مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب0%

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 190

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الوهاب الكاشي
تصنيف: الصفحات: 190
المشاهدات: 29221
تحميل: 4397

توضيحات:

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29221 / تحميل: 4397
الحجم الحجم الحجم
مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

زياد، وأخيراً اضطر أنْ يغيّر سياسته تجاه أهل البيتعليهم‌السلام فأحسن إليهم وأكرمهم، وصار يتطلّب عفوهم ومرضاتهم بالأموال وغيرها.

كلّ ذلك بفضل الخطب والبيانات التي صدرت مِنْ تلك العقائل في المجالس والمجتمعات، وبفضل المظاهر المشجّية التي سار بها ركب السبايا مِنْ بلد إلى بلد، ومِنْ مجلس إلى مجلس، مما جعل الرأي العام يعطف على قضية أهل البيتعليهم‌السلام ، ويشجب جرائم أعدائهم، فكان في ذلك نصراً كبيراً لحق آل محمد، ونشراً للتشيّع لهم في العالم.

فالواقع الذي يجب أنْ نؤكده هو أنّ زينب العقيلة شريكة أخيها الحسينعليه‌السلام في ثورته، سواء بمؤازرتها له في حياته، أو بقيامها بمسؤوليّة الدعوة والتوعية بعد شهادته، فلولا سبي النساء لكانت ثورة الحسين عقيمة الأثر، لا تذكر إلاّ في بطون بعض كتب التاريخ كنبأ بسيط مشوّه عن حقيقته تمام التشويه، كما شوّه التاريخ قضايا كثيرة هامّة جداً؛ لأنّها لمْ تحصل على القدر الكافي من النشر والبيان والتعقيب، مثل حادثة يوم غدير خم، وقد بلغ مِنْ أثر الإهمال والإخفاء لواقعة غدير خم أنّ بعض الكتّاب يذكرها بأنّها واقعة مِنْ وقائع العرب في الجاهليّة.

أجل، هكذا يضيع الحقّ ويخفى الواقع إذا لمْ تتوفر له الدعوة الكافية، كقضايا وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما جرى على ابنته فاطمة وآل البيت بعد وفاته مِنْ غصب وهضم للحقوق، واعتداء على الحرمات والكرامات... وغيرها.

وبعد أنْ تبينا هذين الوجهين مِنْ وجوه الحكمة في حمل الحسينعليه‌السلام للعيال معه، نختم هذا الفصل بذكر هذا الوجه الثالث، وهو لا يقلّ أهمية عن الوجهين السابقين ألا وهو: الحفاظ على حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، إذ لا شك في أنّه لولا وجود العقيلة زينبعليها‌السلام لقُتل زين العابدين بعد قتل الحسينعليه‌السلام حتماً؛ حيث تعرّض الإمامعليه‌السلام للقتل مرّتين:

المرّة الأولى: يوم عاشوراء لمّا هجم الأعداء على مخيّم الحسينعليه‌السلام ودخل الشمر على زين العابدين وهو مريض لا يفيق مِنْ شدّة المرض، فجذب النطع مِنْ تحته وقلبه على وجهه، ثمّ جرّد السيف ليقتله، فانكبت عليه عمّته زينبعليها‌السلام واعتنقته، وصاحت: إنْ أردتم قتله فاقتلوني قبله.

٨١

وبينما هي كذلك إذ دخل عمر بن سعد الخيمة، فلمّا نظر إلى العقيلة زينب منكبّة عليه، قال للشمر: دعه لها؛ فإنّه لما به. فتركه.

والمرة الثانية: في مجلس عبيد الله بن زياد لمّا نظر إلى الإمامعليه‌السلام ، وقال له: مَنْ أنت؟ قال: «أنا علي بن الحسين». قال اللعين: أوَ ليس قد قتل الله عليّاً؟ فقال الإمامعليه‌السلام : «كان لي أخٌ أكبر منّي يسمّى علياً قتله الناس يوم كربلاء». فقال ابن زياد: بل الله قتله. فقال الإمامعليه‌السلام : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ».

فغضب ابن زياد، وقال: أوَبك جرأة على ردّ جوابي! غلمان، جرّوا ابن الخارجي واضربوا عنقه. فقامت الجلاوزة وسحبوا الإمام إلى القتل، فقامت العقيلة زينبعليها‌السلام ورمت بنفسها عليه، وصاحت: يابن زياد، حسبك مِنْ دمائنا ما سفك فاترك لنا هذا العليل، وإنْ كنت قد أردت قتله فاقتلني قبله.

قالوا: فنظر إليها ابن زياد، وقال: عجباً للرحم! إنّها والله لتودّ أنْ تُقتل دونه فاتركوه لها؛ فإنّه لما به. فتركوه.

فإنْ قلت: لماذا أخرج الحسينعليه‌السلام ابنه زين العابدين معه وهو مريض عليل؟ قلت: إنّ زين العابدينعليه‌السلام لمْ يكن مريضاً عند خروجه من المدينة، ولا مِنْ مكّة، ولا في أثناء الطريق، وإنّما بدأ فيه المرض لمّا نزلوا أرض كربلاء، وأخذ المرض يتزايد فيه حتّى بلغ معه إلى أقصى شدّته يوم عاشوراء، وفي ذلك عناية خاصّة من الله تعالى، وهي: أنْ لا تبقى الأرض خالية من الإمام؛ إذ لولا مرضهعليه‌السلام لكان الواجب يفرض عليه الدفاع عن أبيه الحسينعليه‌السلام والاستشهاد بين يديه.

والخلاصة: إنّ في حمل العيال وإخراج النساء معه مصالح وحكم وتلك بعضها أو أهمها، وقد أشار الحسينعليه‌السلام إلى تلك المصالح والحكم بكلمته الإجمالية المعروفة: «قد شاء الله أنْ يراهنّ سبايا».

وهو جواب مقتضب، ولمْ يشأ في تلك الساعة أنْ يُفصح عن الهدف؛ لئلاّ يستفيد الخصم مِنْ كلامه، فيكون ذلك حائلاً دون الوصول بالثورة إلى أهدافها.

قالها للذين سألوه: ما معنى حملك لهذه النسوة؟ فاشاءة الله تعلّقت بإحياء دينه وحفظ قرآنه وإبقاء شريعته.

٨٢

ولمّا لمْ تكن هناك وسائل طبيعية لهذه الغاية سوى استشهاد الحسين وصحبه وسبي زينبعليها‌السلام وأخواتها؛ لذا فقد تعلّقت إرادته سبحانه عرضاً بقتل الحسين وسبي النساء تماماً، كما قال الحسينعليه‌السلام : «لقد شاء الله أنْ يراني قتيلاً، وقد شاء الله أنْ يراهن سبايا».

ولنعم ما قاله بعض الأدباء:

وتشاطرتْ هي والحسينُ بنهضةٍ

حتمَ القضاءُ عليهما أنْ يندبا

هذا بمعترك الرماحِ وهذهِ

في حيث معتركِ المكارهِ في السبا

ولذلك نجد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام اشترط على زوج العقيلة زينب، وهو ابن أخيه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لما زوجه بابنته زينب، اشترط عليه شرطاً ضمن العقد أنْ لا يمنعها من الخروج مع أخيها الحسينعليه‌السلام إلى العراق. وهذا يكشف عن مدى بُعد النظر، وسعة علم الإمامعليه‌السلام بما سيجري، وبالمصالح التي تترتّب على مشاركة زينب للحسين في ثورته.

ولمْ تزل تلك العقائل بعد الحسين، وعلى رأسهنّ زينبعليها‌السلام ، يؤلّبنَ النفوس ضدّ الحكم الاُموي الغاشم، ويهيّجنَ الرأي العام ضدّ يزيد بن معاوية؛ وذلك بعقد المجالس وبالندبة، وتعداد الجرائم والموبقات التي صدرت من الفئة الحاكمة تجاه آل الرسول، حتّى ضاق يزيد ذرعاً بهنّ.

وأمر بإبعاد العقيلة زينب مِنْ مدينة جدّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأبعدوها إلى مصر على أشهر الأقوال، فعاشت في مصر مدّة حياتها بعد الحسينعليه‌السلام نادبة باكية، داعية إلى الحقّ، حتّى التحقت بأخيها ودُفنت هناك؛ فكانت أوّل لاحقة بالحسينعليه‌السلام مِنْ أهل بيته. فسلام عليها يوم ولدت، ويوم شاركت في أقدس ثورة، ويوم توفيت مناضلة بطلة، ويوم تبعث إلى الله لتشكو إليه ظلم الاُمّة وغدرها وانقلابهم على الأعقاب.

وفي الختام: نسأل الباري (جلّ شأنه) أنْ يتغمّد شيخنا العلاّمة الأصفهاني بواسع رحمته، حيث يقول في اُرجوزة له في العقيلة الكبرىعليها‌السلام :

٨٣

مليكةُ الدنيا عقيلةُ النسا

عديلةُ الخامسِ مِنْ أهلِ الكسا

شريكةُ الشهيدِ في مصائبِهْ

كفيلةُ السجّادِ في نوائبِهْ

بلْ هي ناموسُ رواق العظمهْ

سيدةُ العقائلِ المعظّمهْ

اُمُّ الكتابِ في جوامعِ العُلا

اُمُّ المصابِ في مجامعِ البلا

رضيعةُ الوحي شقيقةُ الهدى

ربيبةُ الفضلِ حليفةُ الندى

ربّةُ خدرِ القدسِ والطهارهْ

في الصونِ والعفافِ والخفارهْ

ما ورثتهُ مِنْ نبي الرحمهْ

جوامعُ العلمِ اُصولُ الحكمهْ

سرّ أبيها في علوِّ الهمّه

والصبرُ في الشدائدِ الملمّه

بيانُها يفصحُ عن بيانِه

كأنّها تُفرغُ عن لسانِه

فإنّها وليدةُ الفصاحه

والدها فارسُ تلك الساحه

و ما أصابَ اُمَّها من البلا

فهو تُراثُها بطفِّ كربلا

لكنّها عظيمةٌ بلواها

من الخطوبِ شاهدتْ أدهاها

و ما رأتْ بالطفِّ مِنْ أهوالِها

جلّ عن الوصفِ بيانُ حالها

وسوقُها إلى يزيد الطاغيه

أشجى فجيعة و أدهى داهيه

أمامُها رأسُ الإمامِ الزاكي

وخلفُها النوائحُ البواكي

أتوقفُ الحرّةُ مِنْ آل العبا

بينَ يدي طليقِها وا عجبا

وقد أبانتْ كفرَ ذاك الطاغي

بأحسنِ البيانِ والبلاغِ

حنّتْ بقلبٍ موجعٍ محترقِ

على أخيها فأجابَها الشقي

(ياصيحةً تحمُدُ مِنْ صوائحِ

وأهونَ النوحُ على النوائحِ)

٨٤

لماذا توجّه الحسين عليه‌السلام بهجرته في البداية إلى مكّة المكرّمة؟

قوله تعالى:( وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (1) .

هذه الآية الكريمة تمثّل بها الحسينعليه‌السلام عندما دخل إلى مكّة مهاجراً مِنْ مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك في الخامس مِنْ شعبان سنة (60) من الهجرة، وتوجّه الحسينعليه‌السلام بنهضته المباركة إلى مكّة، وحلوله فيها أمر معقول ومشروع للغاية، يقرّه الشرع والعرف السياسي.

أمّا من الناحية الشرعية، فإنّه يجب على الإنسان أنْ يحلّ بلداً يمكنه فيه القيام بواجباته، مع الحفاظ على حياته ما أمكن. ومكّة المكرّمة هي البلد الوحيد في ذلك اليوم الذي يتمكّن فيه الحسينعليه‌السلام الجمع بين هذين الأمرين معاً؛ لأنّه حرم مقدّس ومأمن لكلّ شيء حتّى الحيوان والطير والنبات؛ بنص الكتاب العزيز:( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) . حتّى قاتل النفس المحرّمة إذا دخل مكّة آمن على حياته من القصاص. نعم، يُضيّق عليه حتّى يخرج عنها، ثمّ يُقتص منه.

وأمّا من الناحية السياسية، فإنّ الحسينعليه‌السلام قائم بثورة فكريّة إصلاحيّة، وهي بحاجة إلى إعلام ودعوة وأنصار. ولا شكّ أنّ مكّة يومئذ أنسب بلد للقيام بذلك كلّه؛ لأنّها مختلف الناس، وممرّ المسلمين مِنْ جميع الأقطار، وكلّ حدث يحدث في مكّة ينعكس صداه فوراً في كافة الأقطار الإسلاميّة، وتسير به الركبان إلى جميع العالم الإسلامي، وكلّ دعوة تنبثق في مكّة سرعان ما تصل إلى أسماع المسلمين في كلّ مكان.

وفعلاً استطاع الحسينعليه‌السلام بفضل إقامته في

____________________

(1) سورة القصص / 22.

٨٥

مكّة أنْ يبلغ أنباء ثورته على الحكم الاُموي إلى أكثر الأقطار، ويتّصل بكثير من الوجوه والزعماء والوفود؛ ولذا فقد اجتمع له في خلال تلك المدّة بين الستة آلاف والعشرة آلاف رجل، وهم الذين تفرّقوا عنه أثناء الطريق عندما ظهر لهم غدر أهل الكوفة بالحسينعليه‌السلام ، وفي خلال تلك المدّة تسلّم اثني عشر ألف كتاب، دعوة مِنْ أهل العراق بالتوجّه إليهم.

وعلى كلّ حالٍ، كان في إقامة الحسينعليه‌السلام في مكّة المكرّمة دعماً كبيراً لقضيته وإعلاناً واسعاً عن ثورته، ولكنّ الذي حدث بعد ذلك وجعل الحسين يضطرّ إلى الخروج مِنْ مكّة بكلّ سرعة واستعجال هو: أنّ الاُمويِّين قرّروا هتك حرمة مكّة وانتهاك كرامتها، وصمّموا على قتل الحسين فيها، ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.

واتّخذوا لذلك جميع الإجراءات؛ فبعث يزيد جيشاً يتألّف مِنْ ثلاثين ألف رجلٍ، فأحاط بمكّة خوفاً مِنْ أنْ يقوم الحسينعليه‌السلام بثورة مسلّحة فيها ضدّهم، وعزل والي مكّة وعيّن مكانه عمرو بن سعيد الأشدق المعروف بعدائه الشديد للهاشميين، وضمّ إليه إمارة الحرمين مكّة والمدينة، حيث كان قد عزل والي المدينة أيضاً؛ لتهاونه في أمر الحسين، ولمْ يعجّل في قتله قبل خروجه من المدينة.

وبالإضافة إلى ذلك كلّه بعث ثلاثين جاسوساً اندسوا مع الحجّاج (لغرض قتل الحسينعليه‌السلام ) أينما وجدوه، ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة. ولو تأخّر الحسينعليه‌السلام مع ذلك في مكّة لمدّة قليلة اُخرى لقُتل غيلة على يد اُولئك الجواسيس، ولذهب دمه هدراً وعفي أثر الجريمة تماماً، ولأُنكر قتله نهائياً وبتاتاً، ولذهبت ثورته المقدّسة أدراج الرياح بدون أثر، وقبل أنْ يقوم بتلك التضحيات التي هزّت ضمير العالم، وزلزلت العرش تحت أقدام آل أبي سفيان.

إنّ الحسينعليه‌السلام لمْ يخرج من المدينة، أو مِنْ مكّة هرباً من القتل مِنْ حيث هو؛ لأنّه كان يعلم أنّ مصيره القتل على كلّ حال، خرج أو لمْ يخرج، ولكن هرب من القتل قبل الأوان من القتل، قبل أداء الواجب، أو قل هرب مِنْ قتلة عقيمة، وهرب أيضاً مِنْ شيء آخر، وهو هتك حرمة البيت الحرام بسببه، كما صرّح بذلك لبعض المعترضين عليه بالخروج، فقالعليه‌السلام : «إنّي اُحبّ أنْ أُقتل خارج مكّة بباع خير مِنْ ذراع؛ لئلاّ أكون الذي تستباح به حرمة هذا البيت».

٨٦

وما انتهكت حرمة مكّة والبيت الحرام منذ حرّمهما الإسلام إلاّ على يد الاُمويِّين؛ فهم أوّل مَنْ هتكوا الحرمات وسحقوا المقدّسات، فكره الحسينعليه‌السلام أنْ يكون دمه أوّل دم يُسفك في البيت، وأوّل إنسان به تُهتك حرمة الحرم؛ لذا خرج يوم التروية، أي يوم الثامن مِنْ ذي الحجّة، حيث لمْ يتمكّن مِنْ إتمام الحجّ، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ مِنْ إحرامه وجعلها عمرة مفردة.

قال الفرزدق الشاعر: حججت بأمّي سنة ستين للهجرة، فبينا أنا أسوق بعيرها وقد دخلت الحرم، وإذا بقطار خارج مِنْ مكّة، فقلت: لمَنْ هذا القطار؟ فقيل: للحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام . فدنوت منه وسلّمت عليه، وقلت له: يابن رسول الله، ما الذي أعجلك عن الحجّ؟ فقالعليه‌السلام : «يا عبد الله، لو لمْ أعجل لأخذت». وقال لسائل آخر: «إنّ بني اُميّة لا يدعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة مِنْ جوفي».

والخلاصة: لقد أصابعليه‌السلام وعمل بمقتضى الحكمة في توجهه أولاً إلى مكّة، ثمّ في خروجه منها بعد أنْ أحدق به خطر القتل؛ فهوعليه‌السلام بدخوله إلى مكّة وإقامته فيها طيلة أربعة أشهر مهّد لثورته المقدّسة تمهيداً إعلامياً ودعائياً كاملاً، وبخروجه منها حفظ حياته للقيام بمهام الثورة مِنْ حيث العمل والتطبيق.

وأخيراً: فهذه حياة المصلحين الأحرار، حياة تشريد ومطاردة وخوف واضطهاد، ولله در الحاج مجيد الحلّيرحمه‌الله حيث قال:

أيطيبُ عيشٌ وابنُ فاطمةٍ

نَهبتْ حشاهُ البيضُ والسمرُ

تاللهِ لا أنساهُ مضطهداً

حتّى يضمُّ عظاميَ القبرُ

ومشرّداً ضاقَ الفضاءُ به

فكأنّ لا بلدٌ ولا مصرُ

مُنعَ المناسك أنْ يؤدّيها(1)

بمنى فكانَ قضاءَها النحرُ

إنْ فاتهُ رميُ الجمارِ فقد

أذكى لهيبَ فؤادهِ الجمرُ

يسعى لإخوانِ الصفاءِ وهم

فوقَ الصعيدِ نسائكٌ جزروا

ويطوفُ حولَ جسومهم وبهِ

انتظمَ المصابُ ودمعهُ نثرُ

أفديهِ مستلماً بجبهتهِ

حجراً إذا ما فاتهُ الحجرُ

____________________

(1) لا يخفى ما في المصراع من خلل عروضي واضح.(موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

٨٧

كيف وثق الحسين عليه‌السلام بأهل الكوفة، ولماذا خرج إليهم؟

للشيخ صالح الكوّاز (قدس سره):

إذا ما سقى اللهُ البلادَ فلا سقى

معاهدَ كوفانٍ بنوءِ المرازمِ

أتت كتبُهُمْ في طيهنَّ كتائبٌ

و ما رقمت إلاّ بسمِّ الأراقمِ

لخيرِ إمامٍ قامَ في الأمرِ فانبرتْ

لهُ نكباتٌ أقعدتْ كلَّ قائمِ

أنْ اقدم إلينا يابنَ أكرم مَنْ مشى

على قدمٍ مِنْ عُربِها و الأعاجمِ

فكمْ لكَ أنصاراً لدينا وشيعة

رجالاً كراماً فوق خيلٍ كرائمِ

فودّع مأمون الرسالةِ وامتطى

متونَ المراسيلِ الهجانِ الرواسمِ

و جشّمها نجد العراقِ تحفّه

مصاليتُ حربٍ مِنْ ذؤابةِ هاشمِ

يتساءل الكثيرون ممّن يستمع إلى سيرة الحسينعليه‌السلام ، ويقول: وا عجباً! كيف وثق الحسين بأهل الكوفة واعتمد عليهم في ثورته ولبّى طلبهم، وهو مِنْ أعلم الناس وأعرفهم بغدر أهل الكوفة وتقلّبهم، وقد سبق له أنْ جرّبهم مع أبيه علي وأخيه الحسن؟! هذا بالإضافة إلى نصح جملة مِنْ خلّص أصحابه وأقاربه له بعدم الركون إلى رسائلهم ورسلهم؛ فإنّهم قوم غدر وخيانة!

ونقول لهؤلاء: إنّ ما فعله الحسين كان عين الصواب والصحيح في عرف الشرع والسياسة؛ أمّا إنّه لمْ ينجح في عمله هذا فذلك بحث آخر سوف نتعرّض له في الفصول الآتية تحت عنوان: هل كانت ثورة الحسينعليه‌السلام ناجحة أم لا؟

أمّا توجّه الحسينعليه‌السلام يومئذ وهو في تلك الظروف إلى العراق كان مطابقاً للشرع والعرف السياسي الصحيح.

٨٨

نقول: كان مطابقاً للشرع؛ لأنّ الشارع الإسلامي يركّز أحكامه على الناس حسب ظواهرهم، ويعتبر الظواهر هي الحجّة والقياس ومناط الأحكام. أمّا البواطن والخفايا والظنون والاُمور الغيبية فلا اعتبار لها في التشريع الإسلامي، وإنّما أمرها إلى الله، والله وحده هو المحاسب عليها يوم الحساب.

قال سبحانه وتعالى:( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى‏ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الْدّنْيَا... ) (1) . قيل: نزلت في مسلم رفع السيف في بعض الغزوات على مشرك ليقتله، فقال المشرك: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله، ولكنّ المسلم مع ذلك ضربه بالسيف وقتله، فبلغ الحادث إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدعا بالمسلم وقال له: «لِمَ قتلته وأنت سمعته يشهد أنْ لا إله إلاّ الله؟». فقال المسلم: يا رسول الله، إنّه قالها خوف السيف لا عن إيمان وعقيدة. فقال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : «وما يدريك بذلك، فهل فلقت قلبه وعرفت كذبه؟!». وعلى أثر هذه القضية نزلت الآية الكريمة:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى‏ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) (2) .

ونصوص القرآن على حجيّة الظواهر في الإسلام كثيرة، منها قوله تعالى:( إِنّ الظّنّ لاَ يُغْنِي من الْحَقّ شَيْئاً... ) (3) . وقوله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... ) (4) . وقوله تعالى:( اجْتَنِبُوا كَثِيراً من الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُوا... ) (5) .

وأمّا السنّة فأقوال وأفعال، منها قولهعليه‌السلام : «أُمرت أنْ اُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، فإذا قالوها حقنوا دمائهم وأموالهم وأعراضهم». وأيضاً أحاديث اُخرى مضمونها: مَنْ تشهّد بشهادتنا وصلّى إلى قبلتنا... فله ما لنا وعليه ما علينا.

وأكثر قواعد واُصول الفقه الإسلامي مبنيّة على الظاهر القائم بالفعل، مثل قاعدة: المتّهم بريء حتّى تثبت إدانته، أو قاعدة: لا يجوز القصاص قبل الجناية، وقاعدة: اليد، وقاعدة الطهارة، وقاعدة الحليّة، وقاعدة الإباحة وغيرها...

فالخلاصة: إنّ الإسلام دين يعامل الناس على الظاهر منهم، لا على ما يمكن أنْ سيبدو.

____________________

(1) سورة النساء / 94.

(2) سورة النساء / 3، تفسير المنار ج 5.

(3) سورة يونس / 36.

(4) سورة الإسرَاء / 36.

(5) سورة الحجرات / 12.

٨٩

فإذا تحقق هذا، نقول: إنّ أهل الكوفة أظهروا الولاء والطاعة للحسينعليه‌السلام بشكل من الإخلاص والإلحاح والجديّة لمْ يسبق له مثيل، وكان إظهارهم لهذا الولاء منذ عصر معاوية، وفي حياة الحسنعليه‌السلام وبعده، وتضاعف طلبهم له عند وفاة معاوية.

ولمّا بلغهم نبأ وفاة معاوية وامتناع الحسينعليه‌السلام من البيعة ليزيد وجّهوا رسلهم ورسائلهم ووفودهم إلى الحسينعليه‌السلام وهو بعدُ في المدينة، ولمّا استقر الحسين في مكّة انهالت عليه طلباتهم وكتبهم كالسيل المتدفّق حتّى تسلّم الحسينعليه‌السلام منهم في يوم واحد ستمئة كتاب، وبلغ مجموع كتبهم إلى الحسينعليه‌السلام خلال مدّة إقامتهعليه‌السلام في مكّة إلى اثني عشر ألف كتاب، وكلّ كتاب موقّع مِنْ قبل رجلين والثلاث والأربع، وكلّها تكرّر عبارة: أقدم يابن رسول الله، ليس لنا إمام غيرك؛ فلقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة.

وكتب له بعضهم قائلاً: إنْ لمْ تجب دعوتنا وتلبّي طلبنا وتتوجّه إلينا خاصمناك بين يدي الله يوم القيامة. فأيّ حجّة أعظم وألزم مِنْ ذلك؟! وأيّ عذر للحسينعليه‌السلام أمام الله وأمام التاريخ إذا لمْ يلبّي دعوتهم بعد ذلك كلّه؟! وهل كان يبرّر له ذلك أنْ يقول: كنت أظن أو أتوقّع منهم الغدر والخلاف؟!

وهذا الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول في دستوره الخالد إلى واليه على مصر مالك الأشتر: «إِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ».

ومِنْ قبله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكم كان يرتّب آثار المسلمين وأحكامهم على المنافقين الذين يعلم علم اليقين أنّهم كاذبون في كلّ ما يظهرون، ولكنّ الإسلام يعامل الناس على الظاهر حتّى يتبيّن الخلاف والعكس.

والحسينعليه‌السلام سار حسب ما يقتضيه الشرع، ولبّى دعوة أهل الكوفة لمّا أتمّوا الحجّة عليه بطلباتهم المتكرّرة ودعواتهم الحارّة المتواترة. وقد اُضيف إلى تلك الحجّة عليه حجّة اُخرى ألا وهي رسائل سفيره ونائبه الخاص مسلم بن عقيل، الذي بعثه إلى الكوفة ليستكشف حقيقة الأمر أكثر فأكثر،

٩٠

ويتعرّف على واقع تلك الدعوات عن كثب، فكان نتيجة ما قام به مسلم بن عقيل طيلة أكثر مِنْ شهرين في الكوفة أنْ كتب إلى الحسينعليه‌السلام مؤكداً له استعداد أهل الكوفة للتضحية بين يديه بالنفس والنفيس، وبكل غالٍ وعزيزٍ، ويستحثّه على القدوم إلى الكوفة فوراً.

وكان ممّا قاله في بعض كتبه إلى الحسينعليه‌السلام : أمّا بعد، فأقدم يابن رسول الله؛ فإنّ الرائد لا يكذب أهله. إنّ الناس ينتظرونك، وإنّ الكوفة بأسرها معك. فهل ترى أيّها القارئ الكريم أيّ عذر للحسين بعد كلّ هذا إذا تخلف عن إجابتهم وترك التوجه إليهم؟!

وقد صرّح هوعليه‌السلام بالمسؤوليّة التي توجّهت إليه تجاه أهل الكوفة لابن عمّه عبد الله بن عباس لمّا ألحّ عليه بترك المسير إلى العراق، فقال الحسينعليه‌السلام : «يابن عمّ، لقد كثرت عليّ كتبهم، وتوافرت عليّ رسلهم، ووجبت عليّ واجباتهم».

وأمّا من الناحية السياسية والحكمة، فإنّ الحسينعليه‌السلام ثائر في وجه دولة قويّة وحكومة مسيطرة، وطبعاً لا بدّ له مِنْ قوّة كبيرة يستند إليها في هكذا ثورة، والعراق يومئذ أنسب قوّة وأكبر سند لمثل تلك الثورة التي عزم الحسين على القيام بها؛ وذلك نظراً إلى مركز العراق الجغرافي، وموقعه الاستراتيجي، ومناخه الاقتصادي، وغيرها من الملائمات التي تميّزه عن باقي الأقطار الاُخرى؛ ومن ثمّ اختارها أمير المؤمنينعليه‌السلام مِنْ قبل مركزاً لقيادته، وعاصمة لخلافته، ومنطلقاً لحركته الإصلاحية الشاقّة الواسعة بعد عهد عثمان الذي أغرق المجتمع الإسلامي بالمفاسد والانحرافات. وقد خرج منها عليعليه‌السلام بمئة ألف مقاتل أو يزيدون إلى حرب صفين.

والخلاصة هي أنّ الكوفة يومئذ أفضل وأنسب منطلق لكلّ حركة ثورية لولا عيب واحد فيها فوّت كلّ مزاياها الثورية، ألا وهو حالة التقلّب والتلوّن التي امتاز بها أهل العراق عامّة وأهل الكوفة خاصة.

وقد نقل عن لسان كاهن اليمن في كلمته التي حدّد فيها صفات الشعوب والأقطار، فقال: وأمّا العراق فشقاق ونفاق، وثياب رقاق، ودم مهراق.

وجاء في بعض وصايا معاوية لابنه يزيد قال: وانظر أهل العراق، فإنْ طلبوا

٩١

منك أنْ تعزل عنهم في كلّ يوم والياً وتنصب لهم آخر فافعل؛ لأنّ ذلك أيسر مِنْ أنْ يخرجوا عليك.

ويعزو الخبراء هذه الحالة فيهم إلى إحساسهم المرهف، وذكائهم الفطري المفرط، فهم دائماً وأبداً كانوا مصدر تعب وإزعاج للولاة والحكّام والأمراء، لا يستقيمون إلاّ تحت وطأة العنف والإرهاب والظلم. فهم كما قيل عنهم: (عبيد العصا) على المدى البعيد، وطلاّب الحقّ والعدل على المدى القريب، سريعو الإقبال وسريعو الإدبار.

وعلى كلّ حالٍ، نتساءل بعد كلّ هذا ونقول: لو لمْ يتوجّه الحسينعليه‌السلام إلى العراق رغم دعوتهم الملحّة له فإلى أين كان يتوجّه بعد أنْ صارت حياته في مكّة معرضة للخطر في أي لحظة، ولمْ يتلقَ دعوة مِنْ أيّ مكان آخر غير العراق؟ فهل كان يبقى في مكّة حتّى يُقبض عليه ويسلّم أسيراً إلى يزيد، أو يغتال ويقتل غدراً ويذهب دمه هدراً؟

نعم، لك أنْ تقول لماذا لمْ يعدل عن الكوفة عندما ظهر له غدرهم به وانقلابهم عليه؟ فنقول: أجل، لقد حاول العدول عنها، بل عدل عن التوجّه إليها فعلاً لمّا التقى بطلائع جيش العدو بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، وأيقن بأنّه ليس له في الكوفة مكان ولا أعوان، ولكنّ الحرّ منعه مِنْ ذلك، وصمّم على أنْ يأخذه إلى عبيد الله بن زياد أسيراً. وبعد محاولات عنيفة وتمانع من الطرفين اتّفق الحسينعليه‌السلام معهم على أنْ يسلك طريقاً لا يردّه إلى مكّة والمدينة ولا يدخله إلى الكوفة؛ ليسير على وجهه في أرض الله تعالى إلى حيث ينتهي به السير.

وهكذا كان، وأخذ الحسينعليه‌السلام طريقاً وسطاً، وصار يتياسر عن الكوفة إلى الغرب متّجهاً نحو المدائن؛ بقصد أنْ يخرج مِنْ منطقة نفوذ ابن زياد الذي كان أخبث وأشقى رجل في عمّال يزيد، وأشدّهم عداءً وبغضاً لآل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فسار الحسينعليه‌السلام في الاتّجاه الجديد والحرّ وأصحابه يسايرونه على البعد حتّى وصل أرض كربلاء، وهي أرض على شاطئ الفرات، كانت تسمّى نينوى والغاضريات،

٩٢

ووادي الطفوف، فلمّا وصل ركب الحسينعليه‌السلام إليها وصل أيضاً رسول مِن ابن زياد بكتاب منه إلى الحرّ الرياحي يذكر فيه اطّلاعه على ما حدث بينه وبين الحسينعليه‌السلام ، ويأمره فيه أنْ يأتي إليه بالحسينعليه‌السلام سلماً مستسلماً وإلاّ فليحبسه عن الرجوع أو المسير، وليجعجع به في المكان الذي يصل فيه الكتاب إليه ويخبره بأنّ حامل الكتاب عين عليه.

فدنا الحرّ عند ذلك من الحسينعليه‌السلام وأطلعه على الكتاب، وقال: لا يسعني بعد هذا أنْ أدعك مستمراً في سيرك، فإمّا أنْ تنزل هنا أو نقاتلك، فعرض عليه بعض أصحابه القتال مع القوم، فقالعليه‌السلام : «إنّي أكره أنْ أبدأهم بقتال».

ثمّ نزل الحسين وأصحابهعليهم‌السلام في جانب، ونزل الحرّ في ألف فارس في جانب آخر مِنْ أرض كربلاء، وذلك في يوم الثاني مِنْ شهر المحرّم الحرام سنة (61) للهجرة، ثمّ كتب الحرّ إلى ابن زياد كتاباً يخبره بنزول الحسينعليه‌السلام أرض كربلاء، فكتب ابن زياد إلى الحسينعليه‌السلام كتاباً يقول فيه: أمّا بعد يا حسين، فقد بلغني نزولك أرض كربلاء، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أنْ لا أتوسد الوثير، ولا أشبع من الخمير حتّى ألحقك باللطيف الخبير، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد.

فلمّا وصل كتابه إلى الحسينعليه‌السلام وقرأه رماه مِنْ يده، وقال: «لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق». فقال له الرسول: الجواب أبا عبد الله. فقالعليه‌السلام : «ليس له عندي جواب؛ فقد حقّت عليه كلمة العذاب».

فعاد الرسول إلى ابن زياد فأخبره، فغضب ابن زياد وجمع الناس في الجامع الأعظم وخطبهم وأعلن النفير العام، وقال: برئت الذمّة ممّن وجدناه بعد ثلاثة أيّام لمْ يخرج إلى حرب الحسين بن علي.

ويروى أنّه جيء إليه بعد الثلاث برجل، فقال: لِمَ لمْ تخرج إلى حرب الحسين؟ فقال: أنا رجل غريب مِنْ أهل الشام جئت إلى الكوفة في حاجة، وغداً خارج عنها. فقال ابن زياد: وأنت صادق في قولك، ولكن في قتلك تأديب للآخرين. ثمّ أمر به فقتلوه.

وهكذا ساق الناس إلى حرب الحسينعليه‌السلام على الصعب والذلول حتّى اجتمع لحرب الحسينعليه‌السلام في

٩٣

كربلاء ثلاثون ألف مقاتل أو يزيدون، كلّهم مِنْ أهل الكوفة ليس فيهم شامي ولا حجازي.

وحيث إنّ أهل العراق لا يوثق بهم؛ لذا أخذ يزيد الاحتياط لنفسه حذراً مِن انقلاب أهل الكوفة على ابن زياد؛ فجهّز جيشاً مِنْ ستين ألف رجل وبعثه إلى العراق، ونزل بالقرب مِنْ كربلاء، وأرسل قائده إلى عمر بن سعد يعرض عليه استعداده للاشتراك معهم في حرب الحسينعليه‌السلام متى أراد.

وفي ذلك يقول بعض الاُدباء:

ملأ القفارَ على ابن فاطمةٍ

جنداً وملؤ صدورِهمْ ذحلُ

جاءت وقائدُها العمى وإلى

حرب الحسينِ يسوقها الجهلُ

بجحافلٍ بالطفِّ أوّلُها

وأخيرُها بالشام متصلُ

٩٤

هل الذين قتلوا الحسين عليهم‌السلام كانوا شيعة؟

جاؤوا بسبعين ألفاً سلْ بقيَّتهُمْ

هل قابلونا وقدْ جئنا بسبعينا

لقد تعدّدت الروايات واختلفت الأخبار في عدد أفراد الجيش الذي خرج إلى حرب الحسينعليه‌السلام بكربلاء، والأشهر الأصح منها يتفاوت ويتراوح بين الثلاثين ألفاً والسبعين ألف مقاتل. وقد أجمع المؤرّخون على أنّهم جميعاً كانوا من أهل الكوفة خاصّة، ليس فيهم شامي ولا حجازي ولا بصري. والمعروف عن أهل الكوفة أنّهم شيعة، أو يغلب عليهم التشيّع لأهل البيتعليهم‌السلام .

ومن هنا استنتج بعض الذين كتبوا في الحسينعليه‌السلام أنّ الشيعة هم الذين قتلوا الحسينعليه‌السلام بكربلاء، ويفسّرون أيضاً زيارة الشيعة لمرقد الحسينعليه‌السلام بكربلاء، وبكاءهم عليه أيّام عاشوراء وغيرها مِنْ مظاهر الحداد التي يقيمونها عليه بأنّه ندم وتكفير لما فعله سلفهم وآبائهم مِنْ قبل، وتعبير منهم عن مدى إحساسهم بقبح الجريمة التي ارتكبها الأجداد.

أقول: هكذا قال بعض المعاصرين من الذين كتبوا عن الحسينعليه‌السلام فهل هذا صحيح؟!

الجواب : كلا، لمْ يكن في ذلك الجيش الذي اجتمع على حرب الحسينعليه‌السلام بكربلاء يوم العاشر من المحرّم ولا شيعي واحد؛ بل كان ذلك الجيش خليطاً مؤلّفاً من الخوارج، ومن الحزب الاُموي، ومن المنافقين الذين عانى منهم الإمام علي والإمام الحسنعليهما‌السلام من المحن والأذى. وأيضاً كان فيهم كثير من المرتزقة الذين كانوا

٩٥

يشكلّون جيشاً نظامياً أقامه الولاة للاستعانة بهم على قمع الفتن والحركات الداخلية، وكان أكثرهم من الحمر - أي غير العرب - لمْ يعرف لهم نسب ولا حسب ولا مبدأ. وبكلمة واحدة: ما كان فيهم شيعي قط.

ودليلنا على ذلك هو:

أولاً: إنّ الكوفة كانت علوية النزعة، ويغلب عليها التشيّع في عهد الإمام عليعليه‌السلام ، ولكنّها لمْ تبقَ على ذلك بعده؛ لأنّ معاوية وولاته عندما استولوا على الكوفة بعد مقتل الإمام عليعليه‌السلام قتلوا الشيعة فيها وشرّدوهم حتّى لمْ يبقَ فيها في عصر زياد ونجله شيعي بارز معروف إلاّ وهو مقتول أو مسجون أو مشرّد.

وإنْ أردت تفصيل ما فعله معاوية بالشيعة في الكوفة وغيرها في عهد خلافته فاقرأ كتب التاريخ والسيرة؛ لتعرف كيف قامت المجازر البشرية ونصبت المشانق، وفتحت السجون لإبادة الشيعة والتشيّع في ذلك العصر المشؤوم حتّى بلغ الحال أنّ الرجل كان يتّهم بالكفر والإلحاد والزندقة فلا خوف عليه، ولكن إذا اتّهم بالتشيع لعليعليه‌السلام سفك دمه ونهب ماله وهدمت داره.

كتب معاوية بن أبي سفيان بنسخة واحدة إلى جميع عمّاله وولاته في الأقطار: أن انظروا إلى مَنْ يُتّهم بحبّ علي فامسحوا اسمه من الديوان (أي مِنْ كافة الحقوق المدنية والمالية)، ومَنْ قامت عليه البيّنة أنّه مِنْ شيعة علي فاقتلوه وانهبوا ماله واهدموا داره.

ولقد حار الخبراء والمتتبعون للتأريخ كيف بقي في العالم شيعة مع تلك الحملات الإبادية والاضطهادات والمطاردات التي قامت ضدّهم طيلة مئة عام أو أكثر فترة الحكم الاُموي وبعده؛ في حين أنّ بعض الطوائف التي ظهرت في تلك الفترة قد أُبيدت وزالت كلّياً لمّا وجّه إليها بعض ما وجّه إلى الشيعة من الضغط والتنكيل؟!

أجل، إنّ المقتضى الطبيعي لما لاقاه الشيعة مِنْ أعدائهم إبّان الحكم الاُموي هو أنْ لا يبقى لهم عين في العالم ولا أثر، ولكن بما أنّ التشيّع هو

٩٦

دين الله الكامل ونوره المبين والحق الذي لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه ولا مِنْ خلفه، وشريعة قرآنه المنزل على خاتم أنبيائه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد تعهّد الله سبحانه وتعالى أنْ يحفظ دينه ويتمّ نوره، ويحفظ قرآنه ويظهر الحقّ على الباطل ولو كره الكافرون:( أَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) (1) .

وها هو التشيّع اليوم يعمّ أقطار الأرض، ولا يكاد يخلو منه مكان في العالم، والذين ينتمون إليه اليوم يبلغون مئة مليون أو أكثر من المسلمين، وهذا علي بن أبي طالب الذي كان يشتم ويسبّ على المنابر الإسلاميّة طيلة الحكم الاُموي، اسمه اليوم على المآذن مقروناً باسم الله وباسم رسوله:( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2) .

والخلاصة: لمْ يبقَ في عصر الحسينعليه‌السلام في الكوفة من الشيعة سوى أقلّيّة قليلة هم بقية حملات الإبادة والسيف والتنكيل الاُموي، وكانوا لا يتجاوزون الأربعة أو الخمسة آلاف رجلاً، وهم الذين كان ابن زياد (لعنه الله) قد ملأ بهم سجون الكوفة ومعتقلاتها قبل قدوم الحسينعليه‌السلام إلى العراق، وهؤلاء هم كلّ الشيعة في الكوفة يومئذ، وهم الذين كسروا السجون بعد أنْ ترك ابن زياد العراق والتحق بالشام.

كسروا السجون وخرجوا ثائرين بدم الحسينعليه‌السلام بعد قتله بما يقرب مِنْ أربع سنوات، وقبل ثورة المختار، وتوجّهوا نحو الشام والتقوا بجيوش الاُمويِّين على نهر الزاب في شمال العراق وقاتلوا حتّى قتلوا.

وعرفوا في التاريخ بالتوابين، وهي تسمية غير حقيقية؛ حيث لمْ تصدر منهم خطيئة بالنسبة إلى الحسينعليه‌السلام حتّى يكون قتلهم في الثأر له توبة عنها، بل هم الآسفون على الأصح؛ حيث أسفوا أنْ يقتل الحسينعليه‌السلام ولمْ يستطيعوا الدفاع عنه، وقالوا: لا خير في العيش بعده.

فإذاً اتّهام الشيعة بأنّهم قتلوا الحسين؛ لأنّ أهل الكوفة كانوا في وقت من الأوقات شيعة بمجموعهم أو بأكثريتهم، اتّهام باطل لا أساس له، وقد عرفت وجه البطلان فيه.

____________________

(1) سورة الرعد / 17.

(2) سورة التوبة / 32.

٩٧

وأمّا ما نراه اليوم من الأكثرية الشيعية في العراق فإنّه حدث بعد ذلك، وبعد زوال السلطان الاُموي الجائر عن العراق والعالم الإسلامي، وعلى أثر الحريات التي نالها الشيعة في أكثر فترات الدولة العباسية، وببركة العتبات المقدّسة ومراقد أهل البيتعليهم‌السلام المنتشرة في أنحاء كثيرة من العراق.

ولا تنسى أنّ الجامعة العلميّة التي أسسها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (أعلا الله مقامه) في النجف الشرف قبل أكثر مِنْ ألف عام كان لها الأثر الكبير في نشر التشيّع في العراق، وفي أنحاء اُخرى من البلاد الإسلاميّة؛ وذلك بما خرّجته هذه الجامعة مِنْ فحول العلماء ورجال العلم، وأعلام الدعوة وكبار الفلاسفة والمجتهدين ومراجع الدين، حتّى صارت النجف الأشرف مهوى أفئدة طلاب العلم والمعرفة، وموطن العلماء العظام، وعاصمة العالم الشيعي، ولا تزال كذلك إلى اليوم وستبقى كذلك إلى الأبد إنْ شاء الله رغم كلّ المحاولات التي تبذل للقضاء على قدسية هذه المدينة العلميّة المقدّسة.

هذا كلّه بيان لبطلان هذا الاتّهام من الناحية التاريخية وعلى صعيد الواقع القائم آنذاك. وأمّا إذا نظرنا إلى هذه التهمة من الناحية الفكرية، وناقشناها على الصعيد العقائدي فإنّا نجد التناقض الصريح في مؤدّاها؛ لأنّ التشيّع وقتل الحسينعليه‌السلام ضدان لا يجتمعان.

فقولهم إنّ الشيعة قتلوا الحسينعليه‌السلام نظير القول مثلاً بأنّ المسلمين قتلوا النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو قولنا مثلاً بأنّ الشيوعيين قتلوا ماركس أو لينين. فهل هذا يمكن عادة؟! طبعاً كلاّ؛ لأنّ معنى مسلم يعني مَنْ يقدّس محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ويحترمه ويضحّي بكلّ غالٍ وعزيز دفاعاً عنه، وإنّ الشيوعي يعني ذلك الشخص الذي يقدّس ماركس ولينين ويحترمهما إلى أبعد الحدود، وينقاد لأوامرهما وتعاليمهما، فكيف يمكن أنْ يقدم على قتلهما مع الاحتفاظ بشيوعيته؟! وهل يعقل أنْ يقدم إنسان على قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في نفس الوقت مسلم ويصدق عليه صفة الإسلام؟! هذا مستحيل وغير معقول.

نعم، شخص كان مسلماً ثمّ ارتدّ وكفر وقتل محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله مثلاً، هذا يجوز ويعقل،

٩٨

وهكذا الحال بالنسبة إلى الشيعي؛ لأنّ التشيّع عبارة عن تقديس الحسينعليه‌السلام بشكل ليس فوقه تقديس إلاّ قدسية الله ورسوله، والإنسان الشيعي هو الذي يؤمن بإمامة الحسين ويعتقد بخلافته عن رسول الله نصاً وعقلاً، ويرى الحسينعليه‌السلام حجّة الله على خلقه ووليّه في عباده، وإنّه أولى بالمؤمنين مِنْ أنفسهم، وإنّ مخالفته وعصيان أوامره كفر ومروق عن الدين فضلاً عن قتله وسفك دمه. فكيف يجتمع هذا المعنى في نفس إنسان مع إقدامه على قتل الحسينعليه‌السلام متعمداً؟! وأيّ تضاد وتهافت وتناقض أقبح من هذا؟!

ولكن ويا للأسف! إنّ الحقد على الشيعة والتعصّب ضدّهم أعمى البصائر وذهب بالعقول من هؤلاء حتّى صاروا لا يتعقّلون ما يقولون، وإنّي لأتحدى أيّ أحد يثبت وجود شخص واحد شيعي بهذا المعنى في صفوف جيش عمر بن سعد الذي حارب الحسين بكربلاء.

نعم، كان فيهم أناس كانوا سابقاً من الشيعة، أي أنّهم حضروا مع الإمامعليه‌السلام في معركة الجمل وفي معركة صفين، مثل: الشمر بن ذي الجوشن الضبابي، وشبث بن ربعى، وقيس بن الأشعث، ومحمد بن الأشعث وغيرهم (لعنهم الله)، ولكنّهم ارتدّوا بعد ذلك وصاروا خوارج، وكفّروا علياً في فتنة رفع المصاحف التي أثارها ابن العاص حسب ما هو معروف.

وهؤلاء الخوارج هم الذين قاتلهم الإمام عليعليه‌السلام في معركة النهروان، فقتل مَنْ قُتل منهم، وانهزم مَنْ انهزم، وألّف الخوارج طائفة مِنْ طوائف المسلمين بعد ذلك، وتآمروا على قتل الإمام وقتلوه في الصلاة، وهجموا على ابنه الحسنعليه‌السلام يوم ساباط وطعنوه، وإلى غير ذلك من مظاهر عدائهم لعليعليه‌السلام وأبنائه الطاهرين.

والحاصل : إنّ التشيّع عقيدة وعمل، وإنّ إطاعة الحسينعليه‌السلام واحترامه والدفاع عنه مِنْ صميم تلك العقيدة وقوام ذلك العمل، كالذي فعله اُولئك النفر من الشيعة أصحاب الحسينعليه‌السلام يوم كربلاء؛ الذين بذلوا أنفسهم وضحّوا بأبنائهم وعوائلهم وكلّ ما يملكون دفاعاً عن الحسين وآلهعليهم‌السلام ،

٩٩

فسلام عليهم بما صبروا ونعم عقبى الدار. ورحم الله السيّد رضا الهندي حيث قال فيهم:

و قفوا يدرَؤون سمرَ العوالي

عنه و النبلَ وقفةَ الأشباحِ

فوقوه بيضَ الظُّبا بالنحورِ البيـ

ـضِ و النبلَ بالوجوهِ الصباحِ

فئةٌ إنْ تعاورَ النقعُ ليلاً

أطلعوا في سماه شهب الرماحِ

وإذا غنّت السيوفُ وطافت

أكؤسُ الموت و انتشى كلُّ صاحِ

باعدوا بين قربهم والمواظي

وجسوم الأعداءِ والأرواحِ

أدركوا بالحسين أكبرَ عيدٍ

فغدوا في منى الطفوفِ أضاحِ

وبعد هذا كلّه نعود فنقول: وأمّا بكاء الشيعة على الحسين وزيارتهم لقبره الشريف وغيرهما فليس هو بدافع الندم، ولا لغرض تكفير جريمة الآباء كما زعم الخصم، بل هو بدوافع وأغراض سنأتي على ذكرها قريباً إنْ شاء الله تعالى.

١٠٠