (التشويه)، فكلّ من القولين مغالطة مفضوحة، لا تنطلي إلاّ على السذّج من عوام الناس، وإلاّ فكلّ عاقل عارف يعلم يقيناً أنّ الإسلام بكلّ ما فيه لا دخل له في تخلّف المسلمين مطلقاً، كما إنّ إحياء ذكرى عاشوراء بكلّ ما فيه لا دخل له في تخلّف الشيعة مطلقاً.

إنّ السبب الأساسي في تخلّف المسلمين عامّة والشيعة خاصّة في العصور الأخيرة هو الاستعمار الكافر بأساليبه وعملائه وسياساته.

وإنْ قلت: مَنْ الذي مكّن العدو المستعمر من السيطرة عليهم واستعمارهم؟ قلت: هم الحكّام الخونة الذين اغتصبوا السلطة من أصحابها الشرعيين منذ العصور الأولى، وبعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه التحديد وإلى اليوم.

١٦٥

استنتاج العبر من ثورة الحسين عليه‌السلام

أجبنا في الفصول السابقة قدر الإمكان عن أهم النقاط التي يقع التساؤل حولها في ثورة الحسينعليه‌السلام . يبقى علينا أنْ نعرف: ما هي أهم العبر والدروس التي يمكن أن نستخلصها من تلك الحادثة الفريدة في بابها المليئة بالعظات؟ والتي منها:

أولاً: صدق القول المأثور: «ما ضاع حقٌّ وراؤه مطالبٌ». يعني أنّ الحقّ، أيّ حقّ، لا يضيع بالاغتصاب، ولا يذهب إلى الأبد بالعدوان إذا كان وراء ذلك الحقّ صوت يرتفع بالمطالبة به وإن كان الصوت ضعيفاً، ودعوة مستمرة لاسترجاعه ولو كانت الدعوة فرديّة. المهمّ عدم السكوت عنه واليأس من حصوله، هذه هي سنّة الحياة وقانون الطبيعة في كلّ زمان.

وكمثال على ذلك نذكر حقّ أهل البيتعليهم‌السلام عامّة، وحقّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام خاصّة، الذي اغتصب بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة وأُنكر إنكاراً كليّاً، ولكن ما استطاع الغاصبون لحقّه محو ذلك الحقّ واقتلاع الإيمان به من الرأي العام والضمير الإنساني.

فبعد مرور خمس وعشرين عاماً على اغتصاب حقّهعليه‌السلام قامت ثورة شعبية ضدّ الغاصبين واكتسحتهم عن طريق الإمامعليه‌السلام ، وحمله الثائرون على الأكتاف حتّى أجلسوه في مجلسه الشرعي، وأحلوه مقامه الطبيعي وسلّموه حقّه المغتصب.

١٦٦

ومن الجدير بالملاحظة: أنّ الاُمويِّين حاولوا بكلّ الوسائل إخراج عليعليه‌السلام من قلوب الناس وأفكارهم، وتحويله عن قمّة المجد والعظمة والمثاليّة؛ بإعلان سبّه وشتمه ولعنه على المنابر، والمنع من ذكر فضائله ومكارم أخلاقه، ثمّ نشر الأكاذيب في الطعن به وتشويه سمعته، وبمطاردة شيعته ومواليه ومحبيه بالإرهاب، والقتل والسجن والتشريد والحرمان مدّة نصف قرن أو أكثر، من عهدهم المشؤوم.

ولكن ما استطاعوا وباؤوا بالفشل الذريع، وأنتجت محاولاتهم تلك عكس مطلوبهم؛ فما أن زال كابوس إرهابهم عن الناس حتّى ظهر عليعليه‌السلام على شاشة القلوب والأفكار كأعظم إنسان مثالي، وأظهر شخصيّة متكاملة بين مجموعة الأنبياء والصدّيقين، والأوصياء والقدّيسين من الأولين والآخرين، ولقد أجمعت كلمة البشريّة جمعاء على حبّه وتقديسه، والاعتراف بفضله وفضائله.

ويذكر بهذه المناسبة أنّه سُئل أحد الخبراء فقيل له: ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: ما أقول في رجل كتم فضائله الأعداء؛ بغضاً وحسداً، وكتم فضائله الأولياء؛ خوفاً وحذراً، وقد ظهر من بين ذين من فضائله ما ملأ الخافقين.

وقد قامت باسمه وعلى مبدأ الولاية له دول كثيرة في التاريخ، منها مثلاً: الدولة الحمدانية، والبويهية، والفاطمية، والصفوية، والقاجارية وغيرها، حتّى جعلت من اسمهعليه‌السلام شعاراً لها ترفعه على المآذن في كلّ يوم وليلة في خلال الأذان والإقامة؛ وذلك بالشهادة له بالولاية والإمامة بعد الشهادتين الواجبتين. ثمّ تستمر هذه الشهادة الثالثة في الأذان كرمز للتشيّع في العالم الشيعي إلى يومنا هذا.

وفي ذات الحسينعليه‌السلام دليل واضح على صدق مدلول هذه الكلمة: «ما ضاع حقّ وراؤه مطالب». أجل، ما ضاع ثأر الحسينعليه‌السلام ولا ذهبت تلك الدماء الزكية هدراً؛ فلقد ظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفي في الكوفة، البلد الذي قُتل الحسينعليه‌السلام ، وأخذ يتتبّع الذين خرجوا إلى حرب الحسينعليه‌السلام أين ما كانوا، حتّى قتل منهم حوالي ثمانية عشر ألفاً من أصل ثلاثين ألف رجل الذين

١٦٧

قاتلوا الحسينعليه‌السلام بكربلاء، وفيهم: عبيد الله بن زياد أمير الكوفة آنذاك، وعمر بن سعد قائد الجيش الذي خرج إلى حرب الحسينعليه‌السلام ، والشمر بن ذي الجوشن، وخولى بن يزيد، وحرملة بن كاهل وغيرهم من قادة ذاك الجيش، ونكّل بهم أشدّ تنكيل، وبعث برؤوس بعضهم إلى المدينة إلى الإمام زين العابدينعليه‌السلام ومحمد بن الحنفيّة.

وأمّا الذين أفلتوا من يد المختار وهربوا من الكوفة استولى المختار على أموالهم وممتلكاتهم، وقسّمها بين الفقراء والمنكوبين من بني هاشم وشيعتهم. وهؤلاء الذين هربوا أيضاً لم يفلتوا من العقاب والانتقام؛ فقد سلّط عليهم أينما حلّوا مَنْ قتلهم وأبادهم، حتّى لم يمضِ على قتل الحسينعليه‌السلام سوى بضع سنوات إلاّ وقد فنوا عن آخرهم، وقطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

يقول العقاد: وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء، وإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد، وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب(1) . كلّ ذلك بفضل المطالبة المستمرة التي كانت قائمة من قبل أهل البيت وشيعتهم بشتّى الصور والوسائل.

ثانياً: ومن تلك العبر والدروس التي تستخلص من ثورة الحسينعليه‌السلام أيضاً صدق القول المأثور الآخر: «الظلم لا يدوم». وإن تراه أحياناً يستمر عشرات الأعوام؛ فإنّها قليلة وضئيلة بالنسبة إلى عمر الزمن. ولو قدّر لدولة ظالمة أن تدوم وتستقر على الظلم والعدوان لدامت الدولة السفيانيّة التي أسسها معاوية بن أبي سفيان في الشام مئآت من الأعوام، ولكنّها زالت بعد هلاك مؤسسها بأربع سنوات فقط، وقامت على أنقاضها دولة مروانية بعد فترة من الفوضى والانحلال.

والدولة المروانية تختلف عن سابقتها الدولة السفيانية، وإنّ الجهود التي بذلها معاوية بن أبي سفيان كانت تستهدف بقاء الملك في أسرته آل أبي سفيان عبر مئآت السنين، ولكن ربَّ ساع لقاعد.

____________________

(1) أبو الشهداء الحسين بن علي / 181.

١٦٨

ولكي تعرف مدى قوة ذلك الملك الذي أقامه معاوية لاُسرته وبنيه، هاك استمع إلى فقرات من وصيته ساعة موته إلى ولده وخليفته يزيد (لعنه الله):... وأعلم يا بني، إنّي قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الاُمور، وذلّلت لك الصعاب، وأخضعت لك رقاب العرب، وجعلت الملك وما فيه طعمة لك، وإنّي لا أتخوف عليك فيما استتب لك إلاّ من أربعة...

والخلاصة التي لا خلاف حولها هي: أنّ الدولة والحكومة التي خلّفها معاوية بن أبي سفيان كانت حصينة وقويّة إلى أقصى ما يمكن؛ فقد توفّرت فيها كلّ عناصر البقاء والدوام ما عدا عنصر واحد فقط وهو العدل والحقّ.

وهذا العنصر هو الأصل والأساس لدوام كلّ شيء في هذه الحياة، خاصّة الدولة، (العدل أساس الملك الدائم)؛ لذا فلقد انهارت تلك الدولة بأسرع وقت كما سبق، وذلك عندما تنازل معاوية الثاني ابن يزيد عن العرش دون أن ينصّب أحداً مكانه، ومات بعد ثلاثة أيام.

وممّا يذكر أنّه رقي المنبر قبل إعلان تنازله عن العرش، وألقى خطبة بليغة تعرّض فيها لمظالم جدّه معاوية بن أبي سفيان، ولجرائم أبيه يزيد بن معاوية، ومآثم آل أبي سفيان، وأكّد أنّ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أجدر وأحقّ بالخلافة والسلطان.

وممّا قاله في تلك الخطبة: أيّها الناس، إنّا بُلينا بكم وبليتم بنا، فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا، ألا وأنّ جدّي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمر مَنْ كان أولى به منه في القرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحقّ في الإسلام؛ سابق المسلمين، وأوّل المؤمنين، وابن عمّ رسول رب العالمين، وأبا بقية خاتم المرسلين؛ فركب منكم ما تعلمون وركبتم منه ما لا تنكرون، حتّى أتته منيته، وصار رهناً بعمله.

ثمّ قلّد أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه، وعظّم رجاءه، فأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل؛ فقلّت منعته، وانقطعت مدّته، وصار في حفرته رهناً بذنبه وأسيراً بجرمه.

١٦٩

ثمّ بكى وقال: إنّ أعظم الاُمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأباح حرمة المدينة، وأحرق الكعبة المشرّفة، وما أنا المتقلّد اُموركم، ولا المتحمل تبعاتكم، فشأنكم أمركم؛ فوالله لئن كانت الدنيا مغنماً فلقد نلنا منها حظّاً، وإن تكن شرّاً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. ثمّ نزل من على المنبر ودخل داره، ومات بعد ثلاثة أيّام (رحمة الله عليه).

وأخيراً وليس آخراً: فإنّ العبر والدروس التي نستفيدها بكلّ وضوح من شهادة الحسينعليه‌السلام كثيرة، ونضيف إلى ما قدّمنا منها: «ما كان لله ينمو».

هذا القول المأثور والحكمة البالغة تتجسّد بصورة واضحة في ثورة الحسينعليه‌السلام ، فإنّها رغم بساطتها وصغر حجمها وقصر مدّتها لكنّها قد اتّسعت أصداؤها وانعكاساتها، ونمت ردود فعلها على مرور الأيام حتّى أصبحت تعتبر في طليعة الثورات الكبرى التي حولّت سير التاريخ، وأثّرت في تحرر المجتمع وحفظ كيان الاُمّة أثراً كبيراً، بل ولقد صار الخبراء والباحثون يؤمنون بأنّها - أيّ ثورة الحسينعليه‌السلام - هي الثورة المثاليّة في باب الثورات الإنسانية والإصلاحية والشعبيّة مطلقاً، وأصبحت ثارات الحسينعليه‌السلام نداء كلّ ثورة ودولة تريد أن تفتح لها طريقاً إلى إسماع الجماهير وقلوبهم.

وفعلاً، لقد تأثّر بها أكثر الثائرين في العالم بعد الحسينعليه‌السلام ، وجعلوا من ثورته وثباته وصلابة عزيمته وصبره وشجاعته، جعلوا من كلّ تلك الاُمور قدوة مثلى لثوراتهم.

يُقال عن مصعب بن الزبير مثلاً الذي ثار على عبد الملك بن مروان وبقي وحده في المعركة: عُرض عليه الأمان والسلام من قبل عبد الملك فرفض، وهو يقول: ما ترك الحسينعليه‌السلام لابن حرّة عذراً. ثمّ تقدّم إلى القتال وحده وقاتل حتّى قُتل.

وكان يتمثّل بقول الشاعر:

وإنّ الاُلى بالطفِّ من آل هاشمٍ

تأسّوا فسنّوا للكرامِ التأسّيا

وكان من بعض أصدائها القريبة وردود فعلها المباشر ثورة أهل المدينة على سلطان يزيد، وثورة عبد الله بن الزبير في مكّة المكرّمة، وثورة المختار الثقفي

١٧٠

في الكوفة، ثمّ ثورة مصعب بن الزبير في البصرة، وثورة زيد بن علي وابنه يحيى بن زيد في كلّ من الكوفة وخراسان.

وأمّا انعكاساتها البعيدة فكثيرة أيضاً، وأهمها ثورة السفّاح التي قضت على الدولة الاُمويّة نهائياً وجاءت بالدولة العباسيّة إلى الوجود. أجل، إنّ ثورة الحسينعليه‌السلام رغم بساطتها كما ذكرنا فلقد باركها الله وبارك آثارها وثمراتها، وتعلّقت إرادته سبحانه بأن تبقى ذكراها خالدة متجدّدة متوسّعة عاماً بعد عام.

وها هي قد مضى عليها ما يُقارب الألف وأربعمئة سنة وذكراها تتجدّد بتزايد، وتتوسّع في عدّة أقطار إسلاميّة، وتتعطّل فيها الدوائر الرسميّة والأعمال والأسواق يوم ذكرى ثورة الحسينعليه‌السلام ، وتحتفل بإحياء هذه الذكرى شعوب كثيرة، وقوميّات شتى، وعناصر متعدّدة من البشر؛ مع العلم بأنّ هذا كلّه على الرغم من العقبات التي وضعها ويضعها المخالفون والمعارضون لتلك الشعائر في طريق إقامتها، ورغم المحاولات المستمرة التي يبذلونها للقضاء عليها قضاء كلياً، ولكن:( إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) .

نعم، إنّما هي إرادة الله سبحانه التي تبنّت ذكرى ثورة الحسينعليه‌السلام وقدرت لها البقاء؛ لأنّ في بقائها حجّة بالغة ودعوة قائمة إلى طريق الخير والسعادة والشرف والكرامة، تلك الحجّة وذلك الطريق المتمثلين في العمل الذي قام به الحسينعليه‌السلام ؛ إيمان بالله، وحب للإنسانية وتضحية في الدفاع عنها حتّى النصر أو الموت.

والذي نقصده من معنى البساطة في ثورة الحسينعليه‌السلام هي البساطة من حيث الزمن، بلحاظ أنّها لم تستغرق سوى بضعة أيّام منذ أن صمّم الحسينعليه‌السلام على ملاقاة القوم، وفشلت معهم كلّ الجهود السلمية التي بذلها لحقن الدماء، ولأجل أن يفسحوا له المجال ليسير في أرض الله العريضة إلى حيث ينتهي به السير، ويخرج من منطقة نفوذ ابن زياد، أو ربما يجتمع بيزيد بن معاوية للتفاوض معه حول الخلافة ومصلحة الاُمّة.

وقد جرت منه لهذا الغرض عدّة اجتماعات بينه وبين قائد الجيش عمر بن سعد، وقد كتب عمر بن سعد باقتراحات الحسينعليه‌السلام إلى

____________________

(1) سورة يس / 82.

١٧١

عبيد الله بن زياد والي العراق، وكاد ابن زياد أن يلين ويوافق على اقتراحات الحسينعليه‌السلام ، ولكن الشمر بن ذي الجوشن وآخرين من بطانته الذين كان لهم تأثيراً كبيراً عليه حوّلوا رأيه، وحسّنوا له الاستمرار على حصار الحسينعليه‌السلام حتّى يستسلم له أو يقاتله.

وكانت النهاية التي انهارت فيها كافة المحاولات السلمية هي يوم التاسع من المحرّم، لمّا ورد الشمر إلى كربلاء بآخر كتاب من ابن زياد إلى عمر بن سعد يأمره فيه بكلّ تأكيد بأن يغلق باب المحادثات مع الحسينعليه‌السلام ، ويعرض عليه أحد أمرين فقط: فإمّا الاستسلام وإما الحرب، ثمّ يأمره أيضاً أن لا يطيل المدّة أكثر ممّا طالت، وأن يعجّل في أمر الحسينعليه‌السلام مهما أمكن؛ حيث علم ابن زياد أنّ الزمن ليس في جانب مصلحته.

وكان الشمر بن ذي الجوشن يحمل أمراً سرّياً خاصّاً من ابن زياد: بأنّه إن امتنع عمر بن سعد من تنفيذ الأوامر الصادرة إليه ضدّ الحسينعليه‌السلام فليقتله، ويتولّى هو - أي الشمر - قيادة الجيش.

ولكن عمر بن سعد لمّا قرأ كتاب عبيد الله بن زياد التفت إلى الشمر وقال له: لعنك الله يا شمر، ولعن ما قدمت به! والله، إنّي لأظن أنّك أفسدت علينا ما كنّا رجونا صلاحه، ولن يستسلم الحسينعليه‌السلام أبداً؛ إنّ نفس أبيه لبين جنبيه.

فقال له الشمر: أخبرني عمّا أنت فاعله؟ أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوّه، وإلاّ فاعتزل وخلّي ذلك بيني وبين الجيش؟ فقال عمر بن سعد: لا ولا كرامة لك! أنا أتولى ذلك فدونك أنت فكن على الرجّالة.

ثمّ نهض لحرب الحسينعليه‌السلام ، وزحف بالجيش نحو معسكر الحسينعليه‌السلام عشيّة الخميس لتسعٍ مضين من المحرّم سنة إحدى وستين من الهجرة، ولكنّ الحسينعليه‌السلام استمهلهم سواد تلك الليلة، وانتهت بمصرع الحسينعليه‌السلام قبل غروبها بقليل من نفس ذلك اليوم.

فالثورة الحسينية من بدايتها إلى نهايتها لم تستغرق سوى بضعة أيّام فقط، هذا من حيث المدّة والزمن، وأمّا من حيث المكان، فإنّ حدودها لم تتجاوز منطقة كربلاء، ذلك الوادي على شاطئ الفرات المحاط بسلسلة من التلال المتصلة

١٧٢

على امتداد الصحراء، وعُرفت قديماً باسم (كور بابل)، ثمّ صحّفت إلى كربلاء. وبالقرب منها منطقة تسمّى (نينوى)، وقيل: إنّها كربلاء بالذات. ومن أسمائها أيضاً وادي الطفوف والغاضريات. ولم يكن لها شيء تذكر به من الوقائع أو التربة، أو الموقع الجغرافي قبل وقعة عاشوراء عليها.

وأمّا من حيث عدد الثائرين فيها، فإنّه لم يتجاوز الثلاثمئة والثلاثة عشر على أكثر الفروض؛ بين رجل وصبيّ وطفل وشيخ وكهل. فهي إذاً ثورة بسيطة كمّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً، ولكنّها أعظم ثورة في العالم كلّه من حيث المفهوم والمضمون، ومن حيث التجرّد والواقعية والإخلاص لله سبحانه وتعالى، ومن حيث العطاء والفداء.

فبين عشية وضحاها، وفي خلال نهار واحد فقط أُبيدت واستُؤصلت بيوت وأُسر من آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو كادت أن تُستأصل.

قال بعض الشعراء:

عينُ جودي بعبرةٍ و عويلِ

واندبي إن ندبتِ آلَ الرسولِ

سبعةٌ كلّهمْ لصلبِ عليٍّ

قد أُصيبوا وتسعةٌ لعقيلِ

أجل، لقد استُؤصل ولد الحسينعليه‌السلام ولم ينجُ منهم سوى زين العابدينعليه‌السلام وذلك بأعجوبة، وأُبيد ولد الحسنعليه‌السلام ولم يسلم منهم سوى طفلين صبيين، والحسن المثنى الذي سقط جريحاً فحمله أخواله بنو فزارة وتشفّعوا فيه عند عمر بن سعد وابن زياد، ثمّ حملوه إلى الكوفة وعالجوا جراحه حتّى شفي وعاد إلى المدينة. ولم يبقَ من أولاد عقيل بن أبي طالب وأولاد جعفر بن أبي طالب سوى الأحفاد الصغار، وحتى هؤلاء قُتل بعضهم سحقاً تحت حوافر الخيول لمّا هجم القوم على الخيام.

قالوا خرج صبيّ يدرج من مخيّم الحسينعليه‌السلام وفي أذنيه درتان تتذبذبان على خدّيه، وهو مدهوش مذعور من هجوم الأعداء على الخيام، يتلفت يميناً ويساراً واُمّه خلفه تلاحظه وتحرسه، فدنا منه رجل من القوم على فرس بيده عمود من حديد فضرب الصبيّ على رأسه وأرداه إلى الأرض قتيلاً.

١٧٣

وقد وجد عدّة أطفال من آل الحسينعليهم‌السلام يوم الحادي عشر من المحرّم وهم موتى من العطش على وجه الرمال بعد أن فرّوا من المخيم عند هجوم الخيل يوم عاشوراء. ولمّا صرع وهب بن حباب الكلبي يوم عاشوراء خرجت اُمّه من الخيمة حتّى جلست عند مصرع ولدها تندبه وتبكيه، فقال الشمر بن ذي الجوشن لغلامه: ويلك! اضرب رأسها. فخدش الغلام رأسها وقتلها بمكانها.

هذا بعض ما يمكن تصويره وبيانه من مآسي تلك الثورة البسيطة المتواضعة، والتي ظهرت بعد انتهائها، وبعد مرور بعض الزمن عليها كأعظم ثورة في الدنيا من حيث المثاليّة والقدسيّة، وذلك رغم محاولات الاُمويِّين وغيرهم لإعفاء آثارها وطمس معالمها، وجعلها كأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) .

ونعود ثانية إلى القول المأثور: «ما كان لله ينمو».

أجل، إنّ الشواهد على صدق هذا القول كثيرة في التاريخ، بل وفي حياتنا اليوميّة أيضاً، ففي التاريخ أنّ موسى بن عمرانعليه‌السلام مثلاً أعان ابنتي شعيب وسقى لهما من البئر التي ازدحم عليها الرجال، وكان عمله هذا خالصاً لوجه الله تعالى ما كان ينتظر، بل لا يتصوّر من ورائه ربحاً أو نفعاً في الدنيا، فبارك الله له في ذلك العمل البسيط فوصل بسببه إلى شعيب نبي الله على تلك القرية ونال الأمن والزوجة والمال في كنفه، وبالتالي اختاره الله رسولاً إلى فرعون وملئه.

وهذا مثل آخر: هو يوسف الصديقعليه‌السلام ، اتّقى الله واستعصم وتورّع عن الخيانة، وكافح شهوته ساعة لوجه الله تعالى، لا خوفاً من الناس وطمعاً فيهم، فبارك الله ذلك العمل والكفاح ضدّ نفسه الأمّارة فأوصله إلى ملك مصر مع النبوّة وعظيم الزلفى.

ومن هذه الأمثلة: ذلك الشاب البار بوالديه في عصر موسى بن عمرانعليه‌السلام ، وكانت له بقرة وقع حادث القتل في بني إسرائيل، ولم يعرف القاتل حتّى اشتروا منه تلك البقرة بملء جلدها ذهباً وذبحوها وضربوا المقتول ببعض

____________________

(1) سورة الصّف / 8.

١٧٤

أعضائها فأحياه الله تعالى وأخبر بقاتله، وبذلك كشفت عنهم تلك الفتنة التي كادت أن تقع فيهم ويذهب ضحيتها خلق كثير منهم. وإلى أمثالها من الشواهد الكثيرة، إلاّ أنّ موقف الحسينعليه‌السلام في كربلاء أوضحها دلالة وأشدّها تأكيداً على صدق هذا القول المأثور: «ما كان لله ينمو».

لقد وقفعليه‌السلام ومعه نفر قليل من الأعوان بدون عدّة ولا مدد، محصورين ممنوعين عن الماء، ووراؤه جمع من النساء والأطفال، وأمامه جيش من الأعداء قد تجرّدوا من كلّ صفة إنسانية، وفقدوا الضمير والوجدان، وبالإضافة إلى أن ذلك الجيش كان يفوق عدد أصحابه بمئات المرّات، بحيث كان لا يقلّ عن الثلاثين ألفاً.

يقول المرحوم عباس محمود العقاد في كتابه (أبو الشهداء) يصف أعوان يزيد: وإنّما بقيت ليزيد شرذمة على غراره، أصدق ما توصف به أنّها شرذمة جلادين، يقتلون مَن اُمروا بقتله ويقبضون الأجر فرحين.

ويقول أيضاً: فكان أعوان يزيد جلادين، وكلاب طراد في صيد كبير، وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي يعهد في هذه الطغمة من الناس، ونعني به مثال المسخاء المشوهين الذين تمتلئ صدورهم بالحقد على أبناء آدم، ولا سيما مَنْ كان منهم على سواء الخلق وحسن الأحدوثة.

أقول: لقد وقف الحسينعليه‌السلام وأصحابه يوم عاشوراء ذلك الموقف الحرج الشاق الصعب، مع أنّه كان في وسع كلّ واحد منهم أن يتجنّب القتل بكلمة يقولها أو بخطوة يخطوها، ولكنّهم جميعاً آثروا الموت عطاشى جياعاً، مناضلين من دون أن يكون لهم أيّ أمل في النصر العاجل والانتصار العسكري، ولكن وقفوا لوجه الله تعالى مخلصين له بالجهاد في سبيل دينه وشريعته، مضحّين بأنفسهم في سبيله.

وقفوا والموتَ في قارعةٍ

لو بها أُرسيَ ثهلانُ لمالا

فأبوا إلاّ اتصالاً بالظُّبا

وعن الضيمِ من الروحِ انفصالا

أرخصوها للعوالي مهجاً

قد شراها منهمُ الله فغالا

١٧٥

ونختم هذا الفصل بكلمة للعقّاد، [حيث قال]: وباء الحسين في ذلك الموقف بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان، غير مستثنٍ منهم عربي ولا عجمي، ولا قديم ولا حديث(1) .

وجميل جدّاً ما شبّه به بعض الكتّاب موقف الحسينعليه‌السلام ، وموقف خصومه يوم كربلاء، فقال ما مضمونه: إنّ ساحة الصراع في كربلاء كانت أشبه بمعرض عالمي أُقيم على تلك البقعة، وكان لذلك المعرض جناحان فقط؛ جناح الحسينعليه‌السلام وأصحابه، وجناح أعدائه ومقاتليه. وقد عرض كلّ من الجانبين في جناحه الخاص نماذج وصوراً عن هذا الجنس البشري في طرفي صعوده وسقوطه؛ فعرض الحسينعليه‌السلام وأصحابه للعالم نماذج مثاليّة خالدة عن أقصى مراحل التكامل البشري والكمال الإنساني من مصنع الإسلام وصناعة القرآن. كما عرض أعداؤه في الجانب الآخر نماذج خالدة للعالم عن أسفل درك المسخ والسقوط والانتكاس البشري من مصنع الجهل وصناعة الحكم الاُموي. فكربلاء إذاً معرض بشري عالمي قائم ومفتوح حتّى يومنا هذا دون منافس ولا نظير.

والخلاصة هي: إنّ الحسينعليه‌السلام وإن خسر المعركة العسكريّة والحرب المسلّحة بسبب غدر أهل العراق، ولكنّه - وبلا شك - قد ربح المعركة السياسية بكلّ أبعادها، وكسب الحرب الدعائية بأوسع حدودها، وانتصر على أعدائه الاُمويِّين على صعيد الرأي العام العالمي، فخلّده التاريخ رمزاً للشهادة والتضحية في سبيل العقيدة والكرامة الإنسانية، وخلّد الاُمويِّين أيضاً رمزاً للانتهازيّة والنفعيّة والسقوط الإنساني.

فلا تجد في العالم غالباً أشبه بمغلوب من الاُمويِّين في موقفهم من الحسينعليه‌السلام ، ولا تجد مغلوباً أشبه بغالب ومنتصر من الحسينعليه‌السلام في ثورته ضدّ الاُمويِّين.

وهذا ما قصده الحسينعليه‌السلام بموقفه يوم

____________________

(1) أبو الشهداء الحسين بن علي / 194.

١٧٦

عاشوراء، وعبّر عنه تعبيراً صريحاً في كتابه إلى مَنْ تخلّف عنه بقوله: «أمّا بعد، فمَنْ لحق بي منكم استشهد، ومَنْ لم يحلق لم يبلغ الفتح، والسّلام».

ولقد أجاد بعض الأدباء حيث قال:

يا شهيدَ الطفوفِ تفديكَ روحي

كنتَ والله ضيغماً هدّارا

كلّما كرّروا عليك هجوماً

زادكَ الكرّ نجدةً و اصطبارا

إنْ تكن كربلا رأتكَ وحيداً

و تنادي فلم تجدْ أنصارا

وابن هند يسوقُ جيشاً كثيفاً

يملأ البحرَ جلبةً والقفارا

فطواه الزمانُ ملكاً غريراً

سيّئ الذكر ماجناً خمّارا

وبنا من عُلاك مجداً طريفاً

خالدَ الذكرِ كالنهارِ اشتهارا

١٧٧

مَنْ دفن الحسين عليه‌السلام وأصحابه؟ ومتى وكيف؟

من القواعد العامّة والثابتة عند الشيعة هي أنّ المعصوم لا يجهّزه ولا يدفنه إلاّ معصوم مثله؛ فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثلاً جهّزه ودفنه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكذلك سيّدة النساء فاطمةعليها‌السلام قام الإمامعليه‌السلام بغسلها وتجهيزها ودفنها ليلاً، وعفا موضع قبرها حسب وصيّتهاعليها‌السلام ، والإمام عليعليه‌السلام جهّزه ودفنه ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام ... وهكذا كلّ إمام أو معصوم قام بتجهيزه المعصوم الآخر.

والآن السؤال هو: مَنْ الذي دفن الحسينعليه‌السلام ، مع العلم أنّ ابنه الإمام زين العابدينعليه‌السلام كان أسيراً بأيدي الأعداء في الكوفة؟

نقول: أجل، كان علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام أسيراً بأيدي الأعداء، ولكن تمكّن من الخروج من السجن ليلاً مساء الثاني عشر من المحرّم، ووصل إلى كربلاء صبيحة الثالث عشر منه، ودفن أباه الحسينعليه‌السلام وصحبه بمعونة رهط من بني أسد كانوا هناك.

ولمّا فرغ من مواراتهم جميعاً، وعرّفهم بمواقع قبور الأصحاب والهاشميِّين، وأبي الفضل العباس وحبيب بن مظاهر، عند ذلك عرّفهم بنفسه، وطلب إليهم أن يقوموا بضيافة الزائرين ودلالتهم وتعريفهم، ثمّ ودّعهم وعاد إلى سجن عبيد الله بن زياد ليلاً دون أن يشعر به الحرّاس.

وكانت عمته العقيلة زينبعليها‌السلام قد افتقدته تلك الليلة، ولمّا عاد أخبرها أنّه مضى لمواراة جثمان أبيه الحسينعليه‌السلام وصحبه.

١٧٨

نعم، لقد دُفن جسد الحسينعليه‌السلام في الثالث عشر من المحرّم، أي بعد مقتله بثلاثة أيّام، ولكنّ رأس الحسين بقي على أطراف الرماح، وبأيدي الأعداء وبين يدي ابن زياد ويزيد (لعنهما الله) حتّى أعاده الإمام زين العابدينعليه‌السلام إلى كربلاء عندما رجع من الأسر وألحقه بالجسد الشريف، وذلك بعد أربعين يوماً من مقتله، أي في العشرين من شهر صفر.

هذا أصح الأقوال وأقربها إلى الاعتبار عند المحققين. وهناك أقوال مختلفة في تحديد مدفن رأس الحسين غير أنّ الذي عليه الشيعة هو القول الأول، أعني أنّ الإمام السجّاد أعاده إلى كربلاء ودفنه مع الجسد.

وبهذه المناسبة تكوّنت زيارة الأربعين، حيث تفد المواكب العزائيّة وآلاف الزائرين إلى كربلاء يوم العشرين من شهر صفر، فكأنّهم يقومون بدور الاستقبال للإمام السجّاد وبنات الرسالة العائدين من الشام ومعهم رأس الحسينعليه‌السلام ، وفي نفس الوقت يجدّدون الاحتفال بذكرى مرور أربعين يوماً على شهادة الحسينعليه‌السلام .

وأوّل مَنْ قام بهذه الزيارة عفواً ومن غير قصد إلى المناسبة المذكورة هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاريرحمه‌الله ، الذي عظم عليه نبأ قتل الحسينعليه‌السلام وهو في المدينة، فخرج منها متوجّهاً إلى كربلاء لزيارة قبر الحسينعليه‌السلام . واصطحب معه رجلاً يُقال له: ابن عطية، وغلاماً له، وصادف وصوله إلى كربلاء يوم التاسع عشر من صفر، أي قبل ورود أهل البيتعليهم‌السلام بيوم واحد.

فلمّا وصل جابر إلى كربلاء توجّه إلى شاطئ الفرات فاغتسل وغسل ثيابه، ثمّ توجّه نحو القبور الطاهرة بهدوء وخشوع، وكان يسبّح الله ويهلّله، ويقول لصاحبه ابن عطية: قصّر الخُطا في زيارة الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «إن لزائر الحسينعليه‌السلام بكلّ خطوة حسنة عند الله تعالى».

ولمّا أتمّ جابر زيارة قبر الحسينعليه‌السلام ، توجّه إلى قبور الشهداء حوله، وسلّم عليهم وحيّاهم أحسن تحيّة، ثمّ قال لهم: أشهد أننا قد شاركناكم فيما أنتم فيه من الأجر الجزيل عند الله سبحانه.

فقال له ابن عطية: وكيف نكون شركاءهم في

١٧٩

أجرهم وثوابهم مع أننا لم نضرب بسيف، ولم نطعن برمح، والقوم كما ترى قد بذلوا أنفسهم، وضحّوا بكلّ ما لديهم، فكيف نكون شركاءهم؟!

فقال جابر: نعم يابن عطية، لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «مَنْ أحبّ عمل قوم أُشرك معهم في عملهم». وإنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه.

والخلاصة: لقد التقى جابر بن عبد الله الأنصاري في اليوم الثاني بالإمام زين العابدينعليه‌السلام عند قبر الحسينعليه‌السلام ، واستمع منه إلى تفاصيل ما جرى هناك، فكثر البكاء والعويل حول قبر الحسينعليه‌السلام ، وأُقيمت المآتم من قبل أهل السواد والنواحي الذين كانوا قد توافدوا لزيارة قبر الحسينعليه‌السلام ، وللسّلام على زين العابدينعليه‌السلام وبنات الرسالة. واستمروا على تلك الحال ثلاثة أيّام، ثمّ بعد ذلك ارتحل زين العابدينعليه‌السلام بالعائلة من كربلاء مواصلاً سيره نحو المدينة المنوّرة.

١٨٠