الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء0%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس محمود العقاد
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الصفحات: 210
المشاهدات: 47878
تحميل: 4917

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47878 / تحميل: 4917
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لكنّهما لم يفكّرا في أيسر شيء ولا أنفع شيء للدولة التي يخدمانها وإنّما فكّرا في النّسب المغموز والصورة الممسوخة، فلم يكن لهما من همّ غير إرغام الحُسين وإشهاد الدُنيا كلّها على إرغامه.

تلّقى ابن زياد من عمر بن سعد كتاباً يقول فيه: إنّ الحُسين أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه، أو أن نسيّره إلى أيّ ثغر من الثغور شئنا، أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده.

والذي نراه نحن من مراجعة الحوادث والأسانيد، أنّ الحُسين ربما اقترح الذهاب إلى يزيد ليرى رأيه، ولكنّه لم يعدهم أن يبايعه أو يضع يده في يده؛ لأنّه لو قبل ذلك لبايع في مكانه واستطاع عمر بن سعد أن يذهب به إلى وجهته؛ ولأنّ أصحاب الحُسين في خروجه إلى العراق قد نفوا ما جاء في ذلك الكتاب، ومنهم عقبة بن سمعان حيث كان يقول: صحبت الحُسين من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى العراق، ولم أفارقه حتّى قُتل وسمعت جميع مخاطباته إلى يوم قتله

فوالله، ما أعطاهم ما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد ولا أن يسيّروه إلى ثغر من الثغور، ولكنّه قال:(( دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر إلى ما يصير إليه أمر النّاس )).

* * *

ولعلّ عمر بن سعد قد تجوّز في نقل كلام الحُسين عمداً؛ ليأذنوا له

١٠١

في حمله إلى يزيد فيلقي عن كاهله مقاتلته وما تجر إليه من سوء القالة ووخز الضمير، أو لعلّ الأعوان الاُمويّين قد أشاعوا عن الحُسين اعتزامه للمبايعة؛ ليلزموا بالبيعة أصحابه من بعده، ويسقطوا حجّتهم في مناهضة الدولة الاُمويّة

وأيّاً كانت الحقيقة في هذه الدعوى فهي تكبر مأثمة عبيد الله وشمر ولا تنقص منها، ولقد كانا على العهد بمثليهما كلاهما كفيل أن يحول بين صاحبه وبين خالجة من الكرم تخامره أو تغالب اللؤم الذي فطر عليه، فلا يصدر منهما إلاّ ما يوائم لئيمين لا يتفقان على خير

وكأنّما جنح عبيد الله إلى شيء من الهوادة حين جاءه كتاب عمر بن سعد، فابتدره شمر ينهاه ويجنح إلى الشدّة والاعتساف، فقال له: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟! والله، لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوّة والعزّة، ولتكونن أولى بالضعف والعجز فلا تعطه هذه المنزلة، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه؛ فإن عاقبت كنت وليّ العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك.

ثمّ أراد أن يوقع بعمر ويتّهمه عند عبيد الله؛ ليخلفه في القيادة ثمّ يخلفه في الولاية، فذكر لعبيد الله أنّ الحُسين وعمر يتحدثان عامّة الليل بين المعسكرين فعدل عبيد الله إلى رأي شمر وأنفذه بأمر منه أن يضرب عنق عمر

١٠٢

إن هو تردّد في إكراه الحُسين على المسير إلى الكوفة أو مقاتلته حتّى يُقتل، وكتب إلى عمر يقول له: أمّا بعد، فإنّي لم أبعثك إلى الحُسين لتكفّ عنه ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء، ولا لتطاوله ولا لتعتذر عنه ولا لتقعد له عندي شافعاً

انظر فإن نزل الحُسين وأصحابه واستسلموا فابعث بهم إليّ مسلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإن قُتل الحُسين فأوطئ الخيل صدره وظهره؛ فإنّه عاق شاق قاطع ظلوم فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، والسّلام.

وخُتمت مأساة كربلاء كلّها بعد أيّام معدودات ولكنّها أيّام بقيت لها جريرة لم يحمدها طالب منفعة ولا طالب مروءة، ومضت مئات السّنين وهي لا تمحو آثار تلك الأيّام في تاريخ الشّرق والإسلام

١٠٣

١٠٤

هل أصاب؟

خطأ الشُهداء:

خروج الحُسينعليه‌السلام من مكّة إلى العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية؛ لأنّها حركة من أندر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السّياسية لا تتكرر كلّ يوم ولا يقوم بها كلّ رجل ولا يأتي الصواب فيها - إن أصابت - من نحو واحد ينحصر القول فيه، ولا يأتي الخطأ فيها - إن أخطأت - من سبب واحد يمتنع الاختلاف عليه، وقد يكون العرف فيها بين أصوب الصواب وأخطأ الخطأ فرقاً صغيراً من فعل المصادفة والتوفيق، فهو خليق أن يذهب إلى النقيضين.

هي حركة لا يأتي بها إلاّ رجال خُلقوا لأمثالها فلا تخطر لغيرهم على بال؛ لأنّها تعلو على حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب والدرب المطروق هي حركة فذّة يقدم عليها رجال أفذاذ، من اللغو أن ندينهم بما يعمله رجال من غير هذا المعدن وعلى غير هذه الوتيرة؛ لأنّهم يحسّون

١٠٥

ويفهمون ويطلبون غير الذي يحسّه ويفهمه ويطلبه اُولئك الرّجل

هي ليست ضربة مغامر من مغامري السّياسة، ولا صفقة مساوم من مساومي التجارة، ولا وسيلة متوسل ينزل على حكم الدُنيا أو تنزل الدُنيا على حكمه، ولكنّها وسيلة مَن يدين نفسه ويدين الدُنيا برأي من الآراء هو مؤمن به، مؤمن بوجوب إيمان النّاس به دون غيره، فإن قبلته الدُنيا قبلها، وإن لم تقبله فسيّان عنده فواته بالموت أو فواته بالحياة، بل لعلّ فواته بالموت أشهى إليه

هي حركة لا تُقاس إذن بمقياس المغامرات ولا الصفقات، ولكنّها تُقاس بمقياسها الذي لا يتكرر ولا يستعاد على الطلب من كلّ رجل أو في كلّ أوان ولا ننسى أنّ السنين الستين التي انقضت بعد حركة الحُسين، قد انقضت في ظل دولة تقوم على تخطئته في كلّ شيء وتصويب مقاتليه في كلّ شيء.

* * *

إنّ القول بصواب الحُسين معناه القول ببطلان تلك الدولة، والتماس العذر له معناه إلقاء الذنب عليها. وليس بخاف على أحد كيف ينسى الحياء وتبتذل القرائح أحياناً في تنزيه السلطان القائم وتأثيم السلطان

١٠٦

الذاهب. فليس الحكم على صواب الحُسين أو على خطئه إذن بالأمر الذي يرجع فيه إلى اُولئك الصنائع المتزلفين، الذين يرهبون سيف الدولة القائمة ويغنمون من عطائها، ولا لصنائع مثلهم يرهبون بعد ذلك سيفاً غير ذلك السيف ويغنمون من عطاء غير ذلك العطاء

إنّما الحكم في صواب الحُسين وخطئه لأمرين لا يختلفان باختلاف الزمان وأصحاب السلطان، وهُما البواعث النّفسية التي تدور على طبيعة الإنسان الباقية، والنتائج المقرّرة التي مثلت للعيان باتفاق الأقوال.

وبكلّ من هذين المقياسين القوسين نقيس حركة الحُسين في خروجه على يزيد بن معاوية، فنقول إنّه قد أصاب أصاب إذا نظرنا إلى بواعثه النّفسية التي تهيمن عليه ولا يتخيل العقل أن تهيمن عليه بواعث غيرها وأصاب إذا نظرنا إلى نتائج الحركة كلّها نظرة واسعة، لا يستطيع أن يُجادل فيها من يأخذ الاُمور بسنّة الواقع والمصلحة أو من يأخذ الاُمور بسنّة النجدة والمروءة

فما هي البواعث النّفسية التي قامت بنفس الحُسين يوم دُعي في المدينة بعد موت معاوية لمبايعة ابنه يزيد؟ هي بواعث تدعوه كلّها أن يفعل ما فعل ولا تدعو مثله إلى صنيع

١٠٧

غير ذلك الصنيع. وخير لبني الإنسان ألف مرّة أن يكون فيهم خلق كخلق الحُسين الذي أغضب يزيد بن معاوية، من أن يكون جميع بني الإنسان على ذلك الخلق الذي يرضى به يزيد

فأوّل ما ينبغي أن نذكره لفهم البواعث النّفسية التي خامرت نفس الحُسين في تلك المحنة الأليمة: إنّ بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرّة ولا بالبيعة التي يضمن لها الدوام في تقدير صحيح فهي بيعة نشأت في مهد الدس والتمليق، ولم يجسر معاوية عليها حتّى شجعه عليها من له مصلحة ملحّة في ذلك التشجيع

* * *

كان المغيرة بن شعبة والياً لمعاوية على الكوفة، ثمّ همّ بعزله وإسناد ولايته إلى سعيد بن العاص جرياً على عادته في إضعاف الولاة قبل تمكّنهم، وضرب فريق منهم بفريق حتّى يعينه بعضهم على بعض ولا يتفقوا عليه. فلمّا أحسّ المغيرة نية معاوية، قدم الشّام ودخل على يزيد وقال له، كالمستفهم المتعجّب: لا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟

ولم يكن يزيد نفسه يصدّق أنّه أهل لها أو أنّ بيعته ممّا يتم بين المسلمين على هيّنة، فقال للمغيرة: أو ترى ذلك يتمّ؟

١٠٨

فأراه المغيرة أنّه ليس بالعسير إذا أراده أبوه

وأخبر يزيد أباه بما قال المغيرة، فعلم هذا أنّ فرصته سانحة وأنّه سيبادل معاوية رشوة آجلة برشوة عاجلة يرشوه بإعانته على بيعة يزيد، ويأخذ منه الرّشوة ببقائه على ولاية الكوفة إلى أن يقضى في أمر هذه البيعة، وله في التمهيد لها نصيب

فلمّا لقي معاوية سأله هذا عمّا أخبره به يزيد، فأعاده عليه وهو يزخرفه له بما يرضيه، قال: قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف فاعقد له، فإن حدث بك حادث كان كهفاً للناس وخلفاً منك، ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة.

فسأله معاوية - وهو يتهيب ويتأنّى -: ومَن لي بذلك؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. فردّه معاوية إلى عمله كما كان يتمنّى، وأوصاه ومَن معه ألاّ يتعجّلوا بإظهار هذه النيّة ثمّ استشار زياد بن أبي سفيان، فأطلع هذا بعض خاصّته على الأمر وهو يقول: إنّ أمير المؤمنين يتخوف نفرة النّاس ويرجو طاعتهم ويزيد

١٠٩

صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد فألق أمير المؤمنين وأدّ إليه فعلات يزيد وقُل له رويدك بالأمر، فأحرى أن يتمّ لك ولا تعجل فإن دركاً في تأخير خير من فوت في عجلة.

فأشار عليه صاحبه: ألاّ يفسد على معاوية رأيه ولا يبغضه في ابنه. وعرض عليه أن يلقى يزيد فيخبره: إنّ أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في البيعة له، وإنّك تتخوف خلاف النّاس لهنات ينقمونها عليه، وإنّك ترى له ترك ما ينقم عليه لتستحكم له الحجّة على النّاس.

* * *

وقالوا: إنّ يزيد كفّ عن كثير مما كان يصنع بعد هذه النصيحة، وأنّ معاوية أخذ برأي زياد في التؤدة فلم يجهر بعقد البيعة حتّى مات زياد

وقد أحسّ معاوية الامتعاض من بيته قبل أن يحسّه من الغُرباء عنه، فكانت امرأته فاختة بنت قرطة بن حبيب بن عبد شمس، تكره بيعة يزيد وتودّ لو أثر بالبيعة ابنها عبد الله، فقالت له: ما أشار به عليك المغيرة أراد أن يجعل لك عدوّاً من نفسك يتمنّى هلاكك كلّ يوم.

واشتدّت نقمة مروان بن الحكم - وهو أقرب الأقرباء إلى معاوية -

١١٠

حين بلغته دعوة العهد ليزيد، فأبى أن يأخذ العهد له من أهل المدينة، وكتب إلى معاوية: إنّ قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك. فعزله معاوية من ولاية المدينة وولاّها سعيد بن العاص، فأوشك مروان أن يثور ويعلن الخروج وذهب إلى أخواله من بني كنانة فنصروه وقالوا له: نحن نبلك في يديك وسيفك في قرابك، فمَن رميته بنا أصبناه ومَن ضربته قطعناه الرّأي رأيك ونحن طوع يمينك

ثمّ أقبل مروان في وفد منهم كثير إلى دمشق، فذهب إلى قصر معاوية وقد أذن للناس، فمنعه الحاحب لكثرة من رأى معه فضربوه واقتحموا الباب، ودخل مروان وهُم معه حتّى سلّم على معاوية وأغلظ له القول، فخاف معاوية هذا الجمع من وجوه قومه، وترضّى مروان ما استطاع، وجعل له ألف دينار كلّ شهر ومئة لِمن كان معه من أهل بيته.

* * *

ولم يكن مروان وحده بالغاضب بين بني اُميّة من بيعة يزيد، بل كان سعيد بن عثمان بن عفان يرى أنّه أحقّ منه بالخلافة؛ لأنّه ابن عثمان الذي تذرّع معاوية إلى الخلافة باسمه، فقال لمعاوية:

١١١

يا أمير المؤمنين، علام تبايع ليزيد وتتركني؟! فوالله، لتعلم أنّ أبي خير من أبيه، واُمّي خير من اُمّه، وأنّك إنّما نلت ما نلت بأبي! فسرّى معاوية عنه، وقال له ضاحكاً هاشّاً: يابن أخي، أمّا قولك إنّ أباك خير من أبيه، فيوم من عثمان خير من معاوية؛ وأمّا قولك إنّ اُمّك خير من اُمّه، ففضل قرشية على كلبية فضل بيّن؛ وأمّا أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك، فإنّما الملك يؤتيه الله من يشاء؛ قُتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنو العاص، وقامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منّة عليك؛ وأمّا أن تكون خيراً من يزيد، فوالله ما أحبّ أنّ داري مملوءة رجالاً مثلك بيزيد، ولكن دعني من هذا القول وسلني أعطك. وولاّه خراسان

فكان أكبر بني اُميّة أعظمهم أملاً في الخلافة بعد معاوية، وكان بغضهم لبيعة يزيد على قدر أملهم فيها، وهؤلاء وإن جمعتهم مصلحة الاُسرة فترة من الزمن، لم تكن منافستهم هذه ليزيد بالعلامة التي تؤذن بالبقاء وتبشّره بالضمان والقرار وعلى هذا النحو ولدت بيعة يزيد بين التوجس والمساومة والإكراه وبهذه الجفوة قوبلت بين أخلص الأعوان وأقرب القرباء

وظهر من اللحظات الأولى، إنّ المغيرة بن شعبة كان سمساراً

١١٢

يصافق على ما لا يملك فقد ضمن الكوفة والبصرة ومنع الخلاف في غيرهما، فإذا الكوفة أوّل من كره بيعة يزيد، وإذا البصرة تتلكّأ في الجواب وواليها يرجئ الأمر ويوصي بالتمهّل فيه فلا يقدم عليه معاوية في حياته، وإذا أطراف الدولة من ناحية همذان تثور، وإذا بالحجاز يستعصي على بني اُميّة سنوات، وإذا باليمن ليس فيها نصير للاُمويّين، ولو وجدت خارجاً يعلن الثورة عليهم لكانت ثورتها كثورة الحجاز

بل يجوز أن يُقال - ممّا ظهر في حركة الحُسين كلّ الظهور - أنّ الشّام نفسها لم تنطوي على رجل يؤمن بحقّ يزيد وبطلان دعوى الحُسين، فقد كانوا يتحرجون من حرب الحُسين ويتسلل من استطاع منهم التسلل قبل لقائه، إلاّ أن يُهدد بقطع الأرزاق وقطع الرّقاب.

والحوادث التي تلت حركة الحُسين إلى ختام عهد يزيد أدلّ ممّا تقدّم على اضطراب عهده وقلّة ضمانه؛ لأنّ الأحداث والنذر لم تزل تتوالى بقية حياته وبعد موته بسنين.

ونحن اليوم نعلم من التاريخ كيف انتهت هذه الحوادث والنذر في عهد يزيد أو بعد عهده، فيخيّل إلينا أنّ عواقبها لم تكن تحتمل الشّك ولم يكن بها من خفاء، ولكن الذين استقبلوها كانوا خلقاء ألاّ يروا فيها طوالع مُلك تعنو له الرّؤوس ويرجى له طول البقاء.

١١٣

بواعث الخروج:

نعم كانت هناك ندحة عن الخروج لو كان يزيد في الخلافة رضى المسلمين من العقل والخلق وسلامة التدبير وعزّة الموئل والدولة، وكان المسلمون قد توافوا على اختياره لحبّهم إيّاه، وتعظيمهم لعقله وخلقه واطمئنانهم إلى سياسته واعتمادهم على صلاحه وإصلاحه

ولكنّه على نقيض ذلك، كان كما علمنا رجلاً هازلاً في أحوج الدول إلى الجد، لا يرجى له صلاح ولا يرجى منه إصلاح، وكان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة، قبض كلّ مساهم فيها ثمن رضاه ومعونته جهرة وعلانية من المال أو الولاية أو المصانعة، ولو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا وليّاً للعهد شرّاً من يزيد لما همّهم أن يبايعوه وإن تعطلت حدود الدين وتقوضت معالم الأخلاق.

وأعجب شيء أن يطلب إلى حُسين بن عليّ أن يبايع مثل هذا الرّجل ويزكّيه أمام المسلمين، ويشهد له عندهم أنّه نعم الخليفة المأمول صاحب الحقّ في الخلافة وصاحب القدرة عليها ولا مناص للحُسين من خصلتين: هذه أو الخروج؛ لأنّهم لن يتركوه بمعزل عن الأمر لا له ولا عليه.

* * *

١١٤

إنّ بعض المؤرّخين من المستشرقين وضعاف الفهم من الشرقيين ينسون هذه الحقيقة ولا يولونها نصيبها من الرجحان في كفّ الميزان، وكان خليقاً بهؤلاء أن يذكروا أنّ مسألة العقيدة الدينية في نفس الحُسين لم تكن مسألة مزاج أو مساومة، وأنّه كان رجلاً يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام، ويعتقد أشدّ الاعتقاد أنّ تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به وبأهله، وبالاُمّة العربيّة قاطبة في حاضرها ومصيرها؛ لأنّه مُسلم، ولأنّه سبط مُحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن كان إسلامه هداية نفس، فالإسلام عند الحُسين هداية نفس وشرف بيت.

وقد لبث بنو اُميّة بعد مصرعه ستين سنة يسبّونه ويسبّون أباه على المنابر، ولم يجسر أحد منهم قط على المساس بورعه وتقواه ورعايته لأحكام الدين في أصغر صغيرة يباشرها المرء سرّاً أو علانية، وحاولوا أن يعيبوه بشيء غير خروجه على دولتهم، فقصرت ألسنتهم وألسنة الصنائع والاُجراء دون ذلك.

فكيف يواجه مثل هذا الرّجل خطراً على الدين في رأس الدولة وعرش الخلافة مواجهة الهوادة والمشايعة والتأمين؟ وكيف يُسام أن يرشّح للإمامة مَن لا شفاعة له ولا كفاية فيه إلاّ أنّه ابن أبيه؟!

لقد كان أبوه معاوية على كفاءة ووقار وحنكة ودراية بشؤون الملك والرّئاسة، وكان له مع هذا نصحاء ومشيرون أولو براعة وأحلام تكبح

١١٥

من السلطان ما جمح وتقيم ما انحرف وتملي له فيما عجز عنه. وهذا ابنه القائم في مقامه لا كفاءة ولا وقار ولا نصحاء ولا مشيرون، إلاّ مَن كان عوناً على شرّ أو موافقاً على ضلالة، فما عسى أن تكون الشّهادة له بالصلاح للإمامة إلاّ تغريراً بالنّاس وقناعة بالسّلامة، أو الأجر المبذول على هذا التغرير؟

ثمّ هي خطوة لا رجعة بعدها إذا أقدم عليها الحُسين بما أثر عنه من الوفاء وصدق السّريرة، فإذا بايع يزيد فقد وفي له بقية حياته كما وفي لمعاوية بما عاهده عليه، ولا سيّما حين يُبايع يزيد على علم بكلّ نقيصة فيه قد يتعلل بها المتعلل لنقض البيعة وانتحال أسباب الخروج.

فمُلك يزيد لم يقم على شيء واحد يرضاه الحُسين لدينه أو لشرفه أو للاُمّة الإسلاميّة، ومن طُلب منه أن ينصر هذا الملك فإنّما يطلب منه أن ينصر ملكاً ينكر كلّ دعواه ولا يحمد له حالة من الأحوال، ولا تنس بعد هذا كلّه أنّ هذا الملك كان يقرر دعائمه في أذهان النّاس بالغض من الحُسين في سمعة أبيه وكرامة شيعته ومُريديه؛ فكانوا يسبّون عليّاً على المنابر وينعتونه بالكذب والمروق والعصيان، وكانوا يتحرون أنصاره حيث كانوا فيقهرونهم على سبّه والنيل منه بمشهد من النّاس، وإلاّ أصابهم العنت والعذاب وشهّروا في الأسواق بالصلب والهوان. فمجاراة هذه الاُمور كلّها في مفتتح مُلك جديد، معناه أنّها سنّة قد وجبت

١١٦

واستقرّت الجيل بعد الجيل بغير أمل في التغيير والتبديل. فمَن أقرّ هذه السنّة في مفتتح هذا الملك الجديد فقد ضعف أمله وضعف أمل أنصاره فيه يوماً بعد يوم، وازداد مع الزمن ضعفاً كما ازدادت حجّة خصومة قوّة عليه.

هذه هي البواعث النّفسية التي كانت تجيش في صدر الحُسين يوم دعاه أولياء بني اُميّة إلى مبايعة يزيد والنزول عن كلّ حقّ له ولأبنائه ولاُسرته في إمامة المسلمين، كائناً من كان القائم بالأمر وبالغاً ما بلغ من قلّة الصلاح وبطلان الحجّة، وهي بواعث لا تثنيه عن الخروج ولا تزال تلحّ عليه في اتخاذ طريق واحد من طريقين لا معدل عنهما، وهُما الخروج إن كان لا بدّ خارجاً في وقت من الأوقات، أو التسليم بما ليست ترضاه له مروءة ولا يرضاه له إيمان.

مصرع وانتصار:

أمّا نتائج الحركة كلّها - إذا نظرنا إليها نظرة واسعة - فهي أنجح للقضية التي كان ينصرها من مبايعة يزيد؛ فقد صُرع الحُسين عام خروجه، ولحق به يزيد بعد ذلك بأقلّ من أربع سنوات. ولم تنقض ستّ سنوات على مصرع الحُسين حتّى حاق الجزاء بكلّ

١١٧

رجل أصابه في كربلاء، فلم يكد يسلم منهم أحد من القتل والتنكيل مع سوء السمعة ووسواس الضمير، ولم تعمر دولة بني اُميّة بعدها عمر رجل واحد مديد الأجل، فلم يتمّ لها بعد مصرع الحُسين نيف وستون سنة وكان مصرع الحُسين هو الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتّى قضى عليها، وأصبحت ثارات الحُسين نداء كلّ دولة تفتح لها طريقاً إلى الأسماع والقلوب

ولإصابة هذه الحركة في نتائجها الواسعة؛ دخل في روع بعض المؤرّخين أنّها تدبير من الحُسين رضي الله عنه توخّاه منذ اللحظة الأولى، وعلم موعد النصر فيه، فلم يخامره الشك في مقتله ذلك العام، ولا في عاقبة هذه الفعلة التي ستحيق لا محالة بقاتليه بعد أعوام.

فقال ماربين الألماني في كتابه (السّياسة الإسلاميّة): إنّ حركة الحُسين في خروجه على يزيد، إنّما كانت عزمة قلب كبير عزّ عليه الإذعان، وعزّ عليه النصر العاجل؛ فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.

فإن لم يكن رأي الكاتب حقّاً كلّه، فبعضه على الأقلّ حقّ لا شكّ فيه ويصدق ذلك - في رأينا - على حركة الحُسين بعد أن حيل بينه وبين الذهاب لوجهه الذي يرتضيه، فآثر الموت كيفما كان ولم يجهل ما

١١٨

يحيق ببني اُميّة من جرّاء قتله فهو بالغ منهم بانتصارهم عليه ما لم يكن ليبلغه بالنجاة من وقعة كربلاء.

* * *

وقد جرى ذكر الموت على لسان الحُسين من خطوته الأولى وهو يتهيّأ للرحيل ويودّع أصحابه في الحجاز، فقال لهم:(( إنّ الموت حقّ على ولد آدم )). ولم يخفَ عليه أنّه يركب الخطّة التي لا يُبالي راكبها ما يصيبه من ذلك القضاء.

لكنّه لم يكن ييأس من إقناع النّاس والتفافهم به منذ خطوته الأولى، ولم يعقد عزمه على مُلاقاة الموت حتّى ساموه الرّغم، وأبوا عليه أن ينصرف إلى أيّ منصرف قبل التسليم المبين، مسوقاً على الكره منه إلى عبيد الله بن زياد

وتتباين آراء المتأخّرين خاصة في خروج الحُسين بنسائه وأبنائه، أكان هو الأحزم والأكرم؟ أم كان الأحزم والأكرم أن يخرج بمفرده حتّى يرى ما يكون من استجابة النّاس له، أو إعراضهم عنه وضعفهم في تأييده؟

وليس للمتأخّرين أن يقضوا في مسألة كهذه بعقولهم وعاداتهم؛ لأنّها مسألة يقضى فيها بحكم العقل العربي وعاداته في أشباه هذه المواقف. وقد

١١٩

كان اصطحاب النّساء والأبناء عادة عربيّة في البعوث التي يتصدى لها المرء متعمّداً القتال دون غيره، فضلاً عن البعوث التي قد تشتبك في القتال وقد تنتهي بسلام كبعثة الحُسين.

فكان المقاتلون في وقعة ذي قار يصطحبون حلائلهم وذراريهم، ويقطعون وضن الرواحل - أي أحزمتها - قبل خوض المعركة، وكان المسلمون والمشركون معاً يصطحبون الحلائل والذراري في غزوات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان مع المسلمين في حرب الروم صفوة نساء قريش وعقائل بيوتاتها، وكان النّبي (عليه الصّلاة والسّلام) يصطحب زوجة أو أكثر من زوجة في غزواته وحروبه، وحكم الواحدة هُنا حكم الكثيرات، وهي عادة عربيّة عريقة يقصدون بها الإشهاد على غاية العزم وصدق النيّة فيما هُم مقبلون عليه، وفي معلّقة ابن كلثوم إشارة مجملة إلى معنى هذه العادة العربيّة من قديم عصورها، حيث يقول:

على آثارِنا بيضٌ حسانٌ

نحاذرُ أنْ تُقسَّمَ أوْ تهونا

يقُتنَ جيادَنا ويقُلنَ لستمُ

بـعولتَنا إذا لمْ تمنعونا

وقد كان الحُسينرضي‌الله‌عنه يندب النّاس لجهاد يخوضونه إن

١٢٠