مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب0%

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 190

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الوهاب الكاشي
تصنيف: الصفحات: 190
المشاهدات: 29198
تحميل: 4396

توضيحات:

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29198 / تحميل: 4396
الحجم الحجم الحجم
مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومجمل القول هو: أنّ الحسينعليه‌السلام بثورته المقدّسة لمْ يلقِ بنفسه إلى التهلكة كما يزعمون، بل ألقى بها إلى الخلود والسعادة الأبدية، والعزة والشرف في الدنيا والآخرة؛ فاحتلّ المرتبة الاُولى في قائمة العظماء العالميِّين في الدنيا، وأخذ مكانه في الصفِّ الأول مِنْ صفوف الأنبياء والمرسلين، والشهداء والصالحين وحَسُن اُولئك رفيقاً.

فيا ليتنا كنّا معه فنفوز فوزاً عظيماً.

٤١

لماذا امتنع الحسينعليه‌السلام من البيعة ليزيد بن معاوية؟

قوله تعالى:( إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنّمَا يَنكُثُ عَلَى‏ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى‏ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

البيعة لغة: من البيع ضد الشراء. وفي الاصطلاح العرفي: إعطاء المحكومين ثقتهم للحاكم وانتخابهم له، وقبولهم به حاكماً وأميراً.

وفي الشرع ومنطوق الآية الكريمة: عبارة عن معاهدة وميثاق مع الله تعالى يوقّعها المسلم بواسطة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو نائبه الشرعي؛ معاهدة وعقد وميثاق على الطاعة والانقياد والعبودية الكاملة في كلّ ما يأمر به وينهى عنه على لسان أنبيائه وحججه.

ومرجع هذا المعنى إلى المعنى اللغوي السابق، أي البيع ضد الشراء، فالبيعة تعني: بيع الإنسان نفسه لله تعالى على حدّ قوله سبحانه:( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ ) (2) .

فالمبايع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو نائبه يعني سلّم نفسه وإرادته بيد المبايع له، مقابل قيام الأخير بأداء واجبه تجاهه؛ مِنْ تبليغ وإرشاد وتنظيم على أكمل وجه. وكلّ إخلال أو تقصير بلوازم هذه البيعة وهذا الميثاق من الطرفين يعدّ خيانة لله تعالى، كما أنّ تنفيذ مقرّراتها والالتزام بشروطها يؤتي الأجر العظيم في الدنيا والآخرة.

وعليه، فيجب على المبايع أنْ لا يمدّ يد البيعة إلاّ بعد التحقّق والتأكّد؛ حتّى يعرف إلى مَنْ يمدّ يده، وممّنْ يبيع نفسه، ولمَنْ يسلّم مقدراته ومقدّرات اُمّته

____________________

(1) سورة الفتح / 10.

(2) سورة التوبة / 111.

٤٢

ومجتمعه؛ لله تعالى أمْ للشيطان، للحقّ أمْ للباطل، للعدل أمْ للجور، للوفاء والصدق أمْ للخيانة والكذب.

إنّ البيعة في عصرنا الحاضر عبارة عن الانتخاب أو قريبة منه، فكلّ صوت يُعطى للمرشح للرئاسة أو النيابة هو بمثابة البيعة معه، فإذا كان المرشّح شيطاناً مِنْ شياطين الإنس يكون مثله مثل شيطان الجنّ إبليس،( إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ) (1) .

والخلاصة: إنّ البيعة في الدنيا على قسمين: بيعة حقّ وهداية، أو بيعة باطل وضلال؛ لأنّ هناك شروطاً وصفاتٍ يجب أنْ تتوفّر في المبايع له حتّى تكون البيعة بيعة حق وهداية. وقد لخص تلك الشروط والصفات الإمام عليعليه‌السلام في خطبة له مِنْ نهج البلاغة، فقال: «وَقَد عَلِمتُم أَنَّهُ لا يَنبَغِي أَن يَكُونَ الوَالِي عَلَى الفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ، وَالمَغَانِمِ وَالأَحكَامِ، وَإِمَامَةِ المُسلِمِينَ البَخِيلُ؛ فَتَكُونَ فِي أَموَالِهِمْ نَهمَتُهُ، وَلا الجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلا الجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلا الحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوماً دُونَ قَومٍ، وَلا المُرتَشِي فِي الحُكمِ فَيَذهَبَ بِالحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ، وَلا المُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأُمَّةَ».

وعلى ضوء كلّ ما ذُكر يظهر جلياً الجواب الكافي عن السؤال القائل: لماذا لمْ يبايع الحسينعليه‌السلام يزيد بن معاوية؟

وحاصل الجواب هو: أنّ يزيد لمْ يكن أهلاً لأنْ يُبايَع مِنْ قبل أي مسلم كان فضلاً عن الحسينعليه‌السلام المسلم الأول في عصره، وسيد شباب أهل الجنة. بل إنّ يزيد لمْ يكن مسلماً بالمرّة، فكيف يبايع بإمرة المؤمنين وخليفة على المسلمين؟! فإنّ كفر يزيد وزندقته، وإلحاده واستهتاره بكلّ القيم والمقدّسات أشهر من الشمس في رابعة النهار.

ولقد أجمع المؤرخون وأهل السيرة على أنّ يزيد بن معاوية كان فاسقاً فاجراً، خمّاراً سكّيراً، يضرب بالطنبور ويلعب بالفهود والقرود، فرضه أبوه معاوية خليفة على المسلمين بقوّة السيف مع علمه بفساده، حيث كان يقول: لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.

واليك تصريحات بعض الخبراء بيزيد من الأولين والآخرين.

____________________

(1) سورة الحشر / 16.

٤٣

مَنْ هو يزيد بن معاوية؟

ولنبدأ بكلمة الحسينعليه‌السلام نفسه عن يزيد التي قالها بمحضر واليه على المدينة الوليد بن عتبة، وبمحضر قريبه مروان بن الحكم فلمْ ينكر عليه أحد منهما، فقالعليه‌السلام : «... ويزيد رجل فاسق فاجر، شارب للخمر، قاتل للنفس المحرمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يُبايع مثله». وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السّلام أنْ قد بُليت الاُمّة براع مثل يزيد بن معاوية».

آراءُ العلماء الأقدمين والمعاصرين في يزيد:

وهذا عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، الصحابي الجليل ورئيس وفد أهل المدينة إلى الشام بعد قتل الحسينعليه‌السلام ، فلمّا عاد إلى المدينة جمع الناس في مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال: أيّها الناس، قد جئناكم مِنْ عند رجل يترك الصلاة ويشرب المسكرات، وينكح الاُمهات والأخوات، ويلعب بالقرود والكلاب، وإذا لمْ تُخلع بيعته أخشى أنْ نقذف بالحجارة من السماء.

وهذا الحسن البصري العالم والنابغة المعروف بزهده وعلمه، قال في معرض بيان جرائم معاوية العظيمة الموبقة التي لخّصها في أربعة، وهي: اغتصابه الخلافة، ثمّ استلحاقه زياد بن سميّه بأبيه أبي سفيان، ثمّ قتله لحجر بن عدي الكندي وأصحابه، وأخيراً فرضه لابنه يزيد الخمّير السكّير خليفة على المسلمين بعده.

ويشارك اللاحقون من العلماء مَنْ سبقهم في الرأي في يزيد، فهذا مثلاً العالم والفيلسوف الشهير ابن خلدون يدّعي الإجماع على فسق يزيد وفجوره مِنْ قبل كافة علماء المسلمين، ثمّ هذا الفيلسوف الآخر المعروف بالتفتازاني يحكم بجواز لعن يزيد ولعن أتباعه، فيقول بالنص في كتابه شرح العقائد: الحقّ أنّ رضا يزيد بقتل الحسينعليه‌السلام واستبشاره به، وإهانته أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا تواتر معناه، ونحن لا نتوقف في شأنه، بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه.

٤٤

وقال ابن حزم العالم المعروف، قال في رسائله ما نصه: قيام يزيد بن معاوية كان لغرض الدنيا فقط، فلا تأويل له، فهو بغيٌّ مجرّد.

وقال الجاحظ بالحرف: المنكرات التي اقترفها يزيد مِنْ قتل الحسين، وحمله بنات رسول الله سبايا، وقرعه ثنايا الحسين بالعود، وإخافته أهل المدينة، وهدمه للكعبة المشرفة تدلّ على القسوة والغلظة، والنصب والحقد، والبغضاء والنفاق، والخروج عن الإيمان. فالفاسق ملعون، ومَنْ نهى عن شتم الملعون ملعون.

وهذا القدر مِنْ آراء الشخصيات العظام والعلماء الأعلام في سقوط يزيد عن مستويات الإنسانية، وانحطاطه إلى أسفل درك الشقاء والوحشية والرذيلة، يكفي للدلالة على أنّ الحسينعليه‌السلام عمل بما يفرضه الواجب الإسلامي والإنساني عندما امتنع مِنْ إعطاء البيعة ليزيد، وأبى أنْ يعترف بشرعية خلافته.

قال الاُستاذ المسيحي الكبير جورج جرداق في كتابه (علي وعصره): نشأ يزيد في الاُسرة الاُمويّة التي كانت تنظر إلى الإسلام كحركة سياسية قامت طلباً للرئاسة والملك والزعامة؛ بدليل قول زعيم تلك الاُسرة أبو سفيان بن حرب عند دخول الرسول إلى مكّة، قال للعباس بن عبد المطلب: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً! فقال له العباس: ويلك يا أبا سفيان! إنّها النبوّة. فقال: أجل. ولا بدّ لهكذا حركة أنْ تنتقل مِنْ اُسرة إلى اُسرة.

واجتمع إلى هذه النشأة جهل وتحلّل وعدم الشعور بالمسؤوليّة؛ لذا كانت نتيجته العبث والمجون، وهكذا عرف يزيد بالإدمان على شرب الخمر واللعب بالكلاب والقرود.

وذكر أنّه سابق قرداً فسقط عن فرسه سقطة كان فيها هلاكه (لعنه الله)، وكان يلبس كلابه الكثيرة أساور مِنْ ذهب وخلاخل مِنْ فضة، وأثمن أنواع الحرير والدمقس، فيما كانت السياط مِنْ عمّاله تلهب ظهور الفقراء والكادحين لجمع الضرائب والخراج والجزية منهم... انتهى ما قاله جرداق.

الشعرُ يدين يزيد:

ولا بأس أنْ نستمع إلى بعض ما نظمه الشاعر الكبير الاُستاذ بولس سلامة

٤٥

في (ملحمة الغدير) عن هذا المخلوق الحقير يزيد بن معاوية (لعنه الله).

قال يخاطب المؤذّن:

رافع الصوت داعياً للفلاح

اخفض الصوتَ في أذانِ الصباحِ

وترفّق بصاحب العرش مش

غولاً عن الله بالقيان الملاحِ

ألف (الله أكبر) لا تساوي

بين كفَّي يزيد نهلة راحِ

تتلظّى في الكأس شعلةُ خمرٍ

مثل أجّ اللهيبِ في المصباحِ

عنست في الدنانِ بكراً فلمْ تد

نسْ بلثمٍ و لا بماءٍ قراحِ

إلى أنْ يقول مخاطباً معاوية:

يا بن هند أبيت إلاّ يزيدا

راية للرشادِ و الإصلاحِ

أنت رغم العيوبِ كالليل جنحا

قطرة في هتونهِ الضحضاحِ

رغم آثامك الجسام ابن هندٍ

أنت منه كريشةٍ في جناحِ

وإليك الآن نزراً قليلاً ممّا حفظه لنا التاريخ مِنْ شعر يزيد نفسه، المعلن فيه بالكفر والإلحاد، والمصرّح فيه بفسقه وفجوره واستهتاره بالمقدّسات. من باب:مِنْ فمك اُدينك.

قالوا: كان يقضي ليله ساهراً على موائد الخمر، وفي مجلس الغناء، فقيل له يوماً - وقد صاح المؤذن بصلاة الصبح: الله أكبر -: قم يا أمير المؤمنين إلى المسجد لأداء الصلاة. فأنشد يزيد قائلاً:

دعِ المساجدَ للعبادِ تسكنها

وقفْ على دكّةِ الخمّارِ واسقينا

ما قالَ ربُّكَ ويلٌ للذي شربوا

بلْ قالَ ربُّكَ ويلٌ للمصلّينا

إنّ الذي شربوا في شربهم طربوا

إنّ المصلّينَ لا دنيا و لا دينا

وطلع الفجر مِنْ ليلة وهو سكران مع الندماء والمغنّين، ثمّ طرق سمعه نداء المؤذّن: حي على الصلاة. فقال اللعين:

معشرَ الندمان قوموا

واسمعوا صوتَ الأغاني

واشربوا كأس مدامٍ

واتركوا ذكرَ المعاني

٤٦

أشغلتني نغمةُ العيدا

نِ عن صوت الأذانِ

وتعوّضت عن الحورِ

خموراً بالدنانِ

وممّا يُنسب إليه أيضاً (لعنة الله عليه) قوله:

أقولُ لصحبٍ ضمتِ الكأسُ شملَهمْ

وداعي صبابات الهوى يترنّمُ

خذوا بنصيبٍ مِنْ نعيمٍ و لذّةٍ

فكلٌّ وإنْ طالَ البقا يتصرّمُ

وقال في حفل الترحيب بعبيد الله بن زياد (لعنه الله)، قال وهو يخاطب ساقي الخمر:

اسقني شربةً تروّي فؤادي

ثمّ ملْ بعدها إلى ابن زيادِ

صاحبِ السرِّ والأمانةِ عندي

ولتسديدِ مغنمي وجهادي

قاتلِ الخارجي أعني حسيناً

ومبيدِ الأعداء والحسّادِ

وعلى هذا فهل يوجد في العالم دين وضمير وقانون يبيح لإنسان أنْ يعترف بيزيد بن معاوية إماماً لأمّة، وقائداً لشعب، وحاكماً مطلقاً على مجتمع إنساني فضلاً عن كونه خليفةً لرسول الله، ونائباً عن خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

الجواب طبعاً: كلا وألف كلا... ومع غض النظر عمّا تقدّم نتساءل: هل كان الحسينعليه‌السلام يسلم على حياته مِنْ يزيد لو بايعه وصالحه؟!

الجواب: كلا؛ بدليل أنّ الحسنعليه‌السلام بايع لمعاوية ولمْ يسلم.

ولله درّ القائل:

يأبى ابنُ فاطمةٍ والسيفُ في يدهِ

أنّ ابنَ ميسونَ جهراً يعبد الوثنا

وقال الآخر مخاطبا الحسينعليه‌السلام :

وترفّعت يدُكَ الكريمةُ عن يدٍ

لمْ تتّخذ غيرَ الجريمةِ مأربا

شُلّت يدٌ ترضى ببيعةِ ظالمٍ

طاغٍ وتخشى أنْ تثورَ وتغضبا

فالموت في ظلِّ الكرامةِ منهلٌ

عذبٌ ومَيتٌ مَنْ يعيش معذّبا

يا صارمَ الحقّ الصريح تدارك الـ

دنيا فسيل البغي قد بلغ الزُّبا

بك نستعينُ على الطغاةِ و نزدري

بالنائباتِ و نستعيدُ تصلّبا

ونقودُ ركب الحقّ لاستقلاله

حتماً وإنْ تكن المشانقُ مركبا

٤٧

لماذا لمْ يفعل الحسنعليه‌السلام مثل ما فعل الحسين عليه‌السلام ؟

إنّ ثورة الحسينعليه‌السلام تثير التساؤل غالباً حول ما فعله أخوه الحسنعليه‌السلام مِنْ قبل مع طاغية زمانه معاوية بن أبي سفيان من الصلح والمهادنة والبيعة له، مع العلم أنّ كلاً منهماعليهما‌السلام إمام معصوم من الخطأ والمعصية، فإذا كانت الحكمة والمصلحة فيما فعله الحسين فلماذا لمْ يفعل الحسنعليه‌السلام مثله؟ وإذا كانت الحكمة والمصلحة فيما فعله الحسنعليه‌السلام ، فلماذا لمْ يفعل الحسينعليه‌السلام مثل فعله؟

والجواب: هو أنّ كلا الفعلين والسيرتين حكمة ومصلحة وحقّ وصواب، ولكنّ المصلحة والحقّ والحكمة تختلف صورها ومواردها باختلاف الأحوال والظروف والأشخاص.

وأهم تلك الفوارق بين الحالين هو: أنّ فساد الحكم الاُموي وتذمّر الرأي العام منه في عصر الحسنعليه‌السلام كان بعد لمْ يبلغ من الاشتهار والشدّة إلى المستوى الذي بلغ إليه في عصر الحسينعليه‌السلام ؛ وعليه فتضحية الحسنعليه‌السلام بنفسه وأهل بيته حينئذ ما كانت تُفسّر لدى الرأي العام بأنّها ثورة ضد الفساد والظلم، أو إنّها تضحية في سبيل الدين والمصلحة العامة كما فُسرت تضحية الحسينعليه‌السلام ، بل كانت تضحية الحسنعليه‌السلام في ذلك الوقت تفسّر غالباً بأنّها صراع على السلطة، وتنافس وتزاحم وتنازع حول الملك والخلافة. وكانت النتيجة حينئذ فشل قدسية الثورة، وعقم تلك التضحية واستفادة العدو منها أكبر فائدة دعائية لنفسه وضد أهل البيتعليهم‌السلام .

والنتيجة الأسوأ مِنْ ذلك هو فراغ الجوِّ، وخلو الميدان لمعاوية ولآل أبي سفيان، فيطلقون أيديهم هدماً وتحطيماً لكلّ ما تبقّى مِنْ اُصول الإسلام وأركانه، تحت ستار

٤٨

كثيف من الدجل والتضليل والخداع.

فهل ترى بعد كلّ هذا حكمة ومصلحة للإسلام والمسلمين في تلك التضحية لو قام بها الحسنعليه‌السلام ؟! أجل، إنّ السنوات العشرين التي استولى فيها معاوية على مقاليد الملك والسلطة المطلقة بعد أمير المؤمنينعليه‌السلام وبعد صلح الحسن، هي التي ملأ فيها معاوية وبطانته وأقاربه العالم الإسلامي بالظلم والفساد والدمار والخراب، وهتك المقدّسات وانتهاك الحرمات تماماً، كما تنبأ به مِنْ قبل رسول الله حيث قال في الحديث المشهور المتواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «رأيت بني اُميّة في المنام ينزون على منبري نزو القردة، ويضربون وجوه الناس فيردّونهم القهقرى». فأنزل الله فيهم:( وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً ) (1) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «لكلّ شيء آفة، وآفة هذا الدين بنو اُميّة».

وروى مسلم في صحيحه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حديثاً حول بني اُميّة، جاء فيه: «هلاك اُمّتي على يد هذا الحي مِنْ بني اُميّة».

وقال أيضاًصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لمْ يبقَ مِنْ بني اُميّة إلاّ عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً». رواه صاحب كتاب صلح الحسن / 45.

وروى البخاري في صحيحه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: «هلاك اُمّتي على يد أُغيلمة سفهاء». فسّرها ببني اُميّة.

وذكر ابن حجر عن الحاكم قال: كان أبغض الأحياء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنو اُميّة.

ومن المفيد أنْ نشير هنا إلى ما صرّح به الكتّاب المعاصرين والسابقين، ومنهم الاُستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (أبو الشهداء)، مِنْ أنّ بني اُميّة ليسوا مِنْ قريش، بل ولا من العرب أصلاً؛ وذلك لأنّ اُميّة لمْ يكن ابناً صلبيّاً لعبد شمس، بل كان غلاماً روميّاً تبنّاه عبد شمس على سنّة التبني في الجاهليّة فعرف به، وسمّي اُميّة بن عبد شمس.

ونعود إلى أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك

____________________

(1) سورة الإسراء / 60.

٤٩

الاُسرة المشؤومة فنقرأ منها هذا الحديث المتواتر، وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً، ودينه دغلاً، وعباده خولاً».

ونكتفي بهذا القدر من الأحاديث النبويّة، وننتقل إلى أقوال الكتاب الناطق، والإمام الصادق عليعليه‌السلام في نهج البلاغة، حيث يقول في خطبة له في الملاحم: «أَلا وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ؛ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ، عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ البَلاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا. وَايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي، كَالنَّابِ الضَّرُوسِ تَعْذِمُ بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا.

لا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلاّ نَافِعاً لَهُمْ، أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ، وَلا يَزَالُ بَلاؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاّ كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ. تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَلا عَلَمٌ يُرَى.

والله لا يزالون حتّى لا يدَعون لله محرماً إلاّ استحلّوه، ولا عقداً إلاّ حلّوه، وحتّى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلاّ ودخله ظلمهم، ونبا به سوء رعيهم، وحتّى يقوم الباكيان؛ باكٍ يبكي لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه...»(1) .

وذكر السيّد المقرّم (رضي الله عنه) في (المقتل الكبير) عن كتاب (ضحى الإسلام) لأحمد أمين المصري قوله: الحقّ إنّ الحكم الاُموي لمْ يكن حكماً إسلامياً يساوى فيه بين الناس في الحقوق والواجبات، ويكافأ فيه المحسن أيّاً كان، ويعاقب فيه المجرم أيّاَ كان، وإنّما كان حكماً شعاره التعصّب الممقوت، وتسوده النزعة الجاهليّة ومظاهرها، لا النزعة الإسلاميّة(2).

أقول: إنّ تلك الأعوام العشرين التي قبض فيها معاوية على مقاليد الحكم بدون رادع ولا مانع هي التي كشفت الحجاب عن مدى فساد السياسة الاُمويّة الرعناء، وأظهرت للناس عمق العداء والحقد الذي يحمله الأمويون ضد الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين جميعاً، وفي خلال تلك السنوات تيقّظ الرأي العام الإسلامي إلى عظيم أخطار البدع والانحرافات التي أحدثها الأمويون منذ أنْ تسللوا إلى مراكز السلطة والحكم أفراداً وجماعات، ابتداء مِنْ عهد الخليفة الأول أبي بكر

____________________

(1) شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 4.

(2) المقتل الكبير 1 / 27.

٥٠

فما بعد، وفي أعقاب تلك الفترة المظلمة المشؤومة - فترة سلطان معاوية - صار الفرد المسلم العادي يشعر في قرارة نفسه، وأعماق شعوره نفوراً شديداً وكرها مريراً تجاه الجهاز الاُموي الحاكم خليفة وعمالاً وولاة وبطانة.

فكان الشعب المسلم ينظر إليهم كعصابة لصوص وقطّاع طريق وجلادين، لا همّ لهم إلاّ نهب الأموال وسلب الحقوق، واغتصاب الأعراض وسفك الدماء، والتمادي في المتع الحقيرة وإشباع الشهوات، وغير ذلك ممّا لا يسع المقام وصفه حسب ما هو مسطور في كتب التاريخ والتراجم.

وليس أدلّ على نقمة المسلمين وتذمّرهم مِنْ حكامهم الاُمويِّين مِنْ هذه الأبيات لشاعر عاش تلك الفترة القاسية، وهو عبد الله بن همام السلولي حيث يقول:

فإنْ تأتوا برملَةَ أو بهندٍ

نُبايعها أميرةَ مؤمنينا

إذا ما مات كِسرى قام كِسرى

نعدُّ ثلاثةً مُتناسقينا

فيا لهفا لَوَ انّ لنا اُنوفاً

ولكن لا نعود كما بدينا

إذاً لضُربتموا حتّى تعودوا

بمكّة تلعقون بها السَّخينا

خشينا الغيظ حتّى لو شربْنا

دماءَ بني اُميّة ما رُوينا

لقد ضاعت رعيّتُكُم وأنتمْ

تصيدون الأرانب غافيلنا

ففي البيت الأوّل منها يبيّن أنّه قد ضاعت موازين الخلافة الإسلاميّة ومقاييسها، بحيث لو جاءتنا رملة أو هند ابنتا معاوية المعروفتان بالمجون والفسوق، لوجب علينا نحن المسلمين أنْ نبايعهن بالخلافة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإمرة على المؤمنين؛ لأنّنا إنْ رفضنا قُتلنا.

وفي البيت الثاني يقول: إنّ الخلافة الإسلاميّة تحوّلت إلى ملك وراثي، تماماً كالنظام الملكي عند الأكاسرة ملوك الفرس قبل الإسلام، كلّما مات كسرى الأب قام كسرى الابن مقامه. وهنا كذلك مات عثمان كسرى الاُمويِّين الأوّل الذي جعل الدولة الإسلاميّة بما فيها مِنْ خيرات ملكاً خاصاً له ولأسرته

٥١

الاُمويِّين، قام كسرى الثاني مقامه وهو معاوية، ثمّ مات فقام كسرى الثالث مقامه وهو يزيد. فالنظام نفس النظام مع الاختلاف في الأسماء والعناوين فقط...

وباقي الأبيات ظاهرة المعنى، واضحة الدلالة على مدى النقمة التي كان يكنّها المجتمع الإسلامي، والكبت الذي كان يشعر به مِنْ رعونة الحكّام واستهتارهم.

فجاءت ثورة الحسينعليه‌السلام تعبيراً كاملاً عن شعور ذلك الشعب المكبوت، وتجسيداً حقيقياً لآمال ورغبات تلك الاُمّة المضطهدة، فكانت القلوب معها تؤيدها وتبارك خطاها... وأُعطيت صفة الثورة التحررية المثالية بين جميع الثورات في العالم.

أمّا في عصر الحسينعليه‌السلام ، وبعد أبيه أمير المؤمنين، حيث كان معاوية بعد لمْ يصل إلى الخلافة العامّة والسلطة العامّة، ولمْ يظهر أمام الرأي العام على حقيقته الفاسدة وواقعه الخبيث، فإنّ الأمر كان يختلف عنه في عصر الحسينعليه‌السلام ويزيد اختلافاً كبيراً.

ولذا يجزم الخبراء بأنّ صلح الحسنعليه‌السلام مهّد الطريق لثورة الحسينعليه‌السلام ، وهيّأ لها الجو والمناخ الملائم لتبرز إلى الوجود كأقدس ثورة إنسانية في العالم، وأظهر مصداق لصراع الحقّ ضد الباطل، وأعظم جولة في معركة الخير مع الشرّ في حياة البشرية مِنْ أولها إلى آخرها.

أجل، كلّ هذه الصور المثالية التي اكتسبتها ثورة الحسينعليه‌السلام تعود في جملة ما تعود إليه مِنْ عوامل وأسباب إلى صلح الحسنعليه‌السلام مع معاوية.

وبعد هذا كلّه يمكننا أنْ نقول: بأنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام كانا واجهتين لرسالة واحدة؛ واجهة التخطيط والتمهيد التي أبرزها الحسنعليه‌السلام بصلحه ومسالمته، ثمّ واجهة التطبيق والتنفيذ التي أبرزها الحسينعليه‌السلام بقيامه ونهضته.

وتضحيات الحسنعليه‌السلام في سبيل أداء سهمه من الرسالة، وحصته من المسؤوليّة لمْ تكن قليلة ولا بسيطة، بل كانت تضحيات شاقّة وغالية كثيراً. إنّها تضحيات أعصاب وعواطف، تضحيات قلب وفكر وروح، فصلوات الله وسلامه عليك

٥٢

يا أبا محمد بما صبرت وأحتسبت، وأثابك الله أجر الصابرين.

ورحم الله شيخنا الأصفهاني حيث يقول:

زكت ثمارُ العلم بالزكيّ

أكرم بهذا الثمرِ الجنيّ

أعطاه جدّه نبيُّ الرحمهْ

سؤدده وعلمه وحلمهْ

يهنيك يا أبا الولاةِ السادهْ

وقادة الخلق إلى السعادهْ

بمَنْ تسامى شرفاً و مجدا

أخاً واُمّاً وأباً وجدّا

بشراك يا حقيقة المثاني

بواحدِ الدهر بغير ثاني

بالحسنِ المنطق والبيان

ومَنْ حوى بدايع المعاني

مِنْ رشحات بحر علمه الخضمْ

جرت ينابيعُ العلوم والحكمْ

وحلمه له المقام السامي

في حلمه ظلّتْ اُولوا الأحلامِ

صبّره العظيمُ في الهزاهزْ

يكاد أنْ يلحق بالمعاجزْ

مِنْ حلمِهِ أصابه من البلا

ما لا تطيقه السماوات العُلا

رضاه فيما كان لله رضا

قضى على حقوقه بما قضى

وسلمُهُ في موقع التسليمِ

مِنْ رشحات قلبهِ السليمِ

٥٣

لماذا لمْ يقم بالسيف أحدٌ من الأئمة عليهم‌السلام بعد الحسين عليه‌السلام ؟

من الأخطاء التي وقع ويقع فيها بعض الناس هو القياس في سلوك الأنبياء والأوصياء، فإذا أحد منهم قام بعمل بارز وحساس بحيث يعجبهم ويتلائم مع رغباتهم وأفكارهم، فحينئذ يتوقّعون من الآخرين أيضاً أنْ يفعلوا نفس ذلك الفعل، ويقوموا بمثل ما قام به فلان؛ لأنّه أعجبهم ووافق أهوائهم، وعلى هذا الأساس يقولون:

لماذا لمْ يقم أحد من الأئمّة بثورة مسلحة بعد الحسينعليه‌السلام ؟ ومِنْ ثمّ رفض بعض المسلمين إمامة أي إمام لمْ يقم بالسيف ضد أعدائه. فالإمامة عندهم مشروطة بشرط الكفاح المسلح؛ ولذا فهم يعترفون بإمامة عليعليه‌السلام ، ثمّ الحسنعليه‌السلام ، ثمّ الحسينعليه‌السلام ، ثمّ زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام ، وابنه يحيى بن زيد وهكذا، أمّا زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادقعليهم‌السلام فليسوا عندهم من الأئمّة؛ لأنّهم لمْ يقوموا بالسيف. وهؤلاء [هم] الطائفة الزيدية الموجودون بكثرة في اليمن وغيرها.

والواقع أنّ هؤلاء وأمثالهم يظنّون أنّ مصلحة الاُمّة دائماً تدور مدار استعمال السيف والكفاح المسلّح وجوداً وعدماً، فالإمام الذي لا يقوم بهذا الكفاح لمْ يخدم مصلحة الاُمّة، غافلين عن أنّ استعمال السيف هو علاج اضطراري، ومِنْ باب آخر الدواء الكي.

فهذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثلاً لمْ يستعمل السيف إلاّ بعد مضي ثلاثة عشر سنة أو أكثر مِنْ بدء الدعوة، وبعد أنْ اضطر لاستعماله دفاعاً عن النفس، وفي وجه اُناس كان موقفه معهم موقف حياة أو موت.

وبعده الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أغمد سيفه خمساً وعشرين سنة، وصار

٥٤

يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن، وأخيراً اضطر إلى استعمال السيف ضد اُناس فشلت معهم جميع الوسائل السلمية.

وبعده الإمام الحسنعليه‌السلام الذي جرّد السيف في بدء الأمر ضد العدو، ولكن لمّا ثبت لديه أنّ الكفاح السلمي، والحرب الباردة في ذلك الظرف وفي تلك الأحوال أنجح وأنفع للمصلحة العامّة والإسلام من السيف، ترك الحرب وجنح للسلم والمصالحة.

فالغرض: أنّه لا شك في أنّ مصلحة الحقّ والدين ليست منحصرة في الحرب بالسيف وفي الثورة الدمويّة دائماً، بل في بعض الأحيان والأحوال وفي حالات شاذّة نادرة. فالحقّ لا يُفرض بالسيف والعقيدة لا تركّز بالقوّة، ودين الله لا يقوم على الإكراه والإجبار.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ ظروف الحسينعليه‌السلام كانت ظروفاً شاذّة، انعدمت فيها كلّ وسائل الدعوة السلمية، ولمْ يجد الحسينعليه‌السلام معها بداً مِنْ أنْ يقوم بحركة غريبة ومدهشة لجلب الرأي العام، وإلفات الأنظار وتحريك الضمير الإنساني.

وقد تحقّق كلّ ما أراده بحركته، وبقي استغلال ذلك النتاج وصيانة تلك الثمرة بالبيان والتوجيه، ورعاية تلك المكاسب بالدعم الفكري والعلمي والعملي؛ وهذا هو بالذات كان دور الأئمّةعليهم‌السلام مِنْ أبنائه بعده، وقد قاموا به على أحسن ما يرام وأتمّ ما يكون.

فالحسينعليه‌السلام وجّه بثورته الأفكار ولفت الأنظار إلى عدالة قضية أهل البيتعليهم‌السلام ، وأنّهم مع الحقّ والحقّ معهم، وأنّ خصومهم مع الباطل. ولكن يا ترى ما هي تفاصيل تلك القضية؟ - أي قضية أهل البيتعليهم‌السلام - وما هو مفصل هذا الحقّ الذي لهم ومعهم؟ وما هو وجه الخلاف بينهم وبين غيرهم؟

فهذه التفاصيل والشروح والبيانات للناس قام بها أبناؤهعليهم‌السلام بعده بشتى الوسائل الممكنة لديهم؛ وبذلك ظهر الحقّ وانتشر على الصعيد الفكري عامّة، وعلى الصعيد العملي إلى حدّ كبير نسبة.

أمّا إذا قلت: لماذا قعدوا عن استعادة حقّهم المغتصب، ولمْ يقوموا بثورة لاسترجاع الخلافة والإمرة والحكم؟

٥٥

قلت: إنّ ذلك لمْ يكن مقدوراً لهم جميعاً، ولمْ تتوفّر لأحدهم الإمكانيات لذلك الغرض، كما لمْ تتوفّر للحسن ولا للحسينعليهما‌السلام كما قدّمنا سابقاً، وأعني بتلك الإمكانيات اللازمة لاسترجاع الخلافة مِنْ أيدي الغاصبين، الأعوان والأنصار بالقدر اللازم والعدد الكافي، والنصاب الشرعي المعروف، وهو النصف مِنْ عدد العدو، وحسب نصوص الآية الكريمة:( الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِنكُم مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ وَإِن يَكُن مِنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ) (1) .

وكان النصاب الموجب للقتال قبل هذا هو العشر كما في صريح الآية الكريمة التي قبلها:( يَا أَيّهَا النّبِيّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِنكُمْ مِاْئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً من الّذِينَ كَفَرُوا... ) (2) .

فكان النصاب المبرّر للقتال أوّلاً هو العشر، ثمّ نسخ وصار النصف مِنْ قوّة العدو. ولا شك في أنّ النصاب الشرعي بصورتيه الأولى والثانية لمْ يحصل لأحد الأئمّةعليهم‌السلام بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سوى علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ فإنّه الوحيد مِنْ بينهم الذي حصل على النصاب المذكور، وتمكّن من القيام واستحصال حقّه.

وأمّا الباقون فلمْ يحصلوا على أعوان وأنصار، حتّى بمقدار النصاب الأول وهو العشر فضلاً عن النصف؛ فالحسنعليه‌السلام مثلاً بقي بعد خيانة الجيش في أهل بيته، وعدد قليل من الأصحاب والأنصار لا يتجاوزون المئة رجل، وفي قباله معاوية ومعه ستّون أو سبعون ألف مقاتل.

فأيّ توازن وأيّ تقارب بين القوّتين؟! لذلك سقط عنه تكليف الجهاد الشرعي، ولمْ يبقَ أمامه إلاّ التضحية والشهادة أو الصلح والمهادنة، فاختار الصلح؛ لأنّه كان أصلح يومئذ وأنفع لمصلحة الإسلام العُليا من التضحية حسب ما فصلناه سابقاً، فراجع.

وكذلك الأمر مع الحسينعليه‌السلام كما تعلم، حيث بقي في نيف وسبعين رجلاً، في مقابل سبعين ألفاً من الأعداء، ولكنّهعليه‌السلام آثر الشهادة والقيام بعمله الفدائي الخاص نظراً لظروفه الخاصّة حسبما فصّلناه سابقاً.

____________________

(1) سورة الأنفال / 67.

(2) سورة الأنفال / 65.

٥٦

وأمّا باقي الأئمّةعليهم‌السلام فحالهم لمْ تختلف عن حال الحسن والحسينعليهما‌السلام ، بل ربّما كان أشدّ وأحرج.

يلتفت ذلك الرجل إلى الإمام الصادقعليه‌السلام وهو يمشي معه في ضواحي المدينة فيقول له: يا سيدي، كيف يجوز لك السكوت والقعود عن حقّك وأنت صاحب هذا الأمر وابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

فسكت عنه الإمام الصادقعليه‌السلام حتّى مرّ بهم راع يسوق قطيعاً من الغنم، فقال له الإمامعليه‌السلام : «يا فلان، كمْ تعدّ هذا القطيع؟». فقال الرجل: لا أدري. فقالعليه‌السلام : «والله، لو كان لي أنصار عدد هذا القطيع لنهضت بهم». فعطف الرجل على القطيع فعدّه فإذا هو سبعة عشر رأس.

ودخل سهل بن الحسن الخراساني عليه ذات يوم وقال: يابن رسول الله، لا يجوز لك القعود عن حقّك ولك في خراسان مئة ألف رجل يُقاتلون بين يديك مِنْ شيعتك.

فقال له الإمام الصادقعليه‌السلام : «وأنت منهم يا سهل؟». فقال: نعم، جعلت فداك يا سيدي. فقال له: «اجلس». فجلس، ثمّ أمر الإمامعليه‌السلام الجارية وقال: «يا جارية، أسجري التنور». فسجرته حتّى صار اللّهب يتصاعد مِنْ فم التنور، فالتفت الصادقعليه‌السلام إلى سهل الخراساني وقال: «يا سهل، أنت مِنْ هؤلاء الذين ذكرت أنّهم يطيعون أمري؟». فقال: نعم سيدي أفديك بروحي. فقالعليه‌السلام : «قم وادخل في هذا التنور». فقال سهل: أقلني أقالك الله يابن رسول الله. فقالعليه‌السلام : «قد أقلتك».

فبينا هم كذلك إذ دخل أبو هارون المكّيرحمه‌الله فسلّم، فردّعليه‌السلام وقال له: «يا أبا هارون، ادخل في التنور». فقال له: سمعاً وطاعة. ثم ألقى نعله وشمّر عن ثيابه ودخل في التنور، فقال الإمامعليه‌السلام : «يا جارية، اجعلي عليه غطاءه». فغطّته.

ثمّ التفت الإمامعليه‌السلام إلى سهل بن الحسن وصار يحدّثه، فقال سهل: إئذن لي يا سيدي أنْ أقوم وأنظر ما جرى على هذا الرجل. فقالعليه‌السلام : «نعم». ثمّ قام ومعه سهل وكشف الغطاء عن التنور، وإذا أبو هارون جالس على رماد بارد، فقال له الإمام: «اخرج». فخرج صحيحاً سالماً لمْ يصبه أيّ أذى.

٥٧

فقالعليه‌السلام : «يا سهل، كم تجد مثل هذا في خراسان؟». فقال سهل: ولا واحد يابن رسول الله.

وهذه العملية هي كرامة، ولا شك أظهرها الإمام الصادقعليه‌السلام وعبّر بها عن أنّ أهل البيت إنّما هم بحاجة إلى جيش عقائدي، يطيع الأوامر الصادرة إليه من الإمامعليه‌السلام مهما كانت، لا يعرف التردّد والهزيمة، ولا يفكّر بغير الشهادة أو الغلبة؛ لثقته التامّة بالإمامعليه‌السلام ، واعتقاده الراسخ المتين بأنّ أوامره مِنْ أمر الله ورسوله، وهو أعرف بالصالح والفاسد، والحقّ والباطل مِنْ جميع الناس.

فهم بحاجة إلى هكذا جيش، متوفّر لديهم قدر النصاب الشرعي على الأقل، وقبل القيام بالحركة أو الثورة؛ لكي لا تتكرر نكسة صفين، أو مأساة كربلاء، أو نكبة الحسن على يد جيشه يوم ساباط.

وخلاصة الكلام هو أنْ نقول: أمّا القيام لأجل أخذ حقّهم في الخلافة، وانتزاع السلطة مِنْ أيدي الظالمين فإنّه كان مستحيلاً عادة بالنسبة لهم؛ لعدم توفّر الشرائط واللوازم الضرورية لمثل هذا القيام لديهم، وأهمّها الأنصار والأعوان المخلصون.

غير أنّهم كانوا يدعمون معنويّاً وماديّاً وفكريّاً قدر استطاعتهم كلّ الثورات الحرّة، والحركات الإصلاحية التي كانت تقوم بين حين وآخر ضد الاُمويِّين أو العباسيِّين، مثل: ثورة أهل المدينة على يزيد (لعنه الله)، وثورة زيد بن علي بن الحسين على عبد الملك بن مروان، وثورة المختار الثقفي في الكوفة، وثورة محمد ذو النفس الزكية على المنصور العباسي، وبعدها ثورة أخيه إبراهيم أحمر العينين على المنصور أيضاً وغيرها.

وأمّا القيام لأجل التضحية والشهادة مثل قيام الحسينعليه‌السلام ، فإنّه لمْ يكن ضرورياً في عصرهم؛ لأنّ وسائل الإعلام والدعوة إلى الحقّ، وطرق إتمام الحجّة وتبيلغ الرسالة لمْ تنعدم كليّاً في عصر الأئمّةعليهم‌السلام ، كما انعدمت في عصر الحسينعليه‌السلام حتّى اضطر إلى القيام بالإبلاغ والإعلام عن طريق التضحية والشهادة.

فالإمام الباقر والإمام الصادقعليهما‌السلام مثلاً قاما بأوسع حركة علميّة مستطاعة في

٥٨

ذلك العصر عن طريق المدرسة والتدريس، ونشر العلم واستقطاب العلماء، وتربية ثلة من الشباب المؤمن بالتربية الإسلاميّة، وبثهم في الأقطار والأمصار يبشرون ويرشدون ويعلّمون. فكان عصرهماعليهما‌السلام أحسن عصور الإسلام ازدهاراً بالعلم والمعرفة، وتقدّم الثقافة وكثرة المدارس والمجالس العلميّة.

وبقي الحال على هذا الوصف، بل وازداد تقدّماً وازدهاراً إلى عصر الإمام الرضا والجوادعليهما‌السلام ... وهما اللذان كوّنا بجهودهما وبمعونة المأمون العباسي، وتعاون المجتمع معهما، كونا من المسلمين أساتذة للعالم الغربي اليوم بكلّ علومه واكتشافاته المدهشة.

قال ابن الوشا: دخلت إلى جامع الكوفة في أيّام الرضاعليه‌السلام فرأيت تسعمئة شيخ يحدّثون ويدّرسون ويقولون: حدّثنا جعفر بن محمدعليه‌السلام .

وفي الختام نكرّر القول: بأنّ خدمة المصلحة العامّة ونصرة الحقّ ومكافحة الباطل والظلم ليست في الحرب دائماً، بل الأمر يختلف باختلاف الظروف والأحوال.

والحرب الدمويّة هي آخر وسيلة يفكر فيها المصلحون المخلصون لاُمّتهم وللصالح العام بعد اليأس من الوسائل السلمية. وإلى هذا يشير الإمام عليعليه‌السلام في كلماته القصار: «رأي الشيخ أحبّ إليّ مِنْ جلد الغلام».

وإلى هذا يشير المتنبي الشاعر في أبياته المعروفة فيقول:

الرأيُ ثمّ شجاعةُ الشجعانِ

هو أوّل وهي المحلّ الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفسٍ حرّةٍ

بلغتْ من العلياءِ كلَّ مكانِ

و لربّما طعن الفتى أعداءهُ

بالرأي قبل تطاعنِ الأقرانِ

لولا العقولُ لكان أدنى ضيغمٍ

أدنى إلى شرفٍ من الإنسانِ

وقد جاء في الحديث الشريف قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مدادُ العلماء أفضل مِنْ دماء الشهداء».

٥٩

هل يمتاز الحسينعليه‌السلام على سائر الأئمّة عليهم‌السلام في الصفات التي اشتهر بها؟

يعرف الحسينعليه‌السلام لدى الرأي العام بصفة الثورية والصلابة والشجاعة وإباء الضيم، فهل هذا يعني أنّ الحسين كان متفوّقاً على سائر الأئمّةعليهم‌السلام في هذه الصفات، أو أنّ غيره من الأئمّةعليهم‌السلام ، أو بعضهم على الأقل كان محروماً مِنْ هذه الصفات؟ الجواب: كلاّ...

فالواقع هو أنّ الأئمّة الاثني عشر الذين أوّلهم علي بن أبي طالبعليه‌السلام وآخرهم المهدي المنتظرعليه‌السلام كلّهم في مستوى واحد مِنْ حيث جميع الفضائل الكمالية والصفات الإنسانية ومكارم الأخلاق.

وهم بمجموعهم يفوقون كافّة الناس في التحلّي بالفضائل والكمالات، أي ليس في العالم مثلهم بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا نظير لهم في أي فضيلة أو كمال نفسي؛ لأنّ ذلك شرط العصمة ولازمها.

وقد ثبت بدليل العقل والنقل أنّهم معصومون، ولا يكفي في تحقق العصمة لشخص ما أنْ يكون مؤمناً صالح العمل والسيرة والأخلاق فحسب، بل يجب أنْ يكون أيضاً فوق مستوى الناس في العلم والإيمان والعمل الصالح ومكارم الأخلاق، ومِنْ ثمّ يستحق منصب الإمامة على الناس.

ومن شواهد ذلك قول الخليل بن أحمد، العالم النحوي عندما سُئل: ما الدليل على إمامة عليعليه‌السلام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دون سائر الصحابة؟ فقال: الدليل استغناؤه عن الكلّ واحتياج الكل إليه.

وهذا الدليل يجري بالنسبة إلى باقِ الأئمّة الأحد عشر مِنْ أبنائه أيضاً، وهو أمر يفرضه العقل والمنطق والعدل. إذ إنّه لو وجد شخص آخر في عصر الإمام المعيّن هو مثل الإمام ومساوٍ له في الفضل والكمال يكون

٦٠