الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء18%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55376 / تحميل: 7449
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فلمّا أمنوا العيون بعد يوم أو يومين، سروا مع القمراء إلى حيث طلعت بهم على منظر لا يطلع القمر على مثله - شرفاً ولا وحشة - في الآباد بعد الآباد

وكان يوم المقتل في العاشر من المحرّم، فكان القمر في تلك الليلة على وشك التمام، فحفروا القبور على ضوئه، وصلّوا على الجثث ودفنوها، ثمّ غادروها هُناك في ذمّة التاريخ، فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متّفقين ومختلفين، ومن حقّه أن يطيف به كلّ إنسان؛ لأنّه عنوان قائم لأقدس ما يشرّف به هذا الحي الآدمي بين سائر الأحياء.

فما أظلّت قبّة السّماء مكاناً لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معنى الشّهادة وذكرى الشُهداء

١٦١

١٦٢

جزيرة كربلاء:

موطن الرّأس

اتفقت الأقوال في مدفن جسد الحُسينعليه‌السلام ، وتعددت أيما تعدد في موطن الرأس الشّريف، فمنها: أنّ الرأس قد اُعيد بعد فترة إلى كربلاء فدُفن مع الجسد فيها، ومنها: أنّه اُرسل إلى عمرو بن سعيد بن العاص وإلي يزيد على المدينة، فدفنه بالبقيع عند قبر اُمّه فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ومنها: أنّه وجد بخزانة ليزيد بن معاوية بعد موته، فدُفن بدمشق عند باب الفراديس، ومنها: أنّه كان قد طيف به في البلاد حتّى وصل إلى عسقلان، فدفنه أميرها هُناك وبقي بها حتّى استولى عليها الافرنج في الحروب الصليبية فبذل لهم الصالح طلائع - وزير الفاطميين بمصر - ثلاثين ألف درهم على أن ينقله إلى القاهرة حيث دُفن بمشهده المشهور.

قال الشّعراني في طبقات

١٦٣

الأولياء: إنّ الوزير صالح طلائع بن رزيك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس الشّريف ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودفن في المشهد الحُسيني قريباً من خان الخليلي في القبر المعروف.

وقال السائح الهروي في الإشارات إلى أماكن الزيارات: وبها - أي عسقلان - مشهد الحُسينرضي‌الله‌عنه ، كان رأسه بها، فلمّا أخذتها الفرنج نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة تسع وأربعين وخمسمئة.

وفي رحلة ابن بطوطة: أنّه سافر إلى عسقلان وبه المشهد الشهير حيث كان رأس الحُسين بن عليعليه‌السلام ، قبل أن يُنقل إلى القاهرة.

وذكر سبط بن الجوزي فيما ذكر من الأقوال المتعددة: أنّ الرأس بمسجد الرّقة على الفُرات، وأنّه لما جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: لأبعثنّه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان. وكانوا بالرّقة، فدفنوه في بعض دورهم، ثمّ دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سوره هُناك.

فالأماكن التي ذكرت بهذا الصدد ستّة في ست مُدن هي: المدينة، وكربلاء، والرّقة، ودمشق، وعسقلان، والقاهرة، وهي تدخل في بلاد الحجاز والعراق والشّام وبيت المقدس والديار المصرية، وتكاد

١٦٤

تشتمل على مداخل العالم الإسلامي كلّه من وراء تلك الأقطار، فإن لم تكن هي الأماكن التي دُفن فيها رأس الحُسين فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء.

وللتاريخ اختلافات كثيرة نسميها بالاختلافات اللفظية أو العرضية؛ لأنّ نتيجتها الجوهرية سواء بين جميع الأقوال، ومنها الاختلاف على مدفن رأس الحُسينعليه‌السلام . فأيّاً كان الموضع الذي دُفن به ذلك الرأس الشّريف، فهو في كلّ موضع أهل للتعظيم والتشريف.

وإنّما أصبح الحُسين - بكرامة الشّهادة وكرامة البطولة وكرامة الاُسرة النّبويّة - معنى يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره، وأنّ هذا المعنى لفي القاهرة، وفي عسقلان، وفي دمشق، وفي الرّقة، وفي كربلاء، وفي المدينة، وفي غير تلك الأماكن سواء.

وقاحة ابن زياد:

فالمتواتر الموافق لسير الاُمور أنّهم حملوا الرؤوس والنساء إلى الكوفة، فأمر ابن زياد أن يُطاف بها في أحياء الكوفة ثمّ تُرسل إلى يزيد. وكانت فعلة يدارونها بالتوقّح فيها على سنّة المأخوذ الذي لا يملك

١٦٥

مداراة ما فعل. فبات خولّي بن يزيد ليلته بالرأس في بيته، وهو يمني نفسه بغنى الدهر كما قال، فأقسمت امرأة له حضرمية: لا يجمع رأسها ورأسه بيت وفيه رأس ابن رسول الله.

ثمّ غدا إلى قصر ابن زياد وكان عنده زيد بن أرقم - من أصحاب رسول الله - فرآه ينكث ثنايا الرأس حين وضع أمامه في أجانة، فصاح به مغضباً: ارفع قضيبك عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين يقبّلهما وبكى.

فهزئ به ابن زياد وقال له: لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، لضربت عنقك. فخرج زيد وهو يُنادي في النّاس، غير حافل بشيء: أنتم معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وآثرتم ابن مرجانة، فهو يقتل شراركم ويستعبد خياركم.

واُدخلت السّيدة زينب بنت عليّ (رضي الله عنها)، وعليها أرذل ثيابها، ومعها عيال الحُسين وإماؤها، فجلست ناحية لا تتكلم ولا تنظر إلى ما أمامها، فسأل ابن زياد: مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟

١٦٦

فلم تجبه، فأعاد سؤاله ثلاثاً وهي لا تجيبه، ثمّ أجابت عنها إحدى الإماء: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فاجترأ ابن زياد قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم.

وقد كانت زينب (رضي الله عنها) حقّاً جديرة بنسبها الشّريف في تلك الرحلة الفاجعة التي تهدّ عزائم الرجال كانت كأشجع وأرفع ما تكون حفيدة مُحمّد وبنت عليّ وأخت الحُسين، وكُتب لها أن تحفظ بشجاعتها وتضحيتها بقية العقب الحُسيني من الذكور ولولاها لانقرض من يوم كربلاء فلم تمهل ابن زياد أن ثارت به قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله.

فقال ابن زياد: قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعُصاة. فغلبها الحزن والغيظ من هذا التشفّي الذي لا ناصر لها منه، وقالت: لقد قتلت كهلي، وأبدت أهلي، وقطعت فرعي واجتثثت

١٦٧

أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.

فتهاتف ابن زياد ساخراً وقال: هذه سجّاعة لعمري، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت زينب: إنّ لي عن السّجاعة لشغلاً ما للمرأة والسّجاعة!

عليّ زين العابدينعليه‌السلام

ثمّ نظر ابن زياد إلى غلام عليل هزيل مع السيّدة زينب فسأله: مَن أنت؟ قال:(( عليّ بن الحُسين )) . قال: أو لم يقتل الله عليّ بن الحُسين؟ قال:(( كان لي أخ يُسمى عليّاً قتله النّاس )) .

فأعاد ابن زياد قوله: الله قتله. فقال عليّ:(( ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا (١) .وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (٢) )).

فأخذت زياداً عزّة الإثم وانتهره قائلاً: وبك جرأة لجوابي؟!

____________________

(١) سورة الزمر / ٤٢.

(٢) سورة آل عمران / ١٤٥.

١٦٨

وصاح الخبيث الأثيم بجنده: اذهبوا به فاضربوا عُنقه.

فجاشت بعمّة الغلام قوّة لا يردّها سلطان، ولا يرهبها سلاح؛ لأنّها قوّة مَن هان لديه الموت وهانت عليه الحياة، فاعتنقت الغلام اعتناق مَن اعتزم ألاّ يفارقه إلاّ وهو جثة هامدة، وأقسمت لئن قتلته لتقتلني معه، فارتدّ ابن زياد مشدوهاً وهو يقول متعجباً: يا للرحم! إنّي لأظنها ودّت أنّي قتلتها معه. ثمّ قال: دعوه لما به كأنّه حسب أنّ العلّة قاضية عليه.

وعليّ هذا هو زين العابدين جدّ كلّ منتسب إلى الحُسينعليهما‌السلام ، وكان كما قال ابن سعد في الطبقات: ثقة كثير الحديث عالياً رفيعاً ورعاً. وكما قال يحيى بن سعيد: أفضل هاشمي رأيته في المدينة ولولا استماتة عمّته - كما ترى - لقد كادت تذهب بهذه البقية الباقية كلمة على شفتي ابن زياد

الرّأس عند يزيد:

ولما قضى الخبيث نهمة كيده من الطواف برأس الحُسين في الكوفة وأرباضها، أنفذه ورؤوس أصحابه إلى دمشق مرفوعة على الرّماح، ثمّ أرسل النّساء والصبيان على الأقتاب، وفي الكرب عليّ زين العابدين مغلول إلى عنقه يقوده شمر بن ذي الجوشن ومحضر بن ثعلبة فتلاحق

١٦٩

الركبان في الطريق ودخلا الشّام معاً إلى يزيد.

وتكرر منظر القصر بالكوفة في قصر دمشق عند يزيد ولا نستغرب أن يتكرر بعضه حتّى يظنّ أنّه قد وقع في التاريخ خلط بين المنظرين؛ لأنّ المناسبة في هذا المقام تستوحي ضرباً واحداً من التعقيب وضرباً واحداً من الحوار

فارتاع مَن بمجلس يزيد من نبأ المقتلة في كربلاء حين بلغتهم، وقال يحيى بن الحكم - وهو من الاُمويّين -:

لـهامٌ بـجنبِ الـطفِّ أدنـى قرابةً

من ابنِ زياد الوغلِ ذي الحسبِ الوغلِ

سُـميّةُ أمـسى نـسلُها عدد الحصى

وبـنتُ رسـول الله ليستْ بذي نسلِ

فأسكته يزيد وقال وهو يشير إلى الرأس وينكث ثناياه بقضيب في يده: أتدرون من أين اُتي هذا؟ إنّه قال: أبي عليّ خير من أبيه، واُمّي فاطمة خير من اُمّه، وجدّي رسول الله خير من جدّه، وأنا خير منه وأحقّ بهذا الأمر

فأمّا أبوه فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله وعلم النّاس أيّهما حُكم له؛ وأمّا اُمّه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي؛ وأمّا جدّه فلَعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلاً ولا ندّاً، ولكنّه اُتي من قبل فقهه ولم يقرأ:( قُلْ اللَّهُمَّ

١٧٠

مَالِكَ الملْكِ تُؤْتِي الملْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الملْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (١) .

وهو كلام يُنسب مثله إلى معاوية في ردّه على حجج عليّ في الخلافة ولعلّ يزيد قد استعاره من كلام أبيه وزاد عليه.

ونظر بعض أهل الشّام إلى السيّدة فاطمة بنت الحُسين - وكانت جارية وضيئة - فقال ليزيد: هَب لي هذه. فأرعدت وأخذت بثياب عمّتها فكان لعمّتها في الذود عنها موقف كموقفها بقصر الكوفة، ذياداً عن أخيها زين العابدين، وصاحت بالرجل: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له. فتغيّظ يزيد وقال: كذبت، إنّ ذلك لي، ولو شئت لفعلت. قالت: كلاّ والله، ما جعل الله لك ذلك، إلاّ أنْ تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا.

فاشتدّ غيظ يزيد وصاح بها: إيّاي تستقبلين بهذا؟! إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك. قالت: بدين الله ودين أبي وأخي وجدّي اهتديت أنت وأبوك وجدّك. فلم يجد جواباً غير أن يقول: بل كذبت يا عدوة الله. فقالت: أنت أمير تشتم ظالماً، وتقهر بسلطانك.

فأطرق وسكت

____________________

(١) سورة آل عمران / ٢٦.

١٧١

واُدخل عليّ بن الحُسين مغلولاً، فأمر يزيد بفكّ غلّه وقال له: إيه يابن الحُسين أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني، فصنع الله به ما رأيت.

قال عليّ:(( ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (١) )). فتلا يزيد الآية:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (٢) . ثمّ زوى وجهه وترك خطابه.

وكان لقاء نساء يزيد خيراً من لقائه؛ فواسين السيّدة زينب والسيّدة فاطمة ومن معهما، وجعلن يسألنهن عمّا سلبنه بكربلاء فيرددن إليهن مثله وزيادة عليه. وأحبّ يزيد أن يستدرك بعض ما فاته، فلجأ إلى النعمان بن بشير واليه الذي عزله من الكوفة لرفقه بدعاة الحُسين وأمره أن يُسيّر آل الحُسين إلى المدينة ويُجهّزهم بما يصلحهم.

وقيل: إنّه ودّع زين العابدين، وقال له: لعن الله ابن مرجانة أما والله، لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلاّ أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكنّ الله قضى ما رأيت. يا بُني، كاتبني من المدينة، وأنّه إليَّ كلّ حاجة تكون لك.

____________________

(١) سورة الحديد / ٢٢ - ٢٣.

(٢) سورة الشّورى / ٣٠.

١٧٢

تبعة يزيد:

والنّاس في تقدير التبعة التي تصيب يزيد من عمل ولاته مشارب وأهواء، يرجع كلّ منهم إلى مصدر من مصادر الرواية فيبني عليه حكمه.

فمنهم مَن يرى أنّه بريء من التبعة كلّ البراءة، ومنهم مَن يرى أنّه أقرّ فعلة ابن زياد ثمّ ندم عليها، ومنهم مَن يقول أنّه قد أمر بكلّ ما اقترفه ابن زياد وتوقّع حدوثه ولم يمنعه وهو مستطيع أن يمنعه لو شاء.

والثابت الذي لا جدال فيه، إن يزيداً لم يعاقب أحداً من ولاته كبر أو صغر على شيء ممّا اقترفوه في فاجعة كربلاء، وأنّ سياسته في دولته بعد ذلك كانت هي سياسة اُولئك الولاة على وتيرة واحدة ممّا حدث في كربلاء، فاستباحة المدينة - دار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله -، وتحكيم مسلم بن عقبة في رجالها ونسائها، ليست بعمل رجل ينكر سياسة كربلاء بفكره وقلبه، أو سياسة رجل تجري هذه الحوادث على نقيض تدبيره وشعوره.

وما زال يزيد وأخلافه يأمرون النّاس بلعن عليّ والحُسين وآلهما على المنابر في أرجاء الدولة الإسلاميّة، ويستفتون مَن يفتيهم بإهدار دمهم وصواب عقابهم بما أصابهم. ومَن تجب لعنته على المنابر بعد موته بسنين، فقتله جائز أو واجب في رأي لاعنيه.

ومَن أفرط في سوء الظن، رجح عنده أنّ عبيد الله بن زياد كان على

١٧٣

إذن مستور بكلّ ما صنع، ويملي لهم في هذا الظن، أنّ استئصال ذرّيّة الحُسين من الذكور خطة تهمّ يزيد لوراثة الملك في بيته وعقبه، ويفيده أن يقدم عليها مستتراً من وراء ولاته ثمّ ينصل منها ويلقي بتبعتها عليهم، ولو لم يكن ذلك لكان عجيباً أنْ توكل حياة الحُسين وأبنائه وآله إلى والي الكوفة بغير توجيه من سيده ومولاه فقد كان الزمن الذي انقضى منذ خروج الحُسين من مكّة إلى نزوله بالطفّ على الفُرات، كافياً لبلوغ الخبر إلى يزيد ورجوع الرّسل بالتوجيه الضروري في هذا الموقف لوالي الكوفة وغيره من الولاة، فإن لم يكن الأمر تدبيراً متّفقاً عليه فهو المساءة التي تلي ذلك التدبير في السوء والشناعة، وهي مساءة التهاون الذي لا تستقيم على مثله شئون دولة.

وقد روى ابن شريح اليشكري: أنّ عبيد الله صارحه بعد موت يزيد فقال: أمّا قتلي الحُسين، فإنّه أشار إليَّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله. وهو كلام متّهم لا تقوم به حجّة على غائب قضى نحبه

ويبدو لنا أنّ الظنّ بتهاون يزيد هُنا أقرب إلى الظنّ بإيعازه وتدبيره؛ لأنّه جرى عليه طوال حكمه وألقى حبل ولاته على غاربهم وهو لاهٍ بصيده وعبثه، وأنّه ربما ارتاح في سريرته بادئ الأمر إلى فعلة ابن زياد وأعوانه، ولكنّه ما عتم أن رأى بوادر العواقب توشك أنْ تطبق عليه بالوبال من كلّ جانب، حتّى تيقّظ من غفلته بعد فوات الوقت فعمد إلى المحاسنة والاستدراك جهد ما استطاع، ولم يكن في

١٧٤

يقظته على هذا معتصماً بالحكمة والسّداد.

ولقد رأى البوادر منه غير بعيد، ولما تنقض ساعة على ذيوع الخبر في بيته قبل عاصمة ملكه فنعى ابن الحكم فعلة ابن زياد، وناح نساؤه مشفقات من هول ما سمعن ورأين، وبكى ابنه الورع الصالح معاوية، فكان يقول إذا سُئل: نبكي على بني اُميّة لا على الماضين من بني هاشم. ومهما تكن غفلة يزيد، فما أحد قط يلمح تلك البوادر ثمّ يجهل أنّها ضربة هوجاء لن تذهب بغير جريرة، ولن تهون جريرتها في الحاضر القريب ولا في الآتي البعيد.

والواقع أنّها قد استتبعت بعدها جرائر شتّى لا جريرة واحدة، وما تنقضي جرائرها إلى اليوم فلم تنقض سنتان حتّى كانت المدينة في ثورة حنق جارف يقتلع السدود ويخترق الحدود؛ لأنّهم حملوا إليها خبر الحُسين محمل التشهير والشماتة، وضحك واليهم عمرو بن سعيد حين سمع أصوات البكاء والصراخ من بيوت آل النّبي، فكان يتمثّل قول عمرو بن معد يكرب:

عجّتْ نساءُ بني زيادٍ عجّةً

كعجيجِ نسوتِنا غداةَ الأرنبِ

١٧٥

وكانت بنت عقيل بن أبي طالب تخرج في نسائها حاسرة وتنشد:

مـاذا تـقولونَ إنْ قال النّبيُّ لكُمْ

مـاذا فـعلتُمْ وأنـتم آخـر الاُممِ

بـعترتي وبـأهلي بـعد مُفتَقدي

مـنهُمْ أسارى ومنهمْ ضُرّجوا بدمِ

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكُمْ

أنْ تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

فكان الاُمويّون يجيبون بمثل تلك الشماتة، ويقولون كما قال عمرو بن سعيد: ناعية كناعية عثمان.

ولا موضع للشماتة هُنا بالحُسين؛ لأنّه قد اُصيب على باب عثمان وهو يذود عنه ويجتهد في سقيه وسقي آل بيته ولكنّها شماتة هوجاء لا تعقل ما تصنع ولا ما تقول.

ثورة المدينة:

وللقدر المتاح لجّت بالولاة الاُمويّين رغبتهم في تلفيق المظاهرات الحجازية، فلم يرعوا ما بأهل المدينة من الحزن اللاعج والأسى الدفين، وجعلوا همهم كلّه أنْ يكرهوا القوم على نسيان خطب الحُسين واصطناع الولاء المغتصب ليزيد، فحملوا إلى دمشق وفداً من أشراف

١٧٦

المدينة لم يلبثوا أنْ عادوا إليها منكرين لحكم يزيد مجمعين على خلع بيعته، وراحوا يقولون لأهل المدينة: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الخراب.

وقال رئيسهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري - وهو ثقة عند القوم لصلاحه وزهده -: لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء - وكان له ثمانية بنين - لجاهدت بهم، وقد أعطاني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوّى به.

والتهبت نار الثورة بالألم المكظوم والدعوة الموصولة، فأخرج المدنيون والي يزيد وجميع مَن بالمدينة من الاُمويّين ومواليهم، وأعلنوا خلعهم للبيعة وصدق ابن حنظلة النيّة، فكان يقدّم بنيه واحداً بعد واحد حتّى قُتلوا جميعاً وقُتل بعدهم؛ أنفة من حياة يسام فيها الطاعة ليزيد وولاته.

وبدا في ثورة المدينة أنّ يزيد لم يستفد كثيراً ولا قليلاً من عبرة كربلاء؛ لأنّه سلّط على أهلها رجلاً لا يقلّ في لؤمه وغلّه وسوء دخلته، وولعه بالشر والتعذيب، وعبثه بالتقتيل والتمثيل، عن عبيد الله بن زياد، وهو مسلم بن عقبة المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، وأن يستبيح مدينتهم ثلاثة أيّام إنْ لم يبادروا إلى طاعته، وكان شرطه

١٧٧

الذي سامهم إيّاه بعد اقتحام المدينة وانقضاء الأيّام الثلاثة التي انتظر فيها طاعتهم: إنّهم يبايعون أمير المؤمنين على أنّهم خول له، يحكم في دمائهم وأموالهم ما شاء.

وإذا كان شيء أثقل على النّفوس من هذا الشّرط، وأقبح في الظلم من استباحة الأرواح والأعراض في جوار قبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فذاك هو ولاية هذا النكال بيد مجرم مفطور على الغل والضغينة مثل مُسلم بن عقبة، كأنّه يلقي على النّاس وزر؛ مرض النفس ومرض الجسد ومرض الدم الذي أبلاه، ولم يبل ما في طويته من رجس ومكيدة، فاستعرض أهل المدينة بالسّيف جزراً كما يجزر القصاب الغنم، حتّى ساخت الأقدام في الدم، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار.

وأوقع - كما قال ابن كثير - من المفاسد العظيمة في المدينة النّبويّة ما لا يحد ولا يوصف ولم يكفه أن يسفك الدماء ويهتك الأعراض حتّى يلتذّ بإثارة الآمال والمخاوف في نفوس صرعاه قبل عرضهم على السيف، فلمّا جاؤوه بمعقل بن سنان - صاحب رسول الله - هشّ له وتلقّاه بما يطمعه، ثمّ سأله: أعطشت يا معقل؟ حوصوا له شربة من سويق اللوز الذي زودنا به أمير المؤمنين. فلمّا شربها قال له: أما والله، لا تبولها من مثانتك أبداً وأمر بضرب عنقه.

ويروي ابن قتيبة: أنّ عدد مَن قُتل من الأنصار والمهاجرين والوجوه

١٧٨

ألف وسبعمئة، وسائرهم من النّاس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان.

وحادث واحد من حوادث التمثيل والاستباحة يدلّ على سائر الحوادث من أمثاله دخل رجل من جند مُسلم بن عقبة على امرأة نفساء من نساء الأنصار ومعها صبي لها، فقال: هل من مال؟ قالت: لا والله، ما تركوا لنا شيئاً. قال: والله، لتخرجنّ إليَّ شيئاً أو لأقتلنّك وصبيك هذا. فقالت له: ويحك! إنّه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله. فأخذ برجلِ الصبي والثدي في فمه، فجذبه من حجرها فضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض.

وهو مثل من أمثال قد تكررت بعدد تلك البيوت التي قتل فيها اُولئك الألوف من النّسوة والأطفال، والآباء والاُمّهات وقد مات هذا السّفاح وهو في طريقه إلى مكّة يهمّ بأن يعيد بها ما بدأ بالمدينة فدُفن في الطريق وتعقّبه بعض الموتورين من أهل المدينة فنبشوا قبره وأحرقوه.

جريرة العدل:

ولم تنقض سنوات أربع على يوم كربلاء حتّى كان يزيد قد قضى نحبه، ونجمت بالكوفة جريرة العدل التي حاقت بكلّ مَن مدّ يداً إلى الحُسين وذويه

١٧٩

فسلط الله على قاتلي الحُسين كفؤاً لهم في النقمة والنكال، يفلّ حديدهم بحديده ويكيل لهم بالكيل الذي يعرفونه، وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي داعية التوابين من طلاب ثأر الحُسين، فأهاب بأهل الكوفة أن يكفّروا عن تقصيرهم في نصرته، وأن يتعاهدوا على الأخذ بثأره فلا يبقين من قاتليه أحد ينعم بالحياة، وهو دفين مذال القبر في العراء

فلم ينجُ عبيد الله بن زياد، ولا عمرو بن سعد، ولا شمر بن ذي الجوشن، ولا الحصين بن نمير، ولا خولّي بن يزيد، ولا أحد ممّن اُحصيت عليهم ضربة أو كلمة، أو مدّوا أيديهم بالسلب والمهانة إلى الموتى أو الأحياء.

وبالغ في النقمة فقتل وأحرق ومزّق وهدم الدور وتعقّب الهاربين، وجوزي كلّ قاتل أو ضارب أو ناهب بكفاء عمله؛ فقُتل عبيد الله واُحرق، وقُتل شمر بن ذي الجوشن واُلقيت أشلاؤه للكلاب، ومات مئات من رؤسائهم بهذه المثلات، وألوف من جندهم وأتباعهم مغرقين في النهر أو مطاردين إلى حيث لا وزر لهم ولا شفاعة فكان بلاؤهم بالمختار عدلاً لا رحمة فيه، وما نحسب قسوة بالآثمين سلمت من اللوم أو بلغت من العذر ما بلغته قسوة المختار.

ولحقت الجريرة الثالثة بأعقاب الجريرة الثانية في مدى سنوات معدودات

١٨٠

فصمد الحجاز في ثورته أو في تنكره لبني اُميّة إلى أيّام عبد الملك بن مروان، وكان أخرج الفريقين من سبق إلى أحرج العملين. وأحرج العملين ذاك الذي دفع إليه - أو اندفع إليه - الحجاج عامل عبد الملك فنصب المنجنيق على جبال مكّة، ورمى الكعبة بالحجارة والنيران فهدمها، وعفى على ما تركه منها جنود يزيد بن معاوية، فقد كان قائده الذي خلّف مُسلم بن عقبة وذهب لحصار مكّة أوّل مَن نصب لها المنجنيق وتصدى لها بالهدم والإحراق.

وما زالت الجرائر تتلاحق حتّى تقوض من وطأتها ملك بني اُميّة، وخرج لهم السّفاح الأكبر وأعوانه في دولة بني العبّاس فعمّوا بنقمتهم الأحياء والموتى، وهدموا الدور، ونبشوا القبور، وذكر المنكوبون بالرّحمة فتكات المختار بن أبي عبيد، وتجاوز الثأر كلّ مدى خطر على بال هاشم واُميّة يوم مصرع الحُسينعليه‌السلام .

لقد كانت ضربة كربلاء، وضربة المدينة، وضربة البيت الحرام، أقوى ضربات اُميّة لتمكين سلطانهم وتثبيت بنيانهم وتغليب ملكهم على المنكرين والمنازعين فلم ينتصر عليهم المنكرون والمنازعون بشيء كما انتصروا عليهم بضربات أيديهم ولم يذهبوا بها ضاربين حقبة حتّى ذهبوا بها مضروبين إلى آخر الزمان.

وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء فإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد الأيّام، وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب إذا وضعت الأعمار المنزوعة في الكفتين

١٨١

١٨٢

نهاية المطاف

مَن الظافِر؟

غبن أن يفوت الإنسان جزاؤه الحقّ على عمله وخُلقه وأثقل منه في الغبن أن ينقلب الأمر فيُجزى المحسن بالإساءة، ويُجزى المسيء بالإحسان.

وقد تواضع النّاس منذ كانوا على معنى للتاريخ والأخلاق، ووجهة للشريعة والدين والجزاء الحقّ هو الوجهة الواحدة التي تلتقي فيها كلّ هذه المقاصد الرفيعة فإذا بطل الجزاء اُلحق ففي بطلانه الإخلال كلّ الإخلال بمعنى التاريخ والأخلاق، ولباب الشرائع والأديان، وفيه حكم على الحياة بالعبث وعلى العقل الإنساني بالتشويه والخسار.

والجزاء الحقّ غرض مقصود لذاته يحرص عليه العقل الإنساني كرامة لنفسه ويقيناً من صحته وحسن أدائه، كالنّظر الصحيح نحسبه

١٨٣

هو غرضاً للبصر يرتاح إلى تحقيقه ويحزن لفواته وإن لم يكن وراء ذلك ثواب أو عقاب؛ لأنّ النّظر الصحيح سلامة محبوبة والإخلال به داء كريه.

ولا يستهدف هذا القسطاس المستقيم لمحنة من محنه التي تزري بكرامة العقل الإنساني، كاستهدافه لها وهو في مصطدم التضحية والمنافع، أو في الصراع بين الشُهداء وأصحاب الطمع والحيلة ففي هذا المصطدم يبدو للنظرة الأولى أنّ الرجل قد أضاع كلّّ شيء وانهزم، وهو في الحقيقة غانم ضافر.

ويبدو لنا أنّه قد ربح كلّ شيء وانتصر وهو في الحقيقة خاسر مهزوم؛ ومن هُنا يدخل التاريخ ألزم مداخله وأبينها عن قيمة البحث فيه؛ لأنّه المدخل الذي يفضي إلى الجزاء الحقّ والنتيجة الحقّة، وينتهي بكلّ عامل أفلح أو أخفق في ظاهر الأمر إلى نهاية مطافه وغاية مسماه في الأمد الطويل.

وقد ظفر التاريخ في الصراع بين الحُسين بن عليّ ويزيد بن معاوية بميزان من أصدق الموازين التي تُتاح لتمحيص الجزاء الحقّ في أعمال الشُهداء وأصحاب الطمع والحيلة، فقلّما تُتاح في أخبار الاُمم شرقاً أو غرباً عبرة

١٨٤

كهذه العبرة بوضوح معالمها أو أشواطها، وفي تقابل النصر والهزيمة فيها بين الطوالع والخواتم، على اختلاف معارض النصر والهزيمة فيزيد في يوم كربلاء هو صاحب النصر المؤزّر الذي لا يشوبه خذلان، وحُسين في ذلك اليوم هو المخذول الذي لم يطمح خاذله من وراء الظفر به إلى مزيد ثمّ تنقلب الآية أيما انقلاب، ويقوم الميزان، فلا يختلف عارفان بين كفّة الرّجحان وكفّة الخسران وهذا الذي قصدنا إلى تبيينه وجلائه بتسطير هذه الفصول.

* * *

وما من عبرة أولى من هذه بالتبيين والجلاء لدارس التاريخ ودارس الحياة وطالب المعنى البعيد في أطوار هذا الوجود.

ولسنا نقول إنّ الصراع بين الحُسين ويزيد مثل جامع لكلّ ألوان الصراع بين الشّهادة والمنفعة أو بين الإيمان والمآرب الأرضية؛ فإنّ لهذا الصراع لألواناً تتعدّد ولا تتكرر على هذا المثال، وإنّ له لَعناصر لم تجتمع

١٨٥

كلّها في طرفي الخصومة بين الرّجلين، وأشواطاً لم تتخذ الطريق الذي اتخذته هذه الخصومة في البداية أو النّهاية.

ولسنا نقول إنّ الصراع بين الحُسين ويزيد مثل جامع لكلّ ألوان الصراع وتفرّدها بارزة ماثلة للتأمل والتعقيب، وهي أنّ مسألة الحُسين ويزيد قد كانت صراعاً بين خلقين خالدين، وقد كانت جولة من جولات هذين الخلقين اللذين تجاولا أحقاباً غابرات، ولا يزالان يتجاولان فيما يلي من الأحقاب، وقد أسفرا عن نتيجة فاصلة ينفرد لها مكان معروف بين سائر الجولات، وليست جولة اُخرى منهن بأحقّ منها بالتعليق والتصديق.

ووجهتنا من هذه العبرة أن يُعطى كلّ خُلق من أخلاق العاملين حقّه بمعيار لا غبن فيه، فإذا سعى أحد بالحيلة فخدع النّاس وبلغ مأربه فليكن ذلك مغنمه وكفى، ولا ينفعه ذلك في استلاب السمعة المحبوبة والعطف الخالص والثناء الرفيع وإذا خسر أحد حياته في سبيل إيمانه فلتكن تلك خسارته وكفى، ولا ينكب فوق ذلك بخسارة في السمعة والعطف والثناء.

فلو جاز هذا لكان العطف الإنساني أزيف ما عرفناه في هذه الدُنيا من الزيوف؛ لأنّ خديعة واحدة تشتريه وتستبقيه، وما من زيف في

١٨٦

العروض الاُخرى إلاّ وهو ينطلي يوماً وينكشف بقية الأيّام.

* * *

وإذا كان احتيال الإنسان لنفسه معطيه كلّ ما تهبه الدُنيا من غنم النفع والمحبّة والثناء، فقد ربح المحتالون وخسر نوع الإنسان، وإذا كانت خسارة المرء في سبيل إيمانه تجمع عليه كلّ خسارة، فالأحمق الفاشل من يطلب الخير للناس ويغفل عن نفسه في طلابه.

فكفى الواصل ما وصل إليه وكثير عليه أن يطمع عند الخلف والسلف فيما ادخرته الإنسانيّة من الثناء والعطف لِمن يكرمونها بفضيلة الشّهادة والتضحية، ويخسرون. وهذا الفيصل العادل أعدل ما يكون فيما بين الحُسين ويزيد

فإذا قيل: إنّ معاوية قد عمل وقد أفلح بالحيلة والدهاء، فيزيد لم يعمل ولم يفلح بحيلة ولا دهاء، ولكنّه ورث المنافع التي يشتري بها الأيدي والسّيوف، فجال بها جولة رابحة في كفاح الضمائر والقلوب، فينبغي ألاّ يربح بهذه الوسيلة؛ فأمّا وقد ربح فينبغي أن يقف الرّبح عند ذاك، وينبغي للعذر الكاذب والثناء المأجور ألاّ يحسبا على النّاس بحساب العذر الصادق والثناء الجميل.

وقد تزلّف إلى يزيد مَن يتزلفون إلى أصحاب المال والسُلطان ثمّ

١٨٧

أخذوا اُجورهم، فينبغي أن يقوم ذلك الثناء بقيمة تلك الاُجور وأن يكون ما قبضوه من أجرٍ غاية ما استحقوه إنْ كانوا مستحقيه؛ أمّا أنّ يُضاف ثناء الخلود إلى صفقة اُولئك المأجورين، فقد أصبح ثناء الخلود إذن صفقة بغير ثمن، أو هو علاوة مضمونة على صفقة كلّ مأجور.

إنّ صاحب الثناء المبذول لا يسأل عن شيء غير العطاء المبذول، ولكن التاريخ خليق أن يسأل عن أعمال وأقوال قبل أن يبذل ما لديه من ثناء. وليس في تاريخ يزيد عمل واحد صحيح أو مدعى، ولا كلمة واحدة صحيحة أو مدعاة تقيمه؛ بحيث أراده المأجورون من العذر الممهد والمدح المعقول، أو تخوّله مكان الترجيح في الموازنة بينه وبين الحُسين

كلّ أخطائه ثابتة عليه، ومنها - بل كلّها - خطؤه في حقّ نفسه ودولته ورعاياه، وليس له فضل واحد ثابت ولا كلمة واحدة مأثورة تنقض ما وصفه به ناقدوه وعائبوه؛ فقد كانت له ندحة عن قتل الحُسين، وكان يخدم نفسه ودولته لو أنّه استبقاه حيث يتقيه ويرعاه

وكانت له ندحة عن ضرب الكعبة، واستباحة المدينة، وتسليط أمثال مُسلم بن عقبة وعبيد الله بن زياد على خلائق الله. وكانت له ندحة عن السمعة التي لصقت به ولم تلصق به افتراء ولا

١٨٨

ادعاء كما يزعم صنائعه ومأجوروه؛ لأنّ واصفيه بتلك السمعة لم يلصقوا مثلها بأبيه ومَن كان حقّه في النعمة التي نعم بها مغتصباً ينتزعه عنوة، لا يكن حقّه في الفضل والكرامة جزافاً لا حسيب عليه.

* * *

وتسديد العطف الإنساني هُنا فرض من أقدس الفروض على الناظرين في سير الغابرين؛ لأنّ العطف الإنساني هو كلّ ما يملك التاريخ من جزاء، وهو الثروة الوحيدة التي يحتفظ بها الخلود

وإنّنا لندع الخطأ في سياسة النفعيين، وننظر إليهم كأنّهم مصيبون في السّياسة بُصراء بمواقع التدبير. فعلى هذه الصفة - لو تمّت لهم - لا يحقّ لخادم زمانه أن ينازع الشُهداء في ذخيرة العطف الخالد، وهُم خدام العقائد التي تتخطى حياة الأجيال كما تتخطى حياة الأفراد؛ فإنّ حرمان الشُهداء حقّهم في عطف الأسلاف خطأ في الشّعور، وخطأ كذلك في التفكير

والنّاس خاسرون إذا بطل عطفهم على الشُهداء، وليس قُصارى أمرهم أنّهم قُساة أو جاحدون؛ لأنّ الشّهادة فضيلة تروح وتأتي وتكثر

١٨٩

حيناً وتندر في غير ذلك من الأحيان. أمّا حبّ المنفعة فإن سميته فضيلة فهو من الفضائل التي لن تفارق الأحياء أجمعين، من ناطقة وعجماء.

* * *

على أن الطبائع الآدمية قد أشربت حبّ الشُهداء والعطف عليهم وتقديس ذكرهم بغير تلقين ولا نصيحة، وإنّما تنحرف عن سواء هذه السنّة لعوارض طارئة أو باقية تمنعها أن تستقيم معها، وأكثر ما تأتي هذه العوارض من تضليل المنفعة والهوى القريب، أو من نكسة في الطبع تغريه بالضغن على كلّ خلق سوي وسجية سمحة محببة إلى النّاس عامّة، أو من الأفراد في حبّ الدعة حتّى يجفل المرء من الشّهادات؛ استهوالاً لتكاليفها واستعظاماً للقدوة بها، فيتّهم الشُهداء بالهوج ويتعقب أعمالهم بالنقد؛ لكيلا يتهم نفسه بالجبن والضعة ويستحقّ المذمة واللوم في رأي ضميره، وإن لم يتهمهم بالهوج ولم يتعقبهم بالنقد، وقف من فضائلهم موقف ازورار وفتور، وجنح إلى معذرة الآخرين والتفاهم بينه وبين مَن لا يستشهدون، ثمّ يعارضون الشُهداء فيما يطمحون إليه.

ومعظم المؤرّخين الذين يُعارضون الشُهداء ودعاتهم لغير منفعة أو نكسة هُم من أصحاب الدعة المفرطة وأنصار السّلامة النّاجية، ويغلب على هذه الخلّة أن تسلبهم ملكة التاريخ الصحيح أنّها تعرّضهم للخطأ في الحكم والتفكير، كما تعرّضهم للخطأ في العطف والشّعور.

١٩٠

ومن المعقبين على تاريخ هذه الفترة عندنا - في العربيّة - مؤرخ يُتخذ منه المثل لكلّ من العذر والعطف حين يصل الأمر إلى الاستشهاد كراهة للظلم ودرءاً للمنكرات، وهو الأستاذ مُحمّد الخضري صاحب تاريخ الاُمم الإسلاميّة رحمه الله

ففي تعقيبه على ثورة المدينة - التي قدّمنا الإشارة إليها - يقول: إنّ الإنسان ليعجب من هذا التهور الغريب والمظهر الذي ظهر به أهل المدينة في قيامهم وحدهم بخلع خليفة في إمكانه أن يجرّد عليهم من الجيوش ما لا يمكنهم أن يقفوا في وجهه، ولا ندري ما الذي كانوا يريدونه بعد خلع يزيد؟

أيكونون مستقلين عن بقية الأمصار الإسلاميّة، لهم خليفة منهم يلي أمرهم، أم حمل بقية الاُمّة على الدخول في أمرهم؟ وكيف يكون هذا وهم منقطعون عن بقية الأمصار ولم يكن معهم في هذا الأمر أحد من الجنود الإسلاميّة؟.. إنّهم فتقوا فتقاً وارتكبوا جرماً فعليهم جزء عظيم من تبعة انتهاك حُرمة المدينة، وكان اللازم على يزيد وأمير الجيش أن لا يسرف في معاملتهم بهذه المعاملة؛ فإنّه كان من الممكن أن يأخذهم بالحصار.

* * *

ويخيّل إليك وأنت تقرأ كلام الأستاذ عن هذه الفترة كلّها أنّ لديه أعذاراً ليزيد وليس لديه عذر لأهل المدينة؛ لأنّه يفهم كيف يغضب المرء

١٩١

لما في حوزته، ولا يفهم كيف تضيق به كراهة الظلم وغيرة العقيدة عن الاحتمال، وشعوره هذا يحول بينه وبين الحكم الصحيح على حوادث التاريخ؛ لأنّه يحول بينه وبين انتظار هذه الحوادث حيث تنتظر لا محالة، واستبعادها حيث هي بعيدة عن التقدير.

فلم يحدث قط في مواجهة الظلم وانتزاع الدول المكروهة أن شعر النّاس كما أرادهم الأستاذ أن يشعروا أو فكّروا في الأمر كما أرادهم أن يفكّروا، ومستحيل حدوث هذا أشدّ الاستحالة، وليس قصاراه أنّه لم يحدث من قبل في حركات التاريخ؛ فهذه الحركات التي تواجه الدول المكروهة لا تنتظر - ولا يمكن أن تنتظر - حتّى تربى قوتها وعدتها على ما في أيدي الدولة التي تكرهها من قوة وعدّة

ولكنّها حركة أو دعوة تبدأ بفرد واحد يجترئ على ما يهابه الآخرون، ثمّ يلحق به ثان وثالث ورابع ما شاء له الإقناع وضيق الذرع بالاُمور، ثمّ ما ينالهم من نقمة فيشيع الغضب وينكشف الظُلم عمّن كان في غفلة عنه، ثمّ يشتدّ الحرج بالظالم فيدفعه الحرج إلى التخبط على غير هُدى، ويخرج من تخبط غليظ أحمق إلى تخبط أغلظ منه وأحمق فلا هُم

١٩٢

يقفون في امتعاضهم وتذمرهم ولا هو يقف في بطشه وجبروته، حتّى يغلو به البطش والجبروت فيكون فيه وهنه والقضاء عليه.

على هذا النحو يعرف المؤرّخ الذي يعالج النّفوس الآدمية ما هو من طبعها وما هو خليق أن ينتظر منها، فلا يُعالجها حقّ العلاج على أنّها مسألة جمع وطرح في دفتر الحساب بين هذا الفريق وذاك الفريق، وعلى هذا النحو تكون حركة الحُسين قد سلكت طريقها الذي لا بدّلها أن تسلكه، وما كان لها قط من مسلك سواه.

* * *

وصل الأمر في عهد يزيد إلى حدّ لا يعالج بغير الاستشهاد وما نحا منحاه، وهذا هو الاستشهاد ومنحاه، وهو - بالبداهة التي لا تحتاج إلى مقابلة طويلة - منحى غير منحى الحساب والجمع والطرح في دفاتر التجار، ومع هذا يدع المؤرّخ طريق الشّهادة تمضي إلى نهاية مطافها ثمّ يتناول دفتر التجّار كما يشاء؛ فإنّه لواجد في نهاية المطاف أنّ دفتر التجّار لن يكتب الربح آخراً إلاّ في صفحة الشُهداء.

فالدُعاة المستشهدون يخسرون حياتهم وحياة ذويهم، ولكنّهم يرسلون دعوتهم من بعدهم ناجحة متفاقمة، فتظفر في نهاية مطافها بكلّ شيء حتّى المظاهر العرضية والمنافع الأرضية

وأصحاب المظاهر العرضية والمنافع الأرضية يكسبون في أوّل

١٩٣

الشّوط ثمّ ينهزمون في وجه الدعوة المستشهدة حتّى يخسروا حياتهم أو حياة ذويهم، وتوزن حظوظهم بكلّ ميزان، فإذا هُم بكلّ ميزان خاسرون، وهكذا أخفق الحُسين ونجح يزيد ولكن يزيد ذهب إلى سبيله وعوقب أنصاره في الحياة والحطام والسمعة بعده بشهور، ثمّ تقوضت دولته ودولة خلفائه في عمر رجل واحد لم يجاوز السّتين

وانهزم الحُسين في كربلاء واُصيب هو وذووه من بعده، ولكنّه ترك الدعوة التي قام بها مُلك العبّاسيين والفاطميين وتعلل بها اُناس من الأيوبيّين والعثمانيين، واستظل بها الملوك والاُمراء بين العرب والفرس والهنود، ومثل للناس في حلّة من النّور تخشع لها الأبصار، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان غير مستثنى منهم عربي ولا أعجمي ولا قديم ولا حديث.

أبو الشُهداءعليه‌السلام :

فليس في العالم اُسرة أنجبت من الشُهداء من أنجبتهم اُسرة الحُسين عدّة وقدرة وذكرة، وحسبه أنّه وحده في تاريخ هذه الدُنيا الشّهيد ابن الشّهيد أبو الشُهداء في مئات السّنين

١٩٤

وأيسر شيء على الضعفاء الهازلين أن يذكروا هُنا طلب الملك ليغمروا به شهادة الحُسين وذويه فهؤلاء واهمون ضالون مُغرقون في الوهم والضلال؛ لأنّ طلب الملك لا يمنع الشّهادة، وقد يطلب الرجل الملك شهيداً قدّيساً ويطلبه وهو مجرم بريء من القداسة، وإنّما هو طلب وطلب، وإنّما هي غاية وغاية، وإنّما المعول في هذا الأمر على الطلب لا على المطلوب.

فمَن طلب الملك بكلّ ثمن، وتوسّل له بكلّ وسيلة، وسوّى فيه بين الغصب والحقّ وبين الخداع والصدق وبين مصلحة الرّعية ومفسدتها، ففي سبيل الدُنيا يعمل لا في سبيل الشّهادة، ومَن طلب الملك وأباه بالثمن المعيب، وطلب الملك حقّاً ولم يطلبه؛ لأنّه شهوة وكفى، وطلب الملك وهو يعلم أنّه سيموت دونه لا محالة، وطلب الملك وهو يعتزّ بنصر الإيمان ولا يعتزّ بنصر الجند والسلاح، وطلب الملك دفعاً للمظلمة وجلباً للمصلحة كما وضحت له بنور إيمانه وتقواه، فليس ذلك بالعامل الذي يخدم نفسه بعمله، ولكنّه الشّهيد الذي يلبّي داعي المروءة والأريحية، ويطيع وحي الإيمان والعقيدة، ويضرب للناس مثلاً يتجاوز حياة الفرد الواحد وحياة الأجيال الكثيرة

مَن ثمّ يقيم الآية على حقيقة الحقائق في أمثال هذا الصراع بين الخلقين أو بين المزاجين والتاريخين

١٩٥

وهي أنّ الشّهادة خصم ضعيف مغلوب في اليوم والأسبوع والعام، ولكنّها أقوى الخصوم الغالبين في الجيل والأجيال ومدى الأيّام، وهي حقيقة تُؤيّدها كلّ نتيجة نظرت إليها بعين الأرض أو بعين السّماء على أن تنظر إليها في نهاية المطاف.

ونهاية المطاف هي التي يدخلها نوع الإنسان في حسابه ويوشج عليها وشائج عطفه وإعجابه؛ لأنّه لا يعمل لوجبات ثلاث في اليوم، ولا ينظر إلى عمر واحد بين مهد ولحد، ولكنّه يعمل للدوام وينظر إلى الخلود

١٩٦

في عالم الجمال:

عاشق الجمال

إذا لحقت السيرة بعالم المثال الذي يتطلع إليه خيال الشُعراء وتتغنى به قرائح أهل الفن، فقد تنزهت عن ربقة الجسد وأصبحت صورة من الصور المثلى في عالم الجمال ومن آيات الجمال إنّه يتحدى المنفعة ويؤثر البطولة على السّلامة.

فإذا تعلقت القريحة بالجمال، فلا جرم تزن الاُمور بغير ميزان الحساب والصفقات، فتعرض عن النعمة وهي بين يديها وتقبل على الألم وهي ناظرة إليه، وتلزمها سجية العشق الآخذ بالأعنّة، فتنقاد له ولا تنقاد لنصيحة ناصح أو عذل عاذل؛ لأنّ المشغوف بالجمال ينشده ولا يُبالي ما يلقاه في سبيله.

وقد تمثّلت سجية عاشق الجمال في كلّ شعر نظّمه شُعراء الحُسين وذويه؛ تعظيماً لهم وثناء عليهم لم يتجهوا إليهم ممدوحين وإنّما اتجهوا

١٩٧

إليهم صوراً مُثلى يهيمون بها كما يهيم المحب بصورة حبيبه، ويستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام وإيلام.

وفي معنى كهذا المعنى يقول الكميت شاعر أهل البيتعليهم‌السلام :

طربتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ

ولا لـعباً مـنِّي وذو الشّيبِ يلعبُ

ولـم يـلهني دارٌ ولا رسـمُ منزلِ

ولـم يـتطرّبني بـنانٌ مـخضَّبُ

ولا أنـا مـمَّن يـزجرُ الطيرُ همَّهُ

أصـاحَ غـرابٌ أم تعرّضَ ثعلبُ

ولا الـسانحاتُ الـبارحاتُ عشيّةً

أمـرَّ سليمُ القرنِ أم مرَّ أعضبُ (١)

ولـكنْ إلـى أهلِ الفضائلِ والنّهى

وخـيرِ بـني حوّاءَ والخيرُ يُطلبُ

إلـى الـنفرِ الـبيض الذين بحبِّهمْ

إلى الله فـيما نـالني أتـقرّبُ

____________________

(١) السّانح: الطير الذي يمر من اليسار إلى اليمين وعكسه البارج. والأعضب: المكسور.

١٩٨

بَـنِي هَـاشِمٍ رَهط النَّبِيِّ فإنَّنِي

بِهِم ولَهُم أَرضَى مِرَاراً وأغضَبُ

خـفضتُ لهم منّي جناحَي مودَّة

إلـى كنفِ عِطفاهُ أهلٌ ومرحبُ

يـشيرونَ بـالأيدي إليَّ وقولُهُمْ

ألا خابَ هذا والمشيرون أخيبُ

فـطائفةٌ قـد كـفَّرتني بـحُبّكُمْ

وطـائفةٌ قـالوا مسيءٌ ومُذنبُ

فـما سـاءني تكفيرُ هاتيكَ منهمُ

ولا عيبُ هاتيكَ الّتي هي أعيبُ

يـعيبونني مـنْ خبّهمْ وَضلالِهمْ

على حُبّكم بل يسخرونَ وأعجبُ

وقـالوا تـرابيٌّ (١) هواهُ ورأيُهُ

بـذلك أُدعـى فـيهمُ واُلـقّبُ

على ذاكَ إجريّاي فيكم ضريبتي

وَلـو جمعوا طرّاً عليَّ وأجلبوا

____________________

(١) مِن كُنى عليّ بن أبي طالب (أبو تراب)، وترابي نسبة إليه.

١٩٩

وأحملُ أحقادَ الأقاربِ فيكمُ

وينصبُ لي في الأبعدينَ فأنصبُ

وقد مرّ بنا حديث زين العابدين رضي الله عنه، وهو غلام عليل أوشك أن يتخطفه الموت بكلمة من عبيد الله بن زياد؛ لأنّه استكبر أن تكون به جرأة على جوابه.

فهذا الغلام العليل قد عاش حتّى انعقد له مُلك القلوب؛ حيث انعقد مُلك الأجسام لهشام بن عبد الملك سيّد ابن زياد وآله، وذهب هشام بين جنده وحشمه يحجّ البيت ويترضّى النّاس، فلم يخلص إلى الحجر الأسود لتزاحم الحجيج عليه، وأنّه لجالس على كرسيه ينتظر انفضاض النّاس إذا بزين العابدين يقبل إلى الحجر الأسود في وقاره وهيبته، فيتنحى له الجيج ويحفوا به وهو يستلم الحجر مطمئناً غير معجّل، ثمّ يعود من حيث أتى والنّاس مشيعوه بالتجلّة والدُعاء.

وتهوّل رجلاً من حاشية هشام هذه المهابة التي لم يرها لمولاه فيسأل: مَن هذا الذي هابه النّاس هذه الهيبة؟ ويخشى هشام أن يطّلع جنده على مكانة رجل لم يتطاول إلى مثل مكانته بسلطانه وعتاده فيقول: لا أعرفه ويقتضب الجواب.

وهذا الذي تصدى له شاعر آخر قد غامر بحياته ونواله ليقول بالقصيد المحفوظ ما ثقل على لسان هشام أن يقوله في كلمتين عابرتين

وذلك هو الفرزدق حيث قال:

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210